الرياضة السنويّة 2024 بعنوان: “إنّ كلّ ما طَلبْتم من الآب بِاسمي يُعطِيكم” (يو 16: 23)
المركز الرّوحيّ – زوق مكايل، كسروان.
“مَن أراد أن يتبعني، فليَحمل صليبه يتبعني”(لو 9: 23)
الأب دومينيك العلم المريميّ،
أحبّائي، الله معكم.
في هذا الوقت المبارك، الّذي فيه نُشارك في هذه الرِّياضة السَّنوية، نبني مسيرة سَنةٍ قادمة. في هذه الرِّياضة السَّنوية، نتأمَّل في كلمة الله، ونتوب إليه ونطلب منه الغفران، كما نسعى إلى مسامحة الآخَرين الّذين أساؤوا إلينا ونطلب الغفران مِن الّذين أسأنا إليهم. وفي هذه الرِّياضة السَّنوية، سنَعمل على وَضع خطَّة طريقٍ لنا لمدَّة سنة، نُحدِّد فيها أهدافنا الّتي نريد الوصول إليها خلال هذه السّنة. في هذه الرِّياضة السَّنوية، علينا أن نطرح الأسئلة التَّالية على ذواتنا: هل نريد البقاء في مكاننا، أي البقاء على ما نحن عليه، حتّى وإن كُنّا أشخاصًا صالِحين في نَظَر أنفسِنا؛ أم أنَّنا نرغب في السَّير قُدُمًا، حتّى ولو كانت خُطوةً واحدة ثابتةٍ نحو الأمام؟ إلى أين نريد الوصول في هذه الخُطى الثّابتة، ومَن سيُرافِقُنا على هذه الطريق؟ هل سنَسير وَحدَنا في هذه الطَّريق، أي بِمَعزلٍ عن الجماعة؛ أمْ أنّنا نريد السَّير مع الجماعة الـمُصلِّية؟ هل نريد السَّير مع ملاكِنا الحارس الّذي احتفلَتْ الكنيسة في عيدِه أمس؟ هل نريد السَّير بِنِعمة الله؟ هل نريد السَّير مع السِّر، طالِبِين مِن العذراء أن ترافِقَنا وأن تكون ساهرةً علينا؟ في فترة الصَّمت والتَّأمُل الّذي سنَعيشُه اليوم، علينا أن نفكِّر في كلّ هذه الأسئلة، فنَضع مخطَّطًا لِذواتِنا طالِبين من الربّ أن يساعدنا على تَشذِيب ذواتنا، خصوصًا في فترة الصَّوم هذه، فنقسو على ذواتنا كما نقسو على الكرمة، ونقتلع منّا كلّ ما هو ضعيف فينا، فنتقوَّى وننمو بنعمة الله.
سوف أتوَّقف في تأمّلنا اليوم عند الآية الأولى من هذا النَّص الإنجيليّ الّذي تُلِي على مسامِعنا اليوم: “مَن أراد أن يتبعني، فليُنكر نفسَه ويحمل صليبَه ويتبعني”(لو 9: 23). مِن خلال هذه الآية، أُريد أن أتكلَّم على الصُّلبان الكثيرة الّتي نحملها في حياتنا. إنَّ كلَّ واحدٍ منّا يَحمِل صليبًا ثقيلاً عليه أو حتّى أَثقَل منه في بعض الأحيان، ولكن بالطَّبع ليس أخفّ منه.
عادةً، الصَّليب هو شيءٌ يوجِع، ويَخنُق ويُضايِق. إنّ الصُّلبان أنواعٌ منها الجسديّة، ومِنها الاجتماعيّة، ومنها الرُّوحيّة، ومنها الأخلاقيّة.
إنّ الصُّلبان الجسديّة نعرفُها جميعُنا: يُرسِلها الربُّ إلى أُناسٍ مُعيّنين، يختارُهم بالاسم كي يكونوا شُركاء معه في الفِداء، بطريقةٍ مباشرة. إن استطاع هؤلاء الثَّبات في إيمانهم على الرُّغم من الأوجاع والمعاناة الّتي يحملونها في أجسادِهم، فإنَّهم سينالون الملكوت سريعًا. مِن هؤلاء مَن لا يستطيع احتمال الأوجاع فيكفرون بالله، كما قد يصل الأمر بالبعض منهم إلى حدّ الانتحار. ولكن، نحن كمؤمِنِين بالله، لا نسير في هذا الخَطّ، بل في خطٍّ مغاير لهؤلاء، إذ إنَّ خَطَّنا هو خطٌّ مسيحانيّ يقوم على افتداء العالَم، لأنّنا نُكمِل في أجسادنا ما نَقُصَ من آلام المسيح على الصَّليب. هذا هو الصَّليب الجسديّ: صليب الوَجع والألم والعاهات الجسديّة والنَّقص الجسديّ.
هناك صليبٌ آخر هو الصّليب الماديّ: في ظلّ هذه الظّروف، أعتقد أنّنا جميعنا نحمِله في حياتنا اليوميّة. هذا الصَّليب هو صليب الحاجة. في هذه الحياة، نقوم بِكَسرِ قرابينِنا من أجل تأمين لُقمة العيش الكريم، ومِن أجل سَدِّ حاجات أولادِنا وتأمين العِلم لهم والمستَقبل الجميل، ومِن أجل سدِّ حاجات مَرضانا مِن خلال العمل على تأمين الأدوية لهم. كلُّ إنسانٍ منّا مسؤولٌ عن آخرين، يتوجَّب عليه الاهتمام بهم، وتأمين حاجِياتهم، لأنّ الأشخاص الّذين نعيش معهم هُم وزناتٌ سلَّمنا إيّاها الربّ. في العائلة، نحن مسؤولون عن الأشخاص الّذين نعيش معهم تحت سَقفٍ واحد، إنّهم وزناتٌ أُعطيَت لنا من الربّ، ونحن مسؤولون عن نموِّهم بالقامة والنِّعمة والحِكمة ليس فقط أمام الله، بل أيضًا أمام النَّاس، وبالتّالي نحن مسؤولون عن تأمين حياةٍ كريمة لهم يعيشون فيها مرتاحين، فيَظهرُ ذلك للآخَرين. إنّ هذا الصَّليب يتطلَّب من حامِلِه إنكسارًا في بعض الأحيان، وحرمانًا من النَّوم، ويشعر حامله بِالهَمِّ الّذي يدّق بابه في كلِّ يومٍ، إذ يقلق مِن أجل تأمين المدفوعات الّتي تستحقّ عليه في سبيل تأمين حياةٍ لائقة لأفراد أُسرَتِه. إنّ هذا الصَّليب يتضمَّن وجعًا هو وَجعٌ ماديٌّ.
هناك صليبٌ آخر هو الصَّليب الرُّوحيّ: إنّ هذا الصَّليب قد اختبره القدِّيسون الّذين تاهوا في الصَّحارى، فهؤلاء لم يكن لديهم مُعلِّمون روحيّون كُثُر. إنَّ هؤلاء القدِّيسين قد ذهبوا إلى الصَّحراء بَحثًا عن وجه الله، وقد تعذَّبوا كثيرًا، لكنَّهم نجحوا أخيرًا في اللِّقاء به.كان هؤلاء القدِّيسون يُمضون أوقاتهم في البكاء والصُّراخ إلى الله، قائلين: “أين أنتَ يا الله؟”. إنّ هذا الوَجع قد اختبره الربُّ يسوع على الصَّليب، إذ صرَخ إلى أبيه قائلاً: “إلهي إلهي، لماذا تَرَكتَني؟”(متى 27: 46). إنّ الوَجع في هذا الصَّليب يكمن في عدم شعور الإنسان بنعمة الله الّتي تُرافقه. إنّ الربَّ يسمح بهذا الوجع. هنا، نتذكَّر ما حدث مع القدِّيس أنطونيوس الكبير، الّذي كان الشَّيطان يجرِّبه على الدَّوام، وقد زاره في إحدى اللَّيالي، فصارَعه القدِّيس حتّى الصَّباح، حتّى أنهكَه التَّعب، وبدأ العرق يتساقط من وجهه، والخوف يتآكله. وعندما طلَع الفجر، صرخ القدِّيس إلى الله قائلاً: “يا ربّ أين كُنتَ؟ فأنا أمضيتُ طول اللَّيل أُصارع الشَّيطان وحدي”. أجابه الربّ حينها: “كُنتُ أنظر إلى جِهادِكَ يا أنطونيوس”. إنّ الله يسمح في بعض الأحيان، من خلال التَّجربة، بأن يَخِفَّ هذا العطف الرُّوحيّ، الّذي أطلق عليه القدِّيسون الكِبار، أمثال تريزيا الأفيلية ويوحنّا الصَّليب، اسم “اللَّيل الطويل”، هذا اللِّيل الّذي لا يعرف نهايةً. في هذه المرحلة، كان القدِّيسون ينتقلون مِن مرحلة الطُّفولة الرُّوحيّة المليئة بالدَّلال إلى “اللَّيل الطَّويل”، الّذي لا توجد فيه أيُّ تعزيةٍ روحيّة بل جفافٌ لا مثيل له، على الرُّغم من أنّهم كانوا في حالةِ صلاةٍ دائمةٍ نابعةٍ من القلب إذ كانوا يتأمَّلون بكلمة الله من أعماق قلوبِهم، ولكنّهم ما كانوا يشعرون بهذه الحرارة الرُّوحيّة. يقول لنا القدِّيسان العظيمان، تريزيا الأفيليّة ويوحّنا الصّليب، إنّه بعد انقضاء فترة “اللَّيل الطويل”، إذ بَقي الإنسان على إيمانه وإلتزامه بالربّ، فإنّه يصل إلى مرحلة المشاهدة الرُّوحيّة. إنّ المشاهدة الرُّوحيّة تعني أنّه، على الرُّغم من بقائنا في هذا الجسد الأرضيّ، سنتمكَّن من رؤية يسوع وَجهًا لوجه، فإمّا أن نُخطَف إليه وإمّا أن يَظهر الربُّ يسوع لنا؛ تمامًا كما حَدَث مع القدِّيس شربل، فهو كان في مرحلة الانخطاف الرُّوحيّ، فلم يشعر بالصَاعقة الّتي نزلَتْ في غرفة محبَسَتِه، وأحرَقَتْ فراشَه وطَرَف ثوبه. كان القدِّيس شربل إنسانًا سَكرانًا بالله، لذا تمكَّن من أن يتخطَّى الجسد ويصل إلى العِناق الرُّوحيّ. هذا هو الصَليب الرُّوحيّ الّذي علينا أن نَحمِلَه بِفَرحٍ وصَبرٍ، فالله ينظُر إلى جهادِ كلِّ واحدٍ منّا.
أمّا الصَّليب الأخير الّذي أريد التكلَّم عليه اليوم هو: الصَّليب الأخلاقيّ. هذا الصَّليب الأخلاقيّ هو سمةٌ من السِّمات الّتي تميِّز المسيحيِّين ويتزَّينون بها. في انتهاء زمن الصَّوم، أي بعد ثلاثة أو أربعة أسابيع من اليوم، سنتذكَّر مع الكنيسة مرحلة آلام الربّ، الّذي ثمّ اقتياده إلى المحاكم الّتي لا يوجد فيها عدلٌ أو قانون، وحُكِم عليه فيها بالصَّلب. إنّ الربَّ يسوع على الرُّغم من هذا الظَّلم الّذي عانى منه، بَقيَ صامتًا، وفي هذا الإطار يقول لنا الكِتاب المقدَّس:”كشاةٍ سِيقَ إلى الذَّبح ولم يفتح فاه، وكخروفٍ أمام الجزَّار، لم يفتَح فاه”(متى 27: 31). نحن اليوم، كمسيحيِّين، نَحمل هذا الصَّليب، لأنّنا نتوَّجع من الظَّلم الّذي يلحَق بنا مِن دون أن نَفتَح فاهَنا. إنَّ بعض النَّاس لا يفتحون أفواههم بسبب الضُّغوطات الملقاة عليهم، في حين أنّ البعض الآخر يَبقون صامتِين لأنّهم يشعرون أنّه لا فائدة من صُراخهم لأنَّ لا أحد سَيسَمعهم، وبالتَّالي صَرختهم ستَبقى من دون فائدة. أمّا القِسم الأخير من المؤمنِين، فيبقى صامتًا لأنّ الله بَقيَ صامتًا حين تعرَّض للظَّلم. إخوتي، إنَّ أصعب أمرٍ في الحياة ليس الجوع ولا الفقر ولا الأمراض المستعصية، بل هو الظَّلم. إنّ الظَلم هو صليبٌ كبيرٌ جدَّا إذ لا يستطيع الإنسان استنادًا إلى كرامته، أن يتقبَّل هذا الأمر بينه وبين ذاته، والبقاء صامتًا على ما يُعاني منه. لماذا نَصمت وخصوصًا في الظَّلم؟ نسكُت لأنّنا نُشارِك يسوع المسيح المظلوم والفادي والصَّامت، لأنَّه يستحقُّ كلَّ حُبٍّ، وكلَّ مغامرةٍ. إنّ الربَّ يسوع يستحقّ أن نُضحيّ بِنفوسنا في سبيله، كما هو ضحّى في سبيلنا وفي سبيل كلّ أحبّائه البَشَر.
لذلك، إخوتي الأحبّاء، في هذه الرِّياضة الرُّوحيّة، نتأمَّل في هذه الصُّورة.
لا تخافوا إنْ كُنتُم مظلومِين، لأنَّكم تشاركون الله في مواجهته للظَّلم. وإذا كُنتم تُعانون مِن الصُّلبان الجسديّة، فأنتم تشاركون الله في آلامِه. وإذا كُنتُم فقراء، فأنتم أيضًا تشارِكون الله، الّذي لم يكن يملك مالاً ليَدفَع الضَّريبة، لذلك طلَبَ مِن بطرس أن يفتح فَاه السَّمكة ويُخرِح منها دينارين. إذًا، إخوتي، فلنَحمُل صليبنا بِفَرَح!
بارككم الله وقوَّاكم. أعتذر منكم، لأنَّي أَطَلتُ في الحديث. ولكن، فَلنَسعَ إلى أن نعيش هذه الرّياضة بإيمان، ولنجعل منها محطّةً وانطلاقةً لِسَنةٍ جديدة. هذه الرِّياضة تمتَّد ثمارها طيلة سنة، لذا فلنَرسم في هذه الرِّياضة طريقنا، ونَسير في الطّريق الصَّحيح، فَنَصِل إلى المكان الصَّحيح. آمين.
ملاحظة: دُوِّنَ التأمّل بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.