الرياضة السنويّة 2019 بعنوان: “إنْ كان لنا في هذه الحياة فقط رَجاءٌ في المسيح، فإنّنا أشقى جميع النّاس” (1 كور 15: 19)
دير مار جرجس- بحردق،
الأب نايف سمعان البولسيّ،
باسم الآب والابن والرُّوح القدس، الإله الواحد، آمين.
في هذا النَّهار المبارك، أتمنّى لكم رياضةً مباركةً، فتُثمر حياتكم بالبركات الإلهيّة، والنِّعم الروحيّة.
إنّ العِلمانيّين أمثالَكم، يُشكِّلون أمثولةً لرِجال الدِّين في حبِّهم للربّ وفي انقطاعهم عن العالم وفي الاختلاء مع الذّات في سبيل تقدُّمهم الروحيّ في مسيرتهم الإيمانيّة، والارتقاء نحو الله. إنّ الرِّياضة الروحيّة تتطلّب وجود كاهن من أجل إلقاء كلمة روحيّة على المؤمِنِين وتأمين الاعترافات.
إنَّ أُسس الرِّياضة الروحيّة، هي: الانقطاع عن العالم من أجل التّفكير في الله وفي الذّات وفي الآخَر. وهذه الثّلاثة تعكس أُسس الحياة المسيحيّة الّتي يَكثر عنها الكلام في زمن هذا الزّمن المبارك، وهي: الصّلاة والصّوم والصّدقة. إنَّ الصّلاة هي علاقة الإنسان بربِّه، والصوّم هو علاقة الإنسان بذاتِه، والصدّقة هي علاقة الإنسان بالإنسان الآخَر. على المؤمِن أن يلتزم بهذه الأسُس الثّلاثة للحياة المسيحيّة كي يعكس صورة الله في حياته. إنّ الربّ يسوع قد عاش هذه الأسُس الثّلاثة في حياته: إذ كان ينعزل للصّلاة، فيُفكِّر في الأعمال الّتي ينوي القيام بها، فكانت علاقته الطيّبة مع جميع المحيطين به تعكس علاقته بالله أبيه.
إنّ بعض المؤمِنِين ينظرون إلى الصّلاة على أنّها مَلجأ لهم، فينعزلون عن العالم، إذ يُمضون وقتًا طويلاً في الصّلاة وإضاءة الشّموع، وتقديم النُّذورات لله، من دون أن تتمكّن صلواتهم هذه من التأثير على حياتهم اليوميّة وتغييرها. إخوتي، إنَّ الصّلاة ضروريّة ولكنّها وحدها غير كافية. وهذا ما يؤكِّده لنا الربُّ يسوع إذ قال لنا في إحدى شفاءاته: “إنَّ هذا الجِنسَ لا يَخرج إلّا بالصّوم والصّلاة”. وفي الإطار نفسه، تقول لنا الأمّ تريزيا دو كالكوتا، إنَّ صلاتنا إلى الله قد لا تُغيِّر بالضّرورة ظروفَنا الحياتيّة اليوميّة، ولكنّ الله قادرٌ مِن خلال صلاتنا له أن يُغيِّرنا مِنَ الدّاخل. وبالتّالي، مهما صَلَّيت إلى الله، فإنَّك ستبقى مُشرَّدًا وفقيرًا ومتألِّمًا وموجوعًا، ولكنّ نظرتَك إلى ذاتِك ستتغيّر، إذ إنَّ الله سيُساعِدك على اكتشاف أنّكَ أنتَ أهمّ من صِحتّك وأموالك وممتلكاتِك الأرضيّة. على المؤمِن السَّعي إلى التأقلُم مع ظروفِه الحياتيّة مهما كانت صَعبة، لأنّ هَدَفه الأساسيّ هو الوصول إلى الله. قد يملك الإنسان أموالاً طائلةً، وممتلكاتٍ أرضيّة لا تُحصى، ومراكز سُلطويّة مهمّة، من دون أن يتمكَّن من الوصول إلى الله. إذًا، ليست الممتلكات شرطًا أساسيًّا لوصول الإنسان إلى الله. ولكنْ إذا تغيَّر الإنسان من الدّاخل بفضل صلاته، فإنَّه سيتمكّن من الوصول إلى الله والحصول على خلاص الربّ والعيش بقُربه. لهذا السّبب يلجأ المؤمِن إلى الرِّياضات الروحيّة لأنّها تُشكِّل حافزًا له للاختلاء والصّلاة.
إنّكم اليوم تُشارِكون بالرِّياضة الروحيّة كأعضاء في جماعة “أذكرني في ملكوتك”. إنَّ بعض المؤمِنِين في رعيّتي يُثابرون بنوعٍ خاصّ على المشاركة في قدّاس جماعة “أذكرني في ملكوتك”، الّذي يُقام مرّة في الشَّهر، لِما لِذِكر أمواتهم من أهميّة في حياتهم، إذ إنّهم يؤمِنون أنّ الصّلاة لأمواتهم ضروريّة ونافعةٌ لهم.
إنَّ الصّلاة وحدها لا تكفي لخلاص الإنسان: فالإنسان الّذي يريد الحصول على الخلاص في الحياة الثّانية، عليه أن يبدأ بناء خلاصِه مِن هذه الحياة. لا يستطيع الإنسان بِعَقله البشريّ أن يُدرِك ما هو مصير أمواته، ولكنّه يستطيع أن يُدرِك ذلك من خلال إيمانه بالربّ يسوع: فالإنسان بعد انتقاله من هذا العالم، يذهب إلى المسكن السّماويّ الّذي أنشأه في حياته الأرضيّة. فالإنسان الصّالح في هذه الحياة، هو إنسانٌ قد بنى بيتًا بالقُرب من الله، فتتحقَّق فيه الصّلاة: “أراحك الله في بلدة الأحياء وفتَح لك باب الفردَوس”. إنَّ المسكن السّماويّ لا يَبنِيه المؤمِن بعد انتقاله مِن هذه الحياة، بل يَبْنيه مِنَ اليوم، في حياته الأرضيّة.
لذا، على كلّ مؤمِنٍ أن ينظر إلى ذاته، فيرى إنْ كان قد بدأ بإنشاء ذلك المسكن، وإن لم يكنْ قد فَعَل بعد، فليَبدأ منذ اليوم بِبِناء مسكنه السماويّ، قبل أن يحين موعد انتقاله من هذا العالم، فنذكُره في صلواتنا، قائلِين لله: “أُذكُره يا ربّ في ملكوتك”. إنَّ ذِكر الموتى مع جماعة “أذكرني في ملكوتك”، لا يتمّ مرّة واحدة في الشَّهر، بل هو يتمّ بشكلٍ يوميّ، فجماعة “أذكرني في ملكوتك”، قد انتشرت في كافّة أقطار العالم، وهي تقوم بذِكر الموتى كلّ يومٍ في رعيّة معيّنة من العالم، استنادًا إلى لائحة القدَّاسات الموجودة في الرِّسالة الشَّهريّة الّتي توزَّع في الكنائس. يُخبرون عن مدير في إحدى الشَّركات قد قام بطرح السؤال على موظّفيه في إحدى الاجتماعات، قائلاً: ما هي أغنى أرض في كلّ العالم؟ فأجابه البعض، بأنّ دُول الخَليج هي الأغنى في العالم بسبب وَفرة النِّفط فيها، وآخرون قالوا له إنَّ بعض الدُّوَل الأفريقيّة الغنيّة بالألماس هي الأغنى في العالم. عندها تدخَّل المدير وقال لهم: إنَّ أغنى أرض في العالم هي “المقبرة”، لأنّها تضمّ ملايين من البشر الّذي ماتوا من دون أن يتمكّنوا من تحقيق أفكارهم وطموحاتهم بسبب عدم مشاركتهم الآخَرين بها. عند سماع الكاتب “تود هنري” هذا الكلام، -الّذي كان حاضِرًا في هذا الاجتماع-، قرّر إصدار كتابٍ له، بعنوان: “مُتْ فارغًا”، دافعًا قُرّاءه إلى تفريغ كلّ أفكارهم ومشاركتها مع الآخَرين، ليتمكّنوا من إفادة الآخَرين بها وتحقيقها، قبل موتهم الجسديّ. وهنا أَستغرب تصرُّف بعض المتفوِّقين في أعمالهم الّذين لا يقبلون مشاركة الآخَرين في سِرِّ نجاحهم، قائلِين: إنَّ هذا الأمر هو “سرّ الـمِهنة”.
إنّ جسد الإنسان سيذهب بعد انتقاله من هذا العالم إلى الفناء، وسيتآكَلُه دود الأرض، لذا عليه أن يُشارِك أفكاره مع الآخَرين كي لا تنال المصير نفسه الّذي سيناله جسده، فيتآكَلُها دود الأرض، عِوَض أن تتمّ مشاركتها مع الآخَرين للاستفادة منها. على الإنسان ألّا يتمسّك بالأرضيّات لأنّها زائلة، فَما ينتقل مع الإنسان بعد موته، هو غير المنظور، أي النَّفس، أمّا الجسد المنظور فسيكون طعامًا شهيًّا لِدُود الأرض. لذا على المؤمِن أن يسعى إلى إفراغ كلّ ما في قلبه من حُبٍّ وعطاء للآخَرين قبل أن تحين ساعةُ مغادرته لهذا العالم.
إخوتي، إنّ الإنسان العظيم ليس مَن يملك الكثير من الممتلكات الأرضيّة، بل مَن يعمل على مُشاركة الآخَرين بأفكاره الإبداعيّة ويعمل على تحقيقها، أو يدفع الآخَرين إلى إنجازها بعد موته. فأيّها الإنسان، ما نَفعُ أفكارك بعد موتك، إنْ كُنتَ منغلقًا على ذاتك؟ فحين تموت ستُدفَن في قبرٍ لا يتعدَّى طُوله مِترَين، وستُوضَع إمّا تحت ألأرض، أو في بناءٍ حجريّ جميل! إنَّ أغنى ما في الإنسان هو فِكره الموجود في داخله، لذا فليسعَ كلُّ واحدٍ منّا إلى مشاركة هذا الغنى مع الآخَرين فيذهب إلى القبر فارغًا، وهذا ما نحن مدّعوون إليه كمسيحيِّين. فالربّ الّذي يملأنا من نِعمٍ ومواهب، يدفعنا إلى إفراغ ذواتنا بمشاركة الآخَرين، أفكارنا، فيتمكّن الربُّ مِن مَلئنا من جديد بمواهِبه ونِعمه. فكلُّ إنسانٍ يملك فِكرةً جديدةً، فليُسلِّمها للآخَرين كي تكون حياته مثمرةً بالحبّ والعطاء وتحقيق الطُّموحات. إنَّ الإنسان ليس نَبعًا لا يَنضُب مِنَ الأفكار، بل هو يغتني مِن خلال استقباله لأفكار الآخَرين، ودَمجِها بأفكاره، فتَتَبَلْور وتتمكّن من تحريك المجتمع والمساعدة على تقدُّمه. إذًا، نحن مدعوِّون اليوم إلى إفراغ ذواتنا والذّهاب غلى القبر فارغين كي لا تكون أفكارُنا طعامًا لذيذًا لِدُود الأرض.
في هذه الجماعة، نُصلِّي من أجل أمواتنا، إذ نشعر أنّ الصّلاة تربُطنا بأمواتنا، ولكنّ الصّلاة في الحقيقة لا تربُطنا فقط بأمواتنا، إنّما تربِطُنا أيضًا بالأحياء وبالله خالِقنا أيضًا. إنّ الصّلاة هي وسيلة قديمة حديثة تمّ اختراعها، من أجل مساعدتنا على التّواصل مع الآخرين، وهذا ما لم تنجح وسائل التّواصل الإجتماعيّ في الوصول إليه: فعلى الرُّغم من تَطوُّر العلم، فإنّه لم يتمكَّن من جَعلنا قادِرين على التّواصل بشكلٍ فعّال مع الأحداث الّتي تَحدُث خارج نطاق محيطنا: فآلات التَّصوير، على سبيل المثِال، قد تنقل لنا حَدَثًا مُعيّنًا يحدث في العالم، ولكنّها عاجزة عن السّماح لنا بالمشاركة فيه شخصيًّا والشُّعور به، كما أنّ أيّ عِطلٍ تقنيّ قد يطرأ يمنعنا مِن مُتابعة الحدث.
أمّا الصّلاة فهي الوسيلة الوحيدة القادرة على السّماح لنا بالتّفاعل مع الآخَرين، فهي تجعلنا نشعر بحضورهم في الصّلاة، ولا يستطيع أيّ عطلٍ تِقنيّ إيقافنا عن التوّاصل معهم، على الرُّغم من بُعد المسافات. فالصّلاة هي الوسيلة الأقدم والأحدث، كي نتمكّن من التّواصل مع الإنسان الحيّ الّذي نُحبُّه، ومع الميِّت الّذي فَقَدناه، ومع الله الّذي خَلَقنا. لذا علينا أن نُكثر من الصّلاة. إنَّ الصّلاة هي الوسيلة الأقرب إلى قلب الله، إذ نستطيع من خلالها ان ننشر حُبّ الله لنا للآخَرين.
في هذا القُدّاس المبارك، الّذي نُقدِّمه من أجل هذه الجماعة، الّتي نَذكر من خلالها أمواتَنا بشكلٍ يوميّ لا شهريّ، نشكر الربّ على حضوركم وعلى التزاماتكم، وعلى هذه الرِّسالة، عسى أن تنطلق في كلّ الرَّعايا، وأتمنّى أن تنتشر أكثر في رعيّتي الأساسيّة. ونتمنّى لكم أن تكون هذه الرِّياضة سببًا لِتَنوير حياتكم وقلوبكم، فتكونوا على صِلة أفضل بالربّ أوّلاً، ثمّ بِذَواتِكم، وتنعكس علاقتكم بالربّ وبِذَواتكم علاقةً طيّبة مع الآخَرين. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ من قِبَلِنا.