“خرج الزّارع لِيزرع زرعه” (لو 5:8)
بقلم الأب جريس زغيب،
نُلاحِظُ أَنّه قالَ خَرَج ولَم يَقُلْ ذَهَبَ أَو الزّارِع لِيَزرَع بل خَرَجَ كما خَرَجَ الأَب مِن البَيت لـِمُلاقاة ابنِه الضَّال الـمُنتَظِر عَودَتَه مِن الكُورَةِ البعيدة (لو 15: 21)، مِن الأَرض القاسِية مِن كُورَةِ السُّقوطِ في عالَمِ الخطيئة. خَرَج المسيحُ إلى أَرضِ غُربَتِنا لِيَزرَعَ فينا كَلِمة الخلاص لِيُعيدَنا إلى الحِضن الأبويّ، لِيَزرَع فينا ذاتَه فَيُصلَب ويموت ويُدفَن فينا كحبَّةِ الحِنطة الّتي إنْ لم تَقَع في الأرضِ وتَمُت فَهِي تَبقى وَحدَها ولكنْ إنْ ماتَت تأتي بِثَمرٍ كَثيرٍ (يو 12: 24) لِيَعود ويقومَ فينا ويُقيمَنا مَعه خليقةً جديدةً فتتَحَقَّق فينا القيامة، فنُصبِح الأَرض الصّالحة الّتي تُعطي ثمرًا كثيرًا: “بَعضٌ مِئةً وآخَرُ ستِّين وآخَرُ ثلاثِين” (مت 13: 8).
خَرَج مِن عِندِ الله (يو 13: 3)، وأَحنى السَّماوات ونَزَل إلى أَرضِ خطيئتِنا ليُعيدَ لَنا البهاء القديم والحُلَّة الأُولى، ولِيَزرَع في طبيعتِنا الّتي تشوَّهَتْ بِفعلِ الخطيئة، البَراءة والبَساطة والتَّواضع والطَّاعة مِن جديد، ويُحوِّلَنا مِن الأرض الّتي تُبِنتُ حَسَكًا وشَوكًا (تك 3: 18) إلى الأَرضِ الجيِّدة الّتي تُعطي أَثمارًا جيِّدة، إِلى فِردَوسٍ مِن جديد. ولأنَّه منذُ أَنْ خَلَقَنا وزَرَعَ فينا الإِرادةَ والحُريّة، ترَكَ لنا أَنْ نَختارَ بإِرادَتِنا وحرِّيَتِنا أَيَّ أَرضٍ نُريدُ أَن نَكونَ، وهو يُلقي الزَّرعَ والبِذارَ، أَي كَلِمَتَه فينا، أَعطانا مِثالاً عن أَربَع حالاتٍ تُمثِّل العالَم كُلَّه بِجِهاتِه الأَربع:
“وفيما هو يَزرَع سَقَطَ بَعضٌ على الطَّريق” (لو 8: 5).
أَوّلاً: الطَّريق الّذي لا يُمكن أَن يَنبُت فيه زَرعٌ بِسَبب قَساوته وصَلابة أَرضِه وزَحمةِ الأَقدام الَّتي تَدوسُه، كَذلك القَلب الـمُنشَغِل والمشدود والـمُتعلِّق بالدُّنيا وبِما فيها مِن صَخبٍ وانشغالٍ واهتِمامات. فيَقسو ذلك القَلب كالطَّريق، فتبقى كلمةُ الله سطحيّةً فيه ولا تَدخُل إلى الأَعماقِ فتَدوسَها الأَقدام ويَخطُفها الشَّيطان بِسهولةٍ لِئلّا يُؤمِن ذلك القَلب فيَخلُص (لو 8: 12).
“وسَقَط آخرٌ على الصَّخر” (لو 8 :6).
ثانيًا: والصَّخرُ هو أَرضٌ مُتحجِّرةٌ وتُربَتُها خفيفةٌ يَنمو الزَّرع فيها سريعًا وإِذ لَيْسَ فيها رُطوبةٌ تَجِفُّ سريعًا مِن أَشِعَّة الشَّمسِ وإِذ لَيْسَ لها أَصلٌ تَحتَرِق. كالَّذي عِندَه مَيلٌ لِسَماعِ كلمةِ الله وَقبول الإِنجيل وتعاليمِ الرَّبّ وَوَصاياه ولكنَّه لَم يَحرُثْ أَرضَه جيِّدًا ولم يُهيِّئها ولم يُنقِّها مِن الحجارة والصُّخور أَي لَم يُنَقِّ ذاتَه وقَلبَه مِن الكِبرياء والأَنانيّة وحُبّ الذّات والتَّعلُّق بِالدُّنيا ومَجدِها الباطل فيَفرَح بِالكلمة وَوَصايا المسيح ولكِن إلى حِين، فَمتى حَدَثَ ضِيقٌ أَو اضطهادٌ وعِند أَوَّل عَثَرةٍ أَو تَجرِبةٍ يرتَدُّ إلى الوراء ويسقُط فلا يُعطي ثَمرًا.
“وسَقَطَ آخَرٌ في وسَطِ الشَّوكِ، فنَبَتَ معه الشَّوكُ وخنَقَه” (لو 8: 7).
ثالثًا: الزَّرعُ الّذي يَسقط على الشَّوك ينمو ولكنَّ الشَّوكَ يَنمو معه فيَخنُقُه، يُشبه الَّذي يَسمَع كلام الله ولكنَّ هموم الحياة وغِناها ولَذَّاتِها تخنُق الكلمة، فالغارِق في هذه الحياة لا يَترُكُ مساحةً في قلبِه لله ولِكلمَتِه ولِحضورِه، بَل تَبقى اهتِماماته وانشِغالاتُه وهواجِسُه وأَحاسيسُه في هذه الدُّنيا. والربُّ هُنا ذَكَرَ هموم الدُّنيا وغِناها ولَذّاتِها (لو 8: 14). فَإنْ كان الإِنسان فقيرًا يَبقى مَهمومًا خائفًا مِن الغَد وممّا يخبّئه له ناسيًا ما قاله الربّ: “لا تَهتَمّوا للغدّ، لأَنّ الغد يَهتمّ بِما لِنَفسِه. يَكفي اليَوم شرُّه.” (مت 6: 34). يَنصبّ كلُّ اهتمامِه وتفكيرِه في كَيفَ يُصبِح مِثلَ ذلِك الغنيّ لديه أَموال ومُقتَنياتٌ ويَظلّ خائفًا على معيَشتِه، فتَشغُله هذه الهموم عن كلمة الله. وإِذا كان غنيًّا فغُرور الغنى وتَرَفُ العَيش والتَّنعُم بأَفخَر المآكِل والمشارِب واللِّباس وتَعظيمُ النَّاس له يُغلِقُ قلبَه فلا يَعود فيه مكانٌ لله ولا لِلفقراء والمحتاجِين، مِثلَ ذَلِكَ الغنيّ في مَثَل لِعازَر والغنيّ (لو 16: 19). فتَخنُق هذه الأَشواك كلمةَ الله فيه فلا يُعطي ثَمرًا.
“وَسَقَط آخَر في الأَرض الصّالحة” (لو8: 8).
رابعًا: أَمّا الأرض الصّالحة فَهي القلوب المستعدَّة لِقبول المسيح فيها رَبًّا وإلهًا وسيِّدًا على حياتها وهي مُنَقَّاة مِن القَساوة والتَّصلُّب ومِن الحِجارة والصُّخور ومِن الأَشواك فتَنمو فيها كلمة الخلاص، فتأَتي بِثمرٍ مئةَ ضُعفٍ.
فيَا ربُّ، اجْعَلْنا ذَلِك الفلّاح الَّذي يَفلَح أَرضَه، فيَفلَح ويُهيِّئ ذاتَه وقلبَه أَرضًا جيِّدة، فنَقبَل كلِمتَكَ فينا بِاستعدادٍ فتَنمو وتُثمِرُ محبَّةً وأَعمالاً صالحةً للآخَرين. آمين.