الرياضة السنويّة 2024 بعنوان: “إنّ كلّ ما طَلبْتم من الآب بِاسمي يُعطِيكم” (يو 16: 23)
المركز الرّوحيّ – زوق مكايل، كسروان.
الموضوع الثاني: “علّمني أن أصلّي”
الخوري جوزف سلوم،
تحيّةٌ لكم إخوتي الموجودين معنا اليوم، وأشكُركُم من كلّ قلبي على وجودكم. كما أُحيِّي أيضًا الموجودين معنا عَبر شاشات التَّواصل الاجتماعيّ، أكانوا في لبنان أم في بلاد الانتشار.
بدايةً، علينا أن نضع إطارًا لهذه الرِّياضة الرُّوحيّة الّتي نُشارك فيها اليوم، وذلك مِن أجل الدُّخول في علاقةٍ أعمق مع الربّ.
إنّ حديثَنا اليوم في هذه الرِّياضة يتمحور حول عنوان: “يا ربّ، علِّمنا أن نُصلِّي”. وهذا الحديث سيتألَّف من مُقدِّمةٍ وثلاث أفكار.
يُقال إنَّ الاستماع إلى الكاهن حين يُلقي عِظةً أو حديثًا، يُشبِه الصُّعود إلى الطائرة. فَقَبْل الاقلاع، يَطلُب قبطان الطَّائرة إلى المسافِرِين معه في الرِّحلة شدَّ الأحزمة، ثمّ يَطلُب إليهم فَكَّها حين يُصبحون في الفضاء؛ ثمَّ يطلب إليهم إعادة رَبط أحزمتهم عند دخول الطَّائرة في مَطبَّاتٍ هوائيةٍ، ثمَّ عند الهبوط. كذلك المؤمِن عند إصغائه إلى الكاهن، يختبر ما يختبره المسافر، إذ يربط الأحزمة عند بدء العِظة، فيُصلِّي في قلبه كي لا يُطيل الكاهن الكلام، كما يُصلِّي أيضًا كي يتمكَّن بمعونة الله مِن فَهم كلّ ما يقوله الكاهن. وكما يتمنَّى قبطان الطَّائرة للمسافِرين معه رِحلةً ممتعةً، كذلك أنا، أتمنَّى لكم رِحلةً ممتعةً في هذا الوقت.
المقدِّمة: في بداية حديثنا اليوم، لا بُدَّ لنا من أن نَطرح السُّؤال على ذواتنا: ما هي الصَّلاة؟
الصّلاة هي أن أرفعَ نَفْسي إلى الله، أي أن ألتَمِسَ وَجهه. في المزامير، يقول لنا الله: “أُطلبوا وَجهي”(مز27: 8). هذه هي الصّلاة: أن أطلبَ وَجه الله: “وَجهَكَ يا ربُّ ألتمس”(مز27: 8). إذًا، الصّلاة هي الاكتفاء بالنَّظر إلى وجه الله الّذي منه تأتي كلّ الصَّالحات، والقبول بعطاياه. إنّ الصّلاة، كما تقول لنا القدِّيسة تريزيا الطِّفل يسوع، هي وَثبَةُ القلبِ إلى السّماء، القلبُ الـمُمتلئ شغفًا بالله. الصّلاةُ هي الغرق في كيان الله، فنَتَّحد بالله ونُصبح واحدًا معه. الصّلاةُ هي حوارٌ مع الله، وَهِيَ عهدٌ مع الله. الصّلاة هي جوابُ الإيمان على سموِّ الله وحضورِه: أنا أُصلِّي لأنِّي آمنتُ، فيَدخُلَ المؤمِن في علاقةٍ مع الربّ، علاقةِ حُبٍّ واتِّحاد. يُحكى عن شخصٍ كان مثابرًا على دخول الكنيسة بشكلٍ يوميّ لدقيقةٍ واحدةٍ، ممّا أثار استغراب الكاهن؛ فقام هذا الأخير بِطَرح السّؤال على المؤمِن قائلاً له: ما الّذي تُصلِّيه في هذه الدَّقيقة الواحدة؟ فأجاب المؤمِن إنِّي أنظر إلى وَجه الله، وهو ينظر إليّ. إذًا، الصَّلاة هي هذه العلاقة الجميلة الّتي تَربطُ المؤمِن بالله. إنّ الله يُكلِّمنا على الدَّوام مِن خلال الكِتاب المقدَّس، وأنا أُكلِّم الله من خلال الصّلاة. لذلك، تُعتَبر الصّلاةُ نوعًا مِن الثِّقة بعناية الله: فالله يعتني بي، وهو قديرٌ على كلّ شيء.
في كلّ ديانات العالَم، المؤمِنُون يُصلُّون: البُوذيّون يُصلّون، والـمُسلِمون يُصلّون، واليهود أيضًا يُصلّون، وكلُّ واحدٍ منهم لديه أوقاتٌ محدَّدةٌ للصّلاة وطُرُقٌ للصَّلاة يتميَّز بها عن الآخَرين وأعيادٌ دِينيّةٌ خاصَّة بِه. ولكن ما يُميِّز المسيحيّة عن سِواها مِن الأديان، هي أنّها تنظر إلى الصَّلاة ليس أنّها واجِباتٍ دينيّةٌ نابعةٌ من خَوفِ المؤمِن من الله؛ وليس أنّها نتيجة احتياجاتٍ معيَّنةٍ كَشِفاء مريضٍ أو طَلبِ نَحاج فردٍ من أفراد عائلاتنا في امتحاناتٍ مُعَيّنةٍ أو في مسؤوليّةٍ مُعَيّنة، بل تنظر إليها على أنّها صلاةٌ بلا انِقطاع، أي دون تَوَقُّف. في يومٍ من الأيّام، سأل رَجلٌ أصدقاءه عن عدد الـمَرَّات الّتي يُصَّلون فيها في اليوم الواحد. فأجاب الأوَّل إنّه يُصلِّي ثلاث مرَّات في اليوم، في حين أجاب الثَّاني أنّه يُصلِّي مرَّة واحدة في اليوم. فاستغرَب الرَّجُل جواب صديقَه الثّاني، خصوصًا أنَّه يَعلم أنّه مسيحيّ، فسأله عن الـمُدَّة الّتي يَقضيها في الصَّلاة؛ فأجابه أنّها 24 ساعة على 24، أي طِيلَة اليوم. هذه هي صلاتُنا نحن المسيحيِّين، إنّها صلاةٌ بلا انقطاع. إنّ الربَّ يدعونا إلى الصّلاة بِشَكلٍ مُتَواصِلٍ، إذ قال لنا في أماكنَ مختلفةٍ في الإنجيل: “اسهروا وصلّوا”(مر13: 33). هنا، أريد أن أطرحَ عَلَيكُم بعض الأسئلة وأدعوكم للتَّفكير فيها: مَن يُصلِّي؟ متى نُصلِّي؟ كيف نُصلِّي؟ لماذا نُصلِّي؟ ماذا نُصلِّي؟ والسّؤال الأخير والأهمَّ: هل أُصلِّي؟ لا أدري إلى أيِّ مدى قد تكون الصّلاةُ فاعلةً، حين نَلجأ إليها في آخر اللَّيل، أي بَعد انتهاء كافَّة البرامج التِّلفزيونيّة، أقول لكم، إنَّ النُّعاسَ سَيكون هو الـمُسَيطر. لذا، إخوتي، أقتَرِح عليكم الصَّلاة خلال النَّهار، أو في ساعاتٍ مُبَّكرةٍ من المساء، كي تتمكَّنوا من الصَّلاة بشكلٍ جيِّد.
أوَّلاً: يسوع يُصلِّي. إنَّ يسوع لم يكن بحاجةٍ إلى الصَّلاة، لأنَّه هو الإله. ولكنَّه عندما أصبح إنسانًا، أصبح بحاجةٍ إلى الصَّلاة. إنَّ مواقِفَ يسوع في حياتِه الأرضيّة، تُظهِر لنا أنّه كان في حالةِ صلاةٍ دائمةٍ من دون انقطاع. مِن حياة يسوع الأرضيّة، نتعلَّم أن تكون “صلاتَنا بلا انقطاع”. لا تُوجَد أوقاتٌ صالحةٌ للصّلاة، وأُخرى غَيرُ صالحةٍ للصّلاة؛ فإنَّ الصَّلاة صالحةٌ في كلِّ وقتٍ، لذا يستطيع الإنسان أن يُصلِّي في فترةِ استيقاظه كما في فترةِ نومه، فيُصبح نَفَسُه صلاةً.
إنَّ يسوع قد تعلَّم الصَّلاة أوَّلاً من أُمِّه. إنّ الأمّ هي أعظم مَدرسةٍ، وكلُّ أُمٍّ تُعلِّم أبناءها الصّلاة في التَّمتمات. إنّ الكلمات الّتي نتلفَّظ بها في أثناء صلاتَنا، هي كلماتٌ علَّمتنا إيّاها أمّهاتنا منذ الصِّغر. إنّ مريمَ ويوسف قد علَّما يسوع صِيَغ الصّلوات اليهوديّة، وقد حَفِظَها يسوع لأنَّها صلاةُ شعبِهِ، وهي كانت تُتلى في أماكن الصّلاة أي في الـمَجمَع والهيكل. أضاع يوسف ومريم يسوعَ البالغ من العُمر اثنَتَي عشرةَ سَنة، لمدّة ثلاثة أيّام؛ وعندما وجداه، أخبرَته أُمّه أنَّها كانت تَبحثُ عنه مع يوسف بِقَلقٍ شديد، فأجابها حينها: “وَلِمَ بَحثتما عنِّي؟ أَلَم تَعلَما أنَّه يَجِب أن أكون عند أبي؟”(لو 2: 49). هذه كانت صلاةُ يسوع! في إنجيل لوقا، نُلاحِظ أنّ الربَّ قد تأخَّر في الكلام لأنَّ أوّل جُملةٍ تَفوَّه بها يسوع في هذا الإنجيل كانت عندما كان في الثَّانية عشرة من عمره، والكَلِمة الأخيرة الّتي قالها يسوع في هذا الإنجيل كانت على الصَّليب حين صرَخ إلى أبيه قائلاً: “يا أبتِ في يَدَيك أستَودِعُ روحي”(لو 23: 46). إنَّ هاتَين الكَلِمَتَين تُعبِّران عن حياةِ يسوعَ الأرضيّة الّتي تتلَخَّص بالكلمة التَّالية: “طعامي أن أعمَل مشيئة أبي” (يو 4: 34). ومِن هذا المنطلق، نجد أنّ يسوع قد صلَّى في الأوقات الحاسمة في رسالته: في المعموديّة، وفي التَّجليّ، وقَبْل اختياره تلاميذه، وعلى الجبل، وفي الخفاء، وفي اللَّيل وعند طلوع الفجر. في المعموديّة، صلَّى يسوع فانفتَحَتْ السَّماوات، وهذا ما يحدث معنا فِعلاً عندما نُصلِّي صلاة الأبانا أو أيَّ صلاةٍ أُخرى. في التجلِّي، صَعِد يسوع مع يعقوب ويوحنا وبطرس إلى الجبل وتجلَّى أمامهم، فكان المشهد مَشهَدًا استباقيًّا للسّماء، إذ رأى التَّلاميذ وجهَ يسوع الـمُنِير. مَن يُصلِّي، يُصبح وجهُهُ مُضيئًا. إنّ يسوع قد صلّى قَبل أن يختارَ تلاميذَه، كما صلّى مرارًا في خلوتِه على الجبل، وفي البحر، وفي اللّيل. هنا، أريد أن أتَوقَّف عند محطَّتَين صلّى فيهما يسوع: المحطّة الأُولى: عندما قال الربُّ يسوعُ لله الآب:” أشكرك يا أبتِ، لأنَّك أخفَيتَ هذه عن الحكماء والفهماء وأظهرتها للأطفال” (مت 11: 25). هذه هي صلاة يسوع. المحطَّة الثّانية: في بستان الزَّيتون، حين كان يسوع يُعاتِبُ تلاميذَه لأنَّهم لم يَقووا على السّهر معه ساعةً واحدة، صلّى لأبيه قائلاً: “أبعِد عنِّي هذه الكأس” (لو22: 42). أنهى الربُّ يسوع هذا الصِّراع الذي كان يعيشه في بستان الزَّيتون بالقَول لأبيه: “لِتَكُن مشيئتُك”(لو22: 42)، وهذه الصّلاة نُردِّدها نحن اليوم أيضًا على مِثال يسوع، عندما نُصاب بألمٍ أو وَجَعٍ. قَبْل قِيامه بأيّ عملٍ أو أعجوبةٍ، كان الربُّ يسوع يُصلِّي. قَبْل إقامتِه لعازر من الموت، تأخَّر الربُّ يسوع في الـمَجيء أربعة أيّام؛ وعندما وَصل إلى بيت عَنيا، لاقته مرتا خارجًا وعاتَبَته قائلةً له: “لو كنتَ هَهُنا لما مات أخي” (يو 11: 21)، ثمّ خرجَتْ مريم أيضًا لملاقاته وعاتَبَته بِدَورِها. فذهب معهما إلى القبر، وقَبْل أن يُقيم أخاهما من الموت، صلَّى إلى أبيه قائلاً له: “أشكُركَ لأنَّك سَمِعتَ لي”(يو 11: 41)، حتّى قَبْل أن تتمّ الـمُعجزة. إخوتي، علينا أن نتعلَّم من يسوع أن نَشكُر الله الآب على كُلِّ نِعمةٍ نريد الحصول عليها حتّى قَبْل حصولنا عليها. أُشكروا الله سَلفًا وكأنَّكم حَصَلتُم على ما كُنتُم تَطلبونه، لأنَّ الله الآب لا يَرِدُّ لنا طلبًا، إن كان يتوافق مع مشيئته. إخوتي، لقد صلَّى يسوع في كلِّ مكان: في بيوت النَّاس، كما صلَّى على الصَّليب. مِن خلال كَلِماتِه السَّبعة على الصّليب، صلَّى الربُّ يسوع إلى أبيه. وإنَّ عبارة “إلهي، إلهي، لماذا تَرَكتَني؟”(متى 27: 46)، الّتي قالها يسوع على الصَّليب هي في الحقيقة صلاتُه لمزمور 22. إذًا، لقد علَّمنا يسوع أن نُصلِّي إلى الله أبيه، كما فَعل هو تمامًا، وأخبَرَنا أنَّ الله سيَستَجيبُ لِصَلاتِنا.
ثانيًا: يسوع يُعلِّم تلاميذه الصّلاة: إنّ التَّلاميذ قد طلبوا إلى الربّ أن يُعلِّمهم الصَّلاة قائلين له:”علِّمنا أن نُصلِّي”. سوف أقرأ على مسامِعِكم نَصًّا من إنجيل لوقا: “وَإِذْ كَانَ يُصَلِّي فِي مَوْضِعٍ، لَمَّا فَرَغَ، قَالَ وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ: “يَا رَبُّ، عَلِّمْنَا أَنْ نُصَلِّيَ كَمَا عَلَّمَ يُوحَنَّا أَيْضًا تَلاَمِيذَهُ”. فَقَالَ لَهُمْ: “مَتَى صَلَّيْتُمْ فَقُولُوا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ، لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ، لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ. خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا كُلَّ يَوْمٍ، وَاغْفِرْ لَنَا خَطَايَانَا لأَنَّنَا نَحْنُ أَيْضًا نَغْفِرُ لِكُلِّ مَنْ يُذْنِبُ إِلَيْنَا، وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ لكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ”. في هذا المشهد، نلاحظ أنّ تلاميذَ يسوع قد طَلبوا إليه أن يُعلِّمَهم الصّلاة لأنّهم كانوا يَرَونه يُصلِّي إلى أبيه بِشَغفٍ. وَهَل هناكَ أفضلُ مِن يسوع ليُعلِّمَهم الصّلاة؟ إنّ الربَّ يسوع هو أفضلُ مُعلِّمٍ وأوَّلُ مُعلِّمٍ للصّلاة. نحن لا نَعرف أن نُصلِّي، فالرُّوح القدس هو الّذي يُصلِّي فينا مِن خلال يسوع. في المزمور 109، نقرأ: “يَا إِلهَ تَسْبِيحِي لاَ تَسْكُتْ، لأَنَّهُ قَدِ انْفَتَحَ عَلَيَّ فَمُ الشِّرِّيرِ وَفَمُ الْغِشِّ. تَكَلَّمُوا مَعِي بِلِسَانِ كِذْبٍ، بِكَلاَمِ بُغْضٍ أَحَاطُوا بِي، وَقَاتَلُونِي بِلاَ سَبَبٍ. بَدَلَ مَحَبَّتِي يُخَاصِمُونَنِي. أَمَّا أَنَا فَصَلاَةٌ. وَضَعُوا عَلَيَّ شَرًّا بَدَلَ خَيْرٍ، وَبُغْضًا بَدَلَ حُبِّي.”(1- 5). إنّ صاحب المزمور يُصلِّي إلى الله، وهو مُدرِكٌ أنَّ الله سيَستَجيب له. إنّ كلام هذا المزمور يَبدو كأنَّه كلام يسوع إلى أبيه. إنَّ صاحب المزمور يدعونا إلى عدم التَّفاعل مع الشَّر والبُغض إلّا بالمحبَّة، لأنّه كما يقول لنا في الآية 4، لسنا إلّا صلاة.
إنّ الربَّ يسوع علَّم القدِّيسِين الصّلاة، وهو يُعلِّمنا اليوم أيضًا الصّلاة، لذا سوف أتوقَّف عند خمس أفكارٍ مُستوحاةٍ مِن روحانيّة القدِّيسة تريزيا الطِّفل يسوع:
1- إذا أردتَ أن تُصلِّي، اِبحَثْ من دون أن تتعب. وهذا يعني أنّه في الصّلاة، على المؤمِن ألّا يشعر بالضَّجر أو التَّعب أو الملل. عندما كنتُ أُحضِّر موضوعَ الرِّياضة الشَّهريّة الّتي أُقيمها في رعيّتي، اقترَحتُ أن يكون عنوانها: “ناوِلني”، وقد استَوحيت هذا العُنوان مِن المحلّات الصَّغيرة الموجودة على الطُّرقات، الّتي تَعمل على تلبية حاجات الزَّبائن بسرعة. إنّ مشكلة الإنسان تكمن يا إخوتي، في أنَّه يريد الحصول على كلّ ما يريد بِسُرعةٍ، لأنَّه لا يُطيق الانتظار. يُخبِرون أنَّ رَجُلاً كان في حالةِ صلاةٍ دائمةٍ، واتِّكالٍ دائمٍ على الله. وهذا الوضَع أثار استغراب رِفاقَه، فبادَروه بالقَول: أَلَم تَضجر مِن الصّلاة؟ ما الّذي ستَجنيه منها؟ فلَم يُجِب بِكَلِمة. وفي يومٍ من الأيّام، أُصيب هذا الرَّجل بِمَرضٍ عظيم استَوجَب دُخوله إلى المستشفى. فجاء رفاقه إلى المستشفى لزيارته، وقد وَّجهوا إليه الملامة قائلِين له: أين هو إلهُكَ الّذي تُصلِّي إليه باستمرار؟! لقد تَرَكَك! فَهو لم يَستَجيب لكَ ويَشفيكَ. وما إنْ انتهى زوّارُه مِن الكلام، حتّى وَجدوه في حالةِ صلاة، إذ رآوه مبتَسِمًا. فسألوه عن سبب ابتسامتِه، فقال لهم إنّه حين كان في حالةٍ صحيّة جيّدة، كان يَدخل إلى الكنيسة ويُحَيي الله قائلاً له: “الله معكَ يسوع، أنا فُلان”. وها هو الآن يسوع، قد حَضَر إليه إلى داخل المستشفى، ليُحَييه، قائلاً له: “الله معك يا فلان، أنا يسوع”، ولذلك هو يبتَسم الآن، لأنَّ يسوع لم يَنسَه، وقد مرَّ به. إذًا، إخوتي، لا تَتعبوا مِن الصّلاة، ثابروا عليها، واجتهدوا فيها، واعطوها وقتًا ولا تستَعجِلوا ذواتَكم للانتهاء منها. للأسف، إنَّ المؤمنِين غير مُعتادِين على الإطالة في الصّلاة.
قَبْل البدء بالصّلاة، اِبحث أوَّلاً عن مكانٍ مناسبٍ للصّلاة، وهذا المكان ليس بالضَّرورة أن يكون على الدَّوام غرفة النَّوم.
ثانيًا: اِبحث عن زمانٍ للصّلاة، إذ لَيسَ مِن الضرّوري أن يكون وقت الصّلاة دائمًا في آخر اللَّيل.
ثالثًا: اِبحث عن طريقة للصَّلاة، إذ ليس من الضرَّوريّ أن تكون الصّلاة الّتي تتلوها، هي صلاة المسبحة، أو صلواتٍ حَفِظتَها عن ظهر قلب. اسمحوا لي أن أُعطيكم طريقةً جديدة للصّلاة تنطلق من أصابع اليَد الخَمسة. عندما تنظر إلى الإبهام، صلِّي من أجل الأشخاص القَريبين منكَ. عندما تَنظُر إلى السُّبابة، صلِّي من أجل كلِّ الّذين كانوا مُعلِّمِين لكَ في هذه الحياة. عندما تَنظُر إلى الوُسطى، صلِّي من أجل المسؤولِين في الكنيسة والمجتمع المدنيّ. عندما تَنظُر إلى البُنصُر، صلِّي من أجل كلّ المرضى، والـمُصابين بإعاقاتٍ مختلِفة. عندما تَنظُر إلى الخُنصر، صلِّي من أجل الصِّغار. إخوتي، إنّ الـمُرائِين والفريّسيّين كانوا يُكثِرون الكلام في أثناء صلاتهم ويجلسون في المقاعِد الأماميّة لِكَي يراهم النَّاس، أمّا نحن فلا نُصلِّي كذلك. وهنا، نتذكَّر نصّ الفرِّيسيّ والعشَّار، فالفرِّيسيّ جلس في الصُّفوف الأماميّة وبدأ يرفع الشُّكر للربّ لأنّه أفضل القوم، أمّا العشَّار فجلس في الصُّفوف الخلفيّة إذ لم يَجرؤ على الاقتراب لأنّه يُدرِك أنّه إنسانٌ خاطِئ. إذًا، إخوتي، نحن مدعوّون إلى تطوير اختبارنا واتِّحادِنا بالربّ.
2- إذا أردتَ أن تُصلِّي، أعطي للربّ زاويةً في حياتِك. أَشكُر الله لأنّه في غالبيّة البيوت الّتي أزورها، أرى زاويةً للصّلاة، تَضع فيها العائلة الكتاب المقدَّس، إضافةً إلى أيقونةٍ أو تمثالٍ لقدِّيس. وإنّي أقول لأصحاب البيوت الّتي لا توجد فيها هذه الزَّاوية: إنّ البيت الّذي يسكنون فيه، فيه غُرف كثيرة، مقسَّمة واحدة للخَدَم، وأخرى للأولاد، ألا يستطيعون تخصيص غرفةٍ واحدة للصّلاة، أو تخصيص زاويةٍ لذلك. إخوتي، اجعلوا من بيوتكم كنائسَ صغيرة. اصنَعوا عُليَّةً صغيرةً لله في بيوتكم. إنّ هذه الزاوية المخصَّصة لله، يجب ألّا تكون فقط في بيتِكَ، إنَّما أيضًا في حياتِكَ الخاصّة وفي قلبِكَ أيضًا. عندما تُصلِّي، سلِّم ذاتَك إلى الله. اجعَلْ حياتَكَ كُلَّها بين يَديّ الرَّبّ: سلِّمه أفكارَك، ومشاريعَكَ وأعمالَك، وأفراد عائلَتِكَ. وفي هذا الإطار، نتذكَّر بولس الرَّسول الّذي كان يُشدِّد على أنَّه يحيا في المسيح مِن خلال تكراره لعبارة “في المسيح” أكثر من خمسة وأربعين مرَّة في رسائله الثلاثة عشرة.
3- إذا أردتَ أن تُصلِّي، اِنزِل إلى قلبِكَ. أُدخل إلى داخِلك، ولا تُصلِّ أمام الجميع. فداخلُكَ هو مَكانُ العهد، إنّه مكان اللِّقاء بينَكَ وبَينَ الربّ، إنّه مكانُ الحِوار بَينَك وبَينَه. إخوتي، لا نريد أن نكون على مثال الشَّعب القديم الّذي كان يُكرِّم الربَّ بشفتَيه، ولكنَّ قَلبُه كان بعيدًا عنه. إنّ الله يُريد قلبًا مستَعدًّا، وهذا ما نردِّده في المزمور قائلين: “قَلبي مُستَعدٌّ يا الله،…، سأستيقِظ سَحرًا” (مز 107). إنّ الله يريد قلبَك، فأَعطِه إيّاه. إنّ الله يُريد قلبًا نقيًّا، قلبًا متواضعًا مُنسحقًا، وديعًا وطَيِّبًا، على مِثال قلبه الأقدس. في القديم، كان المصرِّيون يقومون بالرَّسم على وجوه أحبّائهم الموتى بالحديد أو النُّحاس، كي يتمكَّنوا من معرفتهم في اليوم الأخير. ولكن قَبْل القيام بذلك، كانوا يقومون بِنَزع قلوب أحبّائهم ويضعونها على الميزان، فإذا كان قلب الفقيد أخفّ من الرِّيشة، فهذا يعني أنّه إنسانٌ طيِّب وبالتّالي يستحقّ الحياة مع الله. إذًا، إخوتي، فلنسعَ كي نكون طيِّبي القلب، لأنّ الله يريد قلبًا تائبًا، قلبًا حارًّا، فيَجتَذِبُه إليه، لا قلبًا فاترًا فيتقيَؤه مِن فَمِه، كما يقول لنا الربّ في سِفر الرُّؤيا.
4- إذا أردتَ أن تُصلِّي، يجب أن تأكل الإنجيل:”خُذ الكِتاب وابَتَلِعه” (رؤ 10: 9). هناك عدَّة أنواع من الصّلاة: صلاة المسبحة، وغيرها من الصّلوات. ولكن أجمل صلاة يمكن للإنسان تلاوتها هي قراءته للكتاب المقدَّس. ضَع الكِتاب المقدَّس على مائدَتَك، فالربُّ يقول لنا: “ليس بالخُبز وحده يحيا الإنسان، بل بِكُلِّ كَلِمةٍ تَخرُج من فَمِ الله” (متى 4: 4). كان اليهود قديمًا يعلِّمون أحفادهم كلمة الله أي التَّوراة، من خلال إجلاسِ أحفادِهم في أحضانهم وتلاوة كلمة الله عليهم، وكانوا يُغمِّسون إصبع حَفيدهم بالعَسل بين الحين والآخر، ليتمكَّن هذا الأخير من إدراك أنَّ كلمة الله أشهى من العسل. إنّ كلمة الله تُصبح للمؤمِن طعامًا شهيًا، وهي قادرة على الوصول إلى كُلِّ إنسان. إنّ الرُّوح يُصلِّي فينا، ويساعدنا على تذوُّق كلمة الله، أي كلمة الملكوت.
5- إذا أردتَ أن تُصلِّي، صلِّ المزامير. إنّ أجمل صلاة اعتمدَتْها الكنيسة في كلّ الصّلوات الطقسيّة هي صلاة المزامير، فكتاب المزامير على 150 مزمورًا، تتناسب مع كلّ الحالات الّتي يمكن للإنسان أن يختبرها، إذ تتضمَّن تسابيح ومدائح لله، كما تتضمّن اختبارات توبة وغفران، واختبارات لرحمة الله ومحبَّته للبشر. إنّها أهمّ مادّة للتأمُّل. إنّ المزامير هي أيضًا مَدرسةٌ كبيرةٌ، إذ تحتوي على صرخات المؤمِنِين الَّذين يترَّجون الخلاص من الربّ، كما تفتح أمامهم آفاقًا كبيرة على الخير. إنّ المزامير تتضمَّن صلوات تعبِّر عن أفراح النَّاس وآلامِهم، عن شكوكِهم ومرارتِهم وأيضًا عن رجائهم وأملِهم بخلاص الربّ لهم. إليكم إخوتي، طريقةٌ جديدة للصّلاة، يمكنكم الاستعانة بها، إذ لم يَكن لديكم متَّسعٌ من الوقت للصَّلاة. هذه الصّلاة تَحتوي على خمس نقاط على عدد أصابع اليَد الواحِدة: 1- bonsoir: أي الوقوف أمام الربَّ، وإلقاء التحيّة عليه، قائلين له: ها نحن أمامك يا ربّ. 2- merci: في هذه المرحلة، نشكر الله على كلّ النِّعم الّتي منحنا إيّاه، وكَم هي كثيرة الأمور الّتي علينا أن نشكرَه عليها! 3- pardon: هنا علينا أن نطلب السَّماح من الله على كلّ الأمور الّتي اقترفناها ولم تكن تُرضيه. 4- s’il te plait: في هذه المرحلة، أطلب من الله كلَّ ما أرغب فيه من شفاء مريض، أو نجاح في امتحانٍ معيَّن، وسواها من الأمور. 5- تلاوة صلاة الأبانا.
ثالثًا: “أمّا أنتم فإذا صلَّيتم، فقولوا أبانا”: في زيارتي للأراضي المقدَّسة، صَعِدتُ إلى الجبل حيث علَّم الربُّ يسوع تلاميذه صلاة الأبانا، فوَجدتُ أنّ الآباء الفرنسيكانيِّين قد أسسّوا كنيسةً في المكان، ومِن المستغرب أنّ هذه الكنيسة هي بلا سقف، وعندما أحد الرُّهبان عن ذلك، قال إن هذه الكنيسة هي بلا سقف، كي يتمكَّن المؤمنون من رؤية السَّماء لا السَّقف، عندما يُصلُّون إلى الله ويرفعون رؤوسهم صوب العُلى، فالسَّماوات هي مفتوحةٌ دائمًا للمؤمنِين. لا يمكنك أن تُصلِّي، إن لم تكن تشعر ببنوَّتكِ لله: أنتَ ابنٌ لله. لا يمكنُكَ أن تُصلِّي إن لم تسمح للرُّوح القدس بأن يملأ كيانِكَ. لا يمكنك أن تُصلِّي إن لم تكن تمتلِك قلبًا نَقيًّا، فتَقف أمام الله من دون عيب، أي بلا خطيئة. لا يمكنك أن تُصلِّي من أجلِكَ فقط، بل عليك أن تُصلِّي أيضًا من أجل الآخَرين. لا يمكنك أن تُصلِّي من دون أن تكون قد هيّأتَ عِليَّتك الخاصَة لذلك، فتلتقي فيها مع الربّ. لا يمكنك أن تُغامر مع الله، إن لم تُعطي وقتَك بمجانيّة لله، فتنسى كلّ ما هو حولَك.
إنّ صلاة الأبانا الّتي علَّمنا إيّاها الربَّ يسوع، هي خلاصةُ كلّ الإنجيل، إنّها صلاة المسيحيِّين، صلاة القدِّيسين، صلاة الكنيسة. أودَعنا إيّاها الربّ يسوع جوابًا عن طلب التَّلاميذ، “علِّمنا أن نُصلِّي”. إنَّ هذه الصّلاة تحتوي على سَبع طِلبات:
– ليتقدَّس اسمك: عندما نتلو هذه الطِّلبة، فهذا يعني أنّنا ندخل في تصميم الله، فنُقَدِّس اسمه بين الأُمَم.
– ليأتِ ملكوتَكَ: بهذه الطلبة، نعترف أنّ نموّ ملكوت الربّ على هذه الأرض مرتبطٌ بِعودته في المجيء الثاني.
– لِتَكن مشيئتك: بهذه الطِّلبة، نطلب أن تتحقَّق مشيئة الله فينا لا مشيئتنا، فتكون مشيئته في السَّماء كما في الأرض.
– أعطنا خبزنا كفاف يومنا: من خلال هذه الطِّلبة، نُدرِك أنّ لله هو خبَّازٌ ماهرٌ، لأنَّه يُعطي المؤمنِين به حاجتهم الأرضيّة في حينها. وهذا يُعبِّر عن ثقتنا بالله.
– اغفر لنا ذبوبنا كما نحن نغفر لِمن أساءنا إليهم: من خلال هذه الطِّلبة نطلب رَحمة الله علينا.
– لا تُدخلنا في التَّجربة، أو بالحريّ لا تسمح أن ندخل في تجربة.
– نجنّا من الشّرير: من خلال هذه الطِّلبة نؤكِّد أنّ الغلبة هي لله، لذا نحن مدعوون إلى مقاومة كلّ فِعلِ شرٍّ في هذه الدُّنيا.
أنا أشكركم من كلّ قلبي على إصغائكم. رياضة مباركة.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.