محاضرة للأب ابراهيم سعد، 

من المرشدين الروحيّين لجماعتنا الرسوليّة،

  “المسيح قام من بين الأموات…”

إنّ ترتيلة “المسيح قام من بين الأموات، ووطئ الموت بالموت، ووهب الحياة للّذين في القبور”، تختصر إيماننا المسيحيّ، لذا هي تستّحق أن نتوقَّف عندها، فكلماتها ستكون محور حديثنا اليوم.

إنّ المسيح قد قام من الموت، ووَهب الحياة للّذين في القبور، فما الّذي ينتظره الإنسان بعد؟ كانت قيامة المسيح الحلَّ الوحيد لمشكلة الإنسان الّتي هي خوفه مِن الموت. إنّ كلَّ ما يقوم به الإنسان هو نتيجة خوفه من الموت: فَهُوَ يأكل ويشرب خوفًا من الموت، ويُخطئ خوفًا من الموت، إذ إنّ الإنسان ينظر إلى الحياة انطلاقًا من كَونِه إنسانًا مائتًا. غير أنّ قيامة المسيح، دفَعَت بالإنسان المؤمِن إلى تغيير نظرته إلى الحياة: فصار ينظر إليها انطلاقًا مِن كَونه إنسانًا قياميًّا لا إنسانًا مائتًا. إنّ السؤال الّذي يُطرح علينا، هو: ما التغيير الّذي طرأ على حياتنا نتيجة قيامة المسيح؟ أي هل أنَّ حياتنا قد تأثّرت بقيامة المسيح أم ما زالت على ما كانت عليه قبل القيامة؟ إنّ الموت هو نفسه، قبل القيامة وبَعدَها، لم يتغيَّر. قبل قيامة المسيح، كان الموت نهايةَ كلِّ شيءٍ في نَظَر النّاس، على الرّغم مِن كلّ آمالهم وإيمانهم القديم، فالموت كان يُشكِّل أزمةً وجوديّة كيانيّة إنسانيّة. أمّا اليوم، فهناك مؤمنون يُجاهرون بعدم خوفهم من الموت، على الرّغم مِن عدم تمكنُّهم من إخفاء خوفهم الشديد من الـمَرض، وأمورٍ أخرى تؤدي بهم إلى الموت. إنّ هؤلاء المؤمنين يُعبِّرون عن تناقضٍ يَصعب فَهمُه، إذ إنّ الإنسان الّذي لا يخاف الموت، لا يخاف مِن أيِّ أمرٍ آخر يؤدي به إلى الموت.

