تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“رسالة بولس الرّسول إلى أهل رومية – الإصحاح الثاني”
هذا الإصحاح هو ناموس المسيحيّين، فكلّما أخطأنا وتكلّمنا عن أحد، عُدنا وقرأناه من جديد، فيعود الملاك على باب شفتيكم ويقف حارسًا من جديد. “اجعل يا ربّ حارسًا لفمي ورقيبًا على باب شفتيّ”. إنّ هذا المقطع هو من أصعب المقاطع لأنّه يحلّلنا ويرى كلّ خفايا قلوبنا.كتب بولس في رسالته هذه عن “الدّينونة”، فالإنسان الّذي لا يدين هو قدّيس. من لا يدين يكن قلبه مملوءًا رحمة، وهي رحمة إلهيّة وليست بإنسانيّة، لأنّ الّذي لا يدين هو من انتبه بيقظة روحيّة لرحمة الله وعاش على أساسها. لا أحد يشعر برحمة الله إلّا ورحم الآخر، ومن يعظ عن الرّحمة ثمّ يدين غيره، يكن قلبه عكس لسانه. الإنسان الصّادق مع نفسه هو من يتمتّع بانسجام بين لسانه وقلبه. وإلّا فنحن في حالة مرضيّة نفسيّة، حالة انفصام في الشّخصيّة الرّوحيّة أي التّعدّد. من يدين غيره يحسب نفسه بعيدًا عن الخطيئة ولا يرى مشكلته، لأنّك عندما تتذكّر أنّك إنسان خاطئ ترحمه أسوةً بإنسان آخر سيرحمك، فتلاحظ بذلك تغيّرًا في طريقة التّعاطي.
تكلّم بولس الرّسول عن غضب الله بالمقارنة مع موقفك تجاه الآخرين. فإدانة الآخرين تجرّ الحديث عن غضب الله. تُغضِب الله عندما تحكم على خطيئة غيرك ولا تنظر إلى خطيئتك.
إذا كنتم تريدون ابتزاز غضب الله، فعليكم أن تمارسوا دينونة الآخرين، أمّا إذا أردتم التّمتّع برحمة الله، فكونوا رحماء مع الآخرين. نقطة ضعف الله هي الآخر، يركع إذا رحمت الآخرين، ويصبح خادمًا لك، أمّا إذا لم ترحم الآخر فيعود الله ديّانًا وسيّدًا عليك. غضب الله لا يظهر عندما ترتكب أنت الخطيئة، بقدر ما يظهر عندما لا ترحم الآخر في خطيئته. لا تستهيننّ بلطف الله فهو يقودك إلى التّوبة، يلطف بك ويفتح لك بابًا للعودة إلى الحياة معه. أفلم تفهم بعد أنّ لطفك يقود الآخر إلى التّوبة؟ فقساوة القلب تزيد من غضب الله باستمرار على غرار التّراكمات. فمن لم تصل إليه كلمة الله يحاسب حسب ناموسه الخاص، فالله يساوي في ما بيننا. أنتم تدينون الآخرين بحسب ما لديكم ولكن، فعليًّا، ما تملكونه ليس لكم.
أصبحت الدّاعشيّة نهجًا يمارسه النّاس بالسّلاح والآخر بالفكر واللّسان، فهي قطع الرّؤوس أي إلغاء الآخر. فالإدانة هي إلغاء للآخر، والظّنّ السيّء أيضًا هو كالإدانة، إذًا أنتم تواجهون جميع المفاهيم الّتي تحتاجونها، وتنسون رحمة الله لأنكم تستندون على أمور أخرى، ولا تنتظرونها إلاّ في لحظة الضيق. ضعوا أنفسكم إذًا مكان الّذي هو بحاجة إلى رحمتكم ولطفكم ومحبّتكم.
أكثر القدّيسين الّذين تقدّسوا هم من اكتشفوا أنّ هناك واحد فقط يحبّهم ويرحمهم في هذه الدّنيا، ومن لم يحبّه بشر، اكتشف أنّ الله يحبّه. فالقدّيسون أجمعهم أصبحوا مصدر رحمة للكثيرين، لأنّ القدّيس يرحم ويُرشد ويخدم ويساعد. عليكم التّحرّر إذًا من صورة القداسة الّتي تجعل الإنسان خارقًا للطّبيعة، فالقدّيس يتصرّف بعكس ما يتصرّفه البشر لأنّه سكن مسكن الرّوح، أمّا أنتم فما زلتم في مكان الجسد. لذلك ترى في كلّ صورة للقدّيسين هالة ذهبيّة فوق رأسهم، وهي ليست دلالة على انتقالهم إلى العالم الثّاني فقط بل أنّ كلّ ما هو صالح، هو من عند الله. فرحمة الله إذًا لا يكتشفها إلاّ الخطأة، وعندما يكتشفونها يصبحون قدّيسين، لأنّه من المستحيل أن تكشف رحمة الله، وتبقى على ما أنت عليه، إلّا إذا كنت مجدّفًا على الله.
اختفى القدّيسون من أجل نور المسيح للضّالين، أمّا نحن فنعطيهم كلّ الأهميّة وننسى المسيح، فالنّاس تريد التحزّب وهذا التّحزّب يجعلنا غير مطيعين للحقّ، وكلّ تحزّب هو تمرّد على الله لأنّه يجعلك تحبّ نفسك وتبغض الآخرين. يطلب الله منك أن تحبّ نفسك لتحبّ الآخرين. فمن لا يحبّ نفسه لا يستطيع من الأصل أن يحبّ الآخرين. وعندما ندخل في حالة الألوهيّة بعلاقتنا مع الله، نكون رافضين للتحزّب ولذلك نلطف ونرحم ونحبّ.
“راقب نفسك والتّعليم” كما قال بولس لتيموتاوس، راقب نفسك لتنسجم مع التّعليم، فإذا لم ينسجم التّعليم مع نفسك إذًا أنت صادق بالبدء، ولكنّك كاذب بسلوكك. إذا لم يفعل المسيحيّ ما هو مطلوب في الإنجيل، فهو بذلك مسيحيّ بالاسم وليس بالأعمال.
كيف يسيطر الإنسان على غضبه؟ في لحظة الغضب قم بالتّفكير بسبب تصرّف الآخر بهذه الطّريقة. حلّل فستكتشف أشياء كثيرة لم تنتبه لها أبدًا، عندها ترحم وتسامح. عليك أن تكون بطيئًا في التّكلّم وسريعًا في السّماع، بطيئًا في الغضب وسريعًا بالمسامحة. هذا هو السّلام الدّاخليّ والمصالحة النّفسيّة الّتي تكمن في تحرّرك من روح الإدانة، وروح الإدانة تبدأ بسوء الظّنّ، كما يقول المثل: “الإنسان لولا ظنّه لأصبح ملاكًا”. يُجدّف على اسم الله بسببكم بين الأمم، تمنعوهم من الرّجوع إلى الله، إذًا أنت ترفض أن تدخل “الجنّة” أو أن يدخلها أحد.
من يعتبر نفسه مؤمنًا، يكن بأعماق نفسه محبًّا للمسيح، فالخاطىء لا يستطيع إدانة أخيه لأنّه مثله، وإذا كنت قدّيسًا، فلا تستطيع الإدانة لأنّ هذا المفهوم غير موجود بداخلك، إذًا أنت في جميع الأحوال لا تملك أيّ عذرٍ لتدين النّاس. انتبهوا من التّحزّب للّذين لا يطاوعون الحقّ بل الاثم، لأنّه في معظم الأوقات، يكون من نتحزّب له على خطأ، فتبرّر له خطأه وتبقى معه. ابتعدوا عن روح التحزّب، حتى في الكنيسة عندما قال بولس الرسول لأهل كورنثوس: ” هل انقسم المسيح… ؟ من صُلبَ لأجلكم؟ (1كور 1:12-13)، إنّه واحدٌ، هو يسوع المسيح. إذًا، فالرّحمة كالمحبّة صفة إلهيّة وليست صفة إنسانيّة، أي أنّ الله أعطانا من نفسه، أمّا الدّينونة فلم يمنحك إيّاها خوفًا على أخيك منك، تنازل عن كلّ شيء، فهو لم يقل كونوا ديّانين كما أباكم الّذي في السّماوات ديّان، وإلّا لكانت سادت الفوضى في العالم.
يرتكز مفهوم الدّينونة على أمر أساسيّ، “بأن الله ليس عنده محاباة للوجود”، والإنسان لا يتحرّر من هذا الموضوع، لأن أكثرية الناس تحكم على المظاهر، فعلى الأرض الأذيّة وفي السّماء الرّحمة. ومن يطلب العدل؟ أيطلبه الظّالم أم المظلوم؟ الظّالم يريد العدل لأذيّة المظلوم، والأخير بدوره يريد العدل للانتقام من الظّالم. فحلّ الله موضوع العدل، وجعله لليوم الأخير، جميعكم متساوون بنظر الله، يهودًا ووثنيّين، فالشّمس تشرق علينا جميعًا، ورحمة الله هي للجميع.
“أن لا تميّز نفسك من غيرك”، هذه هي العبارة الأهمّ، فالمسيحيّ مميّز لأنّه غير مميّز، اللّه أعطاه ميزة لكنّه لم يميّزه عن جميع مخلوقاته. فموضوع الرّحمة الّتي يطرحها الإنجيل ليست من موقف ضعيف واستسلامي بل من العفو عند المقدرة، فالقدير الوحيد إذًا هو القادر على العفو والمغفرة. الضّعيف لا يعفو، يكذب بالمغفرة ويتحيّن الفرص للإنتقام. والجدير ذكره أنّ الحجّة الدّائمة عند الإنسان، هي الكرامة، أمّا المسيح الّذي نسي معنى تلك الكلمة، وأعطانا الخلاص والملكوت. المؤمن الحقيقيّ يوازن بثقل بين الكرامة والرّحمة، فهدف الكرامة هو الرّجوع إلى الذّات، أمّا الرّحمة فهي للآخر ومن أجل الآخر. لا تنسى أنّ الوجه يُظهر ما في الباطن، وأنّك لا تستطع أن تخبّئ شيئًا، فنحن في أزمة الصّدق مع النّفس في موضوع مفهومنا لرحمة الله، وعند إدراكك لهذه الرّحمة تصبح رؤوفًا وسموحًا ومحبًّا، وعندها يتغيّر العالم.
ملاحظة: دوّن الشرح بأمانةٍ من قبلنا.