الرياضة السنويّة 2023 بعنوان: “وسِّعي أرجاءَ خَيمتِكِ” (أش 2:54)
المركز الرّوحيّ – زوق مكايل، كسروان.
الموضوع الأوّل: “عزّوا، عزّوا شعبِي، يقول إِلهكم” (أش 1:40)
الأب ابراهيم سعد،
إنّ الوقت والمكان والنّاس ثلاثةُ عواملَ مُهِمَّةٍ وأساسيّةٍ لإعطاء موضوعٍ معيَّن. تخَيّلوا معي أن يُعطى موضوعٌ عن الصَّبر والتَّعزية لأُناسٍ يعيشون في ازدهارٍ وبَحبوحةٍ! أو تخيَّلوا معي أن يُعطى موضوعٌ عن السَّفر والرَّحلات والأيّام الجميلة لشعبٍ يعاني من الضِّيق والشِّدة والضَّغط! أقول لكم إنّ كلامَ الـمُحاضِر سيَكون كلامًا فارغًا، لا فائدة منه، بالنِّسبة إلى هؤلاء. إنّ أساس كلَّ موضوعٍ هو التَّفاهم بين الـمُحاضِر والجماعة الحاضرة الّتي تُصغي إليه.
لا يمكننا البدء بأيّ حديث عن الله، قائلين: إنّنا نعلم أنّ الله هو هكذا، وقد قال لنا هذا الأمر أو ذاك في إنجيله! إخوتي، إنّ الله ليس أمرًا مفروغًا منه، وبالتّالي فإنّه لا يمكننا معرفة الله معرفةً كاملةً وثابتة. إنّ الله يَربطُ الإنسانَ بِكَلمته الإلهيّة الّتي يقرأها في الكتاب المقدَّس، ولكنّه لا يَربط نفسَه بها؛ لأنّ الله حُرٌّ حتّى مِن كَلِمته. إخوتي، لا يمكننا إدراك الله وامتلاكه! للأسف، إنّ ذهنيّتنا البشريّة تقوم على رؤية الله على أنّه الجبّار القهّار الدّيان، لا على رؤيته إلهًا حنونًا ومُحِبًّا ورَحومًا. إنّ الإنسان يرى الله، انطلاقًا من مَصلحَتِه الخاصّة، لا مِن قناعته: فإذا كان الإنسان يَشعر بأنّه إنسانٌ خاطئ، فإنّه يَنظر إلى الربّ على أنّه الرَّحوم والغفور؛ ولكن إذا كان هذا الإنسان على خِصامٍ مع أحدٍ، فإنّه ينظر إلى الربّ على أنّه الدَّيان والعادل. إذًا، نحن نسعى إلى تصوير الله في مخيّلتنا بالشَّكل الّذي يتناسب مع مقاييسنا ومصلَحَتِنا؛ وبهذه الطريقة، نُصبِح مشابِهِين للوَثَنيِّين الّذين يُصوِّرون آلهَتِهم على هَواهُم. إذًا، للأسف، نَحن نُحوِّل اللهَ في أذهانِنا مِن إلهٍ حيٍّ إلى إلهٍ صَنمٍ، كما يَفعل عابدو الأصنام. حين نُحوِّل إلهُنا إلى إلهٍ صَنمٍ، يُصبح مِن البَديهيّ ألّا يَسمعَنا حينما نُكلِّمُه، وألّا يستجيبَ لنا حينما نَطلبُ إليه المساعدة، فَنُبادِر حينها إلى الكُفر باللّه.
كيف تريدون إخوتي، أن يُجيبكم الله، إذا كان بالنِّسبة إليكم صنَمًا؟! علينا أن نختار، لأنّ الله قد احتار معنا: هل نريده أن يكون إلهًا حيًّا، أَم نُريده أن يكون صنَمًا؟ إذًا، المعضلة لا تكمن في الله، إنّما فينا نحن البشر. عندما كان الشَّعب اليهوديّ يعيش في راحةٍ وبَحبوحةٍ، أرسل الله إليه أنبياءَ يُخبرونه أنّه سيَتَشرَّد، وأنّه سيُعاني من المآسي وأنّ الهيكل سيُدمَّر. لم يَتقبَّل الشَّعب اليهوديّ هذا الكلام، بِاعتبار أنّه قام بإرضاء الله حين بَنى له الهيكل، وثابر على تقديم الذَّبائح والبخور له. ولكن الربّ لم يَستَطِب رائحة البخور الّذي يُقدِّمه له الشَّعب ولا رائحة الذَّبائح؛ وقد عبَّر الله عن رفضِه لِتِلك التَّقادم قائلاً لهم: “مَلَلتُ أعيادكُم، كرِهَتها نفسي”. استغربَ الشَّعب اليهوديّ كلام الأنبياء، إذ كيف لإلهٍ أن يَهدِم بيتَه؟ فإنّه متى قام الله بِهَدم بيته، مات. وهذا ما اختَبره الشَّعب اليهوديّ مع الشُّعوب المجاورة له، لأنّه حين كانت تَنتَصِر مَدينةً على أُخرى، تقوم المدينةُ المنتَصرةُ بِفَرضِ آلهتها على المدينة المنهزِمَة وتدمير هيكلِها، ما يعني زوال إله المدينة المنهزِمة، وبالتّالي يُصبح إلهُ المدينة المنتصِرَة إلهًا للمدينَتَين.
إنّ الله أراد إخبارَ شعبِه من خلال الأنبياء، أنّه لن ينتظر تدمير الهيكل، إذ سيُدمِّره بنَفسِه، فهو لم يَعد موجودًا في داخله، لأنّ شعبَه حوَّله إلى إله صَنَمٍ. ونحن للأسف، ما زِلنا إلى اليوم، نَعمد إلى رشوة الله من خلال إغرائه بِكَمِيّة البخور الكبيرة الّتي نأتي بها إلى الهيكل، أو بِكَميّة الذّبائح.
إنّ الله تَصرَّف بِسَذاجةٍ، حين صَدَّقَ شعبَه، الّذي أقام له هيكلاً، وأجلسَه على العرش. ولكن عندما رأى الله أنّ شعبَه، تزامنًا مع تقديمه الذّبائح له، يُهمِّش اليتيم والأرملة والفقير ولا يَهتّم بِهِم، أدرَك أنّ شعبه لا يَعبُده مِن كلّ قلبه، فقررَّ هَدمَ الهيكل. إنّ الله يموت، ليس حين يُهدَم الهيكل، بل حين يَموت اليَتيم والأرملة والفقير نتيجة الإهمال. إنَّ الشَّعب اليهوديّ قد حوَّل الهيكل إلى مَعبدٍ لإلهٍ صنَمٍ مِن صُنعِه، وبالتَّالي لم يَعد الهيكل مَسكنًا للإله الحيّ. عندما هُدِم الهيكل، ظنَّ الشَّعب اليهوديِّ أنَّ ذلك هو قصاصًا له من الله نتيجةَ إخفاقِه في التَّعامل معه. لذا، قررّ الشَّعبُ إعادة بناء الهيكل من جديد، وتَحسين سلوكِه، عسى الله يَرضى عنه. غير أنّ الله قد أصرَّ على عدم رغبته في بناء الشَّعب اليهوديّ هيكلاً حجريًا له، لذلك أَرسلَ ابنَه يسوع، إنسانًا لا مَنظَر له ولا جمالَ فيَشتهيه. أرسَل الله إلى شعبِه إنسانًا بلا قوّةٍ، وقَصبَةً مرضوضةً لا يَكسِر، وفَتيلةً مُشتَعِلةً لا يُطفِئ.
إنّ الله أَرسل ابنَه يسوع، ليَبنيَ له هيكلاً جديدًا، هيكلاً مختلفًا كُلّ الاختلاف عن الهيكل اليهوديّ الّذي بناه الشَّعب انطلاقًا من ذهنيّته القديمة من دون أن يسعى إلى تبديل شيء فيها، ومِن دون أن يؤثِّر ذلك على سلوكِه، مُحافِظًا بِتِلك الطريقة على عتاقته. قرّر الله أن يعيد بناء هيكلِه بطريقةٍ مختلفةٍ من خلال ابنه يسوع الّذي أَرسله إلينا، والّذي أفرغَ ذاتَه بِكُليَّتِها على الصَّليب، فاستطاعَ الله أن يملأه بالكامل، وتمكَّن الربُّ يسوع من أن يقوم من بين الأموات لأنّ الله حيّ. هذا هو هيكل الله الحيّ! مِن خلال موتِ الربِّ على الصَّليب وقيامته، قام الله بِتَوريط نفسِه مرَّةً جديدةً مع الإنسان، إذ أصبح يسوعُ هيكلَ الله الوحيد والفريد والكامل. ولأنّ الربَّ يسوع قد تمكَّن من أن يكون هيكل الله الفريد، قرّر الله أن يجعل مِن كُلّ مَن يتبَع الربَّ يسوع هيكلاً لله.
وها نحن اليوم، أَتباع الربِّ يسوع، قد أصبحنا على مِثاله، هياكلَ للرُّوح القدس، وهذا يعني أنَّ الربَّ أعطانا كامل الصَّلاحيّة لِنَكون على مِثال الربّ يسوع فنَتَصرَّف كما تصرَّف هو. إخوتي، إنّ الله قد قام بِكُلِّ واجباتِه تِجاه البشر، غير أنّ البَشر قد أخفقوا في القيام بما هو مطلوبٌ منهم. نحن لا نزال غرقى في خطايانا وأحقادنا وخصوماتِنا وأهوائنا، لأنَّنا نفعل بِبَعضنا البعض ما فَعَله قايين بأخيه هابيل. وهنا نَطرح السّؤال: هل يحقُّ لنا أن نلوم الله على الأوضاع الّتي نعاني منها؟ كيف لنا الاقتراب من الله والطلب إليه إنقاذنا ممّا نعاني منه جرّاء أعمالنا السّيئة مع إخوتنا البشر؟ إخوتي، إنّ الله لا يتعامل معنا أبدًا كما نُعامِلُه، لأنّه لو أراد الله أن يُعِدَّ لنا الـمَرّات الّتي فيها قُمنا بِغَدره وخيانته مِن خلال ارتكابِنا للأخطاء لما تَمكَّنَت صُحفُ العالَم بِأسرِه مِن أن تَسَعها، تمامًا كما قال يوحنَّا الرَّسول في إنجيله عن أعمال يسوع الّتي لا تُحصى. في كلِّ مرَّةٍ نُخطئ فيها إلى الله ونَغدر به، نأتي إليه بتقوى مزيَّفة، إذ نقوم بِتِلاوة عددٍ من الصّلوات والقيام بِعَددٍ مِن السَّجدات، طالِبين إليه مسامحَتنا إذ نُدرِك سلفًا أنّه حنونٌ ورحومٌ وغفور. وها نحن في زمن صومٍ، وما نعيشه هو خيرُ دليل على ما أقول، إذ يمكننا بِبساطةٍ رؤية الصّائِمِين المنتظرين ساعة الفطور وتَحرُّقَهم بسبب انقطاعهم عن تناول الطَّعام الّذي يحتوي على اللّحوم. إنّ كلّ ما نقوم به في زمن الصّوم مِن انقطاع عن الطَّعام وما يرافقها مِن طقوس، تَدخُل ضِمن إطار الرَّشاوى الّتي نعتمِدها في تعامُلِنا مع الله للحصول منه على ما نُريد. إضافةً إلى أساليب الإغراء الّتي ذكرناها والّتي نستخدمها في تعامُلِنا مع الله، نلجأ أيضًا إلى أساليب التَّرهيب، إذ نَعمد إلى تهديد الله بنُكرانِنا له إن لم يُسارِع إلى تنفيذ ما نطلبه منه. أمام هذه الأساليب الّتي نعتمدها، نسأل: مَن هو الضحيّة ومَن هو الجلّاد؟
قَبل الدُّخول في الموضوع الّذي نرغب في مناقشَتِه، فلنَتَّفِق أوّلاً على تحديد هويّتنا: مَن نحن؟ ومَن هو الله بالنِّسبة إلينا؟ أمام هذه الـمُعضِلة الذهنيّة عند الإنسان، اتَّخذ الله قرارًا مُهمًّا بالنِّسبة إلى الإنسان نَقَله إلينا النبيّ إرميا (31: 31): “سأقطعُ معكم عهدًا جديدًا، ليس كالعهد الّذي قطعته مع آبائكم، سأقطعُ معكم عهدًا في اللَّحم، (أي في الدَّاخل) إذ سأغفر لكم خطيئتكم ولن أذكرها من بعد”. إنّ كلام الربِّ هذا يعني أنّه متى جاء الإنسان إليه وأقرَّ بخطيئته، سَيُسامحه الله عليها ولن يعود يَذكرها مَرَّةً جديدةً، فإن عاد الإنسان إليه في اليوم التَّالي ليُقرِّ أمامه بالخطيئة نفسها، سَيُسامحه الله عليها لأنّه لن يتذكَّر أنّ تلك الخطيئة هي نفسها الّتي ارتكبها الإنسان نفسه في اليوم السّابق. إنّ الله لا يلوم الإنسان على ارتكابه الخطيئةِ نَفسِها أكثر مِن مرَّة في وقتٍ قصير، بل نحن الّذي نُبادر إلى ذلك، إذ نلوم إخوتَنا على أخطاءٍ ارتكبوها تجاهنا، وبَدَل أن نسامِحُهم كما يفعل الله معنا، نُبادر للأسف إلى الابتعاد عنهم. إنّ البعض مِنّا يُبادر إلى اعتبار نفسه قدِّيسًا حين يقوم بمسامحة إخوتِه على خطأ ارتكبوه تجاهه، ولكن هذا الغفران غالبًا ما يكون مشروطًا بعدم مخالطة هذا الإنسان من جديد والابتعاد عنه قدر المستطاع تفاديًا للتَّعرّض للأذيّة مجدَّدًا. ما هذه الذهنيّة الّتي نُشيد بها؟! هل هذه هي ذهنيّة الله الّتي نسعى إلى التَّشبّه بها؟! أهكذا نستطيع اعتبار ذواتنا مِن شعب الله؟! هناك عِطلٌ في ذهنيّةِ الإنسان يجب معالجته.
على الرُّغم مِن كلِّ إساءاتهم له، قرَّر الله أن يتَّخذ من بين البشر عروسًا له تَليق بِمستواه الإلهيّ، أي عروسًا على مِثاله بلا عيب، غير أنّه لم يجد. فقرَّر أن يختار له عروسًا من بين البشر، قَبِلت به عريسًا لها، فذَهب هو إليها وخَطَبها له. حين نَظر إليها، وجَدَها تتصرَّف بعكس ما تقول، وتَخونه بِاستمرار، ولكن على الرُّغم من ذلك، قرَّر الاستمرار في مشروعه معها. ولكنّه قرَّر أن يقوم بِغَسلِها يوميًّا بكلمته الإلهيّة (كما يقول لنا بولس الرَّسول في رسالته إلى أهل أفسس)، فَيَجعلَها في كلّ يومٍ عروسًا نقيّة، بِلا غَضَن ولا عيب، وكأنّها نازلةٌ من السَّماء، وذلك من دون أيِّ فَضلٍ من العروس، ومن دون أيِّ جَهدٍ منها. إنّ الله لا يريد أن يبقى عازبًا، فهو يريد أن يُعبِّر عن حبِّه لِآخَر، فاختار هذه العروس وَوَرَّط نفسه معها، إذ إنّها مليئةٌ بالخطيئة ولكنَّه قرّر تخليصَها. لقد اتَّخذ الله عهدًا على ذاته، عهدًا لم تَره عينٌ ولم تَسمع به أُذنٌ ولم يخطُر على بالِ أحد، وهذا العهد يقوم على اتِّخاذ الإنسان عروسًا له: فالله لا يَهتَّم للحالة الّتي كُنتَ عليها أيّها الإنسان مِـن قَبل، فَما يَهمُّه هو أنتَ في الحالة الّتي أنتَ عليها اليوم. إنّ الله يَطرح عليك سؤالاً واحدًا هو: هل تريدني أَم لا؟ فإذا قَبِلتَ به، سَيَكون لديه شَرطٌ واحد وهو أن تَقبل حبَّه لكَ. إنّ الله لا يَفرِض حبَّه على الإنسان، بل يَتقرَّب منه طالبًا إليه أن يَقبَل حبَّه. إنّ الإنسان الّذي يشعر أنّه محبوبٌ مِن الآخَر، يُدرِك قيمةَ وجوده. إنّ الإنسان الّذي يُحِبّ، يَشعر بِرغبةٍ دائمةٍ في الذَّوبان في المحبوب والاتِّحاد به، والتَّضحيّة في سبيله. فَكُلَّما ازداد حُبُّكَ، كلَّما ازداد عطاؤك. عندما يَصِل حبُّك إلى المطلَق، سَيَصِل عطاؤك إلى المطلَق. إنَّ أكثر عطاءٍ مُطلَق هو بَذِل النَّفس، وهذا ما قام به الربّ يسوع حُبًّا بالبشر. لاحظوا هذه الشَّمعة الّتي أمامكم، فإنّه على الرُّغم من أنّ حجمَها يتناقَص إلّا أنَّ ضوءها يزيد ولا يتناقص أبدًا. إنّ الشَّمعة تُضيء لا مِن أجل ذاتها، بل مِن أجل إفادة غيرها. إنّ الشَّمعة لا تَنطَفِئ إلّا متى ذابَت حتّى النِّهاية، عدا ذلك فإنّ نورَها لا يتوَّقف إلّا إذا قام أحدَهم بإطفائها وعندئذٍ تُحافِظ على حجمِها ولا تعود تَتناقَص بعد ذلك. إنَّ الربَّ يسوع قد أخذَ على عاتقه أن يُضيئَك أيّها الإنسان، وهذا يعني أنّه اختار أن يَتناقَص على الدَّوام مِن أجل أن يُشِّع فيكَ للآخَرين. إنّ مشروع الله لا يتوقَّف في البشريّة، ولم يتوقّف بِسَبب الّذين قَتلوا الربَّ يسوع، بل على العكس من ذلك، فالله قد دَفَقَ في الربِّ يسوع كلَّ سِرِّ القيامة والحياة. لقد تمكَّن الرُّسل مِن فَهم سِرِّ القيامة، حيث قال بولس، نيابةً عنهم، في إحدى رسائله: “الموت يجري فينا، والحياة فيكم”. إنَّ هذا كُلَّه موجودٌ في صلاتِنا، وفي إيماننا وفي حياتنا الرُّوحيّة، وبالتّالي علينا فقط تصحيح مسار تفكيرِنا تجاه إلهِنا.
إخوتي، هل جئتُ اليوم من أجل تعزِيَتِكم؟ لا! لقد استعملتُ هذه العبارة الكِتابيّة، كي أتمكَّن من اللِّقاء بِكُم. أنا جئتُ من أجل حَذفِ النُّقطة مِن كَلِمة “عزّوا”؛ أنا جئتُ كي أُعرِّيكم كي تتمكنَّوا من رؤية أنفسِكم أمام الله الحيّ بِشَكلٍ واضحٍ، فَتَفهموا المصيبة الّتي أنتم فيها، وتَتمكَّنوا مِن مواجهَتِها. هل ستُلغونها؟ وَهمٌ! مَن المسؤول عن المصيبة حتّى يُلغيها؟ هل الله هو المسؤول عنها حتّى تطلبَ إليه أن يُلغيها؟ إخوتي، ما نعيشه اليوم في وَطنِنا، هو مسؤوليّةُ كلُّ واحدٍ منّا لأنّه لم يَقم بواجبه الانتخابيّ حين أُتيحَت له الفُرصة في تغيير مسار البلاد. هذا في قراءةٍ سطحيّة للواقع. أمّا في العمق، فَكَيف تستطيع أيّها الإنسان أن تُصحِّح الآخَرين إنْ كُنتَ تَعيش في الفساد وتَعمَد إلى رشوة جابي الكهرباء لتَصحيح فاتورَتِك بما يتناسبُ مع أهوائك؟ إخوتي، كما أنتم، يُولَّى عليكم.
إذًا، هل نستطيع بعد أن نُطالِب الله بالتَّدخل لِحَلِّ الوضع الّذي نَعيشه في وطنِنا؟ أقولُ لَكُم إنّ الله قد تَعِب مِن كَثرة التَدَّخل، غير أنّنا للأسف نبقى عاجزين عن رؤية تدّخلاته والشُّعور بها، لأنّها لا تَتناسب مع ما نرغب في رؤيته وسماعِه والشُّعورِ به. إذهبوا وابحثوا عن إلهٍ غير الّذي تعبدونه لأنّ الله الّذي تعبدونه، يقول لكم: “عزّوا عزّوا شعبي!”. في الوقت الّذي ترَون فيه أنّ كلّ الأمور سوداويّةٌ أمامكم، وأنَّ اليأس قد استولى عليكم، ولا تَرون في ما يَحدُث أيَّ بَصيصَ أملٍ أو رجاء، يأتي إلهكُم إليكم ليَقول لكم إنّه سيُغيِّر الدُنيا كُلِّها. عندئذٍ تسألونه: كيف يكون هذا؟ وعندما تسألون الله: “كيف؟”، تكونون في حالةٍ مِن حالَتَين:
– إمّا مِثل زكريّا، وفي هذه الحالة مِن الأفضل لكم أن تخرسوا إلى أن يتحقّق ما وعد الله به، فيُولَد يوحنّا؛
– وإمّا أن تكونوا مِثلَ العذراء مريم، فيَشرَح لكم الربّ كيف سيُحقِّق التَّغيير في الأمور مِن حولِكم.
ولكنَّ الأكيد أنّ الله سيُغيِّر الأمور مِن حولِكم. قد يقول لي البعض مِنكم: مَتى سيَكون هذا: أعندما نموت، ونَنتَقِل من هذه الدُّنيا؟ ما هَمُّكَ إذا غيَّر الله الأمور منِ حولِكَ، قَبل انتقالِكَ من هذا العالم أو بَعدَه! فالمهمّ أن تكون دائمًا على استعدادٍ للقاء الربّ. أيّها الإنسان، إنّك تُصلِّي وتطلب من الله على الدَّوام أن يأتي ملكوتَه، وعندما تشعر أنّ ملكوتكَ سيأتي قريبًا، تموت مِن الرُّعب! قد يقول لي البعض إنّ ساعة نهاية العالم، قد اقتربَتْ والدَّليل هو ما نسمعه مِنَ العُلماء الفَلَكيِّين عن الزّلازل. إخوتي، إن صَدَق هؤلاء في تنبؤاتهم، فهذا يعني أنّ العِلم قد تطوَّر إلى حدِّ معرفة ما سيَحدث على كوكَبنا من خلال حركة بَقيّة الكواكب. إخوتي، مهما كانت مشاكِلُكم عظيمةً، فإنّ الربَّ سيُعزِّي قلوبَكم بالأدوات الموجودة لديه لا بالأدوات الّتي تريدون منه استعمالها، وغير الموجودة عندَه. إنّ الله سيَمنحُكم القوّةَ الّتي لديه، لا القوّةَ الموجودة في هذا العالم. في هذا الإطار، أودّ أن أُخبركم عن طبيبٍ مات انتحارًا، لأنَّه لم يتمّكن من أن يجد السَّعادة في هذا العالَم، وهو قد أقرَّ في الرِّسالة الّتي كتَبَها قُبَيل انتحاره أنّه فَشِلَ في إيجاد تلك السَّعادة لأنّه بَحَث عنها في الأماكن الخاطئة. إخوتي، اسمحوا لِكَلمةِ الله أن تَدُّلَكم على الأمور الّتي تَبحثون عنها. إخوتي، أُنظروا إليّ، فإنّني كي أَتمكَّن من الوصول إليكم، قد عانَيتُ من مشَّقاتٍ كثيرة، ولكنْ ما دَفعني إلى تَخطِّيها هو رغبتي في رؤيتكم، خصوصًا بعد مرور زمنٍ طويل لم نتمكّن خلاله من التّلاقي. وهنا نَطرح السُّؤال: ألا يُشكِّل لقاؤنا اليوم مَصدر تعزيةٍ لَكم؟ قد يقول البعض إنّ هذا اللِّقاء لا يستحقّ القيام بِكُلّ هذه التَّضحيات، ولكنِّي أقول لكم: إنّ مجيئي إليكم ولقائي بكم هو تعزيةٌ من الرُّوح لكم ولي أيضًا. إخوتي، هناك تعزياتٌ مِن الله تَلمس الإنسان، لا يعرِفها أحدٌ إلّا الإنسان نفسَه وبالتّأكيد الربُّ الّذي أرسلها له، ولا يعلم بها المحيطين بهذا الإنسان. هل تعلمون إخوتي أنّ الربّ قادرٌ على إعطائكم تعزيّاته حتّى في قلب المحنة، كَمَوت عزيزٍ على قلبِكم، نتيجة مرضٍ على سبيل الـمِثال. إخوتي، بالطَّبع لا نستطيع إلغاء الموت ولا الـمَرض، ولكن في قلب هذا الحدث الأليم، قد نكتشف تَعزيات الله لنا مِن خلال الأشخاص المحيطين بنا. فمَهما طال وقت الغيمة السّوداء، فإنّها في النِّهاية ستَزول حين يهطل الـمَطر. فلتَرمِ كلّ تلك الغيوم السَّوداء ما لديها، حتّى تنتهي. إخوتي، إنّ كلامي هذا لا يُشكِّل طوباويّةً مزيّفة، لأنَّني لا أطلبُ منكم أن تتجاهلوا المدفوعات المستحقّة عليكم؛ بل أن تجتَهدوا كي لا تنجح الأوضاع السيئة الّتي تعيشونها في تغييركم من الدَّاخل، لأنَّه عليكم ألّا تَنسوا أنّ الله يَعمل مِن أجل خَيرِ أحبّائه. وبالتّالي، إن كُنتَ لا تستطيع تغيير الدُّنيا من حولِكَ، فلا تَسمح لها بأنْ تُغَيِّرك وتُبعِدَكَ عن إيمانك، ولا تسمح لها أيضًا بأن تدفعك إلى الشَّك في وجود الله معكَ وفي محبّةِ الله لكَ وفي مقدرته على تغيير ما حولِكَ.
“عزّوا عزّوا شعبي، يقول إلهكم”، “أَعِدّوا طريقَ الربِّ، واجعلوا سبُلَه قويمةً”.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.