“تعالَ وانظُر” (يو 46:1)
عظة للأب يوحنّا داود، خادم كنيسة سيّدة العناية – البوشرية.
باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.
في داخلِ كلِّ إنسانٍ، رغبةٌ عميقةٌ وَشَوقٌ عظيمٌ لرؤيةِ وجه الله. ولكن سقوطه في الخطيئة وانفصاله عن الله، يُفقِدُ الإنسان قُدرته على رؤية الله واستعداده لذلك.
في العهد القديم، كُثُرٌ كان البشر الّذين حاولوا رؤية وجه الله، ولكنْ عَبثًا حاولوا إذ إنَّ كلَّ محاولاتهم باءت بالفشل: لقد طلب النَبيّ موسى من الله رؤية وجهه، فأجابه الله أنّه مِن المستحيل على البشر أن يروا وجه الله، ولكنْ باستطاعتهم سماع صوته والشُّعور بِلَمساتِه في حياتهم. كذلك، طلب النبيّ إيلّيا من الله السّماح له برؤية وجهه، ولكنَّه لم يتمكَّن من ذلك إذ إنَّه نال الجواب نفسه الّذي حصل عليه النبيّ موسى. إذًا، رغبة الإنسان العميقة في رؤية وجه الله، موجودة منذ القديم، غير أنَّ الإنسان لم يتمكَّن من ذلك، إلّا مِن خلال أعماله وعظائمه في حياته، ومن خلال الأنبياء الّذين نقلوا كلام الله للبشر. إنَّ الله قد أحبّ البشر للغاية، لذا لم يكن بإمكانه أن يتجاهل رغبة الإنسان العميقة في رؤية وجهه، فأرسل لهم “في ملء الزَّمن ابنه الوحيد، مولودًا من امرأة، مولودًا تحت النّاموس، صائرًا في شبه البشر” (غل 4: 4)، فتمكَّن عندها الإنسان من رؤية وجه الله في وجه ابن الله، ربّنا يسوع المسيح.
في الإنجيل الّذي تُلِيَ على مسامِعنا اليوم، يُخبرنا الإنجيليّ يوحنّا أنّ فيلبُّس قد دعا نتنائيل إلى رؤية المسيح قائلاً له:”تعال وانظر” (يو 1: 46). وحين كان الربُّ يسوع يُخبر تلاميذه عن الآب، قال فيلبُّس الرَّسول لِيَسوع: “يا ربّ، أرِنا الله وحسبُنا” (يو 14: 8)، فكان جواب الربِّ له: “مَن رآني قد رأى الآب”(يو 14: 9)، “أنا والآب واحد”(يو 14: 11). إذًا، لا يستطيع الإنسان رؤية وجه الله إلّا من خلال ربّنا يسوع المسيح.
إنَّ الأحد الأوّل من الصّوم، في الكنيسة البِيزنطيّة، هو أحد تذكار انتصار الكنيسة على بِدعة حرق الإيقونات وتحطيمها. ومن خلال هذا الأحد، تُخبِرنا الكنيسة أنّ على الإنسان الّذي يرغب في رؤية وجه الله، أنْ يَضَع نفسَه في حضرة الله، ويتأمَّل في كلمته المقدَّسة ويتَّحد بابنه الوحيد ربّنا يسوع المسيح، لكي تَنْطَبِع فيه صورة وجه الله، ويتمكَّن الآخَرون من رؤية وجه الله في وجهه. من خلال أيقونات القدِّيسين، تدعونا الكنيسة قائلةً لنا: “تعالوا وانظروا” إلى وجه الله الـمُشِعّ في وجوه هؤلاء المؤمِنِين الّذين تمرَّسوا في التأمُّل في كلمة الله، فانطبعت في وجوههم صورة ابن الله، يسوع المسيح.
إخوتي الأحبّاء، يُصادف اليوم العاشر من آذار، ذِكرى السّنوات السِّت لانطلاقة هذه الجماعة في رعيّتنا، الّتي بدأت عملَها في هذه الرعيّة في العاشر من آذار 2013. ومنذ ذلك الحين، ونحن نحتفل مع جميع أبناء الرعيّة، في الخميس الأوّل من كلّ شهر، بالذبيحة الإلهيّة، من أجل أحبّائنا الراقدين. وليس من باب الصُّدفة، أن تُصادفِ الذِّكرى السادسة لانطلاقة هذه الجماعة في هذه الرعيّة، في أحد تذكار الأيقونات، إذ إنَّها تُظهر وجه الله للمؤمِنِين. إنَّ الموت يُدخِل المؤمِنِين في حالةٍ من الحزن واليأس، ولكن هذه الجماعة ذكَّرتنا بإيماننا المسيحيّ بالربّ قائلةً لكلِّ مَن فقَد عزيزًا أو حبيبًا: “تعال وانظر”، إلى الربّ القائم من الموت، فيتحوَّل الموت إلى مَصدَر رجاءٍ وفرح.
إنَّ كلّ جماعة مسيحيّة هي جماعة رجاء، وبالتّالي فإنَّ كلّ جماعة مدعوَّة إلى أن تعكس للآخرين وجه الله، من خلال عيشها للرَّجاء وانتظارها قيامة الأموات في اليوم الأخير، فيمجِّد الآخَرون الله من خلال تلك الجماعات المسيحيّة. في عهد آبائنا الرُّسل والآباء القدِّيسين، كان المؤمِنون يسيرون في الجنّازات المسيحيّة مرتِّلين تراتيل فرحٍ وتسبيحٍ لله، فكانوا شهادة حيّة للرَّجاء الّذي يؤمِنون به، أمام الآخَرين. أمّا اليوم، فللأسف، فإنَّ جنّازاتِنا مليئةٌ بالنُّواح والبكاء، وما هذا إلّا دليلٌ على ابتعادِنا عن إيماننا بالله.
في هذه الذِّكرى لجماعة “أذكرني في ملكوتك”، نجدِّد الدَّعوة إلى جميع أبناء هذه الرعيّة، إلى استعادة الرَّجاء المسيحيّ بالقيامة، فنكون شهودًا حقيقيّين للمسيح في عالمنا اليوم. ونقدِّم ذبيحتنا اليوم، على نيّة هذه الجماعة بكلّ أعضائها، كي تزداد انتشارًا أوسع في الكنيسة، فيتجلّى وجه الربّ فيها أكثر فأكثر، أينما تواجدَت، ويَتمكَّن كلّ واحدٍ منّا من دعوة الآخَرين
قائلاً لهم:”تعالوا وانظروا”، إلى جماعةٍ تحيا على رجاء القيامة. آمين.
ملاحظة: دُوِّنَت العِظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.