الرياضة السنويّة 2017 بعنوان: “فتكونون لي شهودًا إلى أقاصي الأرض” (أع 8:1)
دير سيّدة البير – بقنايا، المتن.
عظة القدّاس الإلهي: “أحد شفاء المنزوفة”
الخوري جوزف سلوم،
باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.
أبتِ الجليل، إخوتي بالربّ يسوع،
إنّ ذروة نهارنا هو الذبيحة الإلهيّة الّتي نحتفل بها الآن، وهي تُكلّل جميع أعمالنا.
إنّ عِظَتي ستتمحوّر حول سؤالٍ مهمّ هو: “أين إيمانكم؟” وهو السؤال الّذي غالبًا ما يطرحه يسوع على التّلاميذ، وبالتّالي على المؤمنين به، وسنتأمّل به عبر العبور في ثلاث محطّات وردت فيها هذه الآية.
بعد يوم مُضْنٍ من العمل على بحيْرة طبريّا، أمْضاه يسوع في تعليم النّاس كلمة الله، وشفاء المرضى، أراد يسوع الاستراحة، فركب إحدى السُفن التّي كانت راسية على شاطئ تلك البحيرة. إنّ تلك السفينة الّتي صعد إليها يسوع، قد تكون سفينتنا، لِنَسْمَح ليسوع بركوبها عِوضَ أن تبقى سفينتنا راسية على الشاطئ. عندما صعد يسوع إلى تلك السفينة، نام واستراح واضعًا رأسه على الوِسادة، وما إن غفى حتّى هبّـت عاصفةٌ شديدة، وهذه العواصف والأمواج الّتي واجهت تلك السفينة، تُمثِّل العواصف والمعاكسات الّتي تواجه حياتنا اليوميّة، فطلب يسوع من التلاميذ العبور إلى الضِّفة الأخرى. إخوتي، إنّ كلّ تغيير يتعرّض للمقاومة والمعاكسة، لأنّ الإنسان يُفضِّل التمسّك بما اعتاد القيام به، عوض التغيير. إنّ يسوع بكلامه هذا للتلاميذ: “لنعبر إلى الضِّفة الأخرى”، يُشجِّعنا على العبور من مكانٍ إلى آخر، رغم الصّعوبات الّتي تواجهنا، ويدفعنا إلى اجتيازها بمعونته، إذ مِنْ دونه سيكون تخطّي الصّعوبات أمرًا في غاية الصّعوبة. إنّ يسوع كان متَّجهًا لتبشير المناطق الوثنية، وهنا يمكن أن نرى في الأمواج صعوبات واعتراضات تلك الشعوب على قبولها للبشارة. إذًا، يواجه الإنسان صعوبات كثيرة في هذه الحياة، وفي ظلّ هذه الصّعوبات، يسألنا يسوع: “أين إيمانكم؟ إنّ هذه الحياة مليئة بالصّعوبات، في مجال العمل، في الحياة الاقتصاديّة، في الحياة العلائقيّة مع النّاس، ولكنْ علينا ألّا نخاف من تلك الصّعوبات بل نواجهها طالبين مساعدة يسوع لتَخَطِّيها.
في نصّ شفاء المرأة النّازفة، يطرح يسوع من جديد سؤاله على المؤمنين: أين إيمانكم؟ إنّ لـَمسَة تلك المرأة كانت مختلفة عن باقي لمسات الجموع الّتي كانت تزحم يسوع. إنّ الجموع لم يلمسوا يسوع بهدف الشفاء أو تعبيرًا عن إيمانهم به، على عكس تلك المرأة الّتي كانت تطلب من خلال لـَمْسِها لِـهُدبِ يسوع، الشِّفاء. إنّ لمسة تلك المرأة ليسوع مميَّزة، إنّها “لَـمسَة الإيمان”. في مواجهتنا للمرض، يسألنا يسوع أيضًا: أين إيمانكم؟ إذ يدعونا للتحلّي بِلَمسة الإيمان في كلّ حين.
إنّ ابنة يائيروس، تلك الفتاة ابنة الاثنتي عشرة ربيعًا، المشرفة على الموت، قد حصلت على لمسة مميَّزة من يسوع. إنّ هذه الفتاة، قد ماتت وقد كان أهلها يبكونها عند وصول يسوع، ولكنّ يسوع قد أمسك بيد تلك الفتاة قائلاً لها: “طابيثا، قومي”، وأعاد لها الحياة. في هذه الأوقات الصّعبة، يُكرِّر يسوع السؤال علينا: أين إيمانكم؟ إذًا، إنّ يسوع يطرح علينا السؤال: أين إيمانكم؟ في كلّ الظروف الحياتيّة: في أوقات الأزمات والصّعوبات الحياتيّة، في أوقات المرض، وأيضًا في أوقات الحزن والموت.
إنّ الحياة مليئة بالصّعوبات والمعاكسات الّتي تواجه الإنسان، ولكن على المؤمِن تحديدها ومواجهتها كما فعل يسوع، إذ إنّ يسوع لم يَخَف مِن مواجهة معاكسات الأمواج له، بدليل أنّه لم يعد إلى الشاطئ، بل تابع رحلته. حين يتعرّض البعض إلى الأذيّة، يواجهونها بالانزعاج، والتوقّف عن مخالطة الآخرين. إخوتي، لا تسمحوا لسفينتكم بأن تبقى راسية على الشاطئ مِن دون حراك، لئلّا يتآكلها الصدأ، وبالتّالي على المؤمِن المغامرة في هذه الحياة ومواجهة الصّعوبات، لأنّه أسهلٌ عليه مواجهة الحياة من الهروب منها، فيترك حينها سفينته على الشاطئ لتتعرّض للصدأ، وتُصبح بالتّالي غير صالحة للعمل.
كُثُرٌ هم الأشخاص الّذين كانوا على الشاطئ ينتظرون وصول يسوع، ومِن بينهم يائيروس رئيس المجمع، المعروف من قِبَل الشعب، وقد كانت الجموع تُسانِده في محنته إذ إنّ ابنته البالغة من العُمر اثنتي عشرة سنة، مُشرفة على الموت، لذا جاؤوا معه ليتوسّلوا يسوع شفاء تلك الصبيّة. إنّ وَجع يائيروس لِمَرضِ ابنته، هو وَجعٌ معروفٌ من سائر الشعب لأنّ يائيروس هو رئيس المجمع، غير أنّ بين الجموع، أشخاص تُعاني من الأمراض والأوجاع بِصَمتٍ وَهُمْ غير معروفي الهويّة، كما هي حال تلك المرأة النّازفة، المريضة منذ اثنتي عشرة سنة. وكان على الشاطئ، آخرون لم يتكلّم أحدٌ عن أوجاعهم، إذ إنّهم من أصحاب الأوجاع الصّامتة كتلك المرأة النّازفة. وهذا المشهد الإنجيليّ يطرح علينا سؤالين مُهمَيّن يتطلّبان منّا الإجابة، وهما: هل أنا بين الجموع أنتظر يسوع على الشاطئ؟ وما الهدف من انتظاري له؟ إنّ انتظارنا ليسوع على الشاطئ هو دليل على أنّنا نعاني من الأوجاع، لذا علينا الاعتراف بالنزف والوجع الّذي نُعاني مِنه دون خوف.
في العهد القديم، كانت تشير خسارة الدّم عند الإنسان إلى نجاسته، وبالتّالي فإنّ الشريعة كانت تمنعه من الاقتراب من القدّوس، أو الدّخول إلى الهيكل، أو الاختلاط مع الجماعة. غير أنّ تلك المرأة النّازفة قد خالفت كلّ تلك القوانين وذلك لإيمانها بأنّ لَمْسَ يسوع كفيلٌ بشفائها، فاخترقت الجموع، واقتربت مِنَ القدّوس، أي يسوع المسيح، وانتزعت منه قوّة الشِّفاء. إخوتي، إنّ الإنسان هو أهمّ من الشريعة، لذا لا يجب أن نخاف من اختراق مجتمعنا، والسّعي للتغيّير في عاداته خاصّة تلك البالية منها. إنّ تلك المرأة قد خرقت مجتمعها فاقتربت من يسوع بِصَمتٍ، وتسلّحت بقرارٍ داخليّ قد اتّخذته، ألا وهو إيمانها بالربّ يسوع وبقدرته على شفائها من خلال لَـمسِها لِطرف ثوبه. حين اقتربت المرأة من يسوع، نالت الشِّفاء في لحال، وتَوَقّف نزفُ دَمِها. لقد بدّدَت تلك المرأة أموالها عند الأطبّاء مِن أجل الحصول على الشِّفاء، غير أنّ يسوع كان الوحيد الّذي منحها الشِّفاء مجانًا وأعاد لها الحياة. كذلك نحن، نُعاني من أمور كثيرة تُسبِّب لنا نزفًا وآلامًا في حياتنا، ولكنّنا نسعى للحصول على الشِّفاء والمساعدة من الجميع معتقدين أنّهم قادرون على ذلك، غير أنّ يسوع هو الوحيد القادر على مَنحنا الشِّفاء وإعادة الفرح إلى حياتنا، لأنّه هو الشافي الوحيد، ومُعطي الحياة.
إنّ الجموع كانت تزحم يسوع، وقد لَمَسَه عدد كبيرٌ منهم، وَمِن بينهم مَنْ سَلّم على يسوع أيضًا؛ لذا استغرب التَّلاميذ سؤالَ يسوع للجموع: “مَن لمسني؟”، عندها أخبرهم أنّ قوّةً خرجت منه، فلَمسةُ المرأة له لم تكن كلَمَسات جميع الحاضرين له. إخوتي، إنّ السؤال الّذي يُطرح علينا اليوم، هو: مَن مِنّا يستطيع أن يلمِسَ يسوع لمسَة إيمان كما فعلت تلك المرأةِ؟ إنّ يسوع قد أوقف مسيرته لأنّه شعر بقوّة الشفاء الّتي خرجت منه، وبالتّالي فإنّ يسوع يهتمّ لِأَمرنا، وهو يعتبرنا من أولويّاته. إنّ يسوع لا يَمرّ أمام وجعنا مرور الكِرام، بل إنّه يعتبر ذلك الوَجَع أمرًا طارئًا يستحقّ التوقّف عنده، على الرّغم من انشغالاته الكثيرة. إنّ زيارة يسوع لتلك المدينة كانت من أجل شفاء ابنة يائيروس ذات الاثنتي عشر ربيعًا، ولم تكن زيارته تتضمّن شفاء المرأة المنزوفة، غير أنّ لمسة تلك المرأة دفعته إلى إيقاف المسيرة لمعرفة هويّة الشخص الّذي لَمَسه. إنّ الربّ قد توقّف أمام لمسة إيمان تلك المرأة، على الرّغم من أنّ حالة ابنة يائيروس خطرة جدًّا فهي مُشرفة على الموت، ووَضْعُها الصحيّ لا يحتمل أيّ تأخير، لأنّه يُعطي قيمةً كبيرة للأمور الطارئة كحالة تلك النّازفة وشفائها. إخوتي، إنّنا لا نسمح لأحدٍ أن يُغيّر لنا مشاريعنا الحياتيّة، غير أنّ يسوع قد أخضع مشاريعه التبشيريّة إلى تغيير عندما حصل أمرٍ طارئ، وبالتّالي علينا أن نتعلّم منه أنّ في الحياة أمورًا طارئة قد تدفعنا إلى إدخال بعض التعديلات على مُخطّطاتنا، أو حتّى إلى تغييرها. وإليكم مثالٌ آخر يُطلِعنا على أهميّة الأمور الطارئة في مشاريع يسوع: حين كان متّجهًا صوب أورشليم، حيث كانت الجموع تنتظره، والأطفال يحملون سُعُفَ النّخل والزيتون ليُرحِبّوا به في مدينتهم، التقى في طريقه أعمى أريحا الّذي كان يصرخ إليه طالبًا منه الشِّفاء، فما كان من يسوع إلّا أن تعاطف مع وجع هذا الأعمى، فأوقف المسيرة، وأعاد للأعمى النّظر. إنّ كلَّ النّاس ينتمون إلى مشروع يسوع وبرامجه، فهو لا يستطيع وَضْعَ أيٍّ مِنّا خارج مشاريعه، لا بل إنّ حالة البعض منّا قد تكون حالةً طارئة بالنسبة ليسوع، لذا فهو مستعِّد أن يُوقِفَ مسيرتَه من أجل تلبية حاجتنا. إنّ الربّ سيتوقّف عند حالة كلّ إنسان لأنّه ذو أهميّة كبرى في نظر الربّ، فهو يهتمّ لأمرِ كلّ واحدٍ منّا، وهو لا يستطيع تجاهل بكائنا وأوجاعنا وأمراضنا، لأنّنا أبناؤه: هذا هو إلهنا الّذي نعبده.
مَدَحَ يسوع إيمان تلك المرأة بعد أن شفاها، ولكنّه لم يَمدَح الأشخاص الّذين رآهم يتصدّقون على المحتاجين بأموالهم، ويقومون بأعمال رحمةٍ تجاههم، لأنّ الإيمان العظيم هو الوحيد الّذي يستحقّ المديح بالنسبة إلى يسوع. لقد تابع يسوع مسيرته بعد شفاء النّازفة، متّجهًا صوب بيت يائيروس لشفاء ابنته، حتّى بعد أن وَصَلَه خبر وفاتها، فقصَد ذلك البيت، وأقام تلك الفتاة من الموت. أقام يسوع ثلاثة أشخاص فقط من الموت في أثناء حياته الأرضيّة، وهم: لعازر صديقه؛ وابن أرملة نائين، وحيد أمّه؛ وابنة يائيروس، تلك الفتاة الّتي تبلغ من العمر اثنتي عشرة سنة، غير أنّ هؤلاء عادوا وماتوا في هذه الأرض الفانية، وانتقلوا إلى الحياة الثانية، حيث عاينوا وجه الله.
إنّ أقارب ابنة يائيروس بكوا على موت الفتاة، كما نفعل نحن إذ نذرف الدّموع عند فقدان أحد الأعزّاء. لكنّ يسوع قد دعا أهل تلك الفتاة إلى الإيمان بالله، لا إلى البكاء على الفتاة. إذًا، ها هو يسوع يطرح علينا السؤال من جديد، في وقت فراق أحد الأعزّاء، قائلاً: أين إيمانكم؟ ونحن كمؤمِنين، وعلى الرّغم من التنشئة الّتي ننالها في جماعة “أذكرني في ملكوتك”، قد نفقد إيماننا في بعض الأحيان حين نفقد أحد الأعزّاء، فنرى البعض يبكون على الأعزّاء المنتقلين كَمَن لا رجاء لهم وتضيع في تصرّفاتنا خلال هذه الظروف كلّ علامات الإيمان. إخوتي، إنّ البكاء هو حقّ لنا، لكن لا يجب أن يغيب عن تفكيرنا أنّنا أبناء القيامة والحياة. لقد سأل يسوع أهل الصبيّة إن كانوا يؤمن بالله، وعندما حصل على الجواب، نالت الفتاة القيامة. إنّ الربّ طلب من أهل تلك الصبيّة عدم البكاء لأنّ الفتاة هي نائمة، كذلك نقول في نشيد رفع البخور بحسب الطّقس المارونيّ عن الموتى إنّ موتَهم هو “غفوٌ في الأنوار”، فالإنسان الّذي يُغادر هذه الدّنيا هو شخص يغفو في أنوار الله. إنّ الربّ أمسك بيمين الصبيّة وأقامها من غفوتها، قائلاً لها: “طابيتا، قومي”. إنّ ربّنا هو القيامة والحياة، ولذا هو يُمسِك بِيَمينِنا حين ننتقل من هذه الفانية، كي نتخطّى الظلمات والفساد، فنصل إلى الملكوت حيث لا فساد. إنّ مصير أمواتنا قد يخيفنا بعض الأحيان حين يغيب عن تفكيرنا أنّ إلهنا هو القيامة والموت، ولكنّ علينا أن نتذكّر أنّ الربّ يُمسِك بِيَميننا في ساعة انتقالنا، وأنّنا ذاهبون لا محالة إلى الحياة الأبديّة مع الربّ.
لنُصلِّ إلى الربّ، ولنُخبره بنزفنا وجروحاتنا، وبالأمور الّـتي تُعيق مسيرتنا صوبه، ولنتسلَّح بلمسة الإيمان، فلا نخافَنَّ مِن بَعد الاقتراب من الربّ، وسماع كلمته ولَمسِ جسد الربّ ودَمِه في القربان الأقدس، فنحصل على الحياة الأبديّة معه.
ملاحظة: دوِّنَت العظة بأمانةٍ من قبلنا.