الشهادة والاستشهاد،

بقلم الأب الخوري سيمون جبرايل،

تنبع الشهادة في الإيمان المسيحيّ من ديناميّة الإيمان. فالمسيحيّ بمجرّد قبوله سِرّ العماد يصبح قبل كلّ شيء شاهدًا لإيمانه. هناك إذًا علاقة جوهريّة ووحدة كيانية بين الإثنين. فالإيمان من دون شهادة يبقى ناقصًا، والشهادة هي ثمرة طبيعيّة لهذا الإيمان واكتماله. فبقدر ما يترسّخ الإيمان في القلب، تتجلّى الشهادة بحقّ، وتُوَلّد قوّة الغلبة والانتصار، فتكتسب للمسيح تلاميذًا وشهودًا جددًا يحملون اسمه إلى أقاصي الأرض. فالمسيحيّ ينقل الإيمان بالشهادة، والشهادة هي الحبّ. لذلك من الضروريّ أن يكون هناك توافقٌ كلّي وتماهٍ بين الإنجيل والحياة. إنّ جوهر الإيمان المسيحيّ يقوم على الكشف عن حبّ الله اللامتناهي للبشر في يسوع المسيح، لذلك لن يستطيع أناس يجهلون يسوع المسيح أن يؤمنوا به ما لم يروا أمام نظرهم أناسًا اجتذبهم حبُّ المسيح وتملّكهم، فقدّموا له حياتهم بكلّيتها. تنبع هذه الشهادة من كلمة الله. 

فالشهادة الصادقة تفترض تخلّيًا وإصغاءً صافيًا لكلمة الله، في سبيل عيشٍ ملائمٍ لها. إذًا من البديهيّ أن نقول إنّه حين يعيش المسيحيّون حياتهم بروح الإنجيل، يضحون تلقائيًّا شهودًا لخلاص الله، وعلامةً منظورةً له. يقول البابا بولس السادس في رسالته “الكارزون بالإنجيل”: “الإنسان المعاصر يستمع بطيبة خاطر إلى الشهود أكثر منه إلى المعلّمين؛ أو إذا استمع إلى المعلّمين فلأنّهم شهود. إذًا تبشّر الكنيسة العالم من خلال شهادتها التي تعيشها بأمانة للربّ يسوع في الفقر والتخلّي والحرّية تجاه أناس اليوم” (عدد 41).

والشهادة منفتحة على إمكانية شهادة الدم بل هي تكتمل بالاستشهاد. إن الاستشهاد هو الشهادة السّامية لحقيقة الإيمان، شهادة تصِل حتى الموت. والشهيد يؤدّي الشهادة للمسيح الذي مات وقام، متّحدًا معه بالمحبّة. فالاستشهاد هو فعلٌ يقوم به الشهيد مجاهرًا من خلاله بإيمانه بالمسيح ومقتديًا به “إن اضطهدوني فسوف يضطهدونكم أيضًا” (يو 15: 20). 

إن شهادة حياة الشهيد هي تماثل بحبّ المسيح وتماهٍ معه واستشهادٍ باسمه. يقول القدّيس يوحنا فم الذهب: “لا تتفاجأوا إذا أَعلنتُ لكم أنّ الشهادة معمودية. فكما أنّ المعمّدين يغتسلون بالماء، كذلك الشهداء يغتسلون بدمهم”. ليس الاستشهاد المسيحيّ سعيًا إلى الموت، بل هو الثبات على الإيمان حتى بذل الذات: “رأيت تحت المذبح نفوس الذين قُتِلوا من أجل كلمة الله، ومن أجل الشّهادة التي أدّوها”(رؤ6: 9). من هنا تعتبر شهادة الشهداء عنصرًا أساسيًّا مشكّلًا للإيمان، فدم الشهداء هو بذار الإيمان. “الشهداء الأبرار مثل الأرض المشغولة يؤتون عذب الأثمار عند الرّب مقبولة” (الليتورجيّة المارونيّة).

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp