محاضرة للأب ابراهيم سعد،
من المرشدين الروحيّين لجماعتنا الرسوليّة،
حارب الغضب بكلمةِ الله،
باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.
موضوعُنا هو عن صراعِ الانسان مع نفسِه عند الغضب، وسنحاول أن نرى ماذا يربح الانسان من غضبه، وماذا يخسر من جرّائه. إنّ الانسان معرّض في كلّ أوان لأن يكون أمام مشهدٍ، أو تحدٍّ يدفعه إلى الغضب. والسؤال الّذي يُطرح هو: ما الّذي يجب أن يتنبّه إليه الانسان عند الغضب؟ وهل من خسارة، وربح في هذا الموضوع؟
إنّ الغضب وردّات الفعل الناتجة عن الغضب، لا تُعالَج في حينها، ولا تُعالج وحدها. إنّ كلّ انفعال سلبيّ يترافق مع أذيّة للآخر، فالانفعال لا يتوقف عند صاحبه، بل يتخطّاه إلى الآخر، أمّا وإن بقي الانفعال السّلبي ضمن حدود الانسان المنفعل، فذلك يؤثر سلبًا عليه، ويؤذيه على الصعيد الصحيّ والنفسيّ. إن الغضب في الأدب الرهبانيّ القديم هو من الأهواء الـمُعيبة. فعند الانسان، يمكننا أن نلاحظ الشهوة الطبيعية كالجوع مثلاً، والشهوة غير الطبيعيّة كالشراهة مثلاً. إذًا، هناك شهوات مفيدة وأخرى ضّارة: من الطبيعيّ أن يشعر الانسان أو أن ينفعل، لكن عندما يتحوّل هذا الانفعال إلى غضب، فإنّه عندها يكون قد قرع باب الخطيئة كي تفتح له. ولا يعتقد أحدٌ منكم أنّ الغضب في بعض الأحيان لا يؤدي إلى ارتكاب خطيئة، غير أنّ الغضب الإلهيّ وحده لا يؤدي إلى ارتكاب خطيئة.
أن يكون غضبك غضبًا إلهيًّا يعني أن يكون غضبُكَ مرتبطًا برضى الله، فتغضب مثلاً عندما ترى أحدهم في عداوةٍ مع الله. أنت لست مضطرًا إلى أن تنفعل أمام شخص يَكفُر ويَتفوَّه بالحماقات تجاه الله، فترّد على ذلك، بانفعال شخصيّ أي بأن تردّ عبر أذيته وإهانته، ولا يجب أن تَنْعَتَهُ بالصّفات السيئة الـمُهينة له. عندما يوجّه إليك أحدهم صفةً سيئةً بطريقة مباشرة، عندئذٍ تغضب، وتشعر بضرورة الدّفاع عن ذاتك، إذ ترفض أن يتمّ لصق هذه الصفة السيئة في شخصِكَ، وردّة فعلك ستكون منطلقة من شخصك، فأنت المعنّي بالدّفاع عن ذاتك، وبطريقة شخصيّة في هكذا حالة. إنّ الغضب الإلهيّ هو الغضب الّذي لا يتحوّل إلى خطيئة. إن غضبت على أخيك، فإنّك تؤذي أخاك بسبب انفعالاتك، وعوض أن يكون غضبك من أجل الإصلاح، يصبح غضبك سببًا لخطيئة قد يرتكبها أخوك. إنّ أُمّ الفضائل هي “التواضع”، وأمّ الرذائل هي “التكبّر”.
إنّ مشكلة الغضب السريع هو أنّه يجعل الانسان يتخّذ موقفًا من الآخر، فهذا الغضب ليس “فشة خلق”، أي آنيًا وعفويًا لا خلفيّات له. إن غالبية النّاس الّتي تغضب بسرعة، تبرِّر غضبها بأنّها على الرّغم من غضبها السريع، فهي طيبة القلب. إن مثل ذلك التبرير فيه نوع من التكبّر عند الانسان، حتّى وإن لم يقصد الانسان أن يكون متكبِّرًا. صعبٌ جدًّا على الانسان أن يكون متّزنًا عند الغضب، وأن ينتبه لكلماته حينها، لكنّ ذلك ليس مستحيلاً، فالأمر يتطلب تمرينًا ومجهودًا. إنّ ذلك يتطلب تحضيرًا روحيًّا كبيرًا، فلا يعود الانسان يغضب بسهولة، ولأيّ سببٍ كان.
إنّني أعلم أنّ الكثيرين من الّذين تمكنّوا من السيطرة على غضبهم وانفعالاتهم، تعرّضوا لاتهامات سلبيّة من قِبَل الآخرين، كأن يُتَّهَموا بأنّ لا شيء يؤثر فيهم، مستخدمين عبارة “تمسح” للدليل عليهم. ما يضّر بعلاقتنا بالرّبّ هو إحساسنا أن تلك العلاقة محكومة بما يُسّمى الواجبات والحقوق. لا تخافوا من أن تُغضِبوا الله بل خافوا من أن تَجرحوا علاقتكم به. إنّ العلاقة بين الأحبّاء ليست محكومة بما يجوز وما لا يجوز فعله، بل بالأمور الّتي تبرهن عن وجود علاقة بين الأحبّاء أو عدمها، كذلك على علاقتنا بالله أن تكون هكذا. إنّ أساس موضوع الانفعال والغضب، هو وجود جرعة زائدة من “الأنا” ego عند الانسان، مجبولة ببعض الكبرياء. وخطورة الكبرياء، هو أن القسم الأكبر منه لا يظهر للنّاس، أي للعلن.
إنّ المرض الّذي تظهر عوارضه، يستطيع الانسان معالجته، فيُشفى منه، ولا يعود عندئذٍ الانسان مريضًا، إذ لم يعد المرض خطيرًا. غير أنّ المرض الخطير هو الّذي يعيش في جسم الانسان ويتآكله ولا عوارض خارجيّة له، فعندما يكتشف الانسان وجود هذا المرض، لا يعود العلاج ينفع إذ يكون قد أصبح في مراحل متقدمة جدًّا. هذا ما كانت تفعله أمهّاتنا عندما كانت ترتفع حرارة أجسادنا حين كنّا أطفالاً، فعند ظهور البقع الحمراء مثلاً، على أجسادنا، كُنَّ يعلَمنَ أن ما من خطر على حياتنا بعد الآن، إذ أنّ المرض قد ظهر، وسرعان ما سنُشفى منه. إنّ خطورة الكبرياء تكمن في وجوده بشكلٍ خفيٍّ، لا يستطيع الآخرون رؤيته بوضوح، لا بل تكمن خطورته في أنّه يستطيع أن يغِّش النّاس، إذ ترتدي تصرفاتك الناتجة عن الكبرياء لباس التواضع، فيُخيَّل للنّاس أنّك فعلاً متواضع. إنّ الكبرياء يؤدي إلى القلق، والاضطراب، إذ يصبح الانسان سريع العطب، فتصبح أيّ ملاحظة توّجه إليه تجرحه، وتعبِّر عن ملامةٍ له، فيقوم الانسان عند توجيه الملاحظات له، بالتبرير كوسيلة للدّفاع عن نفسه. إنّ التّبرير يؤكد الكبرياء، إذ يجعلك غير قادر على الاعتراف بالخطأ، وبالتّالي ترفض التّصحيح والتّحسين، ويخلق لديك مشكلة مع الشخص الّذي وجّه إليك الملاحظة، فتسعى من جديد إلى وضع قناعٍ آخر تجاهه لإخفاء أمور كثيرة. إن الغضب هو إحدى حجارة مسبحة الرذائل تجمعها، أمّ الرذائل، وهي “الكبرياء”.
إنّ النتائج المضرّة للغضب هي تحوّل شعور الانسان وإحساسه تجاه هذا الشخص، من شعور إيجابي إلى شعور سلبيّ، وإن أردنا تلطيف التعبير مستخدمين كلمات تدّل على تقوى، قُلنا إنّ شعور الإنسان تجاه الّذي وجّه إليه الملاحظة تحوّل إلى شعور حيادي، إذ يصبح غير مبالٍ به. والحياد هو شعور سلبي في الكتاب المقدّس: فالنأي بالنّفس هو سلبي، وليس إيجابيًّا، ففكرة الحياد تشير إلى ألا أكون مع أي من الطرفين، لا مع الحقّ ولا مع الباطل. إذًا فالحياد سلبيّ، إذ إنّ هناك دائمًا أحد الطرفين على حقّ، أي أنّ هناك موقفًا صحيحًا وآخر خاطئ. وعندما تقع في موقفِ حيادٍ مع الشخص الآخر، في موقف نأيٍ بالنفس عنه، أي في موقف ابتعادٍ عنه، لا يطول الأمر بك ليتحوّل شعورك تجاهه من شعور إيجابيّ إلى شعور بالكراهيّة، ولا يطول الأمر كي تتحوّل المزايا الإيجابية في هذا الشخص إلى سلبيّة، فتكون قد أَمَتَّ في الآخر، كلّ مزاياه الإيجابية إذ ألغيتها عنه في فكرك، وهذا ما يفسِّر لنا العبارة الموجودة في إحدى المزامير إذ نقرأ العبارة التّالية: إن غضبتم فلا تُخطئوا. فالكتاب لا يقول اغضبوا ولا تُخطئوا، بل: إن غضبتم فلا تُخطئوا. إذًا الكاتب لم يعطِك أصلاً حقّ الغضب كما أنّه يعلم أنّه عندما تغضب تكون كمن يقرع باب الخطيئة كي تفتح لك.
إن الخطايا أنواع: فمنها من يُبادر أي يؤذي، ومنها غير المبادر أي الّذي لا يبالي، وهذان النوعان من الخطايا هما وجهان لعملة واحدة، بمعنى أنّه إذا قمت بأذية الآخر، فأنت تُلغيه، وإذا كنت لا مباليًا تجاهه، فأنت تُلغيه كذلك. إنّنا هنا نتكلّم عن حالة من القتل الروحيّ والفكريّ، لذا يجب الانتباه واليقظة. يبدو أنّ الكلمات الّتي تقولها عند الغضب عن الشخص الآخر الّذي هو أمامك، تكون من أصدق الكلمات في رأيك عن الآخر، بمعنى أنّك تصفه وتحلّله. إنّ الغضب يكشف لك عن مكامن في داخلك، غالبًا ما تحاول أن تتجاهلها، لأنّك تكون في حالة انسجامٍ في الظاهِر مع الآخر.
إنّ المسايرة والمساومة وإرضاء الخواطر تترجمها ببعض الصفات، والمواقف الهشّة، الّتي لا تعبِّر بالحقيقة عن رأيك الصادق بالآخر. لكن عند الغضب تتعرّى الأمور من مواقف المساومة والمسايرة، ولا يبقى فيك إلاّ الرأي الصّادق بهذا الشّخص، فتقوله. إنّ هذا الموقف يقتل فيك طاقتك في أن ترحم الآخر، إنّه يقتل فيك قدرتك على رحمة الآخر، وقدرتك على المسامحة، وفتح الطريق أمامها. إنّ هذا الموقف يقتل هذه الطاقة والقدرة رويدًا رويدًا، لأنّه وقت الغضب تصبح أمام موقف بدون مساومة، فتصبح قريبًا من الصدق عند الغضب، لذلك لا يعود وقتك يسمح في ترتيب الأمور وجعلها في الظاهر جيّدة، ولا يكون تصحيح الأمور مع الآخر من صلب اهتمامك. فعندما يتشاجر النّاس، ويغضبون ويجرحون بعضهم البعض، يكون همّهم الوحيد هو الدّفاع عن ذواتهم. فلو استغلَيْت فرصةً مثلاً عند شرب القهوة، أو في عشاءٍ ما، لأخبرك عمّا يزعجني فيك بطريقة لطيفة وهادئة تعبِّر عن محبّتي لك، عندها يكون هدفي بنيان الآخر. لكن عند الغضب، يكون همّي الوحيد الدّفاع عن ذاتي، فالآخر يصبح تهديدًا لوجودي، وللهويّة الّتي قد رسْمتُها أمامه عن ذاتي، فتتهدّد هذه الصورة بسبب الموقف الجارح والغاضب.
لذا ما أقوم به هو إلباس الآخر هويّة أخرى مختلفة عن الّتي كنت أراها فيه، أي أنّني أقوم بنزع كلّ الصفات الجيّدة عنه، صورته الجميلة في عينيّ، وألبسه قناعًا وصورة أكثر بشاعةً من الّتي وضعني فيها الآخر أو ألبسني إيّاها. وبالتّالي أكون كمن يضع حصانة لذاته، وكلّ ذلك كي لا تهتزّ “الأنا” فيّ، كي لا يهتز كبريائي، علمًا أنّه في اللّيل في أثناء النّوم، كلّ شخص منّا يرى ضعفه، ويسكبه أمام الله، يسكب خطاياه، ونقائصه، ويجود، ويستفيض بالأمور السيئة أمام الله، وإن كان لم يرتكبها، وذلك لكي يستعطف الله أكثر من أجل أن يرحمه.
إنّ الغضب يقتل طاقتك على إمكانيّة الرّحمة والمسامحة. والشخص الّذي تقطع معه جسر الرّحمة والمسامحة، تكون قد قطعت معه بالتأكيد جسر المحبة. وعندما تقطع جسر المحبة والرّحمة مع الآخر، يصبح شبه مستحيل إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الخلاف. إنّ ذلك صعبٌ لكن ليس مستحيلاً عند مَن اتخذ القداسة منهجًا لحياته. نحن نتحججّ، كلبنانيين، بحجج واقعيّة كأن نقول بأنّ الثقة قد تمّ كسرها، ويصعب بعد ذلك بناؤها من جديد.
إنّ الموضوع ليس موضوع ثقة بالحقيقة، إنّما الأمر يتعلّق بموقفك من الآخر، الناتج عن حسد، أو غيرة، أو غير ذلك. فمن الطبيعي إن كنت مثلاً شخصًا نشيطًا، وكثير الحركة، أن ينزعج من نشاطك، الآخر الكسول وقليل النشاط، وتعبيرًا عن غيرته منك، يتهجم عليك بكلماتٍ مليئة بالغضب. إنّ الغيرة هي شهوة مفيدة طبيعيّة، أما الحسد فهي شهوة ضارّة. أنت تغار من الآخر، فتسعى لتصل إلى ما وصل إليه إذ تراه أفضل، ويصبح مثالاً لك لتحذو حذوه. أمّا الحسد، فهو أن تسعى إلى إرجاع الآخر إلى حيث أنتَ، وذلك عبر قتله المعنويّ والنفسيّ. إنّ القتل السريع لا يشفي غليل النّاس، لكنّ القتل البطيء هو يفعل. الغليل هو النّفس المشوّهة والمريضة، بسبب أمور حصلت في السابق. وبما أنّ نفسي ليست مدّربة، ولا مروحنة، وليست مزخرّة برضى الله، وكلماته، وبالصلوات وبالأقوال المفيدة، تصبح كبُركانٍ ينتظر فرصةً كي ينفجر. هذه هي مخاطر الغضب، وهذه هي نتائجه. إن طريقة ابتسامتك تجاه الشخص الّذي أزعجك، وأنت غضبت منه، تصبح مزيفة، وغير حقيقيّة، حتّى وإن تمّت المصالحة. إنّ الابتسامة المزّيفة تتطلبّ جهدًا من عضلات الوجه.
والابتسامات نوعان: الابتسامات الّتي تتطلّب فعلاً، وأخرى الّتي لا تتطلّب فعلاً. إن الابتسامة الصادقة لا تتطلّب فعلاً. أما الابتسامة غير الصادقة، فتتطلّب فعلاً، إذ إنّك تقرِّر الابتسام لهذا الشخص قبل أن تراه بثوانٍ قليلة، فالابتسامة غير الصادقة تتطلّب قرارًا بذلك. إذا طلبتم من أحد المصوّرين التقاط صُوَرٍ لابتساماتِ النّاس العفويّة، وغير العفويّة، لرأيتم أن عضلات الوجه في نوعي الابتسامة مختلفة. لذلك من يتخصّص في قراءة تعبير الجسد، يتمكّن من التمييز بين نوعي الابتسامات. إنّ ابتسامتك لشخص تصالحت معه بعد أن كنت على خلاف معه، تتطلّب مجهودًا وتخطيطًا. أنت لا تحتاج لأن تقول لأحبّائك إنّك فعلاً تحبّهم، إذ إنّ تصرّفاتك العفويّة ستُظهر لهم ذلك، من خلال الابتسامة، وطريقة المعانقة الّتي تعبِّر عن مدى اشتياقك إليهم.
أمّا على الصعيد الروحيّ، إنّ الظنّ بالسوء، هو كذب بالفكر. فعندما يطلب الله منك ألاّ تكذب، فهو لا يقصد بذلك عدم التّفوه بالأكاذيب فحسب، بل يتخطّى ذلك إلى ما هو أبعد، فالله لا يريد منك أن تتسّرع في حكمك على الآخرين من خلال ظنونك السيئة بهم، وبخاصّة أولئك الّذين أنت على عدم صفاء معهم، إذ إنّك تقول بأنّك لست تكرههم، لكنّك لا تحبّهم، وهذا ما يُطلَق عليه اسم الكراهية بالفكر. لا أحد يستطيع أن يعرفك على حقيقتك سوى الله وذاتك. وهذه نعمة من الله نشكره عليها كلّ حين. أتتخيّلون ما الّذي سيحدث لو كان كلّ منّا يعرف خطايا الآخر؟!! ستكون كارثة حتمًا.
إذًا حالة الغضب هي حالة خطرة جدًّا، وعلينا التّدرب على التخفيف من وطأتها. إن تخفيف وطأة حالة الغضب، لا يكون بتبرير خطأ الآخر، والتقليل من حجمه، فالخطأ هو خطأ. ولا يكون تخفيف وطأة حالة الغضب عبر النّظر إلى الأمر من منظار روحيّ عبر تذّكر أن الآخر صورة لله، متناسيًا الجرح الّذي سببه لك؛ فالآخر قد أذاك حقًّا وأغضبك بكلماته الجارحة. إذًا، لا يكون التخفيف من وطأة حالة الغضب عبر الفلسفات الروحيّة، بل إنّ الحلّ لمشكلة الغضب، يبدأ عندما يعي الانسان حقيقة الموت. يبدأ التخفيف من وطأة الغضب عندما تفكّر في الموت وتتذّكر الّذين سبقوك وماتوا، وتتذّكر أنّك مائت، وأنّك ستموت يومًا ما.
إن الموت هنا لا نقصد به فقط انتقالك إلى بيت الآب، ومعاينة وجه الله، بل نقصد به أن تتذّكر أنّك كلّ شيء سيفنى، وأنّك لن تأخذ معك شيئًا من هذه الأرض، ولن تحصل على شيءٍ، ولن تربح شيئًا. ففكّر إذًا جيّدًا: هل يستحقّ الأمر أن تغضب، وأن تكون على عداوة مع كثيرين من أجل كبريائك؟! ليست صدفة أن يقوم كلّ راهب في بعض الأديرة الرهبانية بحفر قبره يوميًّا بعد الانتهاء من الصّلوات، والاعمال المنزليّة، والأعمال الزراعيّة، بل إنّ ذلك من شأنه أن يُذّكر الراهب باستمرار، وبطريقة يوميّة، أنّه انسان مائت، وأنّه لا يملك شيئًا، ولن يملك شيئًا في هذه الأرض. لذا لا تسعَ إلى جمع الثروات، والأمور الماديّة، فأنت لن تصطحبها معك حين تموت، وكلّ شيء سيبقى في هذه الأرض. حين تموت، ويحضّرك أحباءك للدّفن لن تقرِّر أنت ماذا سترتدي، بل هم من سيقرِّرون ذلك عنك، وقد درجت العادة إلباس بدلةً سوداء للرّجال، وثوبًا أبيض الّلون للنّساء. نحن الّذين ما زلنا في الحياة نقرِّر ذلك، فأنت عندما تموت لا يعود لك رأي، ولا تعود تملك شيئًا، وستغادر هذا العالم من دون أن تأخذ منه شيئًا، ولا حتّى شكلك الخارجيّ، فهو سيهترئ بعد فترة قصيرة من موتك.
في أثناء حياتك على هذه الأرض، تمشي مختالاً بنفسك، ورأسك يلامس السّماء، وتعتقد نفسك سيّد هذه الأرض، لكن عندما تموت، جسدك هذا سيصبح ترابًا، ولن يتجرأ أحد من الأحياء على المشي فوق ترابك، إذ إنّه تراب شخصٍ مُتوفّـىً. ينتهي الانسان بشريًا، عندما يموت، ولا يبقى من أثره سوى علاقاته الطيّبة مع محبيّه الّذين سيذكرونه في الصّلاة الّتي يرفعونها من أجله كما أنّهم سيطلبون صلاته وشفاعته لهم عند الله. وحالات غضب الآخرين منك تنتهي عند موتك، فلا يعود للغضب مكان بينك، وبين الأحياء. فإن كان الموت، من جهة، يجعلك تدرك أنّك لن تأخذ معك شيئًا من هذه الحياة، فهو يظهر لك من جهة أخرى، أنّ كلّ حالات الغضب والخصام، ستنتهي عند موتك، أو عند موت من أنت متخاصم معه. فعندما تتذّكر أنّك مائت، وتفكِّر في الموت، وأنّك لن تأخذ معك شيئًا من هذه الحياة سوى أعمالك الصالحة وعلاقاتك الطيّبة مع أحبائك، ستصبح ردّات فعلك أخفّ وطأةً، وستسعى إلى تمرين نفسك من أجل أن تكون وطأة غضبك أقلّ شدّة.