منذ بداية التّاريخ البشريّ، ظهرت أزمة الموت عند الإنسان، وكان آدم وحوّاء أوّل الأشخاص الّذين اختبروا تلك الأزمة. خوفًا من الموت، خالف آدم وحوّاء كلام الله، وأطاعا كلام الحيّة، فالإنسان بطبيعته يحاول الهرب من الموت، ويسعى إلى الاستمرار في الحياة. إنّ آدم وحوّاء واجها الموت، ولكنّهما لم يتمكّنا من فَهمِه بشكله الصّحيح، فاعتبراه عقابًا من الله لهما على ما ارتكباه مِن مخالفةٍ لأوامِره. إنّ هذا الاعتقاد خاطئٌ تمامًا إذ لا شأنَ لله في الموت، فالله يريد حياة الإنسان لا موته، فالموت هو نتيجة التصرّف الخاطئ الّذي ارتكبه الإنسان. إذًا، لقد أصبحت مشكلة الإنسان مشكلةً مُضاعفة، إذ أصبح يُعاني أوّلاً من أزمة الموت، الّذي يُشكِّل نهايةً لكلّ شيء في نظره، كما صار يُعاني من أزمة أخرى هي خوفه مِن الموت، الّذي يدفعه إلى ارتكاب الخطايا. عند قيامته من الموت، ظهر يسوع المسيح، أوّلاً لمريم الّتي جِاءت تُحنِّط جسده في القبر، أي أنّ “آدم الجديد”، قد ظهر أوّلاً لـ “حوّاءَ جديدةٍ” عند قيامته من الموت، وفي ذلك، نقرأ تصحيحًا كتابيًّا للمشهد الأوّل في القديم مع آدم الأوّل وحوّاء الأُولى. إنّ آدم الأوّل قد جرح علاقة الحبّ الّتي تجمعُه باللّه؛ أمّا “آدم الجديد”، يسوع المسيح، فقد أعاد لتلك العلاقة كمالها. إنّ حوّاء الأولى قد ساهمت مع آدم الأوّل في تدّهور علاقة الإنسان باللّه، أمّا حوّاء الجديدة فقد اشتركت في تصحيح تلك العلاقة ونموِّها، إذ شاهدت القائم من الموت وآمنت به. لقد طلب يسوع المسيح مِن “حوّاء الجديدة” عدم الإمساك به لأنّه صاعدٌ إلى أبيه وأبي البشريّة بأسرها، فهو يرغب من خلال قيامته من الموت، بأن يُعيد الإنسان إلى المكان الأوّل الّذي كان فيه منذ البدء، وهو الملكوت. إنّ الله لم يخلق آدم وحوّاء ليكونا في الفردوس إنّما في الملكوت، أمّا بداية الملكوت فَهِي الفردوس. إذًا، منذ بداية الخلق، نشأت أزمة الموت عند الإنسان ولم يتمكّن هذا الأخير من التخلّص منها وحده.

إنّ السبب الظّاهر لأزمة الموت الّتي يُعاني منها الإنسان هو الخطيئة، غير أنّ السبب الحقيقيّ لها هو قلّة الحبّ: فكلّما قَلَّ الحبّ عند الإنسان، كُلَّما تفاقمت تلك الأزمة في داخله وازدادت قوَّةً. في علاقات الحبّ الإنسانيّة، نجد أنّه كلّما ازداد الحبّ بين الحبيبَين، ازداد اهتمام الواحد منهما بالآخر، ولكن كلّما تضاءل هذا الحبّ وجَفَّ بين الطرفين، تحوَّل الاهتمام إلى تجريحٍ بالآخر وإلى أذيّته، فالأذيّة هي إحدى صُوَر الموت. إنّ السبب الجوهريّ للموت هو قلَّة الحبّ وانعدامه، أمّا سبب الحياة فهو وجود الحبّ ووِفرَتِه. لقد أحبّ الله العالم محبّة عظيمة أدّت به إلى أن يبذل ابنه الوحيد فداءً عن البشر، فمحبّة الله للبشر قادَتْهُ إلى خَلقِ العالم مِن جديد بابنه الوحيد، “آدم الجديد”، يسوع المسيح، بدلاً من الخلق القديم الّذي تمّ مِن خلال “آدم الأوَّل”.

إنّ ظهور المسيح القائم من الموت لمريم عند القبر يهدف إلى دَفْعِ الإنسان إلى الادراك أن اعتقاده حول سلطان الموت وقوّته هو اعتقاد خاطئ، إذ لم يعد للموت مِن سلطان على البشر، فالمسيح قد غلب الموت وانتصر عليه بقيامته. قديمًا، كان الموت ذا سُلطانٍ على الإنسان، إذ إنّ الإنسان قد عَجِز عن الإفلات منه على الرّغم من إيمانه اليهوديّ، لذا استمَّر الإنسان في عبوديّته للموت، إلّا أنّ قيامة المسيح قد بدّلت هذا الواقع المؤلم، فأباد المسيح سلطانَ الموت بقيامته مِن بين الأموات، وحرّر الإنسان مِن خوفه وعبوديّته. إنّ قيامة لعازر مختلفة عن قيامة المسيح: إذ في قيامة لعازر، حافظ الموت على سلطانه على الإنسان، وهذا ما يُبرِّر موتَ لعازر مُجدَدًا؛ أمّا في قيامة المسيح، فقد غلب المسيح الموت نهائيًا، لذا لم يتمكّن الموت من الإمساك بالمسيح مُجدَّدًا كما فعل مع لعازر، وبالتّالي فإنّ قيامة المسيح هي أبديّة ونهائية. إذًا، بقيامة المسيح، لم يعد للموت سلطان على الإنسان: فقيامة المسيح كانت الحلّ الحقيقيّ والوحيد لخوف الإنسان مِنَ الموت، إذ دفعت بالإنسان إلى تغيير نظرته إلى الحياة كما إلى الموت، وحرّرته من خوفه. إنّ حدث الموت لم يتغيّر من حيث الشكلّ، قبل قيامة المسيح وبَعدِها، غير أنّ ما تغيَّر هو ذهنيّة المؤمن في رؤيته للموت، إذ أدرك هذا الأخير أنّ سلطان الموت عليه محدود الـمُدّة، مهما طالت، لذا لا داعي للخوف منه مِن جديد.

إنّ قيامة المسيح نَزَعَتْ كلّ سلطان الموت عن الإنسان، غير أنّ الموت ما زال يُسبِّب آلامًا للبشر، وفي هذا تكمن قوّته، إذ يُسبِّب للإنسان ألـمًا نتيجة فراق الأحبّاء. إنّ الفراق حالة طبيعيّة يعيشها الإنسان: فمثلاً، عند هجرة أحد أفراد العائلة، يشعر الإنسان بألم الفراق، إذ لم يعد بالإمكان رؤية الشخص المهاجر في كلّ أوانٍ كما كانت الحال سابقًا. إنّ قوّة ألم الفراق تتعلّق بمُدّة السّفر: فكلّما كانت مُدَّة الرِّحلة أطول، كلّما كان ألم الفراق أقوى. إذًا، لم يعد للموت مِن قوّة على الإنسان إلاّ في ألم الفراق الّذي يُسبِّبه للأحياء. إنّ قيامة المسيح قد أزالت خوف الإنسان مِن الموت، غير أنّ الموت قد تحوَّل إلى عدُّوٍ للإنسان، لأنّه يُسبِّب له آلامًا نتيجة فراق الأحبّاء. هذا ما عبَّر عنه بولس الرّسول في إحدى رسائله إذ قال: إنّ آخر عدوٍّ يُبطَل هو الموت، وبالتّالي، إنّ الموت سيبقى عدُوًّا للإنسان مِن دون أن يكون له أي سُلطان عليه، لأنّ المسيح قد أَبطَل سلطان الموت بقيامته، وهذا ما يُشكِّل جوهر إيماننا ورجائنا. إنّ الفعل “وَطِئ” الوارد في الترتيلة الّتي نشرح كلماتها، يشير إلى سَحْقِ المسيح لسلطان الموت، إذ جعلَه تحت قدميه، أي أنّ المسيح قد أنهى سيطرة الموت على الإنسان بقيامته من بين الأموات. إنّ المسيح لم يجد وسيلة أفضل ليغلب الموت، سوى مواجهته وتدميره، لذا قَبِل المسيح الموت، ولكنّه غلب الموت بقيامته، فأباد كلّ سلطانه، ومَنَح كلّ الموتى الّذين في القبور، والّذين سيدخلونها بالموت، الحياةَ الأبديّة.

بعد قيامة المسيح، لا يجوز للمؤمن أن يحزن كَمَن لا رجاء له. إنّ الحزن هو حقٌّ مشروع للإنسان فهو مِن ضمن الطبيعة البشريّة، لكن لا يجب أن يسمح الإنسان للحزن أن يدفع به إلى طرح أسئلة تتعلّق بإيمانه حول حقيقة قيامة المسيح من الموت، وبالتّالي حول قيامة الأموات. إنّ حدث الموت، الّذي يعيشه الإنسان هو حدثٌ يجعله يتأكَّد مِن صحّة كلام المسيح عن القيامة واستمراريّة فعاليّتها إلى يومنا هذا، بدليل الاختبار الشخصيّ للإنسان في حدث الموت. إنّ الكلام الّذي نسمعه في التَّعازي بأنّه لا يجب الحزن على مَن فَقَدْناهم لأنّهم أصبحوا بجوار المسيح، هو كلامٌ غير مقبول، لأنّ الحزن هو أمرٌ مشروع للإنسان، وبالتّالي فَمَن لا يحزن على فقدان عزيزٍ له، هو إنسان عديم الإحساس، أو أقَلَّه لم يتمكّن مِن محبّة الفقيد. إذًا، إنّ الحزن هو أمرٌ مشروع عندما يتعرَّض الإنسان إلى حدث موت أحد الأعزّاء، فالحزن يُشعر الإنسان بألم الفراق، ولكن على هذا الحزن أن يكون محدودًا لأنّه على الإنسان النّظر صوب قيامة المسيح، فيرى من خلالها قيامة أمواته.

إنّ الزّمن غير كفيلٍ بالتَّخفيف مِن وطأة حدث الموت وألـَمِه على الإنسان، غير أنّ الإنسان يستطيع أن يستفيد مِن هذا الحدث فيُحوِّله إلى فرصةٍ تدفعه إلى تعميق إيمانه بالربّ القائم من الموت، فيُثَّبِت إيمانه به. لذا لا يجب أن نطرح على ذواتنا أسئلةً تتمحوّر حول مكان وجود أعزّائنا الّذين فقدناهم، ففي الترتيلة الّتي نعالجها نجِدُ الجواب، إذ تقول لنا: إنّ الحياة قد وُهِبَت للّذين في القبور. إنّ حالتنا نحن المؤمنين، تُشبِه إنسانًا فقيرًا محتاجًا قَد تَصَدَّق عليه أحد المارّة الرأسمالييّن بثروته كلِّها، غير أنّه عِوَض أن يَقبَل بها شاكِرًا، حاول تحليلها وتفسيرها، وبالتّالي أفقد تلك الهديّة معناها.

لا يجب أن تتحوَّل عبارة “المسيح قام، حقًّا قام” إلى تحيّة صباحيّة يوميّة في زمن القيامة فارغة مِن معناها، بل على قائلها أن يُدرِك أهميّتها ومفعولها في حياته. إنّ العهد الجديد ينقل إلينا ترائيات المسيح القائم لتلاميذه، وكما هو معلوم أنّ اللّغة اليونانيّة هي اللّغة الأصليّة للعهد الجديد. إذًا، استنادًا إلى اللّغة اليونانيّة، نجد أنّ الفعل “تراءى” تمّ استخدامه في صيغة المجهول لا المعلوم، للدلالة على أنّ الله هو المبادر، فهو الّذي يكشف عن ذاته لتلاميذه ويتراءى لهم قائمًا من بين الأموات، وهذا ما يُبرِّر عدم معرفتهم به عند ظهوره لهم، وهذا ما نجده واضحًا في نصّ تلميذي عمّاوس. في أثناء مسيرة عودتهما إلى قريتهما، إذ لم يتمكّن تلميذا عمّاوس مِن معرفة المسيح حين سار معهما، لأنّهما كانا ينظران إليه كما نظر إليه اليهود، أي كمخلِّصٍ أرضيٍّ بشريّ. إنّنا لن نتمكّن من معرفة المسيح أبدًا إن كُنّا لا نستطيع أن نرى فيه إلّا مُخلِّصًا بشريًّا. لقد تمكّن تلميذا عمّاوس مِن معرفة المسيح القائم عند كَسْرِ الخبز، ويقول لنا الكتاب إنَّ ذهنَيْهما حينئذٍ قد انفتحا حين فسَّر لهما الكُتُب فتمكنّا مِن معرفته عند كسر الخبز. 

إذًا، إنّ المسيح هو مفسِّر الكُتُب، وهو الّذي جعلهما يعرفانه، فالمسيح هو المبادر، وما على المؤمن إلّا قبول مبادرة الله واعتبارها هديّة له، فيفرح فيها ويحاول عيشها في حياته، فيعكس حدث القيامة للآخرين. إنّ عبارة “المسيح قام…”، هي إعلانٌ للبشرى السّارة بأكملِها. عندما يردِّد المؤمن عبارة “المسيح قام”، فإنّه يُعلن في الوقت نفسه قبوله للمسؤوليّة الّتي أعطاها الربّ القائم لتلاميذه، حين ظهر لهم، قائلاً: اذهبوا وبشِّروا كلّ الأمم وعمِّدوهم باسم الآب والابن والرّوح القدس، مُطمْئِنًا الرّسل أنّه باقٍ معهم إلى انقضاء الدّهر. إذًا، إنّ عبارة “المسيح قام، حقًّا قام”، الّـتي نُردِّدها دون أن نعي مضمونها، تُحمِّلنا مسؤوليّة كبرى، يُعطينا إيّاها الربّ. في التقليد الشرقيّ الّذي مِنه انبثقت هذه العبارة، تحوّلت هذه التحيّة القياميّة إلى عادة، من دون وَعي المؤمنين للمسؤوليّة الملقاة على عاتقهم على أَثَر هذا الإعلان. أمّا في التقليد الغربيّ، فقد أضافوا إلى تلك العبارة، عبارة أخرى، وهي: “ونحن شهودٌ على ذلك”، وهذه أيضًا تُحمِّل قائلها مسؤوليّة كُبرى تكمن في الشهادة للمسيح القائم في حياته اليوميّة. إنّ الإنسان لن يتمكّن من الشهادة للمسيح إن كانت كلّ تعابير الموت باديَة على وجهه: الخوف، الحقد، الكراهيّة، وعدم القناعة. على صُوَر القيامة أنْ تُشِّع مِن وجه المؤمن: الحبّ، المسامحة، العطاء، الخدمة، الابتسامة، فيرى الآخرون فيه شاهدًا حقيقيًّا لقيامة المسيح. إنّ المؤمن يعكس في حياته حضارة الموت عندما يتكلّم عن الأوضاع المعيشيّة السيئة والظروف الاقتصاديّة والأمنيّة السيئة، وكلّ ما مِن شأنه أن يبعث في النّفوس اليأس والإحباط.

إنّ السؤال الّذي يُطرح علينا اليوم، هو: لماذا الحنين إلى القبر في حين أنّ المسيح قد قام مِن القبر وكسَّر كلّ قيود الموت؟ إنّ عبارة “المسيح قام حقًّا قام، ونحن شهود على ذلك”، يجب أن تنعكس إيجابيًا على نظرتِنا للحياة. إذًا، على الإنسان أن يعيش حياته في هذه الأرض، بطريقةٍ تعكس إيمانه بالقيامة لا إيمانه بالموت، إذ عليه ألّا ينسى أنّه إنسانٌ قياميّ لا مائتٌ. عندما ينظر الإنسان إلى الأمور انطلاقًا مِن كَونِه إنسانًا قياميًّا، فإنّ الخلافات بين البشر ستُعالَج بطريقة مختلفة: فالإنسان القياميّ يسعى إلى إيجاد حلّ لكلّ خلافٍ قد يحصُل لأنّه يعلم أنّه لن يموت، وبالتّالي يسعى إلى إيجاد حلٍّ للمشكلة أساس الخلاف. أمّا الإنسان الّذي ينظر إلى الحياة انطلاقًا مِن كونه إنسانًا مائتًا، فإنّه لن يحاول إيجاد حلّ للمشكلة أساس الخلاف، وخلافه مع الآخر سيتفاقم أكثر بسبب الانفعالات وردّات الفعل، والحوار الّذي ينشأ بين طَرفَي النِّزاع لحلّ الخلاف، سيكون على مستوى القلب لا العقل كما هي الحالة مع الإنسان القياميّ. 

إنّ الإنسان القياميّ يسعى إلى حلّ الخلاف استنادًا إلى العقل، أمّا الإنسان المائت فيسعى إلى حَلِّه انطلاقًا من القلب. إنّ الإنسان القياميّ لا يجد صعوبة في الاعتذار حين يكتشف تقصيره وخَطَأه، لأنّه يعلم أنّه إنسانٌ حيّ لا إنسانٌ زائل. أمّا الإنسان المائت فيرفض الاعتذار ويُلقي بمسؤوليّة التقصير على الآخرين، لأنّه يجد في اعترافه بالخطأ دافعًا يُعرِّضه للعزلة من قِبَل الآخرين، والعزلة هي إحدى وجوه الموت، وخوفًا من العزلة، يقوم الإنسان بارتكاب الخطيئة كالكَذب، والحِقد، والانفعال غير المبَرَّر، وأذيّة الآخرين. إنّ قيامة المسيح تجعلنا إناسًا قياميّين، وبالتّالي علينا أن ننظر إلى الحياة ونؤمن أنّنا قائمون مع المسيح القائم من الموت. إنّ هذه النظرة القياميّة إلى الحياة، تجعلنا نعيش الفِصح مُدرِكين معناه الحقيقيّ، والفرح يملأ قلوبنا. إنّ ذهنيّة الخليقة الجديدة تدفع بالإنسان إلى النظر إلى الحياة بطريقة مختلفة، فيواجه الأمراض مِن دون خوفٍ من الموت، لأنّه يعلم أنّ الحياة الأبديّة تنتظره مهما طال ألم المرض. إنّ تلك الذهنيّة لا تلغي وجود الأمراض والآلام، غير أنّها تُعطي دفعًا للإنسان لمواجهة تلك الصّعوبات، إذ تُذكِّره أنّ لا شيء يدوم سوى الله.

إنّ كنا نؤمن أنّ لا شيء يدوم سوى الله، فَلِمَ نحزن ونيأس من الحياة عندما ينتقل أحدٌ مِن بيننا؟ إنّ كلامنا يجب أن ينطبق مع إيماننا وكما يقول الرّسول بولس:”آمنت ولذلك تكلّمت”، وبالتّالي على تصرّفاتِنا في حدث الموت، أن تعكس إيماننا أنّ كلّ شيء زائل عدا الله. إذًا، إنّ العبارات الّتي نُردِّدها في القيامة: “المسيح قام”، و”نحن شهود على ذلك” تُحمِّلِنا مسؤوليّة كبيرة جدًّا، إذ تتحوَّل إلى دينونة لنا في مسألة شهادتنا للمسيح القائم، لأنّ مَن يقول إنّ المسيح قام، على حياته أن تعكس قيامة المسيح. في عصرنا هذا، يرتكز إيماننا نحن المسيحيّين على المسيح صانع العجائب، غير أنّ إيماننا في الحقيقة يرتكز على المسيح القائم، لذا يجب تبشير المسيحيّين من جديد فيتذكَّروا أنّ المسيح قد غلب الموت بقيامته. إنّ صورة المسيح صانع العجائب قد أذهلت اليهود في القديم، وها نحن اليوم نتوقَّف عندها. إنّ اليهود يطلبون العجائب، واليونانيّن يبحثون عن حكمة، أمّا نحن المخلَّصين، فإنّنا لا نعرف منطقًا آخر سوى منطق الصليب. إنّ منطق الصليب يرتكز على كثرة الحبّ: إذ كلّما قلَّ الحبّ، ظهر الموت؛ وكلّما ازداد الحبّ، ظهرت الحياة وأثمرت. إنّ القرار يعود إلى المؤمن، فهو مَن عليه أن يختار بين الموت والحياة، وقراره سينعكس في حياته اليوميّة من خلال تصرّفاته مع الآخرين. 

إنّ الإنسان الّذي يختار الموت، يسعى إلى الخلاف، وإلى الكراهيّة، والحقد، والانفعال السريع تجاه الآخرين، أمّا الإنسان الّذي يختار الحياة، فيعكس السلام، ويسعى إلى المصالحة، والاعتذار إن وجَد نفسه مُخطِئًا. غير أنّ ما يحصل في أثناء الخلافات بين البشر، هو أنّ الإنسان يتهمّ بالآخرين بكلّ تقصير مستخدمًا ضمير المخاطب “أنت”، وينسب إلى نفسه الإنجازات والفضائل، مستخدمًا ضمير المتكلّم “أنا”. إنّ نظرتنا إلى الحياة انطلاقًا مِن كَوننا قياميّين، ستتغيّر، إذ سننظر إلى الموت لا على أنّه نهاية، إنّما على أنّه بوابة العبور الّتي توصِلنا إلى المكان الّذي نحلم به، حيث لا تَنَهُّد، ولا وجع، ولا بكاء، بل حياةٌ لا تفنى. إنّ الشخص الّذي نفقده بالموت قد ذهب إلى مكانٍ لا وجع فيه ولا ألم ولا بكاء، لذا علينا نحن المحزونين، ألّا نعاني مِن الحزن الشديد والألم الكبير، إثر فقدان شخصٍ عزيز علينا، فنطمر أنفسنا في هذه الحياة الفانية ونحن على قيد الحياة. إنّ مثل تلك التصّرفات لا تليق بالإنسان المؤمن بقيامة المسيح.

إنّ الأزمة الّتي يُعاني منها المؤمنون اليوم، هي سوء قراءتهم وفَهمِهم للكتاب المقدَّس بعَهديه، إذ يجب قراءة الكتاب المقدَّس في ضوء نور قيامة المسيح. إنّ ما يحدث في عالمنا اليوم خطيرٌ جدًّا، إذ تحوَّل المؤمنون بالمسيح إلى “أبناء للكنيسة” لا إلى “أبناءٍ للقيامة”، أي أنّ الكنيسة قد تحوّلت إلى مؤسَّسة. إنّ المؤمنين أبناء الكنيسة – المؤسَّسة، قد رفضوا الآخرين وهمِّشوا كلّ شخصٍ مختلفٍ عنهم. أمّا المؤمنون أبناء القيامة، فقد توجَّهوا صوب الآخرين المختلفين عنهم، ودعوهم إلى الإيمان بيسوع المسيح القائم، إذ إنّ هدفهم هو نقلُ فرح القيامة الّذي اختبروه إلى الآخرين. لقد كانت الكنيسة في البدء منغلقة على ذاتها، أمّا بعد القيامة، فقد أصبحت كنيسة منفتحة على الآخرين. إنّ الكنيسة لا يمكنها أن تفتح أبوابها للآخرين إن أغلق المؤمنون قلوبَهم على الآخرين بحجّة دفاعهم عن الله. إنّ التّاريخ يُخبرنا أنّ كلّ الّذين دافعوا عن الله، قد قتلوه في الحقيقة في قلوب الآخرين، إذ كانوا سببًا في عدم وصول مشروع الله الخلاصيّ لهم. إنّ بطرس الّذي حاول الدّفاع عن يسوع، حين قَطَع أُذُنَ الجنديّ يوم أُلقِيَ القبض على المسيح في بستان الزّيتون، قد قتل المسيح في ذلك بطريقة أفظع من الصليب. إنّ تصرّف بطرس آنذاك قد كان ليؤدي إلى قتل المسيح بطريقة لا قيامة فيها في قلب ذلك الجنديّ. لقد طلب يسوع من بطرس إعادة سيفه إلى جنبه، وأن يسمح للجنود باعتقاله، وسَوقِه إلى الموت، إذ إنّ بعد تلك الميتة على الصليب، سيتمكّن المسيح من القيامة والانتصار على الموت. إنّ المسيح مات بسبب الحبّ، لذا عاد وقام من الموت، أمّا لو مات المسيح بسبب قتل بطرس لذلك الجنديّ، لما كان المسيح ليتمكّن من القيامة من جديد.

إنّنا نؤمن بالمسيح الّذي مات وقام من أجلنا، غير أنّ عقلنا البشريّ يبقى عاجزًا عن إدراك كلّ ما قام به المسيح لأجلنا. إنّ إيماننا هو غير مُدرَك وغير معقول بحسب تفكيرنا البشريّ لكنّه مقبول. إذًا، إنّ قرار قبول هذا العمل الخلاصيّ متعلِّقٌ بالإنسان الّذي عليه إمّا قبولُه أو رفضُه. إنّ الإنسان الّذي يقبل بعمل الله الخلاصيّ، عليه أن يتحمَّل مسؤوليّاته تجاه هذا القرار، فيُكمِل مسيرته في هذه الحياة، ويواجه صعوباتها مستندًا إلى تعاليم المعلِّم الإلهيّ. على المؤمن ألّا يجعل خطيئته أقوى من المسيح وعمله الخلاصيّ لأجله، أي أنّه عليه عدم التَذرُّع بطبيعته البشريّة الضعيفة، وبخطاياه الكثيرة للهروب من مسؤوليّة الشهادة الـمُلقاة على عاتقه. 

إنّ الخطيئة غير قادرة على أن تقف حجر عثرةٍ أمام قيامة المسيح، إلّا إذ سمح لها الإنسان بذلك، وسماح الإنسان ما هو إلّا دليل على عدم إدراكه لعمل الله الخلاصيّ، إذ يعتقد أنّ الخلاص تمّ بِفَضلِه. إنّ الإنسان الّذي يختبر قيامة المسيح، لا يستطيع إلّا أن يُعلِن خبر القيامة للمسكونة بأسرها، فالشهادة للمسيح ليست فعل إرادة يقوم به الإنسان، إذ إنّ إرادة الإنسان هي عُرضة للوقوع في المزاجيّة. إنّ الشهادة للمسيح تُصبح عملاً ضروريًّا للعيش كما هي عمليّة التنّفس، فكما أنّ الإنسان لا يستطيع التوقّف عن التنّفس كذلك الإنسان الّذي اختبر قيامة المسيح لا يستطيع إلّا أن يشهد بذلك، وهذا ما يُعبِّر عنه بولس الرّسول، إذ يقول في إحدى رسائله: ويلٌ لي إن لم أُبشِّر. إذًا البشارة بالقيامة هي عملٌ ضروريّ، لا عملٌ إراديّ متعلِّقٌ بمزاج الإنسان.

ليس السؤال إذًا، عن مصير أعزائنا بعد انتقالهم مِن هذه الحياة الفانية، إنّما السؤال الّذي يجب أن يُطرح علينا، هو: ما هو مصيرنا نحن الأحياء الّذين لا نزال في هذه الحياة؟ إنّ أمواتنا قد وصلوا إلى الملكوت، بعبورهم من هذه الدّنيا، وها هم يُعاينون الله، ويعيشون حياة أبديّة يعمّها الفرح الّذي لا نهاية له. فلنسعَ كي نلقى المصير نفسه الّذي لَقِيَه أمواتنا، ولنسعَ إلى عيش الفرح الّذي يعيشونه بعد انتقالهم. إنّنا في الموت، ننقل الحزن لأمواتنا في حين أنّهم يدعوننا إلى الفرح. إنّ إيمان الإنسان هو الّذي يجعل عدوى الفرح تتغلّب على عدوى الحزن.
المسيح قام.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِنْ قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp