تأمّل روحيّ،

الأب دومينيك العلم المريميّ،

الله معكم،

أحبّائي، اسمحوا لي أوّلاً أن أستأذن سيِّدَ هذه القاعة، أي الرُّوح القدس، فهذه القاعة قد أطلَقنا عليها اسمَ “عِليّة الرّوح” في انطلاقة هذه الجماعة. في بداية هذه الرِّياضة، نَطلُب نِعمةَ الرّوح القدس، الّذي من دون نِعمتِه وقوَّته، لا نستطيع أن نَدعو الله الآب “أبَّا”، فالكتاب المقدَّس يقول لنا إنَّه لا أحد يستطيع أن يدعو الله “أبّا”، إلّا إذا كان الله معه.  

اليوم، سوف نتأمَّل في إنجيل المخلَّع الّذي تُليَ على مسامعنا. ولكن، بما أنَّ الوقت الـمُعطى لنا قليلٌ، فإنّنا لن نتطرَّق في حديثنا إلى الربِّ يسوع، الّذي “هو هو، أمس واليوم وإلى الأبد”(عب 13: 8)، ربُّ الحبّ والمغفرة والمسامحة، إله الشّفاء، إنّه تِلك النِّعمة الفاعلة في قلوب البشر.

في أناجيل آحاد الصَّوم، نَسمعُ قصَّة الأبرص، الّذي أتى إلى الرّبِّ يسوع، طالبًا الشِّفاء، قائلاً له: “إنْ شِئتَ، فأنتَ قادرٌ أن تَشفيني” (مر 1: 40). عند سماعه هذا الطَّلب من الأبرص، مدَّ الربُّ يده وشفاه، لأنّ إرادة الربِّ صالحةٌ على الدَّوام، وهي تعمل دائمًا لِما فيه خير الإنسان. كذلك في الصَّوم، نسمع أيضًا إنجيل المرأة النَّازفة الّتي أقبلت إلى يسوع طالبةً الشِّفاء، وعندما لَمسَت طَرَفَ ثوبه، نالَت الشِّفاء الجسديّ الّذي تَطلبه. عندما لَمستَ تلك المرأة ثوبه، قال الربُّ يسوع: “مَن لَمسني؟…، فإنِّي شعرتُ بقوَّةٍ خرجت منِّي؟”(لو 8: 45-46)، أدرَكَت حينها أن أمرَها لَم يَخفَ عليه، فاقتربَت منه واعترفَت له أمام الجميع بذنوبها وخطاياها، فمنحَها إضافةً إلى الشِّفاء الجسديّ الشِّفاءَ الرُوحيّ والنَّفسيّ. وفي نصّ إنجيل المخلَّع، نلاحظ أنّ الربَّ يسوع بدأ أوّلًا بِمَنح هذا المريض الشِّفاء الرُّوحيّ إذ قال له: “مغفورةٌ لَكَ خطاياك” (مر2: 5)، ثمَّ عاد ومنَحَه الشِّفاء الجسديّ حين قال له: “قُم، احمِل سريرَكَ وامشِ”(مر 2: 8). وفي نصٍّ آخر من الإنجيل، يُخبرنا الإنجيليّ أنّهم أتوا إلى يسوع مُصطَحبين معهم امرأةً زانيةً، طالبين إليه أن يَحكم عليها، فقال لهم: “مَن مِنكُم بلا خطيئة، فليرجمها بحجر” (يو 8: 7). عند سماعهم هذا الكلام، لم يتجرَّأ أحدٌ على رَميِ هذه المرأة بِحَجرٍ، لأنَّهم أدركوا أنّهم جميعًا خطأة. وعندما ذَهب الجميع، اقتربَ يسوع من هذه المرأة وقال لها: “ألم يَحكم عليكِ أحدٌ؟” (يو 8: 10) أجابته بالنَّفي، فقال لها عندئذٍ: “ولا أنا أيضًا أحكم عليكِ. إذهبي ولا تعودي إلى الخطيئة”(يو 8: 11). هذا هو الربّ، الّذي نُحبِّه ونثق به، إنّه الإله الّذي يعيش معنا ويرافقنا في حياتنا، والّذي يتدخَّل عند مواجهتنا الأزمات فيَحلُّها لأنّه هو الوحيد القادر على ذلك.

في هذا النَّص الإنجيليّ الّذي نتأمَّل فيه اليوم، يَنقل إلينا الإنجيليّ قِصَّة أربعة أشخاص جاؤوا إلى يسوع حامِلين مُخلَّعًا، وقد تمكَّن هذا الأخير من الحصول على الشِّفاء بفضل إيمان هؤلاء، لذا قال لنا النَّص: “لـمَّا رأى يسوع إيمانهم”(مر 2: 5). إنّ شِفاء الإنسان لا يعتمد فقط على الله الّذي لا ينفكُّ يبادر إلى نَجدتنا، ولكنّه يعتمد أيضًا على إيمان الإنسان بالله. وبالتّالي، هناك سؤالٌ من الإنسان إلى الله للحصول على شِفاءٍ معيَّن، يُقابله جوابٌ من الله على هذا الطَّلب. إنَّ الله يُعطي ذاته بِكُليّتها للإنسان، وهذا يعني أنّ الإنسان أصبح يملك كلَّ شيءٍ، فمن دون الله ما كان شيءٌ ممَّا كان. إنّ الله قد عبَّر مرارًا عن رغبته في أن يُشارِكه الإنسان في حياته وفرَحه الأبديَّين، كما عبَّر الله أيضًا عن رغبته في أن يُشارِك الإنسان حياته البشريّة. وهذا ما تجلَّى بصورةٍ واضحةٍ في صلاة يسوع الكهنوتيّة إذ قال لأبيه: “أيّها الآب، أريد أنّ هؤلاء الّذينَ أعطيتني يكونون معي حيث أكونُ أنا، لينظروا مَجدي الّذي أعطيتني، لأنّك أحببتني قبل إنشاء العالم” (يو 17: 24). إنّ الله هو الّذي يبادِر إلى دعوتنا لِنَكون معه، وهو يتعامل معنا لا كمجموعةٍ بل كأفراد، فالربّ يعرف كلَّ واحدٍ منَّا باسمه، حتّى قبل أن يُولَد كما يقول لنا الله على لسان إرميا: “قَبل أن أُصوِّرَكَ في البَطن عرفتُكَ. قد دعوتُكَ باسمِك، فأنتَ لي” (إرميا 1: 5). إنّ الله يبادر إلى دعوةِ كلِّ واحدٍ منّا دعوةً خاصّة، إذ إنَّ كلّ َواحدٍ منّا فريدٌ في عينَي الربّ. إنّ الربَّ يمنح كلّ واحدٍ منّا موهبةً خاصَّةً به لا يمتلكها أخوه الإنسان، وبالتَّالي نحن لَسنا “نُسَخًا طِبقَ الأصل” عن بعضنا البعض.

إنّ هؤلاء الأربعة الّذين تكلَّم عليهم نصّ الإنجيل هُم مُشابهون لنا، نحن الموجودين في هذه العِليّة، من حيث الإيمان بالربّ. وهنا نَطرحُ السُّؤال: مَن هُم الأشخاص الّذين نَحملُهم إلى الربّ، من خلال صلواتنا وقدَّاساتنا، وأيضًا من خلال محبَّتنا للربِّ يسوع وأمِّه مريم وسائر القدِّيسين؟

إنّ هذه الجماعة الّتي تكلَّم عليها النَّص والمؤلَّفة من أربعة أشخاص قد حَمَلت إلى الربِّ يسوع مُخلَّعًا. وهنا، نَطرح السُّؤال مجدَّدًا: مَن هو المخلَّع الموجود في حياتنا، والّذي نُصلِّي مِن أجلِه اليوم؟ هل هو فقط الشَّخص الّذي يُفرِحنا والّذي نُحبِّه؟ وفي هذا الإطار، يقول لنا الربّ يسوع:”إذا أحببتم الّذي يُحبُّكم، فأيُّ فَضلٍ لَكم؟” (لو 6: 32).

إخوتي، إنّه من الضَّروريّ أن نُصلِّي من أجل الّذين نُحبِّهم ويبادلوننا هذه المحبَّة، أمثال أقربائنا وأبنائنا، ولكنَّ صلاتنا لا تقتصر عليهم فقط، بل عليها أن تشمل أيضًا كلَّ الخطأة والمهمَّشين والمتروكين مِن قِبَل المجتمع، فهذا هو واجبُنا كمسيحيِّين أن نَحملِهم إلى الربِّ يسوع. إنّ المخلَّعين كُثُرٌ في عالمنا، إنّهم كلُّ الّذين لا يسمعون كلمة الله والّذين يشوِّهون صُورةَ الهه فيهم، أمثال أولئك الّذين لا يدخلون إلى الكنيسة، وأولئك الّذين يتعاطون المخدَّرات والدَّعارة. إنّ الربَّ يسوع لا يرفض أيَّ شخصٍ يأتي إليه، ولكنَّ السُّؤال هو: مَن الّذي سيبادر ويَحمل هؤلاء إلى الربِّ يسوع، لِيَشفيهم؟! إنّ هذه الجماعة الّتي حَملت المخلَّع إلى الربِّ يسوع، والّتي لم تستسلم أمام كثافة الجماهير الموجودة أمام البيت الّذي يتواجد فيه الربّ، بل بادَرت إلى القيام بالمستحيل من أجل شِفاء هذا الإنسان المريض فنَبَشَت السَّقف ودلَّت المخلَّع ووضعته أمام الربِّ، تُعلِّمنا ألّا نستسلم وألّا نيأس من المحاولة المستمرَّة لإيصال إخوتنا إلى الربِّ يسوع! في هذا الإطار، قد يقول لي البعض إنّهم قد صلَّوا كثيرًا إلى الربِّ من أجل إنسانٍ معيَّن، ولكنَّ الربَّ لم يستجِب لا لصلواتهم من أجل أجله، ولا لإماتاتهم ولا حتّى لنِذورِهم. هنا، أقول لكم، إيّاكم أن تيأسوا من حَمل النَّاس إلى يسوع. فنَحن علينا أن نَحمل الآخَرين إلى يسوع، علامةً على التِزامِنا بالربّ، كما تَحمل الأمّ أبناءَها، إذ تقوم بالمستحيل من أجلهم، حتّى آخر نفسٍ فيها، وهذا ما نحن مدعوُّون إليه. هل رأيتم يومًا، أُمًّا تستسلم أمام حاجات ابنها؟ أقول لكم: إنّها تقوم بالمستحيل للقيام بكلِّ هو مطلوبٌ منها، ومهما كان الأمر مُستَعجِلاً، إذ وَجَدت فيه ما فيه خَيرُ ابنِها. إنّ العالَم كلَّه هو ابنُ الكنيسة، إنّه يُشكِّل جسد المسيح السِّريّ. إنّ الربَّ يسوع هو فادي البشريّة؛ والكنيسة هي عروسَةُ المسيح، وهي قد وُلِدَت من جَنب الربِّ على الصَّليب، إنّها جسَده ودَمه، ولذا يمكننا القول إنّها على مِثال فاديِها، “فاديةٌ” للعالم.

إنّ الكنيسة لا تستسلم أبدًا وهي تواظب على حَملِ جميع النَّاس إلى يسوع. إنَّ المخلَّع موجودٌ في كلِّ مكانٍ، قد يكون في بيتنا، أو أمامه، أو حتّى على شاشة التِّلفاز. في هذا الإطار، أتذكَّر القدِّيسة تريزيا الطِّفل يسوع، الّتي قامت بالصّلاة من أجل مُجرمٍ محكومٍ عليه، سَمِعت عنه في الجرائد، وهو كان إنسانًا مُلحِدًا، فاستجاب الربُّ لصلاتها، إذ قام هذا الرَّجل بالتقرُّب من سرِّ الاعتراف قبل موته، تائبًا عن كلِّ خَطاياه. إذًا، لقد قامت القدِّيسة تريزيا الطِّفل يسوع بِحَمل هذا الإنسان الخاطِئ إلى الربِّ. ونحن اليوم، مَن نَحمل إلى يسوع؟ إنّه فِعلُ إيمانٍ نقوم به، شاهدين لإيماننا بالربِّ يسوع. هذه هي رسالتنا على هذه الأرض.

في الختام، أسألكم ألّا تستسلموا أبدًا إلى اليأسِ من الصّلاة على نيّة  الّذين هُم بِحاجةٍ للتقرُّب من يسوع، فإنّ الربَّ هو رَحمةٌ لامتناهية. مِن خلالكم، يستطيع الربُّ أن يَكتبَ قِصصًا خلاصيّة جميلة، بحروفٍ من ذهب، كما فَعل مع القدِّيس شربل. إنّ الله لا يريد أعمالاً كبيرةً، بل حبًّا كبيرًا، حتّى وإنْ كان العَمل الّذي تقومون به صَغيرًا جدًّا.

بارككم الله، وأتمنَّى لكم رياضةً مباركة. باركَ الله كلَّ الّذين تعَبوا وحضَّروا لهذه الرِّياضة، كي يتمكَّن أكبر عددٍ من المؤمنِين، الموجودين في لبنان وخارجه، من المشاركة فيها، عبر وسائل التَّواصل الاجتماعيّ. وفي هذه الرِّياضة الرّوحيّة، نَحمل ذواتَنا إلى الله، إضافةً إلى كلِّ المخلَّعين الّذين ينتظر الربُّ اللِّقاء بهم من خلال إيماننا به وصلواتنا إليه من أجلِهم، فيَشفيهم. وأخيرًا، نَشكُر كلّ المسؤولين على جهودهم لإنجاح هذه الرِّياضة، كما نشكر الله على كُلِّ نِعمه الّتي يفيضها علينا من خلال الرُّوح القدس الّذي يَجمعنا على الدَّوم. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp