تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“رسالة بولس الرّسول إلى أهل رومية – الإصحاح الأوّل (1-15)”
خاطب بولس الرسول أهل روما من دون أن يزورها، على غرار ما كان يفعله مع مدن وبلدان أخرى، إذ كان يذهب إلى المنطقة (كورنتس مثلًا) فيبشّر شعبها ليؤمن بالمسيح ويؤسّس كنيسة ثمّ ينتقل إلى منطقة أخرى. رسالة بولس إلى أهل روما هي أطروحة لاهوتيّة كبيرة عن كلّ مفهوم بولس للخلاص. وفيها بعث برسالة أو برسائل ليوبّخ ويصحّح مسار الإنجيل، وهذه الرّسالة توضّح الفكر البولسيّ لفهمه مسار إنجيل الرّبّ يسوع.
الرسول بولس يعرّف نفسه أنّه مفرز، مخصّص، ملك لإنجيل الله. فبولس قرأ جميع أنبياء العهد القديم الّذين كانوا يدلّون على المخلّص الآتي الّذي هو يسوع، هذا العهد القديم الّذي يتكلّم عن إنجيل الله الّذي فحواه المسيح المصلوب الّذي سبق فوعد به أبناءه، ورأى بولس أنّ أنبياء العهد القديم جميعهم كانوا يعلنون وعد الخلاص بمسيحٍ مخلّصٍ منتظر. فكانت مسيرة العهد القديم الطّويلة ليصلوا إلى هذه النّقطة أي إلى يسوع المسيح.
قال بولس الرسول في رسالته إلى أهل روما: “عن ابنه المولود الّذي صار من نسل داوود بحسب الجسد”. فإنّ التّقليد الإنجيليّ واضح أي ولادة يسوع من مريم، لأنّه، بحسب الجسد، من نسل داوود. وذُكر داوود لأنّه كان ملكًا، وبالتّالي يسوع هو الملك، وهذا تقرأونه في انجيل متّى في الإصحاحين الأوّلين حيث يتكلّم عن سلالة يسوع أنّه من نسل داوود بالجسد.
“وتعين ابن الله بقوّة من جهة روح القدس، بالقيامة من بين الأموات، أي يسوع المسيح”، والمقصود بكلمة “تعين” أنّه أُعلن وظهر للبشر أنّه حقًّا هو ابن الله بالحدث العظيم الّذي هو القيامة. بولس إذًا يتكلّم عن قوّة إعلان يسوع المسيح كإبن الإله بحدث القيامة من بين الأموات مستعملًا كلمة “ربّنا”، الصّفة الإلهيّة.
“الّذي به لأجل اسمه قبلنا نعمة ورسالة لإطاعة الإيمان في جميع الأمم”. من هنا الإنجيل ليس مكتوبًا ليكون محصورًا في جماعة صغيرة، إنّما هو مكتوب لجميع الأمم، وهذه ضربة للفكر اليهوديّ، لأنّ فحوى فكر اليهود هو: أنّهم احتكروا الله، أي أنّ الله هو إلههم وحدهم، وبالتّالي لا يستطيع الإنسان غير اليهوديّ أن يحصل على الخلاص، وهذا صعب جدًّا. فبولس في بداية رسالته إلى أهل روما، يضرب الفكر اليهوديّ الأساسيّ ويقول إنّ الخلاص هو “لجميع الأمم”. وهي عبارة إذا فهم المسيحيّون معناها فإنّ سلوكهم في الدّنيا سوف يتغيّر، لأنّ عند المسيحيّين انحرافًا فكريًّا في نظرتهم إلى الله وإلى المسيح وكأنّه إلههم فقط.
ما هي خطورة الكلمة الّتي نضيف إليها الضّمائر التّالية ياء المتكلّم، “نا” المتكلّمين وكاف المخاطبة؟ فإذا قلت مثلًا “كتابي”، جعلت الكتاب ملكي دونك، و”كتابنا” أي أنّ هذا الكتاب ليس لهم، بل هو لنا، و”كتابك” تعني لك وليس لي. وإذا أضفنا هذه الضّمائر الّتي تدلّ على الملكيّة، حرمنا أي إنسان آخر من أن يملك هذا الأمر. وعندما نقول إنّ الله، أو يسوع المسيح هو إلهنا وربّنا، بمعنى أنّه إلهي وليس إلهك، قطعنا إمكانيّة هذا الإنسان للدّخول إلى الكنف الإلهي. لكن كلمة “إلهي” تعني أنّك أنت دخلت إلى كنف هذا الإله أي إلى بيته، إذًا أصبحت ملكه ولم يصبح ملكك. وعندما يملكك الله، لا يعطيك الحقّ أن تمنع غيرك من أن يملكه الله أيضًا.
وقد كانت مشكلة اليهود أنّه كانوا يعتقدون أنّهم ” يملكون الله “، أي أنّ الله هو إلههم وليس من الممكن أن يكون لإنسان آخر. وإذا ما قرّر الله أن يتعاطى مع غير اليهود، أصبح عندهم مشكلة معه معتبرينه أحد الإثنين، إمّا أنّه ليس إله اليهود أو أنّه متعدٍّ عليه. وهذا ما حصل مع يسوع المسيح ، إذ لم تكن مشكلة اليهوديّ مع يسوع أنّه قال عن نفسه : “ابن الله” ولا لأنّه “قام بعجائب”، ولا أنّه “تكلّم بكلمة الله”، وإنّما كانت مشكلة يسوع مع اليهود أنّه قام بخلع تلك الخيمة الّتي كانوا يدخلونها،كليًّا، وجعل الأرض كلّها خيمة للكلّ. فصار الإنسان غير اليهوديّ يشبه الإنسان اليهوديّ، أي أنّه صار يأكل ويشرب على مائدة الله. واليهود رغم إقرارهم الدّاخليّ أن يسوع هو المسيح إلّا أنّهم رفضوه، ورفضوا قرار الله الّذي لم يعجبهم وسلبهم ملكيّتهم، فركّبوا له تركيبة ليتخلّصوا منه، متّهمينه بالتّدجيل.
الآن تخيّلوا أنتم أنّكم دخلتم بيت الله، وأُعطيتم كلّ النّعم والعطايا، ثمّ أتى إنسان من الخارج لم يكن ينتظر المسيح، ولم يكن يعرفه أصلًا، وقرّر أن يدخل، ووضعه الله في المنزلة الأولى. ماذا يحلّ بكم؟ عندها تحاولون إلغاءه، كي لا يراه الله، ولكنّ الحقيقة هي أنّ الله وحده يراه ولا يراكم لأنّكم لم تعودوا في بيته. هذا سبب ميل الإنسان لإلغاء الآخر، أسباب حسد وغيرة النّاس، أسباب تآمرهم على بعض، هذه هي أسباب اختراعهم الإشاعات والثّرثرات، أسباب حبّهم تهشيم سمعة الآخرين، لأنّهم يرونها الطّريقة الوحيدة لفرض وجودهم خوفًا من وجود الآخر الّذي يخطف نجمهم، فيقرّرون وضعه جانبًا تخلّصًا منه، وهذا مصدر روح الغضب ثمّ الكراهية فالحقد والحسد ثمّ الأذيّة فالإثم. فالرّذائل هي مسبحة بدون صليب، يحتلّ الخوف من قضيّة الوجود مكانة فيها. فالخوف من عدم الوجود هو في العمق خوف من الموت، لذلك صرنا جميعنا تحت عبوديّة الخطيئة خوفًا من الموت.
أمّا من يقتنع أنّ وجوده مرتبط بوجود إلهه يسوع المسيح المصلوب، تخلق له هذه القناعة فرحًا، وهذا الفرح يُنتج مسبحة فضائل لأنّ الفضيلة تنتج الأخرى، فالتّواضع يؤدّي إلى المحبّة، والمحبّة تؤدّي إلى المسامحة، والمسامحة تؤدّي بالإنسان ألّا يتوقّف عند كلّ شيء، وعندها فقط يخفّ غضبه وحسده.
وتفكير اليهود اليوم مبنيّ على أنّهم بوجودهم يلغون وجود كلّ النّاس….لدرجة أنّهم يفسّرون آية المزامير الّتي تقول: “سبّحوا الله يا جميع الأمم وامدحوه يا سائر الشّعوب”، على أنّه عندما يحكم اليهود العالم، تصبح سائر الأمم تحت سلطانه. وبتسبيح اليهود لله، تكون الأمم تحت سلطانهم وكأنّها تسبّحه، وذلك لإلغاء أو عدم قبول أي شخص يدخل على الإيمان. قد تجدون هذا التّفكير غريبًا، ولكنّه، فعليًّا، شبيه بتفكيركم وتصرّفاتكم إلى حدّ كبير.
يقول بولس الرسول في رسالته إلى أهل روما: ” الّذي لم يحسب نفسه معادلًا لله”. ومعادلة يسوع لله هي طبيعته ولم يحصل عليها لأنّه مقتنع، ولا يخاف يسوع أن يسرقها منه أحد، وهذا يؤدّي إلى عدم الخوف من النّاس بل إلى خوفه على النّاس. ويتحوّل الكره إلى محبّة ويتحوّل حبّه إلى تضحية. هذا ما حصل مع يسوع النّاصريّ عندما قال بولس الرّسول:” فليكن فينا فكر المسيح، أنّه في صورة الله، لم تَعُد مساواته لله غنيمة، بل تجرّد من ذاته متّخذًا صورة عبد صائرًا كشبه النّاس، فوضع نفسه وأطاع حتّى الموت، (لا بموت عاديّ، بل بموت الصّليب أي موت العار)، لذلك أعطاه اسمًا يفوق جميع الأسماء”. فيسوع الإنسان هو إذًا ابن الله الحقيقيّ الوحيد، وهو لا يخشى أن يخسر بنوّته. وعندما حاولوا إلغاءه قال يسوع: ” إغفر لهم لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون”، وكأنّه يقول لليهود إنّكم لا تستطيعون إلغائي لأنّني ابن الله الوحيد، وقوّة ابن الله، يسوع المسيح، ظهرت بروح القدس، بقيامته من بين الأموات. لكلّ هذا هدف أن يصل كلّ بيت على وجه الأرض، لأنّ الله يريد أن يخلّص الجميع، وإذا أنت قبلت وغيرك لم يقبل، فعليك أن تذهب وتقنعه، هذه هي البشارة والكرازة، وهذا ما فعله بولس الرّسول.
وتكمن مشكلتنا في فهم أنّ الإنجيل والمسيح هما لكلّ النّاس. وإذا آمن المسيحيّ أنّ المسيح حيّ واقتنع أنّ الإنجيل هو لجميع الأمم، فسوف يكثر القدّيسون، ويصير له عقل إلهيّ يخلّص به الآخر باعترافه أنّ الإنجيل هو للجميع، إذًا ما هو عقل الله؟ الله يريد أن يخلّص كلّ إنسان، وقد رتّب منذ الأزل أنّه سوف يخلّص الجميع حتّى الإنسان الّذي سوف يُخلق بعد مئة مليون سنة، هذا هو عقل الله.
“أمّا أنتم فلكم فكر المسيح” هكذا ورد في الإنجيل، وعلينا أن نتبنّى هذا الفكر. أيستطيع الإنسان أن يمشي على رجليه وهو خالٍ من العقل؟ فالأوامر هي الّتي تحرّك الإنسان في الدّنيا. وإذا كان لديك فكر وأوامر المسيح، كما ورد في الإنجيل، تتغيّر يداك وتتغيّر أذناك ويتغيّر لسانك.
بعد قراءتنا للإنجيل علينا أن نتغيّر ونغيّر العالم، أن نصير ملكوتًا، علينا ذلك وإلّا فنكون مستسلمين لأمور الدّنيا، وإذا اعتقدتم أنّ التّعليم الدّيني هو معلومات دينيّة فأنتم إذًا ذاهبون باتّجاه الأصوليّة. لأنّ نتيجة معلوماتكم الدّينيّة تخلق لكم معرفة غير موجودة لدى الآخرين وذلك يجعلكم تتميّزون من غيركم، وعندما تتميّزون من غيركم فسوف تعطون رأيكم. أمّا الإنجيل فيمنعك من إعطاء الرّأي بغيرك إنّما هو يسمح لك أن تعطي رأيك لغيرك، وأن تتغيّر في الوقت والفكر والزّمن والتّصرّفات. وعليك عند قراءة الإنجيل أن تأخذ موقفًا تغييريًّا، ولهذا السّبب وضعت لنا الكنيسة الإنجيل في الليتورجية، في القدّاس، الّذي هو أن تأكل من مائدة أبيك وطعام أبيك ، في المناولة، وهدف قراءة الإنجيل هو أن تصير على مائدة أبيك.
هل يعقل عند قراءتك للإنجيل، أن يكون الله يفكّر بالّذي تكرهه كما يفكّر بك؟. وتأكل على مائدة الله وتخرج من الكنيسة ويظلّ الكره في قلبك؟ هل كانت تصرّفات المسيح بناءً على تصرّفات النّاس معه؟
يغضب الإنسان ويقع ويبكي ثمّ يقوم بردّة فعل سيّئة، ولكن إذا كان لديه الفكر الصّحيح والسّلوك السّليم، يرجع ويتحسّن رغم الخطأ والسيّئات. اشكروا الرّبّ أنّكم ما زلتم تقعون في التّجربة لأنّها تتمتّع بوجه إيجابي، لأنّنا عندها نقول “ارحمني يا الله”، أمّا عند انعدام الوقوع بالخطأ ننسى طلب الرّحمة، فنخسر هذا الرّابط بين الخطيئة وطلب الرّحمة ذلك هو، كمثل رئيس إحدى الأديرة يفرض على الرّهبان الذّهاب كلّ يوم وحفر قبرهم، وعند آخر الليل، يطلب منهم أن يسدّوا القبر وفي الصّباح التّالي يعاودون الحفر، وذلك لكي يتذكّر الرّهبان أنّ الموت أمامهم في كلّ حين.
أيركّز الإنجيل فقط على التّعامل مع الّذي يحبّك؟ “فأي فضلٍ لكم فإنّ الخطأة يفعلون كذلك”، ” لذلك أحبّوا أعداءكم” هذه هي أقوال الإنجيل، إذًا الإنجيل ليس فقط حلاًّ لمشاكلك، إنّما هو يريك مشاكلك كما هي، يعلّمك كيف تواجهها. لم يلغِ يسوع الصّليب ولم يخترعه، إنّما واجهه، ومن لم يكن لديه هذا الفكر فهو في حالةٍ من الارتباك الدّائم.
يقول بولس الرّسول في رسالته إلى أهل روما: “الّذين بينهم أنتم أيضًا، أنتم مدعوّي يسوع المسيح”، أي أنّ يسوع المسيح دعا أيضًا أهل روما جميعهم للإيمان، فمن يُلبّي دعاء الله يستفِد وتَزُل مصيبته. فكلّ إنسان مسيحيّ مؤمن يصبح قدّيسًا بمعنى أنّه يَصير ملكًا لله.
“نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرّبّ يسوع المسيح”، والنّعمة تعني امتلاكك هويّة، صرت مواطن ملكوت الله. فالصّوت الجميل ليس نعمة بل هو نتيجة اتّحاد الجينات الموجودة عند الأمّ والأب. النّعمة هي كجواز سفر مقدّم مجّانًا وللجميع، وهي شعورك بأنّك مواطن الملكوت وتتمتّع بسلامٍ داخليٍّ، مصدره الطّمأنينة، وهذه الهويّة تمتلكها في المعموديّة.
نحن في زمن نجهل به فهم الإنجيل، فالشّيطان قادرٌ أن يجعلك تقرأ الإنجيل بالطّريقة الخاطئة، فيوقع الخطأ بك ويعلّمك أفكارًا مضادةً لفكر المسيح. يقول بذلك بولس: “إلى جميع الموجودين في روما، أحبّاء الله مدعوّين قدّيسين. نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرّبّ يسوع المسيح”، فسلام الله وسلام المسيح هو نفسه، وهذه هي وحدانيّة الآب والابن الّذي أتى بها بولس الرّسول من التّقليد الصّحيح، وهو نادى بالإيمان بيسوع المسيح داعيًا بالتّبشير به بكلّ جديّة وإخلاص. بذلك، عندما يرى الآخر قدرة الله وعجائبه في تصرّفات الإنسان المؤمن، سيمجّد الآب الّذي في السّماوات.
يزيد بولس الرّسول ويقول: ” إنّ الله الّذي أعبده بروحي في انجيل ابنه شاهد لي كيف بلا انقطاع أذكركم متضرّعًا دائمًا في صلواتي، عسى الآن أن يتيسّر لي مرّة بمشيئة الله أن آتي إليكم”، فكان همّه الوحيد، المؤمنون، لا ينقطع عنهم حتّى لو أنّه لم يرَهم ولم يعرفهم، إذًا هذه هي عائلة الآب. ليس هناك من شيء يبعدنا عن صِلتنا بأبناء الله، حتّى الموت عاجز عن ذلك. لذلك فنحن نصلّي لأمواتنا، ليس فقط لكي يرحمهم الله بل لإعادة تكوين الكنيسة الحقيقيّة. فعندما نصلّي للراقدين، نقرّ بأنّهم ما يزالون معنا في كنيسة الله الواحدة، أنّ المنتقلين عنّا أصبحوا في الرّحمة الإلهيّة، في الملكوت الّذي سننتقل إليه نحن أيضًا، وهذا ما نسمّيه “التّعزية” فنقول ” المسيح قام”. هذا هو الاعتراف بإيماننا، فحتّى الموت لا يمنعك من الإعلان عن إيمانك بقيامة المسيح، فبصلاتنا نجعل الإنجيل حيًّا. لذا فكّروا بالنّاس على مثال تفكير بولس الرّسول بهم.
ملاحظة: دوّن الشرح بأمانةٍ من قِبَلنا.