تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“رسالة بولس الرّسول إلى أهل رومية – الإصحاح الحادي عشر”
النّص الإنجيليّ:
“فَأَقُولُ: أَلَعَلَّ اللهَ رَفَضَ شَعْبَهُ؟ حَاشَا! لِأنّي أَنا أيضًا إِسْرائِيليٌّ مِنْ نَسِلْ إِبراهِيمَ مِنْ سِبطِ بِنْيامِينَ. لَمْ يَرفُضِ اللهُ شَعْبَهُ الَّذي سَبَقَ فَعَرَفَهُ. أَوَ لَسْتُم تَعْلَمُونَ ماذا يَقُولُ الكِتابُ في إِيلِيَّا؟ كَيْفَ يَتَوَسَّلُ إلى اللهِ ضِدَّ إِسْرائِيلَ قائِلاً: يا رَبُّ، قَتَلُوا أَنبِيَاءَكَ وَهَدَمُوا مَذَابِحَكَ، وَبَقَيتُ أَنا وَحْدي، وَهُمْ يَطلُبُونَ نَفْسِي! لَكِنْ مَاذَا يَقُولُ لَهُ الوَحْيُ؟ أَبْقَيْتُ لِنَفْسِي سَبْعَةَ آلافِ رَجُل لَمْ يُحْنُوا رُكْبَةً لِبَعْل.فَكَذَلِكَ فِي الزَّمانِ الحاضِرِ أَيضًا قَدْ حَصَلَتْ بَقِيَّةٌ حَسَبَ اختِيارِ النِّعمَةِ. فَإِنْ كَانَ بِالنِّعْمَةِ فَلَيسَ بَعْدُ بِالأعمالِ، وَإِلاَّ فَلَيْسَتِ النِّعْمَةُ بَعْدُ نِعْمَةً. فَإِنْ كَانَ بِالأعْمالِ فَلَيْسَ بَعْدُ نِعْمَةً، وَإِلاَّ فَالعَمَلُ لا يَكُونُ بَعْدُ عَمَلاً. فَماذا؟ مَا يَطْلُبُهُ إِسْرائِيلُ ذَلِكَ لَمْ يَنَلْهُ. وَلَكِنْ المُخْتارُينَ نالُوهُ. أَمَّا الباقُونَ فَتَقَسَّوْا، كَما هُوَ مَكْتُوبٌ:”أَعطاهُمُ اللهُ رُوحَ سُباتٍ، وَعُيُونًا حَتَّى لا يُبْصِرُوا، وَآذانًا حَتَّى لا يَسْمَعُوا إِلى هَذا اليَومِ”. وداوُدَ يَقُولُ:”لِتَصِرْ مَائِدَتُهُمْ فَخًّا وَقَنْصًا وَعَثَرَةً وَمُجازاةً لَهُمْ”.
شرح النّص الإنجيليّ:
أذَكِّرُكم بداية بالآية الأخيرة من الاصحاح العاشر، “ولكنّ الله يقول في إسرائيل: بَسَطتُ يديَّ طول النَّهار لِشَعْبٍ معاند ومقاوم مُتَمَرِّد”. إنّ الشعب كان متمردًا على الله. وفي المقطع الأوّل من الاصحاح الحادي عشر، يعرض بولس فكرة أساسيّة جدًّا وهي أنّ كلّ النّاس يتشابهون في أفكارهم. وما يميّزني أنا كمسيحيّ ليس أنّني مسيحيّ، بل أنّ المسيح الّذي أعبده يختلف عن بقيّة الآلهة، أمّا أنا فلست مميّزًا عن غيري من البشر. لنلاحظ معًا الكلام الّذي قاله بولس لأهل رومية في شأن إِيليّا النبيّ. إنّ النبيّ عرض لله أمره قائلاً إنّه بقي وحيدًا في عبادته لله بعد أن قام الوثنيون بقتل كلّ أنبياء الله وبهدم مذابحه، وكأنّه بذلك يقول للّه إنّه بقي العابد الوحيد لله وإنّه دافع عنه.
إنّ أكبر إحساس يؤدي بنا إلى السير في الطريق الخطأ وإضاعة بوصلة الطريق، هو عندما نعتبر نفسنا ندافع عن الله. إنّ الله أخبر النبيّ إيليّا بأنّ هناك سبعة آلاف رَجُلٍ لم يحنوا رُكَبِهم لبعل ذلك الاله الوثنيّ، وبالتّالي هناك آخرون غير إيليّا ما زالوا محافظين على إيمانهم ولم يسجدوا إلاّ للإله الحقيقيّ. إنّ لبّ وعمق عمل يسوع المسيح على الصّليب هو أنّ يسوع قد خلَّص جميع النّاس. إنّ الخلاص هو للجميع وبالتّالي من يُحَدِّد مَنْ هو مُخَلَّص أم لا، هو الله وليس نحن، وهو كذلك مَنْ يُحَدِّد من هو المؤمن ومَنْ هو غَيْر المؤمِن. إنّ الله لم يعطِنا السّلطان لكي نَقسُمَ النّاس إلى قسمين بين مؤمِنين وغير مؤمنِين.
إنّ أساس مشكلتنا مع النّاس ومع ذواتنا هي أنّنا نريد أن نقسم النّاس بين مؤمنٍ وغيرَ مؤمنٍ، عندما نقرِّر من هو مؤمن أو لا، فسنكون بهذا الفعل قد أخذنا مكان الله. إنّنا لا نؤمن بالله بُغية أن نأخذ مكانه، بل نحن نؤمن بالله كي نأخذ مكانًا قد سبق وأعدّه لنا، لذلك لا يحقّ لنا أن نقسم النّاس. فمن منّا يستطيع حقًّا أن يعرف قلب الآخر وداخله وعلاقته الداخليّة مع الله؟ فأكثر ما يستطيع الانسان الوصول إليه هو الحكم على المظاهر والأعمال والسّلوك.
هل تستطيع أن تعلم عمق الأمور؟ الحمