الرياضة السنويّة 2017 بعنوان: “فتكونون لي شهودًا إلى أقاصي الأرض” (أع 8:1)
دير سيّدة البير – بقنايا، المتن.
تأمّل: “إنجيل تلميذَي عماوس” (24: 13-31)
الأب ميشال عبود الكرمليّ،
باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.
إنّ زمن الصّوم هو زمن توبة. ولكن السؤال الّذي يُطرَح علينا: ماذا تعني التوبة؟ قد يُعرِّفها البعض قائلين إنّها عودة الإنسان إلى الله، أمّا آخرون فيقولون إنّها رجوع الإنسان إلى ذاته والتصالح معها، وآخرون إنّها عمليّة الإقرار بالخطايا مع اتخاذ المقاصِد بعدم العودة إليها.
إنّ التّوبة هي عودةُ الإنسان إلى الله، ولكنّ السؤال الّذي يُطرَح علينا هو: أين يسكن الله كي نتمكّن من العودة إليه؟ إنّ الله يسكن في داخلنا، وفي الكتاب المقدّس، وفي القربان المقدَّس الّذي هو جسد الربّ ودَمِه. إنّ القدِّيس أوغسطينوس، الفيلسوف والمفكّر والواعظ، قد اكتشف بعد مسيرة بحثه الطويلة عن الله في الكتب الفلسفيّة، وفي الطبيعة، أنّ الله يسكن فيه، في قلبه. لقد كُتِب الإنجيل ليُخبرنا أنّ يسوع قد قام من الموت، وهو حيّ وحاضرٌ معنا على الدّوام. على المؤمن اختبار هذه الأمور الثلاثة في حياته اليوميّة ليتمكّن من نقل البشارة إلى الآخرين، استنادًا إلى خبرته الخاصّة مع يسوع. لم تعد الصّلاة قادرة على إحداث تغيير في حياة المؤمِن بسبب عدم اندهاشه أمام عطايا الله وعظمة حبّه له، وعدم وجود رغبة عند المؤمِن في اكتشاف الله والبحث عنه. إخوتي، إنّ الحياة الروحيّة تتطلّب بحثًا دائمًا عن الله، لا من أجل حصول الإنسان على راحة نفسيّة وراحة البال، والابتعاد عن التّعب الجسديّ، فإنّ أمورًا دنيويّة كثيرة كالنّوم والرياضة كفيلةٌ بِـمَنحِ الإنسان كلّ ذلك؛ فالحياة الروحيّة ليست مجموعة أمورٍ صالحة يقوم بها الإنسان، إنّما تتضمّن كلّ الأمور الّتي مِن شأنها أن تساعد المؤمِن على اختبار حضور الله في حياته، وهذا الاختبار لا يتمّ وَسْطَ ضجيج هذا العالم واهتمامات الإنسان الدّنيويّة. إخوتي، ماذا نفع أطنانُ الذّهبِ لمريضٍ لا أمل في شفائه؟ إنّ الحياة الروحيّة لا تكمن في الأمور الكبيرة، بل في الأمور الصّغيرة التّي تجعلنا نكتشف حضور الله في حياتنا.
لقد انهارت أحلام تلمِيذَي عمّاوس عندما شاهدا معلّمَهما، ذاك الّذي مشى على البحر، وشفى المرضى، وأقام الموتى، مُعلَّقًا على الصّليب، ومستسلمًا للموت. لقد انهارت أحلامهما، عندما شاهدا ذاك الّذي كانت تتبَعه الجموع، مقبوضًا عليه من قِبَل الجنود، ومُساقًا إلى المحاكم، وقد هرب التّلاميذ كلَّهم تاركين يسوع وحده في هذه المحنة. إنّ هذا المشهد يُجسِّد فعلاً قول يسوع إنّه حين يُضْرَبُ الرّاعي، تتبدّد الخراف. بعد أن رأى هذان التّلميذان مصير يسوع، هما اللّذان تركا عائلاتَيهما وديارهما من أجله، وجدا أنّ لا فائدة من بقائهما في أورشليم، لذا عادا يوم الأحد إلى مدينتهما عمّاوس. وبينما هما في الطريق إلى قريتهما يتحادثان عن أحلامهما الّتي انهارت بموت يسوع، نجد يسوع يقترب منهما ويسير معهما من دون أن يتمكّنا من معرفته، فسألهما عن الموضوع الّذي يشغل بالهما ويتحادثان به. هذه هي التوبة: أن نُخبِر الربّ بهمومنا وانشغالاتنا. إخوتي، لا يجب أن نندهش أمام الخوارق الّتي يقوم بها القدِّيسون، إذ إنّها نتيجة علاقتهم الخاصّة مع المسيح، وبالتّالي فإنّنا مدّعوون جميعًا كي نبني قصّتنا الخاصّة والفريدة مع المسيح، فنتمكّن من القيام بأعظم مِن تلك الخوارق، فَلِكُلِّ قدِّيس قصّته الخاصّة مع المسيح.
إنّ التّوبة تقتضي بأن يُقدِّم المؤمِن حياته للمسيح بكلّ ضعفها، ولكنّ هذه التقدمة تشترط اكتشاف المؤمِن حضور الله في حياته. غير أنّ العقل البشريّ غير قادر على إدراك سرّ الله بسبب محدوديّته، لذا يتوجّب على المؤمِن القيام بفعل إيمانٍ داخليّ يعترف من خلاله بحضور الله في حياته حتّى وإن لم يتمكّن من إدراك ذلك بعقله البشريّ. لأنّه كما أنّ الإنسان يُدرِك أن صحّته جيّدة وإن لم يتمكّن من رؤية عمل الخلايا في جسده بشكلٍ يوميّ، كذلك الأمر أيضًا في الحياة الروحيّة، إذ يتأكّد الإنسان من حضور الله في حياته حتّى وإن لم يتمكّن من رؤيته بشكلٍ حسيّ. إنّ الإنسان يتلمَّس حضور الله في حياته، من خلال سماعه لاختبارات الأقدمين، وبالتّالي على المؤمِن أن يتابع المسيرة، فينقل خبرته الخاصّة مع المسيح للآخرين ليتمكّنوا من تلَمُّس حضور الله.
تحضيراً لسرّ التوبة، يقوم البعض بفحصِ ضمائرهم مستندين فقط على الوصايا العشر الموجودة في العهد القديم. إنّ ذلك لَأمرٌ حسنٌ، ولكنّهم بتلك الطريقة يشابهون اليهود الّذين يستندون أيضًا إلى الوصايا نفسها في عمليّة فحص الضمير. إنّ المسيح يسوع قد جاء أرضنا لا ليَنْقُضَ الشريعة بل ليُكمِّلها، وبالتّالي لا يجب أن نستند في عمليّة فحص ضميرنا إلى الوصايا العشر فَحَسِب، بل على تعاليم المسيح كذلك. جاءني يومًا أحد الرّجال يستوضح منّي إن كانت بعض الأمور الّتي يمتنع عنها، هي حقًّا خطايا. وبعد أن سألني عن أمور كثيرة، سألني في نهاية المطاف، إن كان ضرب الزوجات خطيئة، فكان جوابي له إيجابيًا. عندها سمعته يشكر الربّ إذ إنّه لا يضرب زوجته، أي أنّه لا يرتكب تلك الخطيئة، فهو قد توقّف عن التحدُّث معها منذ سنين عديدة. إخوتي، لقد اعتقد هذا الرّجل أنّه يقوم بالصّواب بتصرّفه هذا، ولكن السؤال هو: أين المحبّة في مثل ذلك التصرّف؟ لا نستطيع تقييم علاقتنا بالربّ انطلاقًا من الأمور الخاطئة الّتي لا نقوم بها، إذ لا يجب علينا ارتكابها، إنمّا نستطيع تقييمها مستندين إلى الأمور الصّالحة الّتي لا نقوم بها، والّـتي من شأنها أن تعبِّر عن محبّتنا للربّ، وتساعدنا على نموِّنا في تلك العلاقة، وتساهم في تقديسنا.
لقد تشوَّهَ مفهوم القداسة عند المؤمنين بسبب جهلهم للكتاب المقدَّس، وعدم قراءتهم له. إنّ قراءتنا للكتاب المقدَّس ستساعدنا على اكتشاف حضور الله، وبالتّالي فإنّ مِثلَ هذا الاكتشاف يساعدنا على أن نجعل من صلاتنا فاعلة، وقادرة على إحداث تغييرات في نفوسنا. إنّ المؤمِن الّذي يقرأ الكتاب المقدَّس، يتعرَّف إلى المسيح الّذي صار إنسانًا مثلنا، وشابهنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة: فالمسيح قد جاع، وعطش ونام، وتعب، وبكى، وغضب كسائر البشر. إنّ الإنسان هو كائنٌ بشريّ، وليس ملاكًا نازلًا مِن السّماء ولا حجرًا غير قابل للتفاعل مع الآخرين، لذا يغضب في بعض المواقف الحياتيّة الّـتي يتعرَّض لها. إنّ الخطيئة لا تكمن في غضب الإنسان بحدِّ ذاته، بل في نتائج هذا الغضب على نفسه وعلى الآخرين، لذا على كلّ مؤمِن أن يتوقّف عند الموقف الّذي أثار غضبه، وأن يُعيد التفكير فيه، ليكتشف إن كان هذا الموقف يستحقّ كلّ هذا الغضب وما أسفر عنه من نتائج. إنّ مشاعر الإنسان تتغيَّر بين لحظة وأخرى، وبالتّالي فإنّ الإنسان مُعرَّضٌ للسقوط في الخطيئة في كلّ آنٍ، وبخاصّة في عصرٍ يُقدِّم له الشهوات على طبقٍ من ذهب، في كلّ مرّة يستخدم إحدى وسائل التواصل الاجتماعي. إنّ الإنسان لا يستطيع أن يكون في منأىً عن الخطايا وهو في قلب العالم، أي في قلب المعركة، بل يستطيع أن يكون كذلك عندما يعود إلى ذاته ويبتعد عن العالم وانشغالاته، فيُعيد التفكير في تصرّفاته، فيُدرِك حينها إن كان قد ارتكب المعاصي أم لم يرتكبها.
حين يعود الإنسان إلى ذاته، يستطيع أن يكتشف أسباب الخطيئة الّتي وقع فيها، ويحاول إيجاد الحلول لها. إنّ أصل كلمة “السّماء”، هو الفعل “سما” أي “ارتقى”، وبالتّالي يصل الإنسان إلى السّماء إن تمكّن من الابتعاد عن الخطايا الّتي ارتكبها فيرى بشكلٍ واضحٍ الأسباب الحقيقيّة الّـتي تؤدي به إلى ارتكابها ويجد حلّا لها، فينجح في التخلّي عنها والاقتراب أكثر من السّماء. إنّ الأمور الّتي نخجل منها، ونتحاشى أن نتكلّم عنها حتّى مع ذواتنا، تشير إلى مَواطن الأمراض الرّوحيّة فينا؛ لذا إنّ كنّا نرغب في الحصول على الشِّفاء، فعلينا أن نسمح للمسيح بأن يلقي بنوره على تلك الأماكن المظلمة فينا، فنتخلَّص من كلّ ما يُسبَّب لنا بالآلام. إخوتي، لقد كان الله يرانا حين ارتكبنا المعاصي، فلِـمَ نخجل الآن من إخباره بها، وإعلان توبتنا عنها؟ لقد عبّر تلميذَا عمّاوس ليسوع عن همومهما جوابًا عن سؤاله لهما: ما بالكما مضطربَين؟ إنّ يسوع يطرح علينا السؤال نفسه اليوم قائلاً لنا: ما بالكم مضطربين؟ فلنتحلَّ بالجرأة ونخبره بما يشغل تفكيرنا، فهو يريد مساعدتنا وشفاءنا من كلّ ما يُسبِّب لنا آلامًا وأوجاعًا، لنكشف له عن جروحاتنا إذ إنّه الطبيب الوحيد، شافي نفوسنا من أمراضها.
لقد شرح يسوع الكتب المقدَّسة لتلميذَي عمّاوس بعد أن أصغى إلى همومهما وأوجاعهما. إخوتي، كي نتمكّن من التخلُّص من الخطيئة، علينا مَلءُ الفراغ الّذي نشعر به جرّاء ابتعادنا عنها، وقد تكون قراءتنا للكتاب المقدَّس إحدى الوسائل الّتي تساعدنا على ملء ذلك الفراغ. إنّ عالمنا اليوم، يسعى إلى ملء الفراغ الّذي يعيشه بأمور عديدة، منها ما بها فائدة، ومنها ما لا فائدة منه. لذا على كلّ مؤمِن إجادة اختيار الوسائل السليمة لملء الفراغ، وهذا الأمر ليس بالسّهل أبدًا، إذ إنّ الرّوح مندفع لكن الجسد ضعيف على حدّ قول المسيح. فكما أنّك لا تستطيع مَنْعَ ابنك من الاقتراب من الأشياء الّتي تؤذيه، مِن دون أن تستبدله بأمورٍ أخرى، تملأ له الفراغ، كذلك لا يمكن للإنسان الابتعاد عن الخطيئة، مِن دون ملء الفراغ الناتج عنها بأمور صالحة ومفيدة.
ليس زمن الصّوم زمن الامتناع عن الطّعام بل زمن اتّخاذ القرارات. إنّ القدِّيسة تريزيا الأفيليّة تقول لنا إنّ الإنسان لا يمكنه الصّلاة إن كان بطنه خاويًا، لأنّه حينها سيُفكِّر في بطنه لا في قلبه. إنّ البطن الخاوي هو سبب كلّ الأزمات الّتي يتعرَّض لها الإنسان. لقد عاد الابن الضّال، الّذي تكلّم عنه الإنجيل، إلى منزل أبيه من أجل إشباع بطنه من الخبز المتبقيّ على مائدة أبيه، لا إدراكًا منه محبّة أبيه له، بدليل قول الإنجيليّ عن لسان هذا الابن: “كم أجير في بيت أبي، يفضل عنهم الطّعام، وأنا هنا أهلك جوعًا؟” إذًا، لقد عاد هذا الابن من أجل إشباع جوعه، فاختبرَ لا محبّة أبيه وحسب بل رحمته أيضًا.
إنّ الصّلاة تقتضي بأن يُكرِّس المؤمِن وقتًا يُخصِّصه لله دون سواه، غير أنّ المؤمن سيتعرَّض لعاصفة من التّجارب في هذا الوقت الّذي سبق وحدّده، إذ في هذا الوقت بالتحديد، سيشعر بالنُعاس والتعب وسيتلقّى زيارة من أصدقاء، وبالتّالي سيبتعد المؤمن عن الصّلاة. للصّلاة ركيزتان أساسيّتان، وهما معرفة هويّة الّذي نتوجّه إليه بالصّلاة، ومعرفة مكان وجوده. إنّ وقت الصّلاة هو موعد في غاية الأهميّة لأنّه لقاء مع الله، فأهميّة اللّقاء تكمن في أهميّة الشخص الّذي سنلتقي به. حين يتخّذ المؤمِن قراره فيُحدّد موعدًا للصّلاة ويلتزم به، يصبح أمر الاختلاء بالله سهلًا، في قلب ضجيج هذا العالم، لأنّه “حيث يكون كنزك، هناك يكون قلبك”. إنّ يسوع لم يدخل إلى بيت تلميذَي عمّاوس رُغمًا عنهما، بل تظاهرَ في بادئ الأمر أنّه ذاهبٌ إلى مكان أبعد، حسب قول الإنجيليّ. غير أنّ التلميذَين ألّحا عليه في البقاء معهما قائلَين: اُمكث معنا يا ربّ. وبالتّالي فعلينا أن نُلِّح على الربّ كي يبقى معنا كما فعل هذان التلميذَان، إن كنّا نريد أن نجعله لا ضيفًا عندنا فحسب، إنّما سيّدًا على منزلنا. عندما لبّى دعوتهما ومكث معهما، لم يعرفاه إلّا عند كسر الخبز.
إنّ المسيحيّ الحقيقيّ لا يستطيع أن يعيش بعيدًا عن القربان المقدَّس، فهو غذاؤه الأساسيّ ليتمكّن من النّمو روحيًّا وللِّقاء بالربّ. ولـمّا عرفاه عند كسر الخبز، توارى عن أنظارهما. كُثُرٌ هم الأشخاص الّذين يتساءلون عن مكان الله، ويعتقدونه بعيدًا عنهم لأنّه متوارٍ عن أنظارهم. إخوتي، إنّ الربّ يسكن فيما بيننا، إنّه تلك القربانة المقدَّسة الّتي نتناولها في كلّ ذبيحة إلهيّة. عندما يكتشف المؤمن حضور الله في حياته، لن يهرب من جديد من مشاكله، بل سيعود إلى طريق الربّ، تلك الطريق الّتي كان يسلكها قبل ارتكابه الخطايا. لقد عاد هذان التلميذَان إلى أورشليم، حين اكتشفا أنّهما التقيا بالمسيح القائم؛ لقد عادا إلى تلك المدينة حيث حضّر الفريّسيون والكتبة، وأيضًا بيلاطس مؤامرة قتل يسوع وقد سعوا إلى الحكم عليه بالإعدام صلبًا. إنّ المسيحيّ الحقيقيّ لا يهرب من الواقع ومِن مشاكله، بل يسعى إلى تخطّي مشاكل الواقع، متسلِّحًا بإيمانه المبنيّ على اختباره مع المسيح القائم من الموت. لقد صلّى المسيح إلى الله أبيه لأجل تلاميذه، ولأجلنا أيضًا قائلاً: أبتِ، لا أسألك أن تخرجهم من العالم، بل أن تحفظهم من الشرير. على المؤمِن أن يعيش في هذا العالم، متيَّقظًا لكلّ أوجه الخطيئة، كي لا يقع في حبائل تجارب إبليس، فسفر التكوين يقول لنا إنّ الخطيئة رابضة عند الباب، تنتظر مَن تَلتَهِمه.
إخوتي، كُثُر هم الّذين يرفضون التقرّب من سرّ التوبة، إذ إنّهم حسب قولهم، يعترفون بزلّاتهم أمام الله في صلاتهم الشخصيّة. إخوتي، إنّني ننتمي إلى جماعة المؤمنين بالمسيح، وقد اتّخذنا سرّ العماد في قلب الجماعة لا في بيوتنا الخاصّة عند الاغتسال المنزليّ، ولذا فَمَن يقبل بسرّ المعموديّة في الكنيسة، فعليه أن يلتزم بكلّ أسرارها أيضًا. فكما أنّ المعموديّة لا تتمّ بين المؤمِن والله فقط، كذلك لا يمكن للمؤمن الاعتراف بزلّاته أمام الله فقط. إنّ سرّ الاعتراف هو أحد الأسرار السبعة، وقد منحَه يسوع شخصيًّا إلى تلاميذه، حين قال لهم: مَن غفرتم لهم خطاياهم غُفِرَت، ومَن أمسَكتُم عليهم خطاياهم أُمسِكَت (يوحنا 20/ 19-20). بعد اتّخاذ المؤمِنين قرارًا بالاعتراف بزلّاتهم، نجدهم يبحثون عن كاهنٍ عجوزٍ يعاني من ضُعفٍ في سَمَعه، ويسكن الأماكن الـمُقفِرة. إخوتي، إنّ سرّ الاعتراف يتمتَّع بسريّة كاملة، ولا يجوز للكاهن الإفشاء به مهما كان السبّب، كما أنّ الكاهن يتمتع بنعمة النِّسيان، كسائر البشر.
إنّ الخطايا الّـتي تُقِرُّ بها أمام الكاهن، هي خطايا يرتكبها جميع البشر، وبالتّالي فإنّ خطاياك ليست من اختراعك الشخصيّ دون سواك من البشر، ثمّ إنّ الكاهن يسمع خطايا مشابهة لخطاياك يوميًّا. إخوتي، ما من ضرورة للخوض في تفاصيل ارتكابكم للخطيئة مع الكاهن أثناء الاعتراف، فالخوض في التفاصيل يَقع على عاتق المؤمِن في أثناء فحصه لضميره قبل التقدّم من سرّ التوبة والإقرار بالخطايا أمام الكاهن، لأنّه كما يقول داود النبيّ في المزامير الّتي تُنسَب إليه: “إنّ خطيئتي أمامي في كلّ حين”. إنّ مهمّة الكاهن تقوم على الإصغاء إليك ومساعدتك على النّهوض من خطاياك، لا على إشعارك بالرّاحة عبر إسماعك ما ترغب في سماعه. على المؤمِن ألّا يتوقّف عند شعوره حيال هذا الكاهن أو ذاك، فالأهمّ في سرّ الاعتراف، هو أن يحلّك من خطاياك بالسُّلطان الـمُعطى له من المسيح يسوع، فإنّ الـحَلّة التّي يعطيك إيّاها الكاهن كفيلة بأن تشعرك بأنّك إنسانٌ جديد، مولود من جرن المعموديّة. إنّ بعض المسيحيّين يتَّخذون من ضُعفِهم البشريّ ذريعة لعدم التقرّب من سرّ الاعتراف قائلين: ما ضرورة الاعتراف إن كنّا مُدرِكين أنّنا سنعود ونسقط من جديد مرتكبين الخطايا نفسها؟ فكما أنّ الّذي يعمل ويجتهد يتساقط منه العرق، فيشعر بضرورة الاستحمام يوميّاً، على الرّغم من عِلمِه أنّه سيشقى في اليوم التّالي، كذلك علينا التقرّب من سرّ التوبة، كلّما شعرنا باتِّساخنا جرّاء ارتكابنا للخطايا.
إخوتي، إنّ سرّ التوبة، يتطلّب من المؤمِن اتّخاذ مقصَدٍ بعدم اقتراف الخطيئة من جديد، والابتعاد عنها قدر المستطاع، وهذه النِّعمة تُمنَح للمؤمِن في سرّ التوبة، إذ يتشَّدد من جديد ويسعى إلى الابتعاد عن الخطيئة. إنّ آباء الكنيسة يقولون في كتاباتهم: إنّ الشيطان ينزع منك الخجل حين ترتكب الخطيئة، ومن ثمّ يعود ويزرع فيك الخجل عندما تُقرِّر التوبة عنها والاعتراف بها. فلنحاول اليوم، إخوتي، كسر هذا الخجل الّذي يزرعه الشيطان فينا، ولنجعل المسيح ينتصر عليه بتقرُّبنا من سرّ الاعتراف، فكرسيّ الاعتراف، ليس كرسيّ المحاكمة، إنّما هو كرسيّ داخل مستشفى، على حسب قول يوحنّا الذهبيّ الفمّ، فإنّ الربّ أعطانا سرّ الاعتراف لأنّه يرغب في شفائنا، لا في إدانتنا على خطايانا.
ملاحظة: دوِّن التأمّل بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.