الرياضة السنويّة 2019 بعنوان: “إنْ كان لنا في هذه الحياة فقط رَجاءٌ في المسيح، فإنّنا أشقى جميع النّاس” (1 كور 15: 19)
دير مار جرجس- بحردق،
تأمّل روحيّ: : “قم، احمل سريرك وامشِ” (يو8:5)
الأب ابراهيم سعد،
كان الربّ يسوع موجودًا في مكانٍ مكتَّظٍ بالنّاس، إذ أخذ كلّ واحدٍ من الحاضِرين مكانًا له في هذا المنزل، حتّى لم يعد هناك من مَوضِعٍ لاستضافة المزيد من النَّاس. إنّ النّاس قد اجتمعوا في هذا المكان ليسمعوا كلمة الله من الربّ يسوع، فالنَّص الإنجيليّ يقول لنا: “كان (الربُّ يسوع) يُخاطِبهم بالكلمة” (مر2: 2). وهنا يُطرَح السؤال: كم من حالةٍ يعيشها الإنسان، لا يجد له فيها مكانًا حيث هو موجودٌ؟ وكم مِن حالةٍ يعيشها الإنسان لا يترك فيها مِن مكانٍ للآخَرين؟ في الحالتَين، هناك إنسانٌ لا مكانَ لديه، يبحث عن مكانٍ له، في داخل مكانٍ يكتَّظُ بالنّاس، ولا بُدَّ له مِن أن يَجِده.
لقد حَمَلَ أربعةُ رِجالٍ المخلَّعَ. إنّ الرَّقم أربعة في الكتاب المقدَّس، يرمز إلى جهات الأرض الأربع: الشَّمال، الجنوب، الشرق والغرب. إنّ الجِهات الأربع، تشير إلى كلّ الأمم، أي إلى كلّ المجتمعات الّتي لم تعرِف المسيح بعد، والّتي لم تكتشِف رحمة الله بعد. إنَّ الأمم الّتي لم تعرف المسيح بَعد هي في حالة “تخليعٍ”، أي أنّها غير قادرة على التَّقدم والسَّير. ما هي العلامة الّتي نشير إلى أنّ هذا الإنسان هو مخلَّع؟ السَّرير. وما هي العلامة الّتي تدلّ على شِفاء هذا الإنسان مِن مَرَضِه؟ السَّرير أيضًا. إنَّ هذه العلامة تُذكِّرنا بِقَبرِ الربّ يسوع الّذي هو العلامة على موته وكذلك على قيامته، وبالتَّالي حين يرى الإنسان في علامات الموت علامات للحياة، يكون قد دَخل في مشروع الله.
إنّ النَّص لا يتكلَّم عن إيمان المخلَّع، بل يُخبرنا عن إيمان الرِّجال الأربعة الّذين حَملوا المخلَّع إلى يسوع، والدَّليل هو أنَّ النَّص الإنجيليّ يقول لنا: “فَلَـمّا رأى يسوع إيمانَهم، قال للمخلَّع:”يا ابني، مغفورةٌ لَكَ خطاياك!” (مر 2: 5). إنَّ الرِّجال كانوا أربعة، وهذا ما دَفع بالبَعض إلى الإشارة إلى أن الرَّجل المريض كان وَثَنيًّا لا يهوديًّا، فالرَّقم أربعة يرمز إلى الأُمَم لا إلى الشَّعب اليهوديّ. إذًا،كان يسوع موجودًا في مكانٍ يهوديّ، لا في مكان خاصّ بالوَثنيِّين. إنَّ هؤلاء الرِّجال الأربعة لم يَسْتَسلِموا عندما وجدوا المكان غاصًّا بالنّاس، إذ نبشوا السَّقف ودلّوا المخلَّع أمام الربّ. لقد كانت لدى هؤلاء الرِّجال الأربعة رغبةٌ عميقةٌ لِلُقيا الربّ، من دون طلبِ الوساطة من اليهود. وهذا ما يتمّ في سرّ المعموديّة: ففِي المعموديّة، يُصبح المؤمِن ابنًا لله من دون الحاجة به إلى المرور بالشريعة اليهوديّة والخضوع لها. وهذا الصِّراع قد اختبره الرَّسول بولس أيضًا.
إنَّ المخلَّع قد حَضَرَ أمام الربّ، مع الرِّجال الأربعة الّذين كانوا يَحملونه، أي أنّه حضر أمام الربّ مع كلّ أفكاره ومعتقداته الدِّينيّة وغير الدِّينيّة، مَحمولاً مِن بيئته، الّتي يرمز إليها الرِّجال الأربعة. لقد أتى المخلَّع إلى الربّ يسوع ورَمى ذاته مع كلّ أفكاره ومعتقداته أمام الربّ، فكان جواب الربِّ له: “مغفورةٌ لك خطاياك” (مر2: 5)، لا “سأغفر لك خطاياك”؛ فمجرَّد رؤيته مُدلّى من السَّقف، دَفعَت بالربَّ إلى غفران خطايا هذا الإنسان وشِفائه، حتّى قَبْل وصوله إلى أمام الربّ. هذا هو المفهوم الحقيقيّ للتَّوبة الّتي يطلبها منّا الربّ يسوع: نحن لا نقترب مِن كُرسيّ الاعتراف لطلبِ غفران خطايانا من الربّ، بل لأنّنا اكتشفنا أنَّ الربّ قد سَبَقَ وغفر لنا خطايانا.
وهنا السؤال يُطرَح: ما دام الربُّ قد سَبَق وغفرَ خطايانا قبل أن نُعلِن توبتنا له أمام الكاهن، فَما حاجتُنا بعد ذلك للتَّوبة؟ نحن نتقدَّم مِن سرّ التَّوبة لا لطلب غفران الخطايا من الربّ، بل لإعلان رُبوبيّة يسوع علينا، بعد اكتشافِنا لغُفرانه، ولإنكار في الوقت نفسه، عبادَتنا للآلهة الأخرى الّتي كُنّا نَعبُدها في السَّابق، عند اقترافِنا الخطايا، من خلال تَسْمِيَتَها أمام الكاهِن. إذًا، نحن لا نتقدَّم مِن سرّ التَوبة، “من أجل” أن يغفر لنا الربُّ خطايانا، بل “لأنَّ” الربَّ قد غفر لنا خطايانا. لذلك نحن نتقدَّم مِن سرّ التَّوبة بفرحٍ وبتعزيَة الرَّوح، ورجاء الحبّ الموعود به مِن الربّ، حتّى وَلو كُنّا نتقدَّم منه بانسحاقٍ بسبب خطايانا الّتي خلَّعتنا وجعلَتنا أسرى سرير الخطيئة، دافعةً بنا إلى الاعتقاد أنَّ هذا السَّرير يُريحُنا. ولكن حين يعترف الإنسان بخطاياه، يكتشف أنَّ سرير الخطيئة غير مريحٍ أبدًا كما كان يعتقد، لذا يسعى إلى التخلُّص منه.
إنَّ الإنسان لا يستطيع التَّخلُّص من سرير الخطيئة إلّا حين يلتقي بالربِّ يسوع، من خلال الاعتراف، فيَسمعُ الخاطئ مجدًّدًا كَلِمة الله الـمُحيية، لأنّ الربَّ “كان يُخاطِبهم بالكلمة” (مر 2: 2). إنَّ الله قد خَلَق الكون وما فيه بالكلمة، ولكنّه حين أراد أن يَخلُق الإنسان لم يَخلُقْه بالكلمة، بل صَنَعه وجبَلَه ووضَعَ فيه من رُوحِه القُدُّوس، لأنّ الإنسان ثَمينٌ في عينيّ الربّ. لا يمُكنك أيّها الإنسان أن تكون مُهمًّا في عَينيّ الربّ، وأنْ تَنظرَ إلى ذاتِك على أنَّك مخلَّعٌ، خاصّةً إنْ كنتَ تريد أن تكون مع الله. ولكنْ إنْ كانَتْ الخطيئة قد استهوَتْك وأردْتَ أن تبقى مُنغَمِسًا فيها، فعندها تكون أنْتَ مَنْ قرَّر أن يبقى مخلَّعًا من دون حُصولك على الشِّفاء مِن الربّ.
قال الربُّ يسوع للمخلَّع:”مغفورةٌ لك خطاياك” (مر2: 5). إنَّ النَّاس الّذين منعوا المخلَّع من الوصول إلى يسوع، بسبب اكتظاظ المكان بهم، هُم أنفسهم الّذين اعترضوا على قَول المسيح للمخلَّع: “مغفورةٌ لك خطاياك”. لم يقبل هؤلاء اليهود أن يتعامل الربُّ يسوع مع هذا المريض بالرَّحمة. إنَّ الرَّحمة هي صِفةٌ إلهيّة لا إنسانيّة، ولكنَّها تُصبح صِفَةً إنسانيّة عندما يشعر الإنسان برحمة الله عليه، فيَتَمكَّن مِن معاملة الآخَرين بالرَّحمة. لقد اتَّهم اليهود الحاضِرون يسوعَ بالتَّجديف على الله لأنّه قال للمخلَّع “مغفورةٌ لك خطاياك”. إنّ هؤلاء اليهود يَبحثون عَمَّن هو أَهْلٌ لِمَغفرة الخطايا، من دون الاكتراث لِشفاء المخلَّع. للأسف، إنَّ البشر عاجزون عن محبَّة بعضهم البعض، لذا هُم يَحزنون لِفَرح الآخَرين ويَفرحون لِـحُزنهم. إنّ حُزنَ الإنسان لِفَرَح الآخَر، هو دليلٌ على عدمِ لِقائه بالربّ، الّذي يُخاطِبه بكلمة الله. إنّ مِثلَ هذا الإنسان لم يلتَقِ بالربّ، الّذي يتكلَّم عنه الإنجيل، إذ التقى بإلهِ تصوّراته، إلهٍ صَنمٍ مِن اختراعه.
إنَّ الله الّذي يتكلَّم عنه الإنجيل هو إله قد أعطى الإنسان الّذي لا مكان له، مكانًا، لا بل جَعله مِحوَر هذا المكان. لم يَقُل الربّ للمخلَّع: “قُمْ، لقد شُفيت”، بل قال له:”قُمْ، احمل سريرك وامشِ” (مر 2: 10)، أي أنَّ السَّرير الّذي كان يرمز للإنسان المخلَّع المريض، قد تحوَّل إلى رمزٍ للقيامة والشِّفاء، وما عبارة “قُم”، إلّا دليل على القيامة. لقد سأل الربُّ يسوع اليهود، قائلاً: “ما هو الأسهل: أن يُقال للمخلَّع: “مغفورةٌ لك خطاياك”،أم أن يُقال لَهُ “قُمْ واحمِل سريرَك وامشِ؟” (مر 2: 10).
إنّ اليَهود لم يكونوا قادِرين على الإجابة على سؤال يسوع هذا، ولا نحن أيضًا كُنّا لنتمكَّن من الإجابة عن هذا السؤال، لو طَرَحَهُ الربُّ علينا: لأنّه لو كان جوابنا أنّه من الأفضل أنْ يُقال للمخلَّع “مغفورةٌ لك خطاياك”، لَكُنّا أصبحنا في حالة دِفاع عن يسوع في مواجهة اليهود، وهذا دليلٌ على أنّنا حاضِرون في هذا المكان وبالتّالي سَنَكُون مِن الّذين لم يسمحوا للمُخلَّع بالوصول إلى يسوع؛ ولو قُلنا، إنّه كان مِن الأفضل أن يقول يسوع للمخلَّع: “قُمْ، احمل سريرك وامشِ”، نكون قد دَخلنا في صِراعٍ ما بين الرَّغبة والحاجة. إنّ رغبة المخلَّع أن يَمشي، ولكنَّ الربّ يسوع قد نَظَر إلى حاجته وهي غُفران خَطاياه. في الكثير من الأحيان، نَقَع في الخطيئة لأنّنا فضَّلنا رَغبتنا على حاجتنا، ونلوم الربّ لأنّه لم يستَجِب لرغباتنا، مُتناسِين أنَّ الربّ يَعلم بِحاجاتنا. إنّنا للأسف، لا نُصدِّق أنَّ الربّ يلبيّ لنا حاجاتنا لا رَغباتنا. إنّ الربّ يُلبيّ لنا حاجاتِنا حتّى وإنْ لَم نَطلُبها، ولا يُلبيّ لنا رَغباتِنا حتّى وإنْ طَلبناها في الصّلاة. هذا هو إلهنا، هذا هو ربُّنا، الّذي نرغب في تحويله على صُورَتنا ومِثالنا، في حين أنّه يطلُب منّا أن نكون نحن على صُورَتِه ومِثاله. وهنا القرار يعود لنا: أيَّة صُورةٍ نريد؟ هل نريد أن يُصبح الربُّ على مِثالِنا، أم أن نُصبح نحن على مِثاله؟ حين نُقرِّر أن نُصبح على صُورَة الله، فإنَّ هذا سيدفَعُ بالآخَرين عند رؤيتهم لنا، على أن يُمجِّدوا الله بسَبَبِنا، إذ سنكون إنجيلاً متحرِّكًا أمامهم من دون حاجتهم لقراءة الإنجيل.
في بداية تأمُّلِنا، قُلنا إنَّ الربَّ يسوع كان يُكلِّم الجموع بكلمة الله، وبالتَّالي هناك ضرورة عند المؤمِن لسماع كلمة الله. إنَّ الكلمة هي خلّاقة دائمًا، فالكلمة تخلق فيه حالةً جديدة وحقيقةً جديدة. فالإنسانُ، من خلال الكلمة الجارحة الّتي يقولها للآخَرين، يخلقُ فِيهِم حالةً جديدة، هي حالة إنسانٍ مجروحٍ، تعرَّض للأذيّة؛ كما يستطيع الإنسان من خلال كلمته البنّاءة أن يخلق في نفوس الآخَرين، حقيقةً جديدة، وحالةً جديدة. لذا، على المؤمِن أنْ يُفكِّر في كلمَتِه، لأنّه مسؤول عن الكلمة الّتي يتلفَّظ بها. إنّ مقاصِدَ الإنسان مُهمَّة ولكنّ الأهمّ هو ما يتلفَّظ به الإنسان، إذ إنّ السَّامع لن يتمكَّن من إدراك مقاصِد الآخَر، إذ لا يستطيع إلّا أن يسمع ما يتفوَّه به.
إنّ الرَّجاء مبنيٌّ على وَعدٍ، وانتظار الإنسان لتَحقيق هذا الوَعد، فيَنال الفرَح الدّاخليّ. إنّ صعوبة الفرح الآتي من الربّ، هو أنّه غير منسجمٍ مع تفكير البشر. فالفرح الآتي من الربّ، يأتي في أحلَك لحظةٍ، في وقتٍ لا يتوقَّعه الإنسان. تمامًا كما حصل مع المخلَّع، فَحِين كان البيتُ مكتَظًّا بالنّاس، لم يكن يتوقَّع المخلَّع أن يتمكَّن من الوصول إلى أمام يسوع. إنَّ الفرح الآتي مِن الربّ يأتي في لحظةِ يأسِ الإنسان، فتَمنَحُه فرحًا أكبر مِن الّذي كان يتوقَّعه، وأجمل ممّا كانَ يُرتِّب له ويصبو إليه. هذا هو الفرح الحقيقيّ الّذي ستحصل عليه، إذا ألغَيْتَ كلّ الحواجز الّتي تمنعك من الوصول إلى يسوع، حتّى لو كُنتَ مُخلَّعًا. إنْ لم تكن مخلَّعًا، فإنّك لن تتمكَّن مِن سماع كلمة الله الّتي قيلت للمخلَّع:”قُم، احمل سريرك وامشِ”. إذا لم تشعر بأنَّك مخلَّعًا، فاسعَ للقيام بما يجعلك مخلَّعًا، لتتمكَّن من سماع كلمة الله لك والحصول على شِفائه مِن الـمَرَض الّذي تُعاني منه. آمين.
ملاحظة: دُوِّن التأمّل بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.