إنّ كلمة الله هي أيضًا كفيلة بالتّخفيف من وطأة غضبك وحدّته. فكلما تغلغلت في نفسك وفكرك كلمة الله، كلّما أصبحت أقلّ تسرّعًا في الحكم على الآخرين، وأكثر تفهّمًا لتصرّفاتهم. هذه الطاقة تحصل عليها كلّما تسلّحت بكلمة الله. غالبًا ما يكون الإنسان الرّوحيّ قليل الانفعال، وبطيئًا في التعبير عنه. لكن تجدر الإشارة إلى أنّ العكس ليس بالضرورة صحيحًا. فليس كلّ إنسانٍ قليل الانفعال، بالضرورة، إنسانًا روحانيًّا. إنّ العمل على الذّات لا يأتي من خلال قراءة الكتاب المقدّس فحسب، بل من خلال فهم الإنسان لكلمة الله. فالله هو الّذي يرافقك في الصلاة وعمل الخدمة. في مسألة التخلّص من الخطايا، كان أعظم الآباء الروحيّين والرّهبان ينصحون المؤمنين الّذين يلتجئون إليهم بالتعويض عن الخطايا من خلال القيام بأعمال صدقة بشكل متواتر. فالصّدقة هنا، لا تقتصر على تقديم المال إلى الآخر إنّما تقوم كذلك على القيام بأعمال خير، ورحمة تجاه الآخر.
إنّ الغضب محوره ذاتك، أما محور الأعمال الصالحة فهو الآخر: إنّ عمل الخير يخرجك من ذاتك ويُطلقك صوب الآخر، يخرجك من “الأنا”. لكن على أعمال الصدقة ألاّ تكون يتيمة وإلاّ فلن تساعدك على التخلّص من غضبك، لذا فاللّجوء إليها مرارًا كي تتخلّص رويدًا رويدًا من غضبك ومن كبريائك. على الأعمال الصالحة أن تصبح منهجًا لحياتك. إليكم بعض الكلمات الّتي نستعملها للتعبير عن حالات غضبنا: “إنّني لا أغضب بسرعة لكن الويل إن غضبت”، “لم تروا شيئًا من غضبي بعد”، فما الّذي يمكننا أن نراه جرّاء غضبك! إنّ الله يرى، وأنت أيضًا ترى ما الّذي يحدثه غضبك، وهذا يكفي.
إذًا تذّكر دائمًا أنّك ستموت، أو تذّكر أن الآخرين سيموتون أيضًا، وفكِّر في الموت بشكلٍ عام من خلال تمرين عقلك، وذلك سيخفِّف من وطأة غضبك بالتأكيد. تذّكر كلمة الله واقرأها واسمع لها دائمًا، اجعلها تتسّرب إلى قلبك، لأنّها متى احتّلت خلايا عقلك وقلبك، فهي قادرة على أن تغيّرك، وتساعدك، إن أردت، في السيطرة على غضبك. إذًا مرِّن نفسك في تذّكر خطاياك دائمًا، وحاول أن تفكّر في كلّ صعوبة تمرّ بها، وخاصّة عند غضبك، كيف كان الله سيتصرّف لو كان مكانك، وما سيكون وضعك أمام الله يوم الدينونة. ليس المطلوب أن تسامح الجميع مهما فعلوا، وأن تحبّهم كما يفعل الله، بل المطلوب هو أن تحلّل تصرّفاتك حين تغضب، وتحاول أن تعمل على تحسين وضعك أمام الله يوم الدينونة.
هذه هي الأمور الثلاثة المطلوبة منك كي تخفّف من وطأة غضبك: أن تتذّكر أنّك مائت، وتتذّكر خطاياك وتحاول التعويض عنها بأعمال رحمة، وأن تتذخّر بكلمة الله، فتنتبه إلى كلّ كلمة تخرج من فمك. انظروا إلى الأولاد الصّغار! إنّهم يلعبون بفقّاعات الصابون، ففقاعة الصابون تكون صغيرة ضمن الحلقة، لكن عندما ينفخها الصّغار، تصبح كبيرة، إذ تخرج من الحلقة.كذلك فإنّ الكلمة التّي تصدر عنك تكون صغيرة جدًّا، لكن عندما تتلفّظ بها ويسمعها الآخر، تصبح كحجم الجبال الّتي توضع على رأسه، وأنت تعتقد أنّ كلمتك صغيرة، ولا تستحقّ كلّ هذا الغضب. بالنسبة إلى الآخر، فكلماتك التّي تعتقد أنّها صغيرة ولا تستحقّ الغضب قد دمّرته، أمّا هو فقد فسّر كلامك الناتج عن غضب، أنّه دليل على عدم محبّتك له.
وهنا الملاحظة الّتي يجدر الانتباه إليها، هي أنّه لا يجب تشريع تلفظّ الآخر بالكلمات الجارحة، ولا يجب تعظيم شأن تلك الكلمات، وكأنّها لا تستحقّ المسامحة. أَعِد النّظر بوعيٍ كاملٍ ويقظة روحيّة لتسلسل الأحداث الّتي أدّت إلى غضبك. وفكّر بالمسيرة التّي سلكتها، وتلك الّتي سلكها الآخر حتّى وصلتما إلى حالة الغضب هذه. وفكِّر إن كنت قد قمت بكلّ ما يلزم للسيطرة على غضبك، والتّخفيف منه أم أن تصرّفاتك قد ساهمت في تأجيج حالة الغضب، وبالطبع لقد ساهم كلّ من الطّرفين في تأجيج الغضب. عندما كنت أسأل أحدهم في المحكمة الروحيّة: هل قصّرت بحقّ الآخر، وليس فقط بالمبادرة إنّما أيضًا باللا مبادرة، فيأتي الجواب بأنّه لم يُقصِّر في شيء مع الشريك. إنّ هذا لدليل على رفضك البوح بتقصيرك، وأنّك لم تقم بقراءة صحيحة وواقعيّة للمسيرة الّتي سلكتها أنت وشريكك في حالة الغضب.
إخوتي، في بعض الأحيان نساهم في تأزم حالة الغضب من خلال لامبالاتنا. إنّ اللامبالاة خطيئة، وليست وجهة نظر: فاللامبالاة بوجود الآخر، تعني أنّ الآخر هو غير موجود بالنسبة لك، وبالتّالي فأنت تقوم بتلك الطريقة بقتله وإلغائه. حاسبوا أنفسكم، ولا تسمحوا لهموم الدّنيا أن تشغلكم وتمنعكم من العمل على ذواتكم من أجل الأفضل، فإن عملك على ذاتك، من شأنه أن ينعكس على الآخر إيجابيًّا، وعليك أنت أيضًا. فاسعَ لتعمل على ذاتك ليس فقط في مواسم الزّخم أي في زمن الصوم، حيث تتكثّف صلواتك، وإماتاتك بل اِسعَ أيضًا للعمل على ذاتك، بعد تلك الفترة أيضًا، ولا تستسلم للاسترخاء الروحيّ بعد إنقضاء تلك الفترة من الزّخم الروحيّ. يجدر لفت النظر إلى أنّنا في بعض الأحيان، نشعر أنّ ردّات فعلنا صحيحة، وأن الآخر هو دائمًا على خطأ، وهو السبب في ردّات فعلنا السلبيّة، لكن إخوتي، أدعوكم إلى قراءة حقيقية وواقعيّة لتلك الأحداث، وفكّروا إن كان حقًّا السبب في إحداث حالة الغضب يعود فقط إلى أفعال الآخر، أم أنّكم ساهمتم فيها. إنّي أدعوك للمحافظة على نفسك، أمام الآخرين الّذين يسببون لك حالات من الغضب، واسعَ كي تربح نفسك. إذًا جوابًا على السؤال الّذي طرحته في البداية: ما الّذي تربحه من غضبك؟ وما الّذي تخسره من غضبك؟ هو التّالي: إنّ ما تربحه في حالة الغضب وانفعالك السلبيّ هو التوّتر الّذي ينشأ بينك وبين الآخر، كما أنّك تكون قد ربحت خسارة بطيئة لنفسك. إنّ هذا الوعي لمسببات الغضب، لا ينتعش، إلاّ من كلمة الله، ومن جسد ودمّ الرّبّ، ومن الصلاة، ومن عمل الخدمة والمحبة لكي تبقى لديكم طاقةٌ على الغفران، وعلى المسامحة.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِنْ قِبَلِنا.