الرياضة السنويّة 2016 بعنوان: “اذهَب واعمل أنتَ أيضًا، هكذا” (لو 37:10)

دار سيّدة الجبل – فتقا، كسروان.

تأمّل روحيّ: “إنجيل المرأة الخاطئة”

الأب ميشال عبود الكرمليّ،

نبدأ تأمّلنا اليوم منطلقين من السؤال الأخير في الانجيل: “من هذا حتّى يغفر الخطايا؟”. هذه الكلمات يقولها المؤمنون وهم يقصدون بها الكهنة. من هو هذا الكاهن لكي أذهب إليه أنا المؤمن وأعترف أمامه، إنّه بحاجة لمن يغفر له خطاياه. إنّ كلّ ذلك صحيح. في مكان آخر يقول الربّ يسوع: “لكي تعلموا أنّ ابن الإنسان له السلطان أن يغفر الخطايا”. نحن نقول إنّنا مسيحيّون، فهذا يعني أنّنا نحبّ يسوع، ونحفظ كلماته. إنّ كلمات يسوع واضحة عندما قال لرسله بعد القيامة: “خذوا الرّوح القدس، من غفرتم له خطاياه غُفِرَت، ومن أمسكتم عليه خطاياه أُمسِكَت”. مَن أنا، الكاهن؟ أنا لستُ بشيء، أنا رسولُ المسيح أتوّجه إليك حاملاً لكَ رسالةً من يسوع، إنّها رسالة الغفران. يمكنك أن تقبل تلك الرسالة كما يمكنك أن ترفضها، لكن وجودنا هنا هو علامة على قبولنا لتلك الرسالة.

ننتقل إلى نقطة أخرى في هذا النّصّ، حيث نرى أنّ يسوع هو المحور بين فريقين: الأوّل يطلب الغفران من الرّبّ والآخر منتقِد لأعمال الرّبّ. إنّ الفريقين هما مع يسوع: من جهة نرى سمعان الفريسيّ الذّي قام بدعوة يسوع إلى منزله، وعلى الأرجح أنَّ يسوع كان صديقه، أو على معرفة به. أمّا تلك المرأة فقد جاءت من الخلف صوب يسوع، جاءت حاملةً خطاياها، ماضيها، وهي ليست خائفة من أعيُن النّاس بقدر ما يهمّها الالتقاء بيسوع. والمثل الشائع يقول إنّ الذّي لا يعرف إلى أين هو ذاهبٌ، كلّ الطرقات تَفي بالغَرَض بالنسبة له. فإنّ الذّي لا يعرف أنّ الرّبّ هدفه، يسعى للحصول على بَلسَمٍ لجروحات قلبه من أماكن عدّة. انطلاقًا من هذا الإطار، نرى أنّ تلك المرأة تعرف الهدف، لذلك جاءت إلى يسوع باكيةً. والبكاء يُعبِّر عن حالتها، فكلّ مآسيها قد ظهرَتْ من خلال دموعها السخيّة. لقد مسحت بها رجليّ يسوع، سكبَتْ أمام يسوع كلّ مآسيها؛ حزنها وذاتها. هي كلّها موجودة الآن أمام يسوع، وأكثر من ذلك، لقد سكبت أنوثتها أمامه عندما بدأت تمسح دموعها على رِجليه بشعرها. فالإنسان يخضع أحياناً إلى عمليّة جراحيّة معيّنة، ويصرخ من شدّة الألم، لكن ذلك لا يهمّه لأنّ هدفه هو الوصول إلى مرحلة الشفاء، فهذا هو ما يُنشِدُهُ.

من جهة أخرى، الأشخاص الذّي ينتمون إلى فريق المنتقدين: قد وجَّهوا انتقاديْن: الانتقاد الأوّل تمّ توجيهه إلى يسوع، والانتقاد الآخر كان موّجه صوب المرأة. “لو كان هذا الرّجل نبيّاً، لَعَلِمَ من هذه المرأة، وما هي حالتها، إنّها خاطِئة.”. إنّ هذا الانتقاد كان موّجهاً إلى يسوع من قِبَل الأشخاص الذّين دعوا يسوع لمجالستهم، لذا فإنّ عين الانتقاد تبقى دائماً موجودة. وكلامهم هذا، “لو كان هذا الرّجل نبيّاً” إنّما يدّل على عدم رؤية هؤلاء الأشخاص في يسوع نبيّاً: إنّهم لا يَرَون فيه لا نبيّاً ولا ابن الله، ولا الله. 

لقد أصبح يسوع ذا قيمة صغيرة جدّاً في نظرهم نتيجة تعامله مع هذه المرأة. لكنّه بالرّغم من ذلك، ما زال يسوع يُجالِسُهم. أمّا الانتقاد الآخر الموّجه ليسوع فقد كان الحكم عليه بعدم معرفته لحقيقة هذه المرأة. هذه هي الدينونة إذ يُنَصِّب الإنسان نفسه قاضيًا لله، ومُحاميًا عنه ويدلّ على الآخرين. إنّنا ندعو الانسان، الذّي ينتقد الآخرين ويوّجه لهم أصابع الاتّهام، أن يرى أصابعه المتّجهة صوبه عندما يدلّ على غيره ويدينهم، عليه أن ينظر إلى ذاته. لذلك فإنّ آباء الكنيسة يقولون في هذا الإطار، “إن كانت الوصيّة تقول أحبّب قريبك حبّك لنفسك”، فنحن نقول لك: دِنْ نفسَك إدانتَك لقريبك.

النقطة الثالثة التّي أوّد الكلام فيها هي:” قل يا معلِّم”، ونحن في هذه الأمسيّة نريد أن نقول للرّبّ: قل يا معلِّم، تكلَّم فإنّنا نريد أن نسمعك. الربّ يسوع سوف يقول لنا في هذه الأمسيّة: عندي ما أقوله لك. فاليوم أيضًا يريد يسوع أن يُكلّمني. فمن غير الممكن أن أخرج من هذه الأمسيّة كما دخلت إليها. كثير من الأشخاص يقولون إنّ لديهم موعدًا مهمًّا، فإنّ الموعد يكون مهمّاً نسبةً إلى الشخص الذّي سنلتقي به. ونحن اليوم على موعد مهمّ مع الله نفسه، فمهما كانت أسباب حضورنا إلى أمسيّة التّوبة هذه علينا أن نعيَ أن لدينا لقاءًا مع الله. لقد أتى كلّ شخص منّا اليوم حاملاً في قلبه وفكره وعقله، أوجاعًا وخطايا، أمورًا جميلة وأخرى مزعجة. 

علينا أن نسكبها جميعها أمام الله اليوم. إنّ الكثير يسألوننا لماذا سَمَح الله أن أَمُرّ بما أَمُرّ به من صعوبات، نحن اليوم ندعوهم إلى أن يوّجهوا تلك الاسئلة إلى الله ذاته، صاحب العلاقة، إذ لا أحد يستطيع إجابة مثل الله على أمور تتعلّق بإيمانك به. إنّ الله يريد أمامه إنسانًا واقعيًّا، يصرخ أمامه من شِدّة الألم، طالباً منه نعمته المطَّهرة. إذًا لا يجب أن نكون متصّنعين أمامه، بل علينا أن نتغيّر، وعلينا أن نسمح لكلمته ولرحمته بأن تطهرانا. علينا عندما نتوّجع أن نسأل الله عن أسباب ما نمرّ به من صعوبات، فنحن لسنا بحجارة أمام الله ولسنا أيضًا ملائكة. هذه المرأة جاءت إلى يسوع وسكبت كلّ أوجاعها وذاتها أمامه، وعلينا نحن أن نسكبَ كلّ ذواتنا أمام الله، كلّ أوجاعِنا. لذلك علينا أن نقوم بمثل تلك القراءة لذواتنا.

علينا القيام أيضًا بمصالحة مع ذواتنا. ما هي المصالحة؟ عندما نريد أن نصالح متخاصِمَين، غالباً ما يطلبان مساعدة من طرف ثالث. وغالباً ما يأتي المتخاصِمَين إلى الطرف الثالث وهما لا ينظران إلى بعضهما البعض ولا يوّجهان الكلام إلى بعضهما بطريقة مباشرة بل من خلال الطرف الثالث مستخدمَيْن عبارة “قل له”. إن الشخص المتخاصم غالباً ما لا يُعير أيّة أهميّة للطرف الآخر المتخاصم معه وكلامه دائماً عنه هو بلغة الغائب: “هو”، إذ أنّه ما زال متخاصمًا مع الطرف الآخر، لكن بعد مرور بعض الوقت يتصالحان مع بعضهما. عندما ألتجئ إلى الرّبّ غالباً ما أتلو عليه المبادئ الإنسانيّة، غير أنّ الله ينتظر منّا أن نخبره عن ذواتنا. 

عليّ أن آتي إلى الرّبّ وأصليّ له خطيئتي. هناك أشخاص لا يستطيعون التّخلّص من خطيئة معينّة، ننصحهم بأن يضعوها أمام الله، وهذا ما يُسمّى بسكب الذات أمام الله. مع الرّبّ، لا يجب أن نكون أشخاصًا مصطنعين، ومصنوعين على قياس بعض شخصيّات التّي نراها في كُتب القدّيسين، أو على قياس ما نتمنّى أن نكون. هناك فرق بين ما نحن نحبّ أن نكون عليه، وما نحن عليه حقيقةً. بالطبع نحن نسعى للكمال، نسعى إلى الرّحمة، وهذه أمور حسنة لكن السؤال يبقى: أين نحن حقاً من هذا؟ في أوقات المعركة، نرى المتحاربين على الجبهات يُنادون عبر اللاسلكي، طالبين المساعدة، وعندما يسمعهم الطرف الآخر، يطرح عليهم السؤال: حدّدوا لي موقعكم كي أرسل لكم المساعدة. اليوم، الرّبّ يطلب منّا الأمر ذاته: أن نحدّد له موقعنا. إنّه يعلم موقعنا لكنّه يطلب منّا تحديد ما نحتاجه. لذلك عندما أتى إليه أعمى أريحا، طرح يسوع عليه سؤالاً: ماذا تريد منّي أن أصنع لك؟ مع أنّ الرّبّ يعلم حاجة الأعمى لكنّه يريد من الإنسان أن يعلم ما هي حاجته الحقيقيّة. إنّ الرّبّ يطلب منّا اليوم أن نحدّد له موقعنا. عندما أتوّصل إلى تحديد موقعي وسط كلّ ما أعيشه في هذا العالم، عليّ أن أضع أمام الله كلّ دراسة حياتي، كلّ نِعَم حياتي، وكلّ خطايا حياتي.

أختم بالنقطة الأخيرة: “غُفِرَ لها الكثير لأنّها أحبّت كثيراً”: إذاً الأمر يتعلّق باختبار الغفران نتيجة الحبّ واختبار الحبّ نتيجة الغفران وترابط الاثنين بعضهما ببعض. هناك اعتقاد أنّه من الممكن أن تكون تلك المرأة الخاطئة هي مريم المجدليّة. وأنتم تعلمون أنّ الاناجيل لم تُحدّد مَن هي هذه المرأة التّي مسحتْ رِجليّ يسوع بشعرها. لكن عند الصّليب نرى ثلاث أشخاص، مريم أمّ يسوع، يوحنّا الحبيب، ومريم المجدليّة، وهؤلاء كلّهم اختبروا حبّ الله لهم. أوّلاً، لم يحبّ أحدٌ يسوع أكثر مما أحبّته أمّه مريم. ثانياً، التّلميذ الذّي أحبّه يسوع: إنّ هذا التّلميذ كان يتباهى أنّه محبوب من قِبَل يسوع، والإنجيليّ لم يُحدِّد لنا أنّه يوحنّا الحبيب، بل يقول لنا الانجيل إنّه عندما قال يسوع لتلاميذه، إنّ واحدًا منه سوف يُسلمه، نظر بطرس إلى يوحنّا، التّلميذ الذّي أحبّه يسوع، وطلب منه أن يسأله عن هويّة هذا الشخص. فمال يوحنّا على صدر يسوع وسأله: مَن يا معلّم؟ ويرى آباء الكنيسة في حركة يوحنّا هذه أنّه سمع دقّات قلب يسوع، لذلك نحن لا نطلب الألم. القدّيسون لم يطلبوا الألم بل طلبوا حبّ الرّبّ. ومَن يُحِبّ يتألم من أجل الحبيب، مَن يحبّ يستطيع الوصول إلى الصّليب.

أخيرًا، مريم المجدليّة، لقد اختبرتْ حبّ الله لها من خلال غفرانه لها، هذا الغفران الذّي جدّدها وشفاها، ودفعها للتخلّص من كلّ صعوباتها. لقد اختبرتْ حبّ الله لدرجة أوصلتها إلى الصّليب وتحمّلت الألم. لذلك نحن في المسيحيّة، لا نطلب الألم، ولا نطلب الأوجاع أبدًا، فإنّ ذلك يعاكس إرادتنا البشريّة. نحن نحبّ، ومن يحبّ يضّحي، لذلك “ما من حبّ أعظم من أن يبذل الانسان نفسه في سبيل أحبائه”، وهذا ما يجب أن تكون عليه نظرتنا إلى ذاتنا أمام الله الذّي يشبه الشمس. ففي غرفة مظلمة مليئة بالغبار، لا نستطيع رؤية الغبار فيها. لكن عندما نشعل الضوء فيها، نرى بوضوح الغبار. هكذا هي حالنا، ففي وسط هموم هذا العالم، نحن لا نرى خطايانا، غير أنّ نور الله يُظهرها لنا، ويأتي الاعتراف ليمسحها فلا يعود لوجود هذا الغبار أيّ مكان في حياتنا.

سأقوم بمقدّمة، كما قبل كلّ اعتراف، وإليكم ما يطلبه منّا آباء الكنيسة، في كلّ مرّة تذهب فيها للصّلاة، عليك أن تتذكّر أوّلاً مَن الذّي تتكلّم معه وأين هو. في الصلاة، تدرك أنّك تتكلّم مع الله، وتدرك أنّ الله هو في داخلك. وهنا أريد أن أستذكر اللازمة التّي نسمعها بشكل دائم من قبل المؤمنين: أنا أعترف بيني وبين الله، فيكون الجواب كما يلي: عَمِّد أولادك إذًا بينك وبين الله، قدّس إذًا بينك وبين الله، لِمَ تأتي إلى سرّ الاعتراف؟!. فكما أنّ المسيح أعطى لتلاميذه سرّ الافخارستيّا، في ليلة الآمه، “خذوا كلوا هذا هو جسدي”، كذلك يوم قيامته، منح سرّ الاعتراف إلى تلاميذه قائلاً لهم:” خذوا الرّوح القدس مَن غفرتم له خطاياه، غفرت له، ومَن أمسكتم عليه خطاياه، أمسكت له”.

غالبًا ما يسألنا المؤمنون عن كاهن متقدّم في السِّن، لا يسمع، لا يعرفهم ويقطن في مكان بعيد، وذلك من أجل الاعتراف عنده، بحجة رغبتهم في الاعتراف بكلّ شيء. أقول لكم إنّ الكاهن قد سمع بخطايا مشابهة لخطاياك أكثر من ثلاثة آلاف وأربعين مرّة، بل أكثر من ذلك كن متأكدًّا أن الكاهن يقوم بخطاياك نفسها لا بل أكثر منها، فلا داعي للخجل. يقول القدّيس يوحنّا الذهبي الفمّ “إنّ مَن يذهب إلى سرّ الاعتراف فإنّه لا يذهب إلى محكمة بل إلى مستشفىً”، إنّك لا تذهب لكي يُحكَم عليك بل لكي تُعالج من مرضك، لذلك عليك الذهاب للاعتراف دون خجل. ويضيف يوحنّا الذهبيّ الفمّ فيقول إنّ المريض عندما يذهب إلى الطبيب كي يُعالجه، فهو يكشف له عن كلّ جروحاته وليس بعضها فقط، لأنّه في حال لم يكشف المريض عن كلّ جروحاته، سيبقى يتألم من الجروحات التّي لم يكشفها للطبيب. 

لذلك إنّ سهرة التّوبة هذه، هي بمثابة فرصة لنا، علينا اغتنامها، فنكشف عن كلّ جروحاتنا، حتّى تلك التّي هي من الطفولة والتّي أنا لست مسؤولاً عنها. في الاعتراف، علينا عدم الدخول في تفاصيل حدوث الخطيئة. عندما جاء داوود النبيّ وقال “ارحمني يا رّبّ، فإنّ خطيئتي هي أمامي في كلّ حين”. لذلك عند الاعتراف أمام الكاهن علينا تعديد خطايانا وبوضوح. ونحن غالبًا ما نبرّر ذواتنا لا يهمّ، فالمهمّ أن يكون اعترافنا واضحًا، خطايانا واضحة وظاهرة أمامنا. إنّ الاعتراف يختلف عن الارشاد. فعندما نعترف بشكل مطوّل ومُسهب نسبّب خطيئة للآخرين الذّين ينتظرون دورهم ليعترفوا. فمن الممكن أن يتذّمر البعض من إطالتنا في الاعتراف ويرتكبوا خطيئة بسببنا. وبسبب إطالتنا في الاعتراف، تتكوّن عند الآخر صورة معيّنة عنّا، غالبًا ما تكون خاطئة.

هناك أشخاص يتحججون بأنّ الخطايا التّي يرتكبونها هي نفسها فما حاجة الاعتراف؟! نحن نشبّه في هذا التفكير، شخصًا عاد من العمل ويرفض الاستحمام لأنّه سيعمل في اليوم التّالي وسيتصبّب عرقاً من جديد. فكما هو الأمر بالنسبة للاستحمام كذلك الأمر بالنسبة للاعتراف، فنحن لسنا ملائكة على هذا الأرض. يقول الله في الكتاب المقدّس: “البّار يخطأ في النّهار سبع مرّات”، واُنهي كلامي اليوم وتأملي بكلمة من أحد آباء الكنيسة الذّي يقول إنّ الشرير يكسر فيك الخجل عندما ترتكب خطيئة ما بينما يضعه فيك يوم تريد الاعتراف. لذلك علينا أن نكسر خجلنا هذا، فنذهب إلى الرّبّ الذّي ينتظرنا في سرّ المصالحة، وبالتّالي نتغلّب على الشرير.

ملاحظة: دُوّن التأمّل بأمانةٍ من قبلنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp