الرياضة السنويّة 2022 بعنوان: “وأخذ يَسير معهما” (لو 15:24)
عبر تطبيق زوم،
“وكان كلّ شيء بينهم مشتركًا” (أع 2: 42- 47)
الأب ابراهيم سعد،
شكرًا، وعافاكم الله، وكلُّ مَوسمٍ وأنتم بِخَير. أتمنَّى لكم صومًا مبارَكًا يُظهِر الربُّ من خلاله لَكُم نورَ القيامة، وأنتُم في هذا الوضع الّذي تعيشونه والّذي لا يدلّ على أيِّ أملٍ بالقيامة من جهة البشر؛ غير أنّنا نَنتَظِر مَجيء خَبرِ القيامة مِن فوق، عَبر بَشَرٍ أمثالِكم.
“وكانوا يُداومون على الاستِماع إلى تعليم الرُّسل وعلى الحياة المشترَكَة وكَسرِ الخُبز والصّلاة. وتَمَّت عجائبُ وآياتٍ كثيرة على أيدي الرُّسل. فاستَولى الخوفُ على جميع النُّفوس. وكان المؤمِنون كلُّهُم متَّحِدِين، يجعلون كلَّ ما عِندَهم مشتَرَكًا بَينهم، يَبيعون أملاكَهم وخَيراتِهم، ويَتقاسَمون ثمَنَها على قَدر حاجةِ كلِّ واحدٍ مِنهم. وكانوا يَلتَقون كلَّ يومٍ في الهَيكل، بِقَلبٍ واحدٍ، ويَكسِرون الخُبزَ في البيوت، ويَتناولون الطَّعام بِفَرحٍ وبساطةِ قلبٍ، ويُسَبِّحون الله ويَنالون رِضى النَّاس كلِّهم. وكان الربُّ كلَّ يومٍ يَزيد عددَ الّذِين أنعَم عليهم بالخلاص.”
بسبب ضِيق الوقت، لن أتمكَّن من قَول كلِّ شيءٍ حول هذا النَّص الإنجيليّ. ولكنّني اليوم، في حديثي معكم، سأُركِّز مِن خلال هذا النَّص الإنجيليّ على العنوان الأساسيّ لهذه الرِّياضة ألا وهو “جَنْبًا إلى جنب”.
في هذه الأوقات الصَّعبة، يُدرِك الإنسان قيمةَ ومعنى هذه الكلمة: “جَنْبًا إلى جَنب”، إذ في أيّام الازدهار والرَّخاء، لا يستطيع الإنسان معرفة المعنى الحقيقيّ للعديد من الأشياء من حوله، وعلى ما يبدو أنّ هناك أمورًا كثيرةً لا نعرف قيمتَها وعُمقَها ومعناها الحقيقيّ إلّا في وقت الشِّدة وفي وقت الضِّيق. الآن، قد حان الوقتُ كي نَكتشف الكثير من المعاني الموجودة في الإنجيل الّتي لم نَكن نَنتَبِه إليها في السّابق، لأنّنا كُنَّا في أحسن أحوالنا؛ أمّا الآن، فأحوالُ الجميع مُعرقَلةٌ، ونحن جميعًا في وَضِع صَعبٍ جدًّا. وهُنا يَطرح الإنسان السُّؤال على نفسِه: كيف يستطيع أن يَكون “جَنْبًا إلى جَنْبٍ” مع الآخَر، في الوقت الّذي يجد فيه صعوبةً كُبرى في تَرتيب أموره الخاصّة؟ هنا تأتي الحِكمة، وتأتي المحبّة، وتأتي الرَّحمة، وهنا يأتي مفهوم الأُخوَّة.
إنَّ الأُخوَّة، بحَسب الإنجيل، لا تَعني فقط الإعلان عن هويّة الآخَر قائلِين فيه: “هذا أخي”، و”هذه أختي”؛ إذ إنّها تنبع من امتلاك جميع البشر أبًا واحدٍ هو الله. إذًا، ليست أُخوتَّهم لبعضهم البعض ما تَجعلهم يمتلكون أبًا واحدًا، بل إنّ أباهم الواحد، أي الله، هو مَن يجعل جميع البشر إخوةً. إنّ أبانا الواحد هو الله وقد أرسَل إلينا ابنَه يسوع المسيح فنَجح في إعطاء المعنى الكامل لعبارة “جَنْبًا إلى جنبٍ”، عنوانَ رياضتِنا: فالربّ يسوع من خلال حياته معنا على هذه الأرض، أخبَرَنا كيف يستطيع الله أن يكون “جَنْبًا إلى جَنْب” مع الإنسان.
إنّ عبارة “جَنْبًا إلى جَنْب” في المفهوم البشريّ، تعني العمل على تلبية حاجة الآخَر. إنَّ الحاجات البشريّة هي دائمًا مؤقَّتةٌ وآنِيَةٌ، أكانَتْ حاجاتٍ ماديّةً أو معنويّةً. إنّ الحاجةَ الدّائمة والأبديّة عند الإنسان تحتاج إلى جَنْبٍ واحد، هو ذلك الجَنْب الّذي خَرَج منه دَمٌ وماءٌ على الصّليب؛ وهذا الجَنبُ هو الجَنْب الوحيد الّذي يستطيع أن يكون إلى جَنْبِنا، نحن البشر، وهو الوحيد الّذي يستطيع أن يُلبِّي حاجتَنا الأبديّة ألا وهي أن نكون في حضنِ الآب في اليوم الّذي يقرِّره هو. أمَّا الآن، في هذه المرحلة الصَّعبة الّتي يَمُرُّ بها وَطننا، فإنْ لم نكن قادرِين، رغم المصاعب، على استذواق عطايا الله، عربون القيامة؛ فإنّنا لن نستطيع أن نفهم ما معنى أن نكون “جَنْبًا إلى جَنْبٍ” في المسيح الّذي وَقفَ إلى جانِبِنا. فالعطيّة لا تُفهَم إلّا عند حاجتِنا إليها. فمَثلاً، إذا أعطاني أحدهم طعامًا وأنا لستُ بحاجةٍ إلى طعامٍ، فإنِّي لن أُقدِّر عملَه الّذي قام به تجاهي؛ أمّا إذا كنتُ جائعًا وأعطاني أحدهم طَعامًا، فإنِّي أُقدِّر له ما قام به من أجلي، لأنّه مَدَّني بالحياة ولو لساعاتٍ.
مِن خلال هذا المقطع الإنجيليّ، يستطيع المؤمِنون أن يُدرِكوا معنى أن يكونوا جميعهم متَّحدِين. إنّ الاتِّحاد لا يعني اتِّفاقُ مجموعةٍ مِن النّاس متعدِّدةَ الآراء على رأيٍ واحد، بل يعني أن يكون جميع البشر مُلتَّفِين حول سبب الوِحدة، أي حَول الـموَحِّد، الّذي هو الله، الربُّ يسوع المسيح. عندما اتَّحدَ الرُّسل مع بعضهم البعض، ما عادوا يهتَّمون لإظهار قيمتهم الخاصّة أمام الآخَرين، بل كانوا يَسعون إلى مشاركة الآخَرين في العطايا الّتي نالوها من الربّ، فَصَار “كلُّ ما عِندِهم مشتركًا بينهم”. لقد تجرَّد الرُّسل عن كلّ روح امتلاكٍ، وتَحَلّوا انطلاقًا من أُخوَّتهم لجميع المؤمنِين بالله، بِحُبِّ مشاركة عائلة الآب في خيراتهم الأرضيّة، لذا كانوا يسارِعون إلى بَيع ممتلكاتهم ليتقاسَموا ثَمَنها مع الآخَرين، كلّ واحدٍ على قدر حاجته. إذًا، لم يكن الرُّسل يرغبون في التمسّك في أيٍّ من ممتلكاتهم الأرضيّة في ظلّ وجود حاجةٍ ولو بسيطة عند أحد المؤمِنِين.
كَتَب الإنجيليّ لوقا هذا النَّص من سِفر أعمال الرُّسل ليُخبرنا ليس عن واقع الكنيسة الفعليّ آنذاك، إنّما عن حِلمِه ورغبته في أن تكون الكنيسة كما وَصَفها لنا في هذا النَّص. على مرّ العصور، كان واقع الكنيسة مليئًا بخيبات الأمل: فالربُّ يسوع نفسه قد أُصيب بخيبة أملٍ، عندما ترَكه تلاميذه إضافة إلى العديد من النَّاس الّذين شفاهم، عندما كان على الصّليب. إنَّ هذا النَّص من سِفر أعمال الرُّسل يُعطينا صورةً ناصِعة البياض عن الكنيسة الّتي كان يحلم بها الإنجيليّ لوقا، والّتي كان يُبشِّر بها في إنجيله. إنّ الوقت الآن هو الوقت المناسب لتحقيق هذا الحُلم الّذي كان يصبو إليه الإنجيليّ لوقا في ما يخصّ الكنيسة: “على قَدَر الحاجة”. إنّه الوقت المناسب كي نعيش حقًّا كإخوةٍ في عائلة الله الآب الّتي ننتمي إليها. فما هذه الأخوَّة الّتي نعيشها اليوم، حين نجد أنّ خلافًا بسيطًا قادرٌ على قَطع “حَبل الصُّرَّة” بيننا وبين الآب، إذ قد أدَّى هذا الخلاف إلى قطع الرِّباط بين بعض الإخوة! الآن هو وقت الامتحان، إنّه وقتُ عَيش صَبرِ القدِّيسِين.
ما هو صَبرُ القدِّيسِين؟ إنّ صَبرَ القدِّيسين يقوم على أن أحِمل أثقال الآخَر وأن يُشاركني الآخَر في حَملِ أثقالي في هذه الحياة، فنكون بالتَّالي قد تَشاركنا كإخوةٍ في المسيح في حَملِ أثقال بعضنا البعض. إنّ عبارة “صَبرُ القدِّيسين” لا تعني التكلُّم على الأعاجيب، بل هي تعني التكلُّم على أعاجيب الله في النَّاس، أولئك الّذين يستطيعون إظهار مَنطِقَ الصّليب في حياتهم اليوميّة، أولئك الّذين يُظهرون نهج الصَّليب ويسلكون بحَسَبه، مِن خلال تعامُلِهم مع بعضهم البعض. اليوم، تحتفل الكنيسة الشرقيّة بالأحد الثالث من زمن الصَّوم، وهو أحد ذِكرى رَفع الصَّليب. إنّ الكنيسة الشرقيّة تضع هذا الأحد في منتصف الصَّوم لتُذكِّر المؤمنِين بالهدف الأساسيّ لِصَومِهم، بعبارةٍ أُخرى تُذكِّرهم بسبب انطلاقة الصَّوم. إنَّ انطلاقة الصَّوم هي فرحُ القيامة، الّذي يبدأ بالصَّليب، أي بِسِرِّ الحُبّ. إنّ الصَّليب لا يعني الآلام بل هو نتيجة طبيعيّة للحُبّ الحقيقيّ. إذًا، نحن اليوم نعيش نتيجة حُبِّنا بعضَنا لِبَعض، من خلال حَملِنا أثقال بعضنا البعض، من خلال الوقوف “جنبًا إلى جنبٍ” في هذه المراحل الصَّعبة الّتي نعيشها. عندما يَشرَح الإنسان للآخَرين عن أوجاعه، يلاحظ أنّ الّذي يُصغي إليه، هو أيضًا، لديه ما يكفيه من الأوجاع والمتاعِب. إخوتي، لا أحد يستطيع المزايدة على الآخَر في تَحمُّل الصُّعوبات. نحن اليوم، نستطيع أن نُزايد على بعضِنا البعض بالمحبّة، بالوقوف “جنبًا إلى جَنبٍ” و”كتِفٍ إلى كَتِف” و”يَدًا بِيَد” و”وجَهًا إلى وَجه” مع الآخر في وجع صعوبات هذه الحياة. إنّ الدُّنيا لا تستأهل منّا الانقطاع عن الآخر ومخاصمته، كما أنّها لا تسـتأهل الحقد ولا الغيرة ولا الحسد، ولا التحزُّبات، قائلِين: “أنا لبولس وأنا لأَبُّولُس وأنا لِصَفا”. إنّ الدُّنيا قصيرةٌ مهما طالَت، وهي طويلةٌ مهما قَصُرَت: وهذا يعني أنّه لا يمكننا التحجُّج بأنّه لا يمكننا القيام بشيءٍ لأنّ الدُّنيا قصيرة، فالدُّنيا طويلة إن كُنَّا نرغب في العمل؛ ولكنّها قصيرة إن أراد الإنسان تأجيل الأمور الّتي عليه القيام بها. لذا، تفضَّل الآن أيّها الأخ المؤمِن، وابحَث عن جَنْبٍ موجوعٍ للوقوف إلى جانبه ساعيًا إلى تخفيف وجَعِه مِن خلال كلمة أو بَسمةٍ أو بِمَدّ يَدٍ أو بِوَضَع كَتِفك على كَتِفه، أو مِن خلال أمورٍ بسيطة ماديّة.
إخوتي، ما مِن أحدٍ يستطيع إحياء الآخَر إلى الأبد، ولكن المؤمن يستطيع أن يزرع روحَ الحياة الّتي نالها من الربّ يسوع المسيح في إنسانٍ آخَر، ممّا يدفَعُ الآخَر إلى التساؤل حول سبب محبَّة هذا الإنسان المؤمِن له ووقوفه إلى جانبه. أنتَ تقف إلى جانب الآخَر ليس بسبب صلاحِكَ، بل لأنَّك اكتشَفت صلاح الله لك، وحُبَّه لك، ورحمته لك. لذلك، إخوتي، من خلال وقوفِكم “جَنْبًا إلى جنبٍ” مع الآخر، تُبَّشرونه بالإنجيل، إذ بهذه الطريقة تكونون قد أصبحتم “إنجيلاً متحرِّكًا”، لا مجرَّد صفحةٍ من وَرَقٍ مطبوعة. إنّ الإنجيل لا يُكشَف بالتَّصنُّع إنَّما من خلال عيش البساطة، والدَّليل هو أنَّ الربَ يسوع كان يكشِف عن أفكاره للنَّاس مِن خلال التكلُّم إلى النّاس بالأمثال، وهي طريقةٌ بسيطةٌ تَدخل إلى القلب ولا تحتاج إلى ترجمةٍ عقليّة. فهل هناك أجمل مِن إلتفاتة محبَّة إلى الآخر؟! إنَّ مِثل تلك الإلتفاتة لا تحتاج إلى الكثير من التَّفسير والتَّخطيط، وعلى الرُّغم من ذلك نجد أنّ الإنسان يكتفي بها. إنّ تعزية المحزون تأتي من خلال وقوفنا إلى جانبه عند مروره بِضِيقةٍ، ألا وهي موت أحد أحبَّائه. إنّ المحزون يُثمِّن كثيرًا وقوفنا إلى جانبه، إذ يجد فيها عملاً عظيمًا، فيتعزَّى قلبه. على الرُّغم من الضِّيقات الكثيرة الّتي نمرُّ بها، لا زلنا نمتلك الكثير من الطَّاقات الّتي يمكننا وَضعِها في خِدمة الآخَرين.
إنّ هذه الرِّياضة الرُّوحيّة الّتي تقومون بها اليوم، تَهدف إلى القول إنّه على الرُّغم من بشاعة الدُّنيا، هي لا تزال جميلة. فإيّاكم أن تُفكِّروا أنّ الدُّنيا بَشعة رُغم حلاوتها، بل هي جميلة رغم بشاعتها لأنّه لا يزال فيها بشرٌ يوجِّهون آذانهم إلى فَم الله، وعيونهم مُسمَّرة على الربّ يسوع الماشي على المياه، والّذي يدعوهم إلى الـمَجيء إليه. إنّ أمثال هؤلاء لا يزالون يَذكُرون كلمة الله، وقلوبهم لا تزال تخفق بِخفقات الرُّوح. لذلك، إخوتي، نستطيع القول إنّ الدُّنيا لا زالَت بألفِ خير، حتّى وإن كان الّذين لا يزالون يُصغون إلى كلمة الله قِلَّةٌ قليلة. فعلى الرُّغم من عددهم الضئيل، إلّا أنّهم ليسوا بقلائل في ظلّ هذا الظَّلام الّذي نعيش فيه.
أيّها الإخوة، يقول لنا الإنجيليّ لوقا في هذا النَّص إنَّ المؤمنِين كانوا يتناولون الطَّعام بِفَرحٍ وببساطة قلبٍ من دون تصنُّع. إنّ العمل الصَّالح لا يحتاج لا إلى تقارير ولا إلى دغدغة ولا إلى غرور، بل يحتاج إلى بساطة وتواضع. يا إخوة، إنّ التَّواضع لا يُكتَسَب بل هو يولَد مع الإنسان. ولكنَّ التواضع لا يستطيع أن يُولَد في الإنسان إلّا إذا فَهِمَ هذا الأخير حُبَّ الله له ورَحمة الله له. عندما يَفهم الإنسان حُبّ الله ورحمة الله له، لا يعود هذا الأخير يتصنَّع الخَير بل يُصبح إنسانًا صالحًا إذ يُصبح عَملُ الخير من طبيعته الإنسانيّة. فكما أنّ الإنسان لا يستطيع العيش إنْ لم يتنفَّس، كذلك هو لا يستطيع العيش إلّا بوقوفه جَنبًا إلى جَنب مع الإنسان الآخَر.
هذه هي دعوتُنا جميعًا: عيش البساطة وبالحدَّ الأدنى، إذ لا أحد يطلب منّا القيام بأمور كبيرة لا نستطيع القيام بها، بل ما هو مطلوبٌ منّا هو القيام بأمور بسيطة جدًّا. إنّ الأولويّة لا تكمن في قيام الإنسان بأمورٍ عظيمة، بل تكمن في إمكانيّة قيام هذا الإنسان بِعَملٍ معيَّن للوقوف جَنْبًا إلى جَنبٍ مع الآخَر، مهما كان هذا العمل بسيطًا. لذا، لا تحلم بالقيام بأمورٍ كبيرة تعجز عن تحقيقها بل اسعَ إلى تحقيق ما يُمكنُكَ فِعلُه: فهذه هي الأولويّة. إخوتي، في الكثير من الأوقات، نَقع في الحَيرة عندما نُفكِّر في كيفيّة الوقوف جنبًا إلى جنبٍ مع الآخَر. في هذا الإطار، أقول لكم إنّ هذه الحَيرة هي من إحدى خِدَع الشَّيطان، الّذي يسعى من خلالها إلى حثِّنا على العزوف عن الوقوف جنبًا إلى جنب مع الآخَرين.
كونوا حُكماء، أي متحلِّين بِحكمة الإنجيل، حكمة الربّ يسوع، ألا وهي البساطة، فتكونون كما قال بولس الرَّسول “أمّا نحن فَلَنا فِكر المسيح” (1 كور 2: 16).
أتمنَّى أن تُكمِلوا هذا الموسم وأنتم محافظون على بساطة القلب هذه. والتحدِّي الأكبر يكمن في الإتِّحاد. تحدُّوا هذه الدُّنيا وقساوتها من خلال إتِّحادكم بعضكم بِبَعض، واجعلوا كلَّ شيءٍ مشتَرَكًا بينَكم. ولا يطُنَنَّ أحدٌ أنّ العمل الّذي يقوم به، مهما كان صغيرًا، لا قيمةَ له، فإنّ العمل الّذي يقوم به الإنسان وإن كان في نَظر الآخَرين لا قيمة له، هو عملٌ عظيمٌ جدًّا في نَظِر الله. إخوتي، إنّ الزَّرع لا تَظهر نتيجته على الفور، إذ يحتاج إلى بعض الوقت؛ ولكن مهما تأخَّرت نتيجة الزَّرع في الظهور، فإنَّه لا بُدَّ لها من الظِّهور ومن إظهار قيمة عَمِلِكَ. فكيف إذا كان الإنسان غيرُ منتَظِرٍ نتيجةَ عمَلِه؟ إنّ الإنسان المؤمن يَفرَح بالعَملَ الصّالح الّذي يقوم به من دون انتظاره لرؤية نتيجة عمله، غير أنّه يتعزَّى إذا رأى نتيجة عمله. هنا تكمن الخطورة لأنّه إذا كان الإنسان يقوم بالعمل الصّالح كي يرى نتيجة عَمَلِه، فإنّه سيُصاب باليأس والتكبُّر إذا كانت النتيجة مُحبِطة. إنّ الأساس في مَفهوم الوقوف “جَنْبًا إلى جنبٍ”، لا يُفهَم إلّا في وقتِ الشِّدَّة، تمامًا كما هي حال الذَّهب الّذي لا تُعرَف قيمته إلّا حين يُمتَحن في النَّار.
نحن اليوم، نعيش حَدَث سِفر الرُّؤيا بكلّ أبعاده، وهذا الكلام لا يعني أن ننظر إلى ما يحدث من حولِنا في هذا العالَم على أنّه من علامات نهاية الأزمنة؛ بل يعني أنّه في هذه الأوقات الصَّعبة، نجد ذواتنا واقفِين وجهًا لِوَجه أمام الملكوت الآتي، أمام الحَمل المذبوح على العرش السَّماويّ. إذًا، يجب ألّا يكون همِّي مُنصَّبًا على اكتشاف علامات نهاية العالَم، فهذا كلُّه مضيعةٌ للوقت، بل يجب أن يكون همِّي: “حيثُ يكون كنزي فهناك يكون قلبي” (مت 6: 21). فإذا كان قلبي مع الكنز الّذي هو المسيح المذبوح الحَمَل القائم من بين الأموات، على العرش السّماويّ، فإنِّي سأسمعه يناديني في الوقت الّذي يُحدِّده هو، فأكون مستعدًّا للقائه. إخوتي، لن يدخل أحدٌ منّا إلى الملكوت من خلال فَتِح جِهة واحدة من الباب، بل علينا الدُّخول بعد فَتح جِهتَي الباب: الجهة الأولى هي: أنا، والجهة الثانية هي: الآخَر الّذي وَقفنا إلى جانبه “جَنبًا إلى جنبٍ”، فنَدخل معًا إلى الملكوت، وعندها يكون الفرح تامًّا.
إخوتي، أنتم على مفترق طُرُقٍ مِن فَهمٍ حقيقيّ للإنجيل، من فَهمٍ حقيقيّ للاهوت الكنيسة، من فَهم لِكُنْهِ الكنيسة، لِعُمق الكنيسة. لذلك، يمكنكم الآن القيام بأمورٍ كثيرة جدًّا، أمورٍ بسيطة جدًّا، ولكن فِعلَها سيكون كبيرًا جدًّا، وحين يأتي الربُّ في الملكوت سنسمعه يقول لنا: “طوبى لكَ أيّها العبدُ، كنتَ أمينًا على القليل، فسأجعلُكَ أمينًا على الكثير. أُدخُل إلى فرَحِ ربِّك” (مت 25: 23). آمين.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.