الرياضة السنويّة 2017 بعنوان: “فتكونون لي شهودًا إلى أقاصي الأرض” (أع 8:1) 

دير سيّدة البير – بقنايا، المتن.

الموضوع: “الشهادة والاستشهاد”

الأب ابراهيم سعد،

إنّ تاريخ الكنيسة مبنيٌّ على كلمتَيْن، هما: الشهادة والاستشهاد، وهاتان الكلمتان تُلَخِّصان حياة المسيح يسوع وكذلك حياة الرّسل. إنّ الحياة المسيحيّة مِن دون شهادة واستشهاد، إنّما هي وَهمٌ وخيال، وصنميّة مُتَّشِحة بالتقوى الزائفة. إنّ اللّغة العربيّة تُميِّز ما بين الشهادة والاستشهاد لذا يتمّ استخدام تعبيرَيْن مختلفَيْن، أمّا الحال فليست كذلك في اللّغة اليونانيّة إذ لا فرق بين هذين التعبيرَيْن، لذا يُستَعمَل تعبيرٌ واحدٌ للدلالة عليهما معًا، فالشاهد هو أيضًا الشهيد. لقد كُتِبَ الإنجيل باللّغة اليونانيّة، وبالتّالي فإنّ الإنجيليّون كانوا يُدرِكون أنّهم حين يستخدمون عبارة “الشهادة”، فإنّهم يقصِدون بها أيضًا “الاستشهاد”.

إنّ سِفرَ أعمال الرّسل الّذي كُتِب باللّغة اليونانيّة، ينقل لنا قول يسوع لتلاميذه، يومَ صعودِه إلى السّماء: “ولكنّ الرّوح القدس ينزل عليكم، فتنالون قُدرةً وتكونون لي شهودًا في أورشليم، وكلّ اليهوديّة والسّامرة، حتّى أقصى الأرض” (أعمال 1/ 8). في ذلك الزّمان، كانت روما تُشكِّل أقصى الأرض: إنّ بطرس وبولس قد وصلا في تبشيرهما بكلمة الله إلى روما، فَنَقلا شهادَتِهما للآخرين عمّا اختبراه مع يسوع، فكان ذلك سببًا أيضًا في استشهادهما. إنّ استشهادَ هذين الرّسولين دَفَع بالكنيسة إلى اعتماد صَومٍ هو”صوم الرّسل”، الّذي يبدأ في الأحد الأوّل الّذي يَلي عيد العنصرة، ويُختَتم يوم عيد الرّسولَيْن القدِّيسَيْن أي في التاسع والعشرين مِن شهر حُزيران. إنّ هذا الصّوم يبدأ بعد عيد العنصرة، أي بعد حلول الرّوح القدس على التّلاميذ، إذ على المؤمِن الّذي نال الرّوح القدس، أن يُجاهِد في الشهادة للمسيح، وإنْ قاده ذلك للاستشهاد. فالشهادة، إذًا، تؤدي إلى الاستشهاد، ولذا لا يتمّ الفَصل بين هذيْن التعبيرَيْن في اللّغة اليونانيّة.

أمّا عن مفهوم الشهادة: فالشاهد هو الّذي يتكلّم انطلاقًا من خبرته، أي مِمّا شاهَدَه وَلَمَسَه وَسَمِعَ به، فهو لا يحقّ له أبدًا أن يُدلي برأيه في القضيّة الّتي يتمّ معالجتها في المحكمة، إذ عليه أن ينقل للقضاة والمحامين، أمرًا يقينًا اختبره، لا مشاعره وأحاسيسه. إذًا، إنّ الشاهد هو الّذي ينقل للآخرين، ما رأى وسمع واختبر، ولذا يُدعى شاهدًا. إنّ عبارة “شاهد زور”، تحتوي على تناقُضٍ، إذ إنّ مفهوم الشاهد يقوم على أن ينقل ذلك الإنسان حقيقةَ ما اختبر، أي أنّه ينقل أمرًا يقينًا، وبالتّالي فإنّ شاهد الزور يشهد بما لم يره ولم يسمع به، ولذا لا يجب أن تُطلق عليه صِفة “شاهد”. إنّ عبارة “شاهِد زور”، استُعمِلت في الإنجيل، يوم أخبرنا الإنجيليّون عن اعتقال يسوع ومحاكمته، فقالوا لنا إنّ شاهِدين قد شهدا عليه زورًا. إنّ شاهد الزّور هو ذاك الّذي يعرف الحقيقة، ولكنّه ينقلها للقاضي والمحامين بشكلٍ مغلوطٍ ومشوَّهٍ، أي أنّه لا ينقل إليهم الحقيقة، وبالتّالي تُصبِح كِذبَتُه هي الحقيقة بالنسبة لسامِعِيه. إنّ شاهِدَي الزور اللّذين أَخْبَرَنا عنهما الإنجيل، قد نقلا كلام يسوع عن هدمِ الهيكل وبنائه في ثلاثة أيّام، كما فَهماه لا كما قَصَد يسوع بكلامه هذا. إنّ الكذِبَ هو مِن صفات الشيطان والصِدِق هو مِن صفات الله، فالإنجيليّ يوحنّا ينقل لنا عن لسان يسوع قوله إنّ الشيطان هو كذّابٌ وأبو الكذب. 

إنّ الكذّاب، في اللّغة اليونانيّة، هو ذاك الّذي ينقل لك الحقيقة، بعد أن يُفرِغها من معناها. وتكمن خطورة الكذب، في نجاح الكذّاب في إيهام الآخرين أنّ ما يتفوّه به هو فعلاً الحقيقة. إنّ الهرطقات الّـتي نشأت في الكنيسة لم تكن مبنيّة على أمرٍ خاطئ، إنّما كانت ترتكز على نقل الحقيقة الإيمانيّة بطريقة مغلوطة ومشوَّهة. يَصِفُ سفر الرؤيا يسوع فيقول فيه إنّه الشاهد الأمين الصادق، لأنّه شَهِد بما رأى عند الآب وأخبرنا به، أي أنّه نَقَل لنا الحقيقة كما هي؛ وبالتّالي، فإنّ مَن يريد إتِّباع المسيح، عليه أن يتَّبع نهج المسيح في نَبْذِ الكَذِب ونقل الحقيقة دون سواها للآخرين، حتّى وإن كان ثمن تلك الشهادة هو “الاستشهاد”. إنّ كلمة “أمين”، في اللّغة اليونانيّة، تعني أيضًا المؤمِن، وبالتّالي، فإنّ عبارة “الشاهد الأمين”، في اللّغة اليونانيّة، تعني إمّا الشاهد المؤمِن، أو الشهيد الأمين.

إخوتي، إنّ كلَّ شاهدٍ مؤمنٍ هو شهيدٌ أمينٌ لكلمة الله، وإنَّ كلَّ مؤمنٍ هو مشروع شهيد، وبالتّالي لا يمكننا الكلام عن شهادةٍ للمسيح، مِن دون أن تتبادر إلى أذهاننا إمكانيّة الاستشهاد. إنّ الكنيسة الأولى كانت تُطلِق لقبَ “الـمُعترِف”، على المؤمِن الّذي صدَرتْ بحقّه عقوبة الاعدام، ولم يتمّ تنفيذها فيه، فمات ميتة ربّه في وقتٍ لاحق، كما حدث مع القدِّيس مكسيموس الـمُعتَرِف. إنّ الإنجيليّ يوحنّا (يوحنّا 21)، يُكلّمنا عن ذاك التلميذ الّذي شهِد للربّ، فيقول لنا إنّ شهادته هي حقّ. إنّ استشهاد المؤمِن هو نتيجةُ شهادتِه الحقّة للمسيح.

في داخلِ كلِّ شاهِدٍ بذرةٌ رسوليّة، تدفعه إلى نقل البشارة بأمانة، مِن دون زيادةٍ أو نُقصان، لأنّه ما إن يُدخِل هذا المؤمن تعديلات خاصّة به على البشارة الّـتي ينقلها، يتحوّل المؤمن مِن شاهدٍ وناقلٍ للبشارة إلى كاتبٍ لها، وبالتّالي تكون الحقيقة قد تعَّرضت إلى تشويه. لا يجوز للشاهد، أن يُحلِّل ويُفسِّر القضّية الّتي يشهد بها، كما أنّه لا يحقّ له إبداءَ رأيه الخاصّ، لأنّه يتحوّل عند ذلك إلى مُحلِّلٍ وتنتفي عنه صفة الشهادة، فالشهادة تفترِض نقل اختباره الحسيّ بأمانة كاملة. إنّ الشهادة بتجرُّدٍ كاملٍ عن المشاعر والأحاسيس، هو عمل بطولةٍ يقوم به المؤمِن. يحقّ للشاهد أن ينقل مفاعيل تلك الشهادة فيه، أي أن ينقل تأثيرها في نفسه. إنّ بشارة المسيح لا تصل إلى الآخرين إلّا إذا نَبَعَتْ مِن قلبِ مؤمنٍ قد مَسَّتْهُ جمرةُ كلمة الله، وتركت في نفسه لهيبًا يدفعه إلى نقل اختباره للآخرين. إنّ كلمة الله تُشعل لهيبًا في قلب المؤمِن، وهذا اللّهيب سيهدِم كلّ صنميّة موجودة في داخله، فيتحقّق في المؤمن قول الله للنبيّ إرميا، إنّه أقامه ليَهدمَ ويقلعَ ويُدَمِّرَ فَيَبني ويَغرِس. إنّ كلمة الله تجد صعوبة في الانسجام مع كلّ ما هو قديمٍ وبالٍ، وبالتّالي يعيش المؤمِن صراعًا داخليًّا بين ما هو قديم وما هو جديد. 

إنّ مَن يقبَل كلمة الله، يَعترِفُ بالمسيح مُخلِّصًا له وربًّا، وبالتّالي فإنّ الربّ سينتصر على الدّمار الّذي أحدثته كلمة الله في داخل المؤمِن، فتنمو بذرة الحياة والتجديد في قلب المؤمِن. وهذا ما حدث مع يسوع، إذ بعد الآلام والموت والدّفن، قام المسيح من الأموات وانتصر على الموت. وكما أنّ المسيح قد انتصر على الموت وقام، كذلك على المؤمِن أن يُميتَ فيه الإنسان القديم، ليقوم فيه الإنسانيّ النورانيّ، الإنسان الجديد.

إنّ المؤمنين بالمسيح هم شهود للكلمة وليسوا مبشِّرين بها، فالمبشِّرون هم الرّسل فقط، إذ يملكون سُلطانًا في نقل حقيقة الكلمة والتبشير بها، أمّا نحن فنشهد لتلك الكلمة. إنّ شهادة المؤمِن تقتضي بأنّ يُظْهِر المسيح للآخرين من خلال حياته اليوميّة وتصرّفاته، وهذا يفترِض مسيرة طويلة مِنَ الجهاد الروحيّ والاستشهاد الدّاخليّ، وقد تؤدي تلك الشَّهادة إلى الاستشهاد الخارجيّ الجسديّ. إنّ الاستشهاد الدّاخلي هو إماتة الإنسان العتيق فيك ليتمكّن الإنسان الجديد من الولادة في داخلك؛ أمّا الاستشهاد الخارجيّ فيقوم على تَحوُّل المؤمن الشاهد إلى شهيد، بسبب عدم قبول الآخرين لشهادته، فيقتلونه إمّا جسديًّا وإمّا نفسيًّا برفضه وعَزْلِه، وبالتّالي فإنّ كلّ شاهِد للحقّ أي لكلمة الله هو مشروع شهيد. إنّ أكثر النّاس الّذين تمّ عزْلُهم ورفضُهم هم حاملو لواء الحقّ. إنّ مَن أراد اتبّاع الحقّ، عليه أن يُعانِق الصّليب، لا محالة. إنّ الحقّ ليس أمرًا جامدًا، بدليل أنّ يسوع لم يتفوّه بكلمةٍ أمام بيلاطُس حين سأله هذا الأخير عن ماهيّة الحقّ، لأنّ المسيح يسوع هو الحقّ، وبالتّالي فالسؤال الّذي كان على بيلاطس طرحُه على يسوع هو: “مَن هو الحقّ؟”، فيأتيه الجواب أنّ المسيح هو الحقّ. على كلّ مدافعٍ عن الحقّ أن يُظهِر المسيح يسوع فقط للآخرين.

يعيش المؤمِن سِفر الرؤيا بأكمله حين يكون على مَقْرُبةٍ من الموت، أي في الفترة الزمنيّة الفاصلة ما بين اعتقال المؤمِن مِن منزله، أي مِن الدّهاليز في ذلك الزّمان، بواسطة القوى العسكريّة التابعة للامبراطوريّة، وبين موعد محاكمته وإعلان الحكم عليه بالموت. وفي دار الولاية، يُعطي المؤمنُ الحاكمَ الجوابَ عن هويّة الإله الّذي يَعبُدُه، فإمّا أن يُنكِر المؤمنُ إيمانَه، ويعترِف بالامبراطور إلَهًا، فيُطلَق هذا الأخير سراحه، وإمّا أن يعترِفَ بإيمانِه ويُجاهرَ به أمام الامبراطور، فيُصدِر هذا الأخير الـحُكمَ بالموت على المؤمِن، فيتمّ استشهاده. إنّ سفر الرؤيا ليس كتاب توقّعات يتضمّن أحداث نهاية الأزمنة، بل إنّ سفر الرؤيا يُعبِّر عن الحالة الّـتي يعيشها المؤمِن في طريقه للاتّحاد بالربّ عبر الاستشهاد، إذ على كلّ مؤمِن أن يتّخذَ مِنَ المسيح مثالاً له، فيكون شاهدًا مؤمنًا وشهيدًا أمينًا لكلمة الله. إنّ الشهيد يصل إلى الملكوت فورًا بعد استشهاده، فهو لا يحتاج إلى انتظار يوم الدينونة العامّة وحلول الملكوت، ليدخُلَه. إنّ المؤمنِ هو مَن يختار المصير الّذي سيناله بعد الاستشهاد: فإنْ اعترف بالربّ، نالَ نعمةَ الوصول إلى حضن الله الآب والابن والرّوح القدس، وإنْ أنكرَ إيمانه، فالموت الأبديّ سيكون مِن نصيبِهِ. إنّ الإنسان قد تعلّم إحدى حيَل الشيطان، وبدأ تطبيقها في علاقتِهِ مع الله، إذ يعمَدُ الإنسانُ إلى تأجيل عمل الشهادة للمسيح وتوبته إلى الله، إلى الغَد. 

وفي هذا الإطار، يقول لنا الإنجيل في مَثَل الغنّي الجاهل: “يا غبيّ، في هذه اللّيلة تُستَرَدُّ نَفسُكَ مِنكَ، فَلِمنَ يكون ما أعدَدته؟” (لوقا 12/ 20). ما مِن وقتٍ مُحدَّد للشهادة، وبالتّالي على المؤمِن أن يشهد للمسيح في كلّ آنٍ وآوان، إذ عليه استغلال كلّ فرصةٍ تُعرَضُ عليه للإعلان عن إيمانه، وشهادته هذه قد تؤدي به إلى الاستشهاد على يد الّذين يرفضون كلمة الله. إذًا، لا يجب تأجيل عمل الشهادة للمسيح إلى الغد، كما أنّه يجب علينا ألّا تنتظر حلول زمن اضطهاد مِن قوّاتٍ غريبةٍ محتلّة، كما كانت الحالة في أيّام الرّسل كي نُعلِن عن إيماننا، ونجاهر به، فيُسْفَكَ دمُنا. إخوتي، إنّ سفر الرؤيا يُعاش كلّ يوم، إذ على المؤمِن الشهادة للمسيح وإعلان الحقّ في كلّ موقفِ فسادٍ يتعرَّض له في حياته اليوميّة. فمثلاً، أمام موقف الارتشاء، يجد المؤمن نفسه أمام خيارَين إمّا الحصول على المال أم رفضه، وهنا على اختيار المؤمِن أن يكون مُرتَكِزًا على إيمانه بالمسيح والشهادة له. إنّ سِفر الرؤيا يُذكِّرنا في كلّ موقفٍ حياتي نتعرَّض له بضرورة الشهادة للمسيح، فنختار الحقّ على الباطل، والصِدقَ على الكذِبِ، والنِّعمة على الخطيئة فنشهد للمسيح في حياتنا اليوميّة من خلال مواقفنا.

إذًا، إنّ سِفر الرؤيا يُعاش في حياتنا اليوميّة في كلّ مواقفه. إنّ سِفر الرؤيا لا يتطلّب وجود مُضطَهدٍ خارجيٍّ كي يعيش المؤمِن هذا السِفر، فالمؤمِن يَضطَهِدُ ذاته عندما يُفضِّل ارتكاب الخطيئة على صَونِ كلمة الله من خلال تصرّفاته، فيتحوَّل إلى شاهدِ زورٍ على كلمة الله، إذ يتصرّف بعكس إيمانه. إنّ شهادة الزّور تؤدي إلى عواقب وخيمة على المجتمع، إذ إنّ القاضي سيصدرُ قرارًا خاطئًا وسيظلم البريء، ويُبَرِّئ الظالم، وهذا ما يؤدي إلى فوضى في المواطنيّة الإلهيّة، إذ لا يقبل أهل السّماء بمِثلِ هذا الظلم. إنّ شهادة الزور هي حالة تمرّد على الله، إذ إنّها تُلغي الحقيقة، وتَصنعُ حقيقةً أخرى مبنيّةً على الكَذِب، وبالتّالي فإنّ شاهد الزور يجعل من نفسه إلهًا إذ استنادًا إلى شهادته يتمّ ظُلمُ البريء وتبرئةِ الظالم.

إنّ المؤمِن الّذي يشهد لإيمانه بكلّ مِصداقيّة وشفافيّة، سيُواجِهُ عدوانيّة من الآخرين تجاهه، أكانوا أقرباء أم بعيدين، نتيجة رفضهم لكلمة الله. إنّ الكثيرين يقعون في حبائل الشيطان وفخاخه، إذ يتّخذون من الصراحة حُجَّةً كي يقوموا بأذيّة الآخرين، فيعتقد أولئك المتحجّجون أنّ ابتعاد الآخرين عنهم هو نتيجة إعلانهم كلمة الحقّ. إنّ الصّراحة قد تكون مُغايرة للحقيقة، إذ إنّ الصّراحة هي رأيٌّ خاصٌّ يتعلّق بحدثٍ معيَّن، أي أنّ الصرّاحة لا تتضمّن حقيقة عامّة بشكلٍ مؤكَّد، وعلى المؤمِن التحلّي بالمصداقيّة لا بالصّراحة. إنّ كلمة “صراحة”، تنبثق من الفعل صرَّح، والتصريح المستمِّر هو ثرثرةٌ. على المؤمِن أن يقول الحقّ والصِدق، حتّى وإن كَلَّفَه ذلك، الاستشهاد. إنّ الإنجيل يقول لنا في هذا الإطار: “طوبى لكم إذا شتموكم واضطهدوكم وافتروا عليكم كلّ كذبٍ من أجلي” (متّى 5/ 11). إذًا، الاضطهاد يكون من أجل إعلانك كلمة الله، ولا يكون مستندًا على عدم انسجامك واتّفاقك مع الآخر فكريًّا وجسديًّا. وبالتّالي فإنّ المعيار للشهادة والاستشهاد هو المسيح يسوع، لا المؤمِن بحدِّ ذاته.

على المؤمِن أن ينقل البشارة للآخرين بطريقة صحيحة، لا بطريقة خاطئة لئلا تضيع الحقيقة، لذا على المؤمِن معرفة كيفيّة نقل البشارة إلى الآخرين، فيكون شاهدًا حقيقيًّا وأمينًا للكلمة الإلهيّة. إنّ مار بولس يُوجِّه حديثه في إحدى رسائله إلى المؤمنين فيقول فيهم إنّهم يتمتّعون بغيرةٍ على كلمة الله، لكنّهم لا يملكون المعرفة، وبالتّالي فإنّ عليهم تعلّم الطريقة الصحيحة ليتمكنّوا من نقل البشارة، إذ إنّ مَن يُحبّ كلمة الله، عليه أن يتعلّم كيفيّة إيصالها للآخرين، ولذا كان بولس يوبِّخهم على تصرّفاتهم وذلك من أجل تصحيح مسارهم الإيمانيّ، وبهدفِ بنيانهم روحيًّا أيضًا. إنّ توبيخ الآخرين وتصحيح مسارهم، يتطلّب وجود محبّة في قلب المسؤول عن هذا العمل، وإلّا فلن يتجرّأ هؤلاء على التغيير في مسيرتهم، وبالتّالي، فإنّ توجيه الملاحظات إلى الآخرين، مِن دون وجود محبّة تجاههم، سيُواجَه بالرَفض من قِبَلِهم، لأنّهم سيشعرون بدينونة الآخر لهم لا بمحبّته لهم، وسيرفضون التحسين في مسلكيّتهم. فإن كنتَ لا تُحبّ لا تبدي أيّة ملاحظة للآخر، أمّا إن كنتَ تُحِبّ فإنّه يمكنك أن تقوم بكلّ شيء حتّى الخطيئة، غير أنّك ستتوقّف عن ارتكاب الخطيئة بقرارٍ منك لأنّك ستُدرِك أن الخطيئة ستؤذي الآخر، ولن تُعبِّر عن محبّتك له.

إنّ الشهادة للمسيح، تتطلّب مِنَ المؤمن الإعلان عن كلمة الله بكلّ كيانه: بكلّ حوّاسه، وتفكيره، وقلبه، إذ عليه أنّ يتحوّل إلى كلمة الله المتحرِّكة، فيصبح بمثابة الإنجيل الخامس. إخوتي، إنّ الشهادة للمسيح، قد تعرَّضت إلى التشويه مِن قِبَل المؤمنين أنفسهم، عبر التّاريخ، لذا لا نسْمَحَنَّ لتلك الشهادة المغلوطة بالاستمرار ولنحاول تصحيح المسار قدر المستطاع، طالبين من الله المعونة في ذلك. إنّ الله لا يطلب منّا التبشير في الأماكن البعيدة والّتي لم تصل إليها بعد كلمة الله، بل يطلب منّا التبشير في محيطنا أوّلاً، إذ قد خلق لنا يدين ورجِلَين لا يمكنهما الوصول إلى كلّ بقاع الأرض بل إلى مسافةٍ محدودة معيّنة. إذًا، إنّ الربّ يُرسِلُكَ اليوم، إلى أشخاصٍ في محيطك قد وَصَلت إليهم كلمة الله، بسبب تصرّفاتك، بطريقة خاطئة، لتَسْعى وتُصحِّحَ ما أفسدَتْ تصرّفاتك من تعطيلٍ لكلمة الله، فلا يعود يُجدَّف على اسم الله بسببك.
إنّ طريق الاستشهاد هو خيارك، فاحسم خيارك من خلال شهادتك الصحيحة، أو شهادتك زورًا على كلمة الله.

إنّ عالمنا اليوم، يعاني من الضّياع، إذ إنّه لا يعرف أن يستخدم -بشكلٍ صحيح – ما أعطاه إيّاه الله من نِعَم: فالله قد أعطى الإنسان يدَيْن كي يخدم بهما الآخرين، غير أنّ الإنسان يستخدمهما للحصول على كنوز هذه الدّنيا. في نصّ تجارب يسوع في الصّحراء، نجد أنّ الشيطان قد استخدم لغة هذا العالم مع المسيح، إذ نصَحه بالحصول على كنوز هذا العالم، مقابل تَخَلِّيه عن كلمة الله، غير أنّ المسيح رفض الانصياع لكلام الشيطان، متمسِّكًا بالمحافظة على كلمة الله. إنّ الربّ قد رفض ذهنيّة هذا العالم، في التسّلط على النّاس، والحصول على كلّ ممتلكاته. 

إنّ الشيطان قد استقى تلك التجارب من الكتاب المقدَّس، وتحديدًا من سِفر الاشتراع. إنّ قمّة الخطورة تكمن في تحوّل بعض المؤمنين، بحجّة الدّفاع عن الله، إلى ديَّانين للآخرين، وبالتّالي يَتَعدّون على صلاحيّات الله، لأنّ الدينونة هي شأنٌ إلهيّ لا إنسانيّ. ما مِن شاهدٍ على كلمة الله أفضل مِنَ الشاهد الأمين يسوع المسيح، وبالتّالي سيصبِح كلّ شاهد حقّ إنسانًا مُغرَّبًا عن جماعته، وهذا ما حصل تمامًا مع المسيح، إذ جعله اليهود غريبًا عنهم، ليتمكّنوا من قتله وصلبه خارج أورشليم. إنّ أورشليم قد أوصَدت أبوابها في وجه بولس الرّسول، فمنعته من الدّخول إليها للتبشير، وقد اعتقد اليهود أنّهم بهذا العمل قد تمكنّوا من تشريد بولس في الأمم، غير أنّ بولس الرّسول قد استفاد من تلك الفرصة، فذهب ليبشِّر الأمم، الّتي ارتدّت إلى المسيحيّة وتحوّلت إلى أورشليم الجديدة. إنّ بطرس أيضًا قد بشّر في عدّة أماكن إلى أن وصل في النّهاية إلى روما، حيث مات شهيدًا، وبالتّالي لقد أوصلته البشارة بالمسيح إلى الصّليب، أي إلى ذلك المكان الّذي أسند عليه يسوع رأسه، غير أنّه رفض أن يموت مصلوبًا كالمسيح، فاختار الصّلب بالشكل المعاكس لصلب المسيح، لأنّه لم يجد نفسه أهلاً ومستحقًّا أن يشابه المسيح في موته. إذًا، إنّ الشهود لكلمة الله هم استشهاديّون في الوقت نفسه.

إنّ قبول الاستشهاد ليس أمرًا سهلاً على الإنسان إذ يتساقط دمه كالعرق. قد يقع بعض المؤمنين فريسة أوضاعهم الاقتصاديّة فيقبلون ببعض الأمور غير الصالحة، كقبول الرّشوة مِن أجل الحصول على المال لتأمين معيشةٍ أفضل لهم ولعائلاتهم. إنّ البعض قد يتذرَّعون بأنّ الفساد لن يتوقَّف في العالم، إن امتنعوا عن الارتشاء، ولذا نجد أنّ البعض قد يُقدِم على ارتكاب مثل تلك الخطيئة وثمُّ يتوب عنها. إنّ الخطيئة هي ذات جذور جذّابة للإنسان لذلك يرتكبها، ولكنّه لا يلبث أن يُدرِك الأذى الّذي سبّبته له وللآخرين، لذا يعود فيتوب عنها. إنّ الخطيئة تتضمّن إغراءً، لذا عندما يتوب الإنسان عنها، ويعود فيرتكبها مُجدّدًا فإنّه لا يتذكَّر الأذى الّذي سبق وسبّبته إنّما يتذكَّر إغراءها له.

 غير أنّ الله يقول في سِفر إرميا، إنّه ينسى خطايا الإنسان حين يتوب عنها لأنّه يُدرِك مُسبَقًا أنّ الإنسان سيعود ويرتكبها من جديد. في كلام الله هذا، نجد تشجيعًا للمؤمِن بمحاولة نسيان خطايا وتخطِّيها فيعود للشهادة لكلمة الله بطريقة أفضل، فلا تصِل الشهادة إلى الآخرين مشوَّهة بسبب الضعف البشريّ. إنّ بولس الرّسول يقول لأهل قورنتس إنّنا نحن البشر آنية خزفيّة تحمل الكنز الإلهيّ، وإنّ قيمة هذه الآنية لا تأتي من ذاتها بل من قيمة الكنز الّذي تحمله في داخلها. إنّ وجود هذا الكنز الإلهيّ داخل هذه الآنية الخزفيّة لا يجعلها آنيةً غير معرَّضة للسقوط والهوان، فالضّعف البشريّ يبقى فينا، ولكن الربّ ارتضى السُكنى فينا نحن الضُعفاء، على الرّغم من شهواتنا الأرضيّة الّتي تتجاذبنا. إنّ الله قادرٌ على الوصول إلى الآخرين من خلالنا شرطَ عدم الالتهاء بخطايانا، وتوقّفنا عندها، عن البشارة، لأنّ ذلك من شأنه أن يمنع كلمة الله من الوصول بالسرعة المطلوبة إلى الآخرين.

على المؤمِن أن يبقى منشغلَ التفكير في كلام الله وما تطلبه منه تلك الكلمة الإلهيّة، فإنّ ذلك من شأنه أن يُخفِّف من ضغط حواس المؤمِن على إحساسه. على المؤمِن أن يتحرّر من ضغط حواسه على إحساسه، فيتحرّر من إدانة النّاس انطلاقًا من حواسه، ويُقلِّل من إساءة الظَّن فيهم، وعندما ينجح في التحرّر من ضغط الحواس، فيشعر براحة كبيرة وسلام داخليّ لا وصف لهما. إنّ بعض الثواني القليلة، كفيلةٌ بأن تُعطي الإنسان انطباعًا أوّليًا عمّا يراه، وهذا الانطباع قد يكون سلبيًا كما قد يكون إيجابيًّا، وهو يتطلّب الكثير من الوقت كي يُمَّحى مِن ذاكرة الإنسان. إنّ ضغط العين كفيلٌ في جعل الإنسان يُسيء الظنّ في الآخرين، ويُصدِر الأحكام في شأنهم. هذا بالنسبة إلى ضغط العين، فما حال باقي الحواس؟ بالتأكيد، إنّها ليست أفضل حالاً. إنّ حاسّة السَّمع كفيلة بأن تجعل الإنسان يُصدِر الأحكام مستندًا على نبرة الصوت: فأن يكون الإنسان شاهدًا حقيقيًّا للكلمة أم شاهد زورٍ لها، فإنّ هذا الأمر يتعلّق بحاسّة السّمع. إنّ حال اللّسان ليس أفضل، فهو على الرّغم من أنّه أصغر أعضاء الجسد، غير أنّه كفيل بتحطيم كلّ العِظام، فإنّ اللّسان يفيض بما في قلب الإنسان، وبالتّالي فإنّ الشهادة تتعلّق بما يصدُر عنه.

إنّ الشهادة للمسيح لا تحتاج إلى تعلّم العقائد اللاهوتيّة، بل يكفيها أن يتمّ نقل كلمة الله إلى الآخرين بكلامٍ نابعٍ من القلب. كُثُرٌ هم الّذين ارتدّوا إلى المسيحيّة لا لأنّهم فهِموا العقائد اللاهوتيّة، بل لأنّهم لمسوا حبّ الله لهم من خلال بعض الكلمات الّـتي سمعوها مِن بعض المؤمنين الحقيقيّين بالمسيح. إذًا، على المؤمِن أن يُظهر محبّة الله لكم في محيطكم ببساطة دون اللّجوء إلى الفلسفة. وقد اشتهرت مقولة خاصّة عن طلاب اللّاهوت تقول فيهم إنّهم يدخلون إلى كليّة اللاهوت وفي قلبهم مخافة الله، أمّا عندما يتخرّجون مِن تلك الكُلِيَّة، فإنّ الله هو مَن يَخاف منهم. 

إنّ الشهادة للمسيح لا تتعلّق بمعلوماتك وعِلمِك عن الله، بل بقلبك وكيانك الـمُتجاوبيْن مع كلام الله. إذًا، إن الشهادة للمسيح تتعلّق برغبة المؤمِن العميقة: فإن كانت رغبة الإنسان أن يكون مع الله، فعندها ستكون إرادته وقدرته منسجمتَيْن مع تلك الرّغبة، ولا خوف إن تقاعست الإرادة والقدرة، ما دامت الرّغبة موجودة؛ أمّا إذا اضمحلّت تلك الرّغبة فإنّ الإرادة والقدرة ستزولان، ولن تعودا نافعتَيْن للبشارة. إنّ يسوع الّذي قام من الموت، ظهر لبطرس، وسأله ثلاث مرّات إن كان يُحبّه، قَبْلَ أن يُسلِّمه رعاية القطيع، ليمحو له آثار إنكاره للمسيح عندما أُلقيَ القبض عليه وليتأكَّد مِن محبَّة بطرس له، لا لأجل التأكُّد مِن تعلُّمه كيفيّة إدارة القطيع. إنّ الربّ قد نسي نُكران بطرس له، حين أعلن هذا الأخير عن محبّته للمسيح، وهذا ما يبرِّر تسليم المسيح لبطرس رعاية قطيعه الّذي تسلّمه هو مِن الآب، لقد سلّم المسيحُ بطرسَ رعاية تلك الأمانة الّتي أعطاها الله الآب له كي يَمنحنا الخلاص.

إنّ الشهادة للمسيح تكمن في إعلاننا عن هذا الحبّ الحقيقيّ للآخرين. إنّ الّذين يرتدّون إلى المسيحيّة هم أشخاص قد شعروا واختبروا محبّة المسيح لهم، ومن أجل تلك المحبّة الّتي اختبروها قرّروا الحصول على سرّ المعموديّة فتحدّوا دُوَلِهم وغيّروا دينهم على الرّغم من كلّ العقوبات الّتي تفرِضها على المرتدّين. إنّ المؤمِن لا يشهد لإيمانه بالمسيح لأنّه يُحبّ الله، بل يشهد له لأنّ حُبَّ المسيح له، قد دفعه إلى التغيير في مسلكيّته، فَحُبّ المسيح غير خاضع للمزاجيّة أو لظروف الحياة كما هي حال محبّة الإنسان لله، إذ يكفي أن تُعاكس الإنسانُ ظروف الحياة ليتوقّف عن الصّلاة.

إنّ المسيح قد سلّمنا مسؤوليّة كبيرة، نحن المسيحيّين، فمسؤوليّة بقائه في الشّرق متعلِّقة في بقائنا في هذا الشرق، فَمِن دون المسيح لا معنى لرسالتنا في الشرق. إنّ خوفنا اليوم هو في تحوّل المسيحيّين إلى مجتمعٍ، أو طائفة أو أمّة. إنّ استخدامنا لغة هذا العالم، للدّفاع عن وجودنا وكياننا في هذا الشرق، مِن شأنه أن يُلغي وجودنا، إذ إنّنا باستخدامنا لتلك اللّغة، نفقد لغة الرّوح، ميزتنا كمسيحيّين. إنّ عدد المسيحيّين لم يكن يفوق عددنا اليوم في هذا العالم، ولكنّهم قد تمكّنوا مِن نقل البشارة إلى المسكونة بأسرِها، أي أنّه يمكننا نقل البشارة إلى العالم بأسره إن حافظنا على روحانيّتنا المسيحيّة إذ إنّنا سنتمكّن مِن مساعدة الآخرين إلى الارتداد إلى الله. قال بولس في إحدى رسائله، إنّ مساهمته في خلاص بعض النّفوس سيُسبِّب له فرحًا عظيمًا، وإنّ عبارة “بعض”، الّتي استخدمها بولس تشير إلى عددٍ يتراوح بين ثلاثة وتسعة أشخاص. إنّ مدينة “قورنتس” بأسرِها لم يتجاوز عدد المسيحيّين فيها الثلاثين. 

إنّ بولس الرّسول في حياته الأرضيّة لم يتمكّن من جعل الأمم كلّها ترتدّ إلى المسيحيّة، ولكنّه تمكّن مِن زرع كلمة الله في أرجاء الامبراطوريّة الرومانيّة كافّة. إنّ المسيح سيكون رابحًا فقط إن استعمل المسيحيّون لغة المسيح في نقل البشارة إلى الآخرين، فهذه اللّغة المرفوضة مِن البشر هي اللّغة الوحيدة والكفيلة بإبقاء المسيحيّين في هذا الشرق؛ فإن استعمل المسيحيّون لغة هذا العالم، فقد يزداد عدد المرتدِّين إلى المسيحيّة، غير أنّ كلمة الله ستبقى بعيدةً عنهم، وسيكون المسيح هو الخاسر الأكبر. إنّه من الطبيعيّ أن يتضاءل عدد المسيحيّين في هذا الشرق، لأنّهم مشاريع استشهاديّين. إنّ المسيح لا يطلب من أتباعه طلب الموت والسّعي له، بل إنّه يطلب منّا أن نعيش الحياة بالطريقة الّتي علّمنا إيّاها، ولكن إن لم يكن هناك من حلٍّ آخر لشهادتنا له سوى الموت، فعندئذٍ علينا مواجهته وتقبُّلُه. إنّ على المؤمِن الّذي يصبح قريبًا مِن لحظةَ موته شهيدًا، أن ينظر إلى السّماء ويرى الملكوت الـمُعَدّ له، ذاك الملكوت الّذي سيناله بعد الاستشهاد، لأنّ استشهادنا لا يُخفِّف مِن عدد المسيحيّين بل يُساهم في الإسراع في مجيء ملكوت الله.

ملاحظة: دُوّنَت المحاضرة بأمانةٍ من قبلنا

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp