“الصّوم”
بقلم الأب ميلاد أنطون ر.م.م. كاهن رعايا سيّدة الورديّة ومار الياس ومار يوحنّا المعمدان في زوق مصبح،
الحَمدُ والشكرُ والتَّسبيحُ للّه، الثّالوثِ الأقدس، الّذي يَمنحُنا هذه السَّنة 2020 أيضًا، زَمنًا مؤاتيًا لِعَيْشِ صَوم الأربَعِين والاستعدادِ بِقَلبٍ مُتجدّدٍ للاحتفالِ بِفِصحِ الربّ، سرِّ موتِه وقيامتِه الخلاصيّ. هذا السِرُّ، هو حَقًّا، حَجرُ الزاويةِ لحياتِنا الرّوحيّة الفَرديّة والـجَماعيّة.
إنَّه زَمنُ توبةٍ، زَمنُ ارتدادٍ وَتَخلٍّ عن ملذّاتِ الجسَدِ وحُبِّ الحياةِ والسُّلطة، والعودةِ إلى تَعاليمِ الـمُعلِّم وكلمةِ الحياةِ الأبديّة: “لَيْسَ بالـخُبزِ وَحدَه يحيا الإنسان، بل بِكُلِّ كَلمةٍ تَخرُجُ مِن فَمِ الله”، “لا تُجرِّب الربَّ إلـهَكَ” و”اذْهَبْ عَنِّي يا شَيطان، لأنَّه مكتوبٌ: للربِّ وحده تَسجُدْ وإيَّاه وَحدَه تَعبُد”(مت4).
إنَّه زَمنُ الرُّوحِ القدس الّذي يَقودُنا في بَرِيَّة هذا العالمِ، لِكَي نَنموَ مِن خلال انْتِصارِنا على الـمُجرِّب والـحَيَّةِ الّتي أَغرَتْ وَأَوقَعَتْ أَبَويْنا آدمَ وحَوَّاء (تك 6:3). إنَّه زَمنُ نِعَمٍ يَقودُنا فيه الرُّوحُ، الّذي أَخَذناهُ في العِمَاد، لاتِّباعِ المسيح، “آدمِ الجديد”، بِشَفاعة مريم، “حَوَّاء الجديدة”، لِكَي نَأكلَ مِن ثَمرة شجرة الصَّليبِ أي جَسدِ المسيح؛ خُبز الحياةِ المولودِ مِن مريمَ العذراء، أُمِّ الحياة، الـمُطيعةِ لِكَلِمة الله.
الصّومُ دعوةٌ لِنَدخُلَ البَريّةَ: “ثُمّ أُصعِدَ يَسوع إلى البَرِّيَّة مِنَ الرُّوح لِيُجرَّبَ مِن إبليسَ” (مت 1:4). على مِثال الشَّعب العِبرانيّ في بَرِّيَّة سِيْناء، حيثُ نَتطَهَّرُ مِن ضُعفِ وَعاداتِ وَشهواتِ الإنسان القديم، ونَتحرَّرُ مِن عُبودِيَّة مِصرَ، رَمزِ الخطيئة.
الصّومُ دَعوةٌ لِنَدخُلَ الهيكلَ: “ثُمّ أَخَذهُ إبليسُ إلى الـمَدينة الـمُقدَّسة، وَأَوقَفَهُ على جَناح الـهَيكل” (مت 5:4)، مَسكِنَ الله ونَلتَقي به في القُربان الـمُقدَّس وبِكُلِّ أخٍ لنا في البَشريَّة، فَنَعِيَ حضورَ الله الـمِحوَريّ في حياتِنا، وفي عائِلاتِنا وَمجتَمَعِنا وَوَطنِنا.
الصّومُ دَعوةٌ لِنَصعدَ إلى الجَبلِ: “ثُمّ أَخَذَه أَيضًا إبليسُ إلى جَبلٍ عالٍ جدًّا، وَأَراهُ جَميعَ مَمالكِ العالَمِ وَمَجدَها” (مت 8:4)، لِنَترُكَ رُوتينَ حَياتِنا اليَومِيَّة بِهمومِها ونمطِها المتسارِع، وَضَجَّةَ هذا العالَمِ الـماديّ والاسْتِهلاكيّ، ونَصعدَ إلى الـجَبل حيث اللِّقاء بالله وَمُشاهدة مَجدِه الّذي لا يزول بَدَلاً مِنَ السَّعي وراءَ مَجدِنا الزَّائف.
الصّومُ نَهجٌ وَلَيسَ هدفًا، يَجبُ على كُلِّ مَسِيحيّ أَنْ يُحسِنَ اتِّباعَه مَع الصّلاةِ والتَّوبةِ والصَّدَقةِ، الّتي شرَّعها المسيحُ إلَهُنا، على نحو ما وردَ في إنجيل القدّيس مَتّى (6: 1-16). وقَدْ عَبَّرَ القدِّيس أغوسْطينوس عَن هذا التَرابُط الـمُثَلَّث بالقَول: “أَتريدُ أنْ تَصعَدَ صلاتُكَ إلى السّماءِ؟ فامْنَحْها جَناحَيْنِ، هُما الصّومُ والصَّدَقَة”.
الغايةُ مِنَ الصّوم إعدادُ الذّاتِ لِلعبور مَعَ المسيحِ الربّ في فِصحِه، مِن حالةِ الخطيئةِ إلى حالةِ النِّعمةِ، هكذا يُصبح الصّومُ ضرورةً مِن أَجْل بُلوغِ هدفِه، بِحسب ما يقوله بولسُ الرَّسول: “لَيسَ مَلكوتُ الله أَكلًا وَشُربًا، بلْ هُوَ بِرٌّ وَسَلامٌ وفَرحٌ في الرُّوحِ القدس” (رو14: 17).