“الرّاحة الأبديّة هي دَعوةٌ مِن الله”
عِظة للأب مخايل عوض، خادم كنيسة مار الياس الحيّ- عين الصفصاف.
باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.
إخوتي، لِيبارككم الله وليُقدِّسكم، في هذا الزّمن المبارك. إنَّ كلّ لحظةٍ في حياة الكنيسة هي لحظةٌ مباركة ومقدَّسة، فلو لم تكن لحظات الكنيسة مباركة، لما كانت الكنيسة موجودة. إنّ بركة الكنيسة تنبع من حضور المسيح فيها. فليزِيدكم الربّ نِعمًا وبركات وقداسة وإيمان ورجاء ومحبَّة وعبادة وبشارة.
إنّ هذا الإنجيل الّذي تُلِي على مسامِعنا، في عيد قلب يسوع الّذي نحتفل به اليوم، هو إنجيل يوم الخميس الرَّابع مِن زمن العنصرة، أي إنجيل اليوم. في هذا النَّص، يقول لنا الربُّ يسوع: “تعالَوا إليَّ يا جَميعَ المتعَبين والرَّازحين تحت أثقالِكم وأنا أريحكم.”(متى 11: 28)، وقد دَفعنا هذا الكلام إلى التَّفكير معًا في موضوع الرَّاحة الأبديّة، في هذه الذبيحة الإلهيّة الّتي نصلِّي فيها لموتانا.
إنّ الرَّاحة الأبديّة هي دَعوةٌ مِن الله لكلِّ إنسان: فطالما أنَّ الإنسان يعيش بعيدًا عن الله، طالما أنّه يشعر بالتَّعب ولن يصل إلى الرَّاحة الّتي يُنشِدها. فيا أيّها الإنسان الّذي خَرجْتَ مِن صُلبِ الله، وتَركْتَهُ مُفَضِّلاً العيش بعيدًا عنه، ها هو الربُّ يدعوك اليوم، كما في كلّ لحظةٍ مِن حياتك للعَودة إليه، فإنّ ابتعادك عن الله يُعبِّر عن تَبَنِّيك للتَّعب في حياتك، ولذا ستَشعر بأنَّ أحمالك وأثقالك قد زادَ حِملُها عليك، لأنَّك وَضَعت الله جانبًا.
يقول الربُّ لنا: “إحمِلوا نيري، وتعلَّموا منِّي تَجِدُوا الرَّاحة لنفوسِكم” (متّى 11: 29)، “نِيري هَيِّنٌ وحِملي خَفيفٌ”(متى 11: 30)، أي أنَّنا إذا سَلَّمْنا أتعابنا وأحمالَنا للربِّ يسوع، فَلَن نعود نشعر بعد بثِقلها، لأنَّ الربَّ سيَحمِلَها عنَّا. وبالتَّالي، إذا ابتعدنا عن الله وتَركناه، فَلن يكون هناك مَن يشارِكنا أحمالَنا كما يفعل الربُّ يسوع، وسنشعر بالتَّعب، إذ إنّنا لن نتمكَّن من حَملِها وَحدنا، وسَنَرزَح تحت أثقالها، وستُدِّمرنا إذ إنّنا سنشعر بعدم قُدرَتنا على الوقوف مِن جديد.
إنَّ الربَّ يسوع يقول لنا إنَّه إذا قرَّرنا الابتعاد عنه، رافِضين وجوده في حياتنا، فَسنَرزح تحت عبء الخطيئة التّي ستُدمِّرنا، إذ إنّها ستُوهِمنا بقُدرِتنا على الاكتفاء بذواتنا من دون حاجَتنا إلى الله، فنغرق في أنانيّتنا وكبريائنا، ما يُشعِرنا بالتَّعب. لذا يدعونا الربُّ اليوم من خلال هذا الإنجيل إلى اللُّجوء إليه، والسَّماح له بمشارَكتنا أحمالِنا، لأنّه هو الوَحيد القادِر على إعطائنا الرَّاحة الدَّاخليّة.
إنَّ المال، بالنِّسبة للكثيرين، هو وسيلةٌ للرَّاحة الدَّاخليّة في حين أنَّه في الحقيقة مَصدَر لَوجع الضَّمير وللقلق وفقدان الرّاحة عند الإنسان. إنَّ الإنسان سيتعرَّض لوَجع الضَّمير حين يُمسِك يَدَه عن أخيه المحتاج إلى مالِه، وسَيَشعر بالقلق والخوف من السَّرقة نتيجة توافر المالِ مَعه؛ وبالتّالي، يتحوَّل المال إلى سببٍ لِلهَمِّ والغَمّ عند الإنسان.
إنّ المال هو سببٌ للَهمّ والغَم لا عند الإنسان الغنيّ وحسب، بل عند الإنسان الفقير أيضًا: فالفقير الَّذي يعيش حياته في حَسرةٍ مُتَمنيًّا أن يُصبح غنيًا هو إنسانٌ لا يعرف الرَّاحة الدَّاخليّة، لأنّه لا يعيش بحسب الصّلاة الرَّبيّة التّي نطلب فيها من الربِّ: “خُبزَنا الجوهريّ أَعْطِنا اليوم”، فأمثال هذا الفقير يَشعرُون بعدم اكتفائهم بالله وهذا ما يُسبِّب لهم التَّعب وعدم الرَّاحة. إنَّ الإنسان الـمُكتفي بالله، يسعى إلى شُكرِ الله على كُلِّ نِعَمِه، أمّا الإنسان الفقير غير المكتفي بالله فَهو يماثِل الإنسان الغنيّ، في اكتفائه بذاتِه. إنَّ الإنسان الفقير المحتاج هو إنسانٌ، على الرُّغم مِن عَوَزِه للمال، يشعر بالرَّاحة والفرح لأنَّ الربَّ يملأ حياته. إنَّ الإنسان الغنيّ يشعر أيضًا بالفرح والرَّاحة الدَّاخليّة، على الرُّغم مِن توافر المال معه، إنْ كان ممتلئًا مِن الله.
وهنا يُطرَح السّؤال: أين هي تلك الرَّاحة الّتي يمنحها المال للإنسان؟ إنَّ الرَّاحة تأتي عندما يُساعد الإنسان الميسور ماديًّا، أخاه المحتاج، مِن مالِه الّذي هو ثمرة تَعبِه وعَرَقُ جبينه، لا ثمرة ميراثٍ لم يتعب في الحصول عليه. إنّ المال الّذي يحصل عليه الإنسان نتيجة ميراثٍ، يُبذِّره الإنسان سريعًا لأنَّه لا يعرف قيمته إذ إنَّه نالَه من دون تعبٍ. إذًا، على الإنسان أن يساعد الآخَرين من خلال الخيرات الَّتي يَمنحه إيَّاها الله.
إليكم مِثالٌ من واقع لحياة: جاءَني في أحد الأيّام شابٌّ، قائلاً لي: أبتِ، أنا لا أشعر بالفرح الدَّاخليّ، على الرُّغم من أنَّ الله قد أفاضَ عليّ مالاً كثيرًا. عندها طَرحت عليه بعض الأسئلة: هل جميع أفراد عائلتك بصحَّة جيِّدة؟ فكان جوابه إيجابيًّا. فطرحت عليه سؤالاً آخر: هل أنت ملتزم بإيمانك بالربّ؟ فكان جوابه إيجابيّا. عندها قُلتُ له: يُنقُصُكَ أمرٌ واحدٌ كي تشعر بالفرح الدَّاخلي، وهو أن تساعد الآخَرين المحتاجين بالخيرات الماليّة والماديّة الّتي أفاضها الربُّ عليك. فانصرف من عندي هذا الشَّاب، مفكِّرًا في ما قُلته له، في سبيل تحقيق الرَّاحة الدَّاخليّة الّتي يُنشِدُها.
إنّ العطاء هو مغبوطٌ أكثر من الأخذ. إنَّ الإنسان السلبيّ في الحياة، هو الإنسان الكثير التطلُّب للأمور الأرضيّة، وهو يُشبه الدَّلو المثقوب، إذ لا يستطيع هذا الدَّلو المحافظة على الماء الموضوع فيه، بل يتسرَّب منه. كذلك الإنسان السلبيّ لا يستطيع المحافظة على الخيرات الّتي ينالها مِن الربِّ، بل يرميها خارجًا من دون أن يستفيد منها أحدٌ. أمّا الإنسان الإيجابيّ فَهو إنسانٌ مُحبٌّ غير أنانيّ، إذ يستقبل الإيجابيّة مِن الله، أي الخيرات من الله، ويشارك الآخَرين بها، فيمتلئ هو والآخَرون حُبًّا وفَرَحًا مِن الله، وينالون حياةً جديدة من الله، مبنيّة على العطاء.
إذًا، إنّ الأنانيّة والأخِذ لا يمكنهما أن يمنحا الإنسان الرَّاحة، بل ينال الإنسان الرَّاحة الدَّاخليّة، حين يسعى إلى إفراح الآخَرين من خلال عطاءاته لهم.
إنَّ الله قد دعانا مِن العَدَم، إذ قال الله لكلِّ واحدٍ منّا إنّه قد اختارَه منذ البدء، ودعاه في هذا الزَّمن إلى الوجود على الأرض، ليكون إنسانًا، في المحيط الّذي اختاره الله له، ليعيش فيه القداسة. إنّ الله لا يتوقَّف عن دَعوَتنا إلى العودة إليه باستمرار وعدم الابتعاد عنه، وعدم نكرانه، وعدم التَّجديف على اسمه القدُّوس. إنّ الله يَدعونا في كلِّ لحظةٍ من حياتنا إلى العودة إليه قائلاً لنا: تَعالَوا إليَّ يا مَن خَلَقتُهم، تعالَوا إليّ أيّها المتعَبونَ مِن هذه الحياة، تَعالَوا إلى مَن مَنحَكم الحياة. إنّ الإنسان لا يستطيع أن ينال الرَّاحة إلّا إذا أبقى نَظَره مُصَوَّبًا نحو الربّ.
وهنا يُطرَح السّؤال: هل ينتهي نداء الربِّ للإنسان بعد ممات هذا الأخير؟ في الحقيقة، لا ينتهي نداءُ الربِّ للإنسان، إذ حتّى بَعد الموت الجسديّ، يدعو الربُّ الإنسان إلى الحياة الأبديّة. إنَّ الإنسان الَّذي يقبل بدَعوة الله له للعيش معه في هذه الحياة، لا بُدَّ له مِن أن ينال الحياة الأبديّة بعد موتِه الجسديّ، فالإنسان على هذه الأرض يختار إمّا حياة القداسة باتِّباعه الربَّ في حياته الأرضية، وإمّا العيش في جهنَّم بعد الموت، مِن خلال رَفضِه للربِّ في حياته.
إنَّ حياة القداسة تبدأ على هذه الأرض، حين يسعى الإنسان إلى تلبية نداءات الله له، في هذه الأرض، على الرُّغم من كلِّ العراقيل والعوائق الّتي قَد تواجهه في هذه الحياة في سبيل مَنعِه من تحقيق مشيئة الله في حياته. يستطيع الإنسان أن يتخطَّى كلّ الحواجز الّتي تُعيق مسيرته نحو الآب، من خلال نِعمة الله، الّتي تمنحه الثّبات في إيمانه بالربّ، فيتمكَّن من الانتقال إلى الحياة الأبديّة مع الربّ بعد انتقالِه الجسديّ. إنَّ الحياة الأبدية الَّتي يدعونا إليها الربُّ هي التعمُّق في معرفة الله، أكثر فأكثر.
نحن نصلِّي لأمواتنا قائلين: “الرّاحة الدَّائمة أعطِهم يا ربّ، ونورُك الأزليّ فليضيء لهم”. إنَّ أمواتنا ينالون الرَّاحة الأبديّة، عندما يتمكَّنون بفَضلِ صلواتنا لهم من رؤية الله وَجهًا لوَجهٍ، في السّماء. في هذه الأرض، يعجز الإنسان عن رؤية الله وجهًا لوَجهٍ، أمَّا في الحياة الأبديّة، فالله سيمنحنا القدرة على احتمال نور الله. عندما يُعاين أمواتنا نور الله في السّماء، سيتمكَّنون من التعمُّق أكثر في معرفة الله واكتشافِه، يومًا بعد يومٍ، وسنةً بعد سنةٍ، وأَبديّة لا نهاية لها، فالربُّ يريد أَن يعطينا الحياة الأبديّة، لذا قال لنا: “الحياة الأبديّة هي أن يَعرفوك أنتَ الإله الحقّ وَحَدَكَ، وأن يَعرفوا يَسوعَ الـمَسيح الّذي أَرسَلتَه”(يو17: 3). إذًا، الحياة الأبديّة هي معرِفة الله، وهنا يُطرح السُّؤال: كيف يستطيع الإنسان أن يتعرَّف على الله، إنْ كان بعيدًا عنه، أي في جهنمّ؟
في هذا الصدَّد، يقول لنا بولس الرَّسول: “فالّذين يسلكون سبيل الجسد، يهتمُّون بأمور الجسد، والّذين يسلكون سبيل الرُّوح، يهتمُّون بأمور الرُّوح. والاهتمام بالجَسَد موتٌ، وأمَّا الاهتمام بالرُّوح فَحَياةٌ وسَلامٌ. لذلك يدعونا بولس الرَّسول إلى الثَّبات في إيماننا، وفي الرَّجاء وفي المحبَّة، كي لا نقع في تجارب الشِّرير.
إخوتي الأحبّاء، في هذا المساء، نصلِّي إلى الله من أجل أمواتنا طالبين منه أن يُضيء بنور وجهه عليهم وأن يمنحهم الحياة الأبديّة. إنّ صلاتنا لأمواتنا: “الرَّاحة الأبديّة أعطِهم يا ربّ، ونورُك الأزليّ فليضيء لهم”، تُعبِّر عن عمقٍ في اللّاهوت المسيحيّ. فَمِن خلال هذه الصّلاة، نكتشف أن الرَّاحة الأبديّة والنُّور الأزليّ مرتبطَان بعضهما ببعض.
في الختام، أطلب من الله أن يبارككم إخوتي، طالبًا منه أن يثمر فيكم إيمانكم به محبَّةً ورجاء وعبادة وبشارة، بنعمة الآب والابن والرُّوح القدس، الإله الواحد. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت العِظة بأمانةٍ من قِبلنا.