جمال الحريّة،
بقلم الأب فادي مسلّم،
في خضمّ شهر كانون الأوّل وزَحمته، شهر تأنسُّن الإله وتأليه الإنسان؛ مِحور شراكة النّاسوت باللّاهوت واختلاط مقاييس الجسد والرّوح؛ انقلاب غريب عجيب، أعجبَ الملائكة بِتنازل الألوهة، ورفعَ المتواضعِين إلى سموّ الإله! فبِتنا نرى الكون كلّه في حركة محوريّة، تدور حول ولادة الإله في الجسد من عذراء وبتول، ابنة أرضنا وشرقنا، وذلك بِوساطة الرّوح القدس.
1. في الشهر السّادس، يأتي ملاك من عند الله إلى مدينَةٍ منَ الجَليلِ اسْمُها النّاصِرَة، إلى عذراءَ مَخْطوبَةٍ لِرَجُلٍ مِنْ بيتِ داوُدَ اسمُهُ يُوسُف واسم العذراء مريم؛ ويُلقي عليها السّلام قائلًا: “ألسّلام عليكِ يا مُمتلئة نعمة، الرّبّ مَعك“(لو 1: 26 – 27)! نتساءل مع مريم حول معنى هذا “السّلام“. “شالوم” ومعناه بالعبريّة “وجود الشّيء مُتمَّماً وكاملاً، جميلٌ كما خلقه الله”! وكأنّ الملاك يقول لها: “يا مريم، إنّ الإنسان الذي خلقه الله على صورته في اليوم السّادس منذ البدء، قد تشوّه بسبب خطيئة العصيان، فمنكِ أنتِ أيتها السّامية بِطاعتها، سيَأتي آدمُ الجديد، ليُعيدَ صورته الأساس إلى بَهائها الأوّل”. لذلك، يرى القدّيس أغسطينس أنّه، في البَدء خلق الله الإنسان على صورته، أمّا في التجسّد، فصار الله على صورة الإنسان لكي يتسنّى لكلّ إنسان، أن يصير بإنسانيّة يسوع، شبيهاً بالله. فإن كان اللهُ في سِرّ التجسّد، قد عبّر لنا بأنّه يرفض ذاته بأن يكون إلهاً بدون الإنسان، فلنتعلّم نحن أيضاً، بألاّ نعيش بِدون الله وبِدون الآخرين، لئلاّ نجرح كيانه ونخسر إنسانيّتنا.
2. “ها أنتِ تحملين“. نلاحظ أنّ الملاك لم يأخذ برأي مريم قائلاً: ما رأيكِ بالحَبَل الإلهي؟ فعندما يقرِّر الله أن يقوم بشيءٍ، فإنّه لا يقف على خاطر أحدٍ، ولا يستأذن أحدًا. ولأنّ المسألة هنا لا تخصّ مريم فحَسب، إنّما هي مسألة خلاص الخليقة بِأسرها، يُطرح السؤال: أين تكمن حرّية مريم؟ أين تكمن حرّيّة الإنسان أمام قرار الله.
3. هل عاش آدم وحواء حرّيّتهما عندما رَفضا وصيّة الله؟ هل حريّتي تسمح لي العيش كما يحلو لي وعندما أريد وكيفما أريد وحيثما أرغب ومع من أشتهي؟ هل تُدعى “حرّيّة”، تلك الطريقة التي تؤدّي بي إلى الهلاك النفسيّ والجسديّ والروحيّ؟
– فإن تأمّلنا في عناصر البشارة الإلهيّة لمريم، نَجد أنّ مريم، على الرّغم من عدم فهمها لجميع الأمور التي تلفّظَ بها الملاكُ، أعلنت قائلة: “ها أنا أمة للرّبّ، فليَكن لي بِحسب قولك”! إنّ مريم بإعلانها هذا، بَلغت أسمى درجات الحرّيّة، لأنّها قبلت بِمشروع الله.
– نستخلص إذًا، أنّ عَيش الحرّية بالملء، يكمن بأن أختار ما اختاره الله لي؛ وبِألّا أتراجع عن القرار الذي اتّخذتُه في البداية أمام الله والنّاس، وأن أتحمّل مسؤولية هذا القرار، وأطيع مستلزماته وأعباءه ونتائجه، مقتنعًا بأنّ قيود هذه الحرّيّة، تحرّرني وتوصِلني إلى كمال إنسانيّتي، مُتّكلًا على العناية الإلهيّة التي تقودني ضمن أمواج بَحر هذا العالم إلى ميناء القداسة.