العَنصرة دعوةٌ متجدّدةٌ لِنَعيش معموديّتنا
بقلم سيادة المطران يوسف سويف، راعي أبرشيّة طرابلس المارونيّة.
بعد القيامة، وَعَد يسوع تلاميذه بِأن يُرسِل لهم البَرقليط، وفي تمام الخمسِين حلّ الرّوح القدس على التلاميذ في العُليّة، فكُسِرَ حاجز الخوف وانطلقوا يكرِزون بالإنجيل.
حلول الرّوح القُدس على التلاميذ هو تحقيقٌ لِوَعْد المسيح بأنّه لنْ يتَركهم يتامى، بل سيُرسِل لهم المعزّي، ليَكون معهم ويُساندهم في رسالتِهم. لقد اختبَرَت الكنيسة عَبْر تاريخها الرّوح القدس الذي يَمنح القوّة والشّجاعة فَقاد تلاميذ المسيح ليَشهدوا له في كلّ مكانٍ، رغم الاضطهاد والصّعوبات التي كانوا يُواجهونها. وما حدَث العَنصرة إلاّ إظهار قوّة الله، وقدرته على العمل في حياة المؤمنِين بِطرقٍ فائقةٍ للطّبيعة، وما اللّغات المتعدّدة إلاّ برهانٌ على أنّ رسالة الخلاص ليست مقصورة على جماعة معينة، بَل هي لِلعالم أجمَع. منَحَ حلول الرّوح القدس التّلاميذ التّعزية التي كانوا بأمَسّ الحاجة إليها، فأعطاهم القوّة للانطلاق والشّهادة. في العَنصرة شعَر التّلاميذ بأنّهم لَيْسوا وَحدهم، بل أنّ لِمَسيرتهم مُرشدًا ومعلِّمًا. في أصعَب لحظات الحزن والألم يقود الرّوح القدس المؤمنِين في الحقّ ويمنَحهم الحكمة والتمييز لِتَخطّي حاضِرهم، وهذه هي التّعزية التي يَهبها الله للمؤمنِين.
في زمن العَنصرة نعود إلى عَيْش مفاعيل معموديّتنا، عَنصرتنا الشخصيّة الأولى التي بها وُلدنا بالماء والرّوح، والتي بها تتكوّن الكنيسة – جماعة شعب الله، وبها نُصبِح عبادًا حقيقيّين للربّ، لا في هذا الهيكل ولا على ذلك الجبل بَل بالرّوح والحقّ. بالمعموديّة نَتحوّل إلى هياكل للرّوح القدس، ونلبّي دعوتنا فنَشهد للحقيقة والمحبّة في هذا العالم الذي تَنقصه الحقيقة وتجفّ فيه المحبّة، فنَضحى علامات رجاءٍ وتجدّدٍ لا لِذواتنا فحَسب بل لِلعالم الذي يحتاج إلى أنْ يَستقبل روح المسيح المجدّد لِوجه الأرض.
حلول الرّوح القدس في يوم العَنصرة ليس حدثًا تاريخيًا عابرًا ، بل هو اختبارٌ روحيٌ دائمٌ، تَعيشه الكنيسة بأبنائها كلّ يوم. اِختبارٌ يتجدّد اِنطلاقًا من الإفخارستيّا التي هي صلاة الكنيسة الأساسيّة، حيث يَستدعي الكاهن الرّوح القدس لِيَحلّ “علينا وعلى هذا القربان”، وهو جسد المسيح تحت شكلَيّ الخبز والخمر، كما ويحلّ علينا نحن أيضًا، جسد المسيح السريّ، أيْ كنيسته. إنّ كلّ مؤمِنٍ ينتمي إلى هذا الجسد السرّي، ويتجدّد بالجسد الأسراري على المذبح، لا بدّ من أنْ ينطلق من المذبح الغافر لِيُعلِن محبّة المسيح ويَعيش مواهب الرّوح القدس. مَن يَعِش مع المسيح ويحيَ المسيح فيه، إنما يحيا بِروح الله، روح السّلام، روح الحِكمة، روح الفَهم، روح التّواضع، وروح الفرح والوَحدة.
أُصلّي معكم ضارعًا لله الآب أنْ يمنَحنا مواهب روحه القدّوس، الذي يُغيّر، ويُجدّد، ويُنقّي، ويُطهّر، ويُقوّي، ويُساعد، ويَمنَحنا الانطلاقة المتجدّدة لإعلان قِيامة المسيح والشّهادة لها، وهكذا يَتمجّد بِنا وبكلّ شيءٍ الله الآب والاِبن والرّوح القدس، له المجد إلى الأبد.