الرياضة السنويّة 2019 بعنوان: “إنْ كان لنا في هذه الحياة فقط رَجاءٌ في المسيح، فإنّنا أشقى جميع النّاس” (1 كور 15: 19)
دير مار جرجس- بحردق،
الموضوع الثاني: “خطوات عمليّة لِعيْش الرَّجاء وبَثّه”
الأب ملحم الحوراني،
إنّ حديثنا اليوم، يتمحوَر حول كيفيّة تعزية الحزانى. وما سأعرِضه عليكم نابعٌ مِن خِبرة خمسٍ وعشرين سنةٍ في الكهنوت، مرتكزة على علاقتي بالنّاس. إنّ تعزية الحزانى، تُشبه دِراسة الأطبّاء لاختصاصٍ معيَّن، فَهُم أوّلاً يقومون بدراسة جزءٍ مُحدَّد في جسم الإنسان، هَدف اختصاصهم، على سبيل الـمِثال العِظام، ثمّ يحاولون تطبيق ما تعلَّموه بإقامة عمليّات جراحيّة، وتصحيح أخطائهم في التَّطبيق في كلِّ مرّة؛ هكذا هي أيضًا تعزية الحزانى، إذ على كلّ مؤمِن أن يسعى إلى إيصال الرَّجاء المسيحيّ للآخَرين، بكلّ الطُرق المتاحة له، وتحسِينِها في كلّ مرّة، في سبيل الوصول إلى هدَفِه، ألا وهو تعزية الحزانى.
إنّ الموت هو أمرٌ محتومٌ، لا يستطيع الإنسان التهرُّبَ منه. لذا، على الإنسان أن يتعلَّم كيفيّة تعزية الآخَرين ونَقلِ الرَّجاء المسيحيّ لهم، مِن خلال القراءات الروحيّة والصّلوات اللِّيتورجيّة وسِواها. إنَّ تعزيةَ المؤمِن لإنسان قريبٍ من الله، أسهل من تَقديمه التَّعزية لإنسانٍ غير مُلتَزمٍ بكنيسته، عندما يَقرَعُ الموتُ بابَ هذا الأخير، بانتقال أحد أحبّائه بشكلٍ مفاجئ، كموت شابٍ يَعرِفُه، أم بشكلٍ طبيعيّ كموت أحدِ كِبارِ السِّن.
إنَّ تعزية الحزانى نكتسِبها أوًّلاً، من خلال كلمة الله في الإنجيل. فالإنجيل يُخبرنا عن تعزية الربِّ يسوع لبُطرس في كلامه الوِداعيّ، إذ قال له: “ولكنِّي دَعوتُ لَكَ ألّا تَفقِد إيمانَك. وأنتَ ثَبِّت إخوانك متى رَجِعتَ”(لو 22: 32). وعندما سَمِع بعضُ التّلاميذ قولَ الربّ بأنّه خُبزُ الحياة، لم يَفهموا معنى كلامه هذا، فانقطعوا عن السَّير معه. عندها سأل الربّ مَن تَبقّى مِن تلاميذه إن كانوا يريدون هم أيضًا التَّوقف عن السَّير معه، فكان جواب بطرس للربّ: “يا ربّ، إلى مَن نَذهَب وكلام الحياة الأبديّة عندك؟ ونحن آمَنَّا وعَرفنا أنّك قدُّوس الله” (يو 6: 68). إنَّ بطرس يرمز إلى كلِّ واحدٍ منّا، فكلُّ مؤمِنٍ بالربّ هو ممسوحٌ من الله، وبالتّالي هو مدّعو إلى التشبُّه بالمسيح في تقديم التعزيَة للآخَرين. إنَّ المسيح يسوع قد أتى إلى العالم، ليُخلِّص البشر ويُعزِّيهم، لذا ردَّد كلام أشعيا النبيّ مُوضحًا بذلك للشَّعب أنّه هو مسيح الربّ المنتظر، فقال: “رُوح السَّيِّد عَلَيَّ، لأنَّ الربَّ مَسَحَني، وأَرسلَني لأُبشِّر الفقراء، وأَجبُرَ مُنكَسِري القُلوب، وأُنادي بإفراجٍ عن الـمَسبِّيين، وبِتَخليةِ المأسُورين، لأُعلِن سنةَ رِضىً عند الربِّ، ويومَ انتقامٍ لإلَـهِنا، وأُعزِّيَ النَّائحين. لأَمنَحَهُم التَّاجَ بَدَلَ الرَّماد، وزَيتَ الفَرَحِ بَدَلَ النَّوح، وحُلَّةَ التَّسبيحِ بَدَل رُوحِ الإعياءِ، فيُدعَون بُطمَ البِّر، وأغراسًا للربِّ يتمجَّد بها”(إشعيا 61: 1-3). ونقرأ في إنجيل متّى أنّ الربّ يسوع هو “عِمانوئيل” أي “الله مَعنا” (متّى 1: 23). إنّ الله معنا، نحن المؤمِنِين به، وهو لا يتركُنا خاصّة في وقت الشِّدة والضِّيق، فَهو يتألَّم لألَمِنا، ويَنزعِج لانزعاجنا، وهذا ما يؤكِّده لنا إشعيا (63: 9): “في جميع مَضَايقِهم تَضايقَ (الربُّ) وملاكُ وَجهِه خلَّصهم”.
إنَّ المؤمِنَ، القريبَ مِنَ الربّ، يشعر بوجود الربّ قربَه في وَقت ضيقه؛ أمّا الإنسان البعيد عن الربّ، فلا يشعر بوجوده، بل يشعر بأنّه متروكٌ وحْدَهُ. في سِفر دانيال (3: 24-50)، نقرأ عن مساندة لله للفِتْيَة الثّلاثة الّذين تعرَّضوا للاضطهاد حرقًا في الأتُّون، إذ قد أرسل الله لهم ملاكه، طارِدًا عنهم اللَّهيب، ويقول لنا النَّص: “إنَّ (ملاك الربّ) قد جَعَلَ وَسَطَ الأتُّون ما يُشبِهُ نَسيمَ النَّدى الـمُنعِش، فَلَمْ تَمَسَّهُم النَّارُ البتَّةَ ولَم تُصِبْهم بأذى أو ضرر” (دانيال 3: 50). إنّ النّار تدفع بالـمُضطَهِدِين إلى الاعتقاد أنّ مَصيرَ مُحبِّي الله هو الموت، ولكنَّ الربّ في وقَتِ الضِّيق، لا يترك أحبّاءه، بل يأتي لنُصرَتِهم ونَجدَتِهم. إنّ صاحبَ المزامير، يُعزِّي نفسَه في المزمور 42، إذ يقول:” لماذا تَكتَئبين يا نَفسي، وعليَّ تَنوحين؟ اِرتَجي الله فإنِّي سأَعودُ أَحمَدُه، وهو خلاصُ وَجهي وإلهي”. ويُضيف في المزمور 16، فيقول:”اللَّهم احفَظْني فإنِّي بِكَ اعْتَصَمْتُ”.
وهنا يُطرَحُ السؤال: مَن هو المحزون؟ يُقدِّم لنا الكتاب المقدَّس مِثالاً على الرَّجل الحزين والمكتئب، ألا وهو أيّوب الّذي احتمل الكثير في المشَّقات في حياته، إذ مات أبناؤه وخسِر كلّ ممتلكاته الأرضيّة، ولكنّه بَقِيَ متمسِّكًا بإيمانه بالربّ، الّذي عَوَّضه عن كلّ تلك الخِسارات. إخوتي، إنْ أردتم أن تُقدِّموا العزاء لإنسانٍ حزينٍ جرّاء فُقدانه لِعَزيزٍ، أَنصَحكم أوّلاً بالصُّعود قبل كلّ شيء مع يسوع إلى جَبل الجِتْسمانيّة، جبل الزّيتون. وهنا نقرأ في إنجيل متّى (متّى 26: 36-41)، ما عاناه الربُّ يسوع في استعدادِه للموت، إذ يقول لنا النَّص: “ثمّ جاء يسوع معهم إلى ضَيعَةٍ يُقال لها جَتسَمانيّة، فقالَ للتّلاميذ:”أُمْكُثوا هنا، ريثما أَمضِي وأُصلِّي هناك.” ومَضى ببُطرُس وابْنَي زَبَدى، وجعلَ يَشعُر بالحُزنِ والكآبة. فقال لهم: “نفسي حزينةٌ حتّى الموت. أُمكُثوا هنا واسْهَروا معي.
“ثمَّ أَبعَدَ قليلاً وسَقَط على وَجهِهِ يُصلِّي فيقول: يا أبتِ، إنْ أَمكَن الأمرُ، فَلتَبتَعِد عنِّي هذه الكأس، ولكنْ لا كما أنا أشاءُ بل كما أنْتَ تشاء!” ولكنْ لوقا الإنجيليّ يُضيف في روايته للحدث نفسِه بعض التّفاصيل، فيقول لنا: “وتراءى له ملاكٌ مِنَ السّماء، يُشدِّد عزيمته. وأخَذَه الجُهدُ فأمعَن في الصّلاة، وصار عَرَقُه كقطراتِ دَمٍ مُتُخُثِّرٍ تتساقط على الأرض. ثمّ قام عن الصّلاة فرَجِعَ إلى تلاميذِه، فَوَجَدَهم نائِمينَ مِنَ الحُزنِ. فقال لهم: ما بالكم نائمين؟ قُوموا فصَلُّوا لئلّا تَقَعوا في التَّجربة”” (لو 22: 43-46). إنّ الإنسان المحزون هو أكثر النّاس حاجةً إلى مرافقةٍ مِن الآخَرين وخاصّةً في اللّيل، إذ تعود إليه الذِّكريات ما إنْ يُصبح وحيدًا في غرفته. إنّ الربّ يسوع قد جاهد في الصّلاة مِن شِدَّة ألَمِه. إنّ الإنسان المحزون، يواجه توتُّره وكآبته بمضاعفة صلاته، فَيَصل إلى مرحلةٍ يعجزُ فيها عن التَّمييز ما إن كان سَبَبُ تُوتُّره هو الصّلاة أم الحُزن. إنّ نصَّ صعودِ يسوع إلى الجَتسمانيّة يشكِّل مَصدَر عزاءٍ أوّلاً للإنسان الّذي يرغب في تقديم العزاء، وثانيًا للإنسان المحزون. على الإنسان الّذي يرغب في تقديم العزاء للإنسان المحزون، أنْ يتسلَّح بالصّلاة قبل الشُّروع في ذلك: فالتَّعزية الخارجيّة وحدها عاجزةٌ عن لَمس القلوب الّتي تعرّضَت لجرح فقدان أحد الأحبّة بالموت.
إنَّ الإنسان المحزون يحتاج لِمَن يُعانِقه، ويضمُّه، ولكنّه أيضًا بحاجة لِمَن يُواسيه فيَشفِيه من الدّاخل بكلمة الله. إنّ الربّ يسوع لم يَشفِ الآخَرين بواسطة اللَّمس وحَسب، بل كان يشفيهم أيضًا بواسطة الكَلمة، وهذا ما يؤكِّده لنا الإنجيليّ متّى في الإصحاحَين التّاسع والعاشِر من إنجيله. إذًا، هناك طريقَتَان للشِّفاء: إمّا باللَّمس وإمّا بالكَلمة. في صلواتِنا الأرثوذكسيّة الخاصّة بالموت، نُردِّد العبارة التّالية: “إنّ كُلُومَك أيّها السَّيد، قد شَفَت آلامَنا”. إنَّ بعض المؤمِنِين لدى سماعهم عبارة “كُلوم”، يَظنُّون أنّها تعني الكلام الّذي نتفوّه به؛ غير أنَّ عبارة “كُلُوم”، مشتّقة مِن فِعل “كَلَمَ”، وتعني “جَرَح”. إنّ الكلمة الّتي نتفوّه بها، قد تشفي الآخَرين كما أنّها قد تجرحهم. وبالتّالي، في عبارة “إنَّ كُلومَك أيّها السَّيد شَفَتَ آلامنا”، الـمَعْنَيان جائزان: لأنّ كلام المسيح يساعدنا على فَهْم عمَلِه الخلاصيّ الّذي حَصَلنا عَلَيه من خلال جروحاته وآلامه.
أمام الموت، يقف الإنسان متعجِّبًا وغيرَ قادرٍ على إدراكِ حِكمةِ الله من انتقال الأحبّة من هذا العالم إلى الحياة الثانية، وخاصّةً إن كانَ أهلُ الفقيد لا يزالون بحاجةٍ لوجوده معهم في هذه الأرض. وهنا يُطرَح السؤال: كيف السّبيل لتقديم التَّعزية لأهل الفَقيد؟ يُقدِّم لنا سِفر الحِكمة، جوابًا عن حِكمة الله في موت أحبّاء لنا، فيقول: “أمّا البَّارُ فإنَّه وإنْ تَعَجَّله الموت، يستقرُّ في الرَّاحة، لأنّ الشَّيخوخةَ الـمُكرَّمةَ، لا تَقومُ على كَثرة الأيّام، ولا تُقاس بِعددِ السِّنين. ولكنَّ شَيْبَ الإنسانِ هو الفِطنة، وَسِنَّ الشَّيخوخةِ هي الحياةُ الـمُنزَّهَةُ عن العَيب. أَصبَحَ مَرْضِيًّا عِنْدَ الله، فكانَ مَحبوبًا، وكان يَعيشُ بَينَ الخاطِئِينَ فَنُقِل. خُطِفَ لِكَي لا يُفسِدَ الشَّرُ بَصيرَتَهُ، ولا يُغوِيَ الغِشُّ نَفسَهُ، لأنَّ سِحرَ الباطِلِ يُغشِّي الـخَير، وَدُوارَ الشَّهوَةِ يُفسِدُ العَقلَ الـمُنَزَّهَ عن الشَّر. بَلَغَ الكَمالَ في أَيّامٍ قَليلة، فاسْتَوفَى سِنِينَ طَويلَة. وكانَت نَفسُهُ مَرْضِيَّةً عند الربّ، ولِذَلِكَ فَقَدْ خَرَجَ سَريعًا مِنَ الشُّرورِ. وَأَبصَرَتِ الشُّعوبُ وَلَم تَفقَهْ وَلَمْ يَخطُر لَها أنَّ النِّعمَةَ والرَّحْمَةَ لـمُختارِيه، وافتِقادَهُ لقِدِّيسِيه”( الحكمة 4: 7-15).
يُعطِينا هذا النَّص مفهومًا جديدًا للموت، يساعِدنا على محاولة فَهْم حِكمةِ الله مِن انتقال أحبّائنا، إذ يقول لنا إنّ الشَّيخوخة لا تُقاس بالتَّقدُّم في السِّن، إنَّما تُقاس انطلاقًا مِن نضوج الإنسان فِكريًّا، ونزاهَة حياته عن العَيب. حين تكون حياةُ الإنسان مُنزَّهة عن كلّ عَيبٍ، فهذا يدلّ على استعداده للقاء الربّ يسوع، وبالتّالي غيابُ الإنسان في الجسد لن يكون مَصدرَ حُزنٍ لأحبّائه بل مَصدَر فرحٍ، لأنّ فقيدَهم سيلتقي بالربّ. إنَّ عبارة “الشُّعوب”، تُشير إلى الشُّعوب غير اليهوديّة. إنَّ هذا النَّص يُعطي تعزيةً لأهل الفقيد، لذا على المؤمِن الّذي يَرغب في تقديمِ تعزيَةٍ روحيّة للعائلات المحزونة، أنْ يُحفِّزهم على قراءة هذه الكلمة الإلهيّة والتأمُّل بها، أَو أَقلَّه نَقل فَحواها لهم بكلِّ أمانةٍ. في أوقات الحُزن، يَصعُب على الإنسان المحزون الإصغاء إلى كلمات التَّعزية، لذا على المؤمِن الّذي يرغب في تقديم تعزيةٍ روحيّة للعائلة المحزونة، انتظار الوقت المناسب لذلك. عندما يبدأ المحزون بِطَرح الأسئلة حول حكمة الله من موت فقيده، فهذا يُشير إلى أنَّ الوَقت قد حان، لتقديم التعزية له من خلال كلمة الله. إنَّ الإنسان الّذي يشارِك في رُتبة زواجٍ، أو احتفال معموديّة يجد صعوبةً في التَأمُّل في كلمة الله؛ على عَكسِ الإنسان المحزون، الّذي يتلهَّف لِسَماعها لأنّه يجد فيها تَعزيةً له، وتُساعِدُه على تَقَبُّل واقِعِه الجديد.
إنَّ الإنسان المحزون يحتاج إلى مرافقة الآخَرين له أكثر من الـمَريض، فالـمَريض لا بُدَّ له من الشِّفاء عاجلاً أم آجلاً، أمّا إنْ كان مَرَضُه لا أملَ في شِفائه، فإنّ المريض يكون قد اعتاد على تحمُّل الألم. إنّ حصول العائلة المحزونة على تعزية من الربّ تعني حصولها على الشِّفاء مِن أَلمِ الموت الّذي تعرَّضت له، ولكن هذا لا يعني أنّ جُرحَها سيختفي، بل سيُحافِظ على آثاره في حياة هذه العائلة.
إنَّ الموتَ، من حيث الشَّكل الخارجيّ، هو تَوقُّف الجِسِم عن الحَرَكة، وبدايةُ انفصال جَسد المنتقل حِسيًّا عن أنظار الآخَرين. أمّا من حيث المضمون، فالموت هو انفصالٌ قَسريٌّ للنّفس عن ارتباطِها بالجسد. أمّا مِن حيث النتيجة، فالموت هو حَدَثٌ مُوجعٌ إذ يُلغي من دائرة نَظَرِك البشريّ، الحضور الحِسيّ لهذا المنتقل، مُلغيًا كلّ تفاعُلٍ بشريٍّ معه. حين دَخل الموت إلى الطبيعَة البشريّة، جَعل البشر عُرضةً للفساد، غير أنّنا نحن المسيحيّين، قد نِلنا دواءً لعدم الفساد هو الربّ يسوع الّذي قام من بين الأموات. تَهَكَّم أحدُ الشُّعراء على الموت، فوقفَ أَمامه وخاطبه طالبًا منه الاستمرار في العَمل لأنّه يُساهِم من خلال عَمَلِه في لِقاء أحّبائنا بالربّ. إنّ الموت هو راحةٌ، بالنِسبة للمؤمِنِين بالمسيح، وبالتّالي عندما ينتقل أحد الأحبّة من هذا العالم، فَهو يذهب ليرتاح مع الربّ.
إنّ الموت هو الأخُ الأكبر للنّوم، والنُّوم هو الأخ الأصغر للموت. إنّ الإنسان الّذي يريد أن يرتاح مِن تَعَبِ النَّهار، يذهب إلى النَّوم، ليتمكَّن من الاستيقاظ في اليوم التّالي بكلّ نشاطٍ وحيويّة. كذلك في الموت، يرتاح الإنسان من أعمال هذه الحياة من خلال نوم الموت، ليستيقظ في الحياة الثانية على نور وجه الربّ. ولكنَّ البعض يستعجلهم الموت، فينتقلون من هذا العالم إلى الحياة الثانية باكرًا، أي في عُمر الطّفولة أو الشّباب، ومنِهم مَن يَستمْهلُهم الموت، فيموتون في سِنِّ الشَّيخوخة. في اليوم الأخير، سيطلُب الربُّ من المنتقِلين من هذا العالم الفاني الاستيقاظ من نوم الموت الجسديّ للقيامة الأبديّة، فتَكون “مَقبرة الموت”، إذ ينتهي الموت مِنَ الوجود. لا يستطيع المؤمِن إيجاد تفسير إيماني لوقت انتقال الأحبّاء من هذا العالم.
إنّ المعموديّة ترمز إلى موت المسيح وقيامته الثّلاثيّة الأيّام. في الكنيسة الأرثوذكسيّة، يُغطَّسُ المعمَّدُ ثلاثَ مرّاتٍ في الماء، تعبيرًا عن موت المسيح، وثم يُرفع الـمُعمَّد من الماء تعبيرًا عن قيامته مع المسيح. وبالتّالي، حين ينتقل المعمَّدُ من هذا العالم، فإنّه لا يموت، بل ينتقل من هذا العالم الفاني للقيامة مع الربّ الّتي حصل عليها يوم عِمادِه واقتباله المسيح. إذًا، ينتقل المؤمِن من هذا العالم للقيامة على مِثال الربّ يسوع. في المسيحيّة، تُذكِّر الكنيسةُ المؤمِنَ، في إعلانه الأوّل لقبوله المسيح في حياته ، بالمعموديّة، أنّه سيموت مع المسيح ويقوم معه. وهذا ما يؤكِّده لنا بولس الرَّسول بالقول: “أَوَ تجهلون أنَّنا، وَقَدْ اعتمدْنا جميعًا في يسوع المسيح، إنمّا اعتَمدنا في مَوته فدُفِنّا مَعَه في موته بالمعموديّة لِنَحيا نَحنُ أيضًا حياةً جديدةً كما أُقيمَ الـمَسيح من بين الأموات بمجدِ الآب؟ فإذا اتَّحدنا به فَصِرنا على مِثاله في الموت، فسَنَكون على مِثالِه في القيامة أيضًا” (رومة6: 3-5).
في الليّتورجيّة الأرثوذكسيّة، لا يُسمّى الموت موتًا بل رُقادًا. فكلمة “موت” في اليونانيّة، مشتَّقة من فِعل “كيماتي”، أي “نام”. في القديم، كان يتمّ إضاءة المقابر في يوم سبت النُّور، وزيارة مقابر الآباء القدِّيسين الرّاقِدين، النِّيام على الإيمان المستقيم، كما تُقام الصّلوات الطقسيّة. إنّ الـمَقبَرة، كانت تُسمّى عند الأقدَمين، “كِيمِيتِير”، أي غُرفة النَّوم، وفي تسميَتها كذلك، كان المؤمِنون يُعبِّرون عن إيمانهم بالربّ يسوع الّذي أفقد بموته الموتَ كلّ سُلطانٍ له على البشر. إنّ الإنجيليّ يوحنّا يُخبرنا عن مكان دَفن الربّ يسوع، فيقول:”وكان في الـمَوضِع الّذي صُلِبَ فيه بُستان، وفي البُستانِ قَبرٌ جَديد لَم يَكُن قد وُضِع فيه أحدٌ” (يو 19: 41). إذًا، وُضِع يسوع في قبرٍ داخل بُستانٍ، وبالتّالي الـمَقبرةُ هي مكانٌ يشير إلى الحياة، لا إلى الموت، كما هي حال بعض المقابر في كنائسِنا، مُظلمةً تُدخِل الكآبة إلى نفوس زائريها. إنّ الربّ يسوع قد رَقَد في القبر ثلاثة أيّام، ونحن أيضًا نرَقدُ ثلاثيّة معيّنة، قد تكون ثلاثة أيّام، كما قد تكون مُدَّة زمنيّة أطول، لا نستطيع تحديدها في هذه الحياة. إنّنا نَرقُد رقدة الموت ولا نستيقظُ منها إلّا في يوم القيامة العامّة، أي عند مجيء الرّاعي، الربّ يسوع. إنَّ الكنيسة تُعيِّد للقدِّيس في يومِ رُقادِه، أي يوم انتقاله، من هذا العالم إلى الحياة الثانية. في يوم “رُقاد السَّيدة”، نحتفل بهذا العيد بإقامة الصّلوات، ونهلِّل فَرِحين لِذِكرى انتقال أمِّنا العذراء من الموت الأرضيّ إلى الحياة الأبديّة.
لقد تغيَّر مفهوم الموت، بالنسبة للمؤمِنِين، إذ قد أصبح مُناسبةً للفرَح لا للبُكاء والنُّواح. وهنا يُطرَح السؤال، حول كيفيّة تعزيَة الحزانى، عند انتقال أحد الأحبّاء من هذا العالم، في رَقدة الموت. يستطيع المؤمِن أن يُعزِّي المحزون بطُرقٍ مختلفة: أوّلاً من خلال زيارته وتقديم كتابٍ له قادِرٍ على تعزيَته. إنّ المحزون يجد تعزيةً له في قراءته للكتاب المقدَّس وكذلك في قراءته للكُتب الرّوحيّة. وعلى سبيل المِثال لا الحصر، يمكن للمحزون الاستعانة، بكتاب للمطران جورج خُضُر، وهو بعنوانِ “وُجوهٌ غابت”، كما يمكنه أن يقرأ عِظة القدِّيس يوحنّا الذَّهبيّ الفَم الآخَرين، بعنوان:”لا تبكوا”. كما يُمكن اللُّجوء إلى تقديم أيقونة للمحزون، والصّلاة معه أمامها، فنُساعِده بتلك الطريقة على إقامة حِوارٍ مع الله، فينالُ منه التَّعزية. في الجنّاز المارونيّ، يتمّ إنشاد هذه الترنيمة: “ليلُ الموتِ يَطويني، نُوري في اللَّيل الصّليب. في الأهوالِ يَهديني، وَجهَ المرجُوِّ الحبيب”.
في الموت، يفنى جسد الإنسان، فيُصبح غير مرئيٍّ للعيون البشريّة. في رَقدة الموت، يُصبح الصّليب نُورَ الإنسان الـمُنتَقِل من بَيننا. في الجنّاز الأرثوذكسيّ، يرتِّل الحاضِرون ترتيلة: “فليَكُن ذِكرُهم مُؤبَّدًا”. وهذا لا يعني أن يُخلَّد اسم المنتقل في الأمور الأرضيّة، بل تعني أنَّ الله قد ذَكَر المنتقل مِن بيننا في ملكوته، على مِثال لِصّ اليمين. إنّ الكنيسة تُصلِّي للموتى، طالبةً من الربّ أن يَذكُرهم في ملكوته، فالصّلاة وَحدها القادرة على مساعدتهم للوصول إلى الملكوت. حين يُدرِك المؤمِن معنى الموت المسيحيّ، يفقد الموت قُدرَته على إخافته من جديد. إنّ الإنسان يخافُ من الموت، لأنّه يجهل الـمَصير الّذي سَيَلقاه بعد انتقالِه من هذا العالم، ولهذا السّبب يُسيطر عليه الخوف من الموت. إنَّ تعزية الحزانى بعبارة “المسيح قام حقًّا قام”، تُعبِّر عن رغبة الـمُعزِّي في مشاركة المحزون بشارة قيامة المسيح من الموت، الّتي وَصَلت إليه من خلال مشاركته في الفِصح، فيتفاعل المحزون مع عبارة “المسيح قام”، قائلاً “حقًّا قام”، ليؤكِّد للآخر أنّه يتشارك معه في الإيمان نفسه بالقيامة. إذًا، إنّ عبارة “المسيح قام، حقًّا قام”، تختصر إيماننا بالربّ يسوع، ونُعلِن من خلال تردادها أنّنا عِشنا القيامة، ونعيشها اليوم، ومتأكِّدون من عَيشِها في الـمُستَقبل، فنَحضر رُتبة الدَّفن بإيمانٍ قويّ بقيامة الموتى على مِثال قيامة المسيح من بين الأموات.
في رُتبة دَفن الموتى في الطَّقس الماروني، توجد نصوص كتابيّة متعدِّدة، وجميعها تُساعِد على عيش رجاء القيامة، ولكنْ في الكنيسة الأرثوذكسيّة لا يُوجَد إلّا نصٌ إنجيليّ واحدٌ ونصٌّ رسائلي واحد. إنّ الرِّسالة الّتـي تُتُلى في رُتبة الدَّفن الأرثوذكسيّة هي مِن رسالة بولس الأولى إلى التسالونيقيِّين (1تس5: 1-11)، وفيها يدعونا الرَّسول إلى عدَم الحزن على أمواتنا كمَن لا رجاء لهم. أمَّا النّص الإنجيليّ، فيقول لنا فيه الربّ يسوع: “الحقَّ الحقَّ أقول لكم، تأتي ساعةٌ – وقد حَضَرتِ الآن – وفيها يَسمَعُ الأمواتُ صَوتَ ابنِ الله، والّذين يسمَعون يحيَون”، ثمّ يُضيف قائِلاً: “لا تعجبوا من هذا: فتأتي ساعةٌ فيها يَسمَعُ صوتَهُ جميعُ الّذين في القبور فيَخرُجون منها، أمّا الّذين عَمِلوا الصّالحات، فيقومون للحياة، وأمّا الّذين عَمِلوا السَّيئات فيقومون للقضاء” (يوحنّا 5: 24-29). إنَّ الربّ يسوع في هذا النَّص يتكلَّم عن ساعَتين مُختَلِفَتين: السّاعة الأولى، “الّتي حَضَرت الآن”، هي ساعة الدَّفن، وهذه السّاعة لا تعني الـمنتقل مِن بيننا، فهو غيرُ قادِرٍ على سماع صوت ابن الله، لذا فإنّ الأموات الّذين يتكلَّم عنهم النَّص هُم نحن الّذين لا نزال أحياء في هذه الحياة. فهذا الإنجيل قد اختارته الكنيسة كي يُتلى في ظَرفِ الموت، من أجل فائدة الحاضِرين، لا من أجل الـميِّت الّذي انتقل من هذا العالم للرّاحة الأبديّة. أمّا السّاعة الثانية الّتي يتكلَّم عنها الربُّ يسوع، فَهي ساعة الدَّينونة، يوم القيامة العامّة، الّتي يسمع فيها الأموات في الجسد صوت الربّ، وينال كلُّ واحدٍ منهم مكافأته على أعماله في هذه الحياة. إنّ الحاضِرين في رُتبة الدَّفن، مدعّوون عند سَماعِهم صَوتَ ابن الله، في الإنجيل والرِّسالة، إلى إعلان قرارهم باتِّباع يسوع من خلال التّوبة والعودة إليه، أو رَفضِه. في دَعوة يسوع للتّلاميذ، يُخبرنا الإنجيل أنَّ أحد الّذين دَعاهم يسوع، طَلب الإذن لَدفن أمواته، قَبل اتِّباعه، فكان جواب يسوع له: “دَعِ الموتى يَدفُنون موتاهم، وأمّا أنتَ فاذهَب ونادِ بملكوت الله” (لو9: 60).
إنّ الإنسان الّذي لا يتبَع المسيح في هذه الحياة، يكون مِيِّتًا على الرُّغم من أنّه لا يزال في هذه الحياة. في رُتبة الدّفن الأرثوذكسيّة، يُردِّد الحاضِرون، خمسَ مرّات العبارة التّالية: “مُبارَكٌ أنتَ يا ربّ، علِّمني حقوقك”. فالمؤمِن المحزون، خاصةً، يتساءل حول حِكمة الله، من موت هذا الإنسان، شابًّا كان أم عجوزًا، وقد لا يَصِل إلى جوابٍ لسؤاله في الوقت نفسه، فالله يختارُ الوَقت المناسِب ليكشِف حِكمته للبشر. وفي انتظار ذلك الوَقت، لا يَسَع الإنسان إلّا أن يُسبِّح الله، وأن يَطلُبَ منه أن يكشِف له حِكمَتَه، من خلال إنشاد المزامير والتّرانيم، على مِثال: “يا ربَّ القوّات، كُن معنا”، أو “إلهي إلهي، لماذا ترَكتني”. وفي هذا الإطار نفسه، يقول لنا الله بلِسان إشعيا النبيّ ، نقرأ: “فإنّ أفكاري ليسَت أفكارَكُم، ولا طُرُقُكم طُرُقي، يقول الربّ. كما تَعلو السّماوات عن الأرض، كذلك طُرُقي تَعلو عن طُرُقِكم وأفكاري عن أفكارِكم، لأنّه كما ينزِلُ الـمَطَرُ والثَّلجُ من السّماء، ولا يَرجِعُ إلى هُناكَ، دُونَ أن يَروي الأرض، ويجعلها تُنتِجُ وتُنبِتُ، لتؤتي الزّارِعَ زَرعًا والآكِلُ طَعامًا، فكَذَلِكَ تكون كَلِمَتي، الّتي تخرُجُ من فَمي: لا تَرجِعُ إليَّ فارِغَةً، بل تُتِّمُ ما شِئْتُ وتَنجَحُ فيما أرسَلْتُها له”(55: 8-11).
يُخبرون عن القدِّيس إيرونيموس، أنّه ذهب في أحد الأيّام، إلى دَيرٍ فقَرَعه، ففتَح له الأخ المسؤول وطلب منه الانتظار في قاعة الاستقبال. وفي أثناء انتظاره، جال القدِّيس إيرونيموس نَظَره في المكان، فرأى إخوةً عامِلين والبَسمة تَعلو وجوههم، فاستوقف أحدهم ليسأله عن سبب هذا الفَرَح الـلّافِت، وإنْ كان هناك عيد يحتفِلون به اليوم، يدعوهم إلى هذا الفَرح. فكان جواب الأخ له: إنّ الفرَح هو أحد قوانين هذا الدَّير، لأنّ ملكوت الله موجود في داخل كلّ مسيحيّ وهو مدعاةٌ للفرح. إذًا، على كلِّ مؤمِنٍ، ولو اعترضه الحزن والصّعوبات في هذه الحياة، أن يَسعَ إلى المحافظة على فَرَحه الحقيقيّ وسلامه الدّاخليّ، لأنّ الفرح هو سِمة المؤمِنِين، أمّا الحُزن فهو سِمة الأشرار وغير التّائبين. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِنْ قِبَلِنا.