الرياضة السنويّة 2023 بعنوان: “وسِّعي أرجاءَ خَيمتِكِ” (أش 2:54)
المركز الرّوحيّ – زوق مكايل، كسروان.
عظة القدّاس الإلهيّ: “أحد شفاء النّازفة”
الأب دومينيك العلم المريميّ،
أبتِ الجليل، إخوتي الأحبّاء المجتمعِين اليوم معًا والموجودين في عالم الانتشار: الله معكم جميعًا، والمجد دائمًا لله.
أريد اليوم التَّوقف عند مضمون الإنجيل الواسع الّذي يَضُمّ شخصّياتٍ تُشبِهنا.
في مطلع هذا الإنجيل، يقول لنا كاتب هذا النَّص إنّ الجموع قد استقبَلَتْ يسوع عند وصولِه، إذ كانت تنتَظِرَه. ونحن اليوم، على مِثال هذه الجموع، مُجتَمِعين بانتظار يسوع لاستقبالِه والاتِّحاد به في المناولة المقدَّسة. لقد حضَّرنا نفوسَنا مِن خلال هذه الرِّياضة الرُّوحيّة الّتي نُشارِك فيها، ومِن خلال سرّ الاعتراف، ولكن ما زال ينقُصُنا شيءٌ واحد، وهو ما طَلَبَه رئيس المجمع. إنَّ رئيسَ المجمع قد طلب إلى الربّ أمرَين: الأول، هو التوسّل إلى الربّ أن يَدخُل إلى بيته، فجاء إلى الربّ يسوع وسَجَدَ له. إنّ عبارة “أخذ يتوسَّل إليه” في لُغتنا اللُّبنانيّة العامية، تعني “ترجَّاه” ليَدخُل بيتَه. كذلك نحن أيضًا، نَتوسَّلُ إلى الله أن يَدخُلَ إلى قلوبِنا وبيوتِنا. وهنا، أتذكَّر نصَّ زكَّا العشَّار، الّذي أَعلنَ عن توبته عندما دَخل يسوع إلى بيته، ممّا دَفع الربّ إلى القَول: “اليوم تمَّ الخلاص لهذا البيت” (لو 19: 9). إخوتي، إنَّ دخول الربِّ إلى بيوتنا وقلوبِنا مِن شأنه أن يمنحنا السّلام ويزرع في نفوسنا نِعمةَ التَّوبة والتَّكفير عن خطايانا، تمامًا كما حصل مع زكَّا حين أعلَن أنَّه سيُعوِّض أربعةَ أضعافٍ لِكُلِّ شخصٍ ظَلمَه، بعد زيارة يسوع لِبَيتِه.
إنّ قمّةَ سرّ التجسُّد والفِداء، الّذي قام به الربّ يسوع، هو أن نَخلُصَ جميعًا، أي أن نعود جميعًا إلى بيت الآب. إنّ رؤوساء المجمع كانوا غير مؤمِنِين بالربّ، وقد كانوا يُطالبون بِقَتل يسوع وصَلبِه. غير أنّ يائيروس، وهو أحد هؤلاء، لم يترَّدد في إعلانِ إيمانه بالربّ يسوع، فجاء إليه وسجدَ له طالبًا إليه أن يَدخُل إلى بيتِه ويشفي ابنتَه الـمُشرِفة على الموت. وقَبْل أن يصل يسوع إلى بيت يائيروس، جاء موفَدٌ مِن بيت رئيس الـمَجمَع ليُخبِرَ سيِّده ألّا يُزعِج المعلِّم، أي الربّ يسوع، لأنَّ ابنتَه قد ماتَتْ. كم يُشبِهنا هذا المشهد! كم مِن المرَّات جئنا إلى يسوع وسجَدنا له وأضأنا الشُّموع وقَدَّمنا له النُّذورات من أجل الحصول على شِفاء مرضانا؟ إنّ هذا التصرّف الّذي نقوم به تِلقائيًّا، قد نشأنا عليه منذ الصِّغر، لأنّنا قد وَرِثناه عن يائيروس، فننظر إلى الربّ قائلين له:
إنَّ إتِّكالِنا عليك، يا ربّ! هَلُمَّ وادخُل إلى بَيتِنا، لأنّنا نعاني من أمراضٍ شتَّى. هنا، إخوتي، لا نقصد فقط المرض الجسديّ، كما هي الحال في هذا النَّص الإنجيليّ، فالمرض قد يكون مَرضًا روحيًّا، وأحد هذه الأمراض هو عدم الاتِّفاق بين الرَّجل وامرأته، أو بين الأهل وأولادهم، أو حتّى بين الإخوة أنفسِهم. بعبارةٍ أخرى، إنّ الفوضى هذه الموجودة في البَيت الواحد، هي أشبَه بِالـمَرض الّذي يُصيب العائلة. إخوتي، في هذا القدَّاس، فَلنَصرخ جميعًا إلى الربِّ قائلين له: “نترَّجاك يا ربّ أن تَدخُل إلى بيوتِنا، ففي بيوتنا أمراضٌ لا يعرِفها أحدٌ سِواك. هَلُمَّ ربِّ وادخل إلى بيوتِنا. لن نتفوّه بأيّ كلمة، فأنتَ تَعرف كلَّ شيء”.
إخوتي، نحن نعرِف ما نسمَع وما نرى، ولكنّنا لا نستطيع معرفة ما لا نسمعه ولا نراه. الربُّ وحده قادرٌ على معرفة المشاكل الّتي نَمرُّ بها،كما يعرف تلك الّتي يَمُرُّ بها أولادنا. لذلك، ليس مِن الضروريّ أن نُكثِر الكلام أمام الربّ عن مشاكِلنا، ولكن يكفي أن نقول له كِلمَتين: “أُدخل يا ربّ إلى بيوتِنا، وأنت عالمٌ بما عليكَ القيام به، لأنَّك تعرِف كلّ شيء”. نحن نعلَم كلّ ما حدث في حياتنا حتّى اللِّحظة الحاضرة، ولكنّنا لا نستطيع معرفة المستقبل، فالربّ وحدَه يَعلَم به.
إنّ هذا النَّص يُخبرنا، من جِهةٍ عن فتاةٍ في الثّانية عشرة من عمرِها مُشرِفة على الموت؛ ومن جهةٍ أخرى يُخبرنا عن امرأةٍ في حالة موتٍ منذ اثنَتَي عشرة سنة، تعاني من نَزفِ دَمٍ. هذا يعني أنّه حين وُلِدَت ابنة يائيروس، بدأت معاناة هذه المرأة مِن نَزف الدَّم. إنّ الدَّم يرمز إلى الحياة، وبَعض العبارات الّتي نستعملها في حياتنا اليوميّة تُؤكِّد لنا هذا الأمر، إذ نُعبِّر عن استيائنا مِن شخصٍ ما بالقول: “نَشَّف لي دَمِّي”، وبهذه العبارة نَقصُد أنّه قتَلنا مَعنويًّا بما قام به. وفي إطارٍ آخر، نقول إنّ هذا الإنسان يُعاني مِن نَقصِ دَمٍ، أي أنّه بحاجةٍ إلى وحداتِ دَمٍ للبقاء على قيد الحياة. إنّ هذه المرأة الّتي تَنزِف منذ اثنَتَي عشرة سنة، لم تخسر دَمَها فقط، بل خسِرت أيضًا أموالها وكلّ ما تَملِك في سبيل الحصول على علاجٍ لحالتها، وعلى الرُّغم مِن ذلك لم تَنل مُبتَغاها، بعبارة أُخرى: “لقد انتَهَتْ هذه المرأة”. هذا ما يحصل معنا اليوم، لأنَّنا نعاني من نزفٍ على المستوى الاقتصاديّ، فَقَد خَسِر الكثيرون من بيننا أموالهم الّتي ادَّخروها في البُنوك. كما نعاني أيضًا مِن نزفٍ في الأعصاب، فنحن نلاحظ أنّ الكثيرين مِن بيننا يعيشون من خلال تناول الأدوية الـمُهدِّئة. ونسمع البعض منّا يقول إنّه يعيش “من قِلَة الموت”.
إخوتي، إنّ حالتنا في لبنان، اليوم، تُشبِه إلى حدٍّ بعيد، حالة هذه المرأة الّتي تَنزِف حياتها يومًا بعد يوم، إذ أصبح كلّ واحدٍ منَّا يُشكِّل “نشرة أخبار” مُتَجوِّلة، فقد أصبح كلّ واحدٍ منّا قادرًا على فَهمِ الوضع الّذي نعيشه في البلد انطلاقًا من وَضعِه الخاصّ، ومعاناته اليوميّة. فالواقع المعيشيّ في لبنان هو أصعب ممّا نراه ونسمع عنه على شاشات التَّلفزة، وعلى الرُّغم من ذلك ما زِلنا نَعيش تحت سِتار “الكرامة”، فلا نستدين الأموال لحاجَتِنا إليها، بل نسعى إلى عدم إظهار وَجعِنا للآخَرين، بسبب “عِزَّة نفوسنا”. كذلك، هذه المرأة النّازفة لم تأتِ إلى أمام يسوع، لأنّ المجتمع اليهوديّ آنذاك كان يعتبرها خاطئة، لذا أتت مِن خَلفِ الربّ يسوع. إخوتي، ليَعتبر كلُّ واحدٍ منَّا أنّ هذا المشهد يحصل أمامه اليوم، ليَعتبر كلّ واحدٍ منّا نفسه موجودًا داخل هذا الموكب الـمُرافِق لِيَسوع المعلَّم، الّذي يَشفي المرضى، ويُقيم الموتى، ويُساعِد كلَّ مَن طَلبَ مساعدته ويُسكِت الفرِّيسيِّين، ويَتحدَّى الكبير والصَّغير، ويتكلَّم بِكَلامِ حقٍّ، وقد أطعمَ ما يفوق الخَمسَة آلافِ إنسانٍ ما بين رِجال ونساء وأطفال. إذًا، الربُّ يسوع يواكبه عددٌ من النَّاس لا يَقلّ عن عشرة آلاف إنسان، وكلّ واحدٍ منهم يريد إلقاءَ التَحيّةَ عليه، وهذا ما يُسبِّب التَّدافع في ما بين الحاضِرين. وعلى الرُّغم مِن هذا العدد الكبير من النَّاس، أوقَفَ يسوع الموكَب لأنّه شَعر بأنّ أحدًا لَمَسَه، فسأل مَن لمسني؟ فقال له بطرس إنّه من الطبيعيّ أن يشعر بذلك بسبب تدافع كلّ هذه الحشود الشَّعبيّة. غير أنّ الربّ يسوع كان يعلم بِأمرِ تلك المرأة الّتي أتَتْ مِنَ الخلف، على الرُّغم من تلك الحشود، ولمسَت طَرفَ ثوبه، ونالت ما أرادَتْ. كم يُشبهنا هذا المشهد، نحن الجالسين هنا اليوم! فنحن نَنتَظر دخولَ الربِّ إلى قلوبنا مِن خلال المناولة والاتِّحاد به.
إنّ الموجودين في داخل الموكب الـمُرافِق ليَسوع قد تَمكّنوا بالطَّبع مِن لمس ثوب يسوع ولكنَّهم للأسف لم يَستَفيدوا من تلك اللَّمسة شيئًا؛ كما هي حال الكثيرين منّا إذ يتناولون الربّ يسوع من دون أن تتغيَّر حياتهم. ولكن هذه المرأة النَّازفة قد حصلَتْ على الشِّفاء ما إنْ لَمَسَت ثوب يسوع. عندما لمسَتْ هذه المرأةُ ثوبَ يسوع، توقَّف نَزفُ دَمِها وبدأتْ الحياة تَعود إليها تدريجيًّا، بسبب إيمانها. إخوتي، كثيرون مِن بيننا يتناولون القربان المقدَّس ولا تَتغيَّر حياتهم، في حين أنّ آخرين، هُم مَرضى، يُلازمون الفِراش ويتابعون القدَّاس عبر شاشات التّلفزة فتتغيّر حياتهم، بسبب إيمانهم.
إخوتي، إنّ الإيمان ينمو في الإنسان، ونحن لا نستطيع أن نخترِعه أو أن نُضيفه إلى حياتنا أو نتربّى عليه. إنّ التّعليم المسيحي هو تعليمٌ دينيّ، يُخبرنا عن الله. في القديم، أي قَبْل تَجسُّد يسوع المسيح، وقَبْل أن يُدرِكوا أنَّ هناك إلهًا واحدًا، كانت الشُّعوب تَعبد عِدَّة آلهة، وكان كلُّ شعبٍ يخترع لآلهته أشعارًا ولاهوتًا، وما إلى هنالك مِن طقوسٍ وشعائرَ دينيّة. وهنا نَطرَح السُّؤال: إذا كان الإنسان لا يستطيع تركيب الإيمان وتأليفه، كيف يستطيع أن ينشأ في داخله؟ إنّ الإيمان هو نِعمةٌ مجانيّةٌ من الله، فالله هو الّذي يُبادِر إلينا، تمامًا كما الشَّمس. فالشَّمسُ تُشرِق على جميع النَّاس، غير أنّ تَفاعُل البشر معها يختلف بين شخصٍ وآخر، فالبعض يسعى إلى الاستفادة منها من خلال الخروج إلى السّاحات والذّهاب إلى البحر، في حين أنّ آخرين يُلازمون بيوتهم، تَجنّبًا لِتَعرُّضهم لِأَشِعتِها. وعلى الرُّغم مِن تَفاوت البشر في التّفاعل مع الشَّمس، فإنّها تبقى شارقة وأشعتها حاضرة ليستفيد منها مَن يرغب في ذلك.
كذلك هو الله، فهو موجودٌ وحاضِرٌ ليُفيضَ خيراته ونِعمَه على جميع البشر، كلٌّ بِحَسب قدرته. إنّ الربَّ يُعطي كلَّ واحدٍ منّا على قدر حاجَتِه وقُدرَتِه. إنّ الربَّ يُعطي كلَّ إنسانٍ نِعمةً: فيُعطي البعض مواهبَ، فيَعمل هؤلاء على تَنمِيَتِها فيهم، فيُصبِحون “مُعلِّمين في أورشليم”؛ ويُعطي آخرين مواهِبَ الخِدمة، وآخرين مواهِبَ الطبابة، وآخرين موهِبَة الألسُن، وآخرين مَوهِبَة ترجمة الألسن، وآخرين موهبة الهندسة، وآخرين موهبة الخِدمة اليوميّة، أو سواها مِن المواهِب. كما يُعطينا الربّ نِعمةً خاصّةً هي نِعمة الإيمان، فيَدعو كلُّ واحدٍ منّا باسمِه.
إنّ الربَّ يريد إقامة علاقةٍ مع كلِّ واحدٍ منّا، فالربّ لا يتعامل معنا كمجموعةٍ، بل كأفراد. فلو كان الربُّ يتعامل معنا كمجموعةٍ، ما كان ليُوقِف الـمَوكَب عندما لمسَته المرأة، إذ كانت الجموع الكثيرة تزحمه، وما كان ليَهتمّ لأمرِ المرأة. ولكنّ الربّ أوقف الموكب من أجل تِلك المرأة النَّازفة، الّتي لمسته لأنَّه شعر بأنَّ قوَّةً خرجت منه. إنّ عبارة “قوّةً خرجَتْ مِنّي” تعني أنَّ ربَّنا ليس شخصًا جامدًا، فيَستَيقِظُ صباحًا ويُوزَّع نِعمه على البشر ثمّ يرتاح من عملِه؛ بل هو يتفاعل مع الإنسان، فكما تفاعل مع هذه المرأة المريضة يتفاعل مع كلِّ واحدٍ منّا. إنّ الله لا يكون متفرِّجًا علينا، حين نجلس في حَضرَتِه، بل هو يتفاعل معنا ويُكلِّمنا، خصوصًا عندما نتكلَّم معه بِلُغة المحبّة والمغفرة. فإنّ لغة الغفران الـمُطلَق والمحبّة والرَّحمة الـمُطلَقَة تُحرِّك أحشاء الله. إنّ قوّة الله تكمن في رُوحه القدُّوس. لذلك، عندما يُعطينا الله ذاته، فهذا يعني أنّه يُرسِل إلينا روحَه، فنتَّحد به، ونُصبح سُكنى الرُّوح، فنَتَمكّن مِن تناول الابن يسوع المسيح والاتِّحاد به.
أعتذر منكم لإطالة الحديث عليكم. بارككم الله.
إنّ هذا المكان عزيزٌ عليّ جدًّا، لأنّني منه انطلقتُ وقد أعطيتُ فيه محاضَرتي الأولى، وقُلتُ أنذاك إنّها “عنصرة الرُّوح، عليّة الرُّوح”.
حماكم الله وبارككم، كي تبقوا دائمًا بهذه القوّة. ورَحِم الله موتاكم. آمين.
ملاحظة: دُوِّنَت العظة بأمانةٍ من قبِلنا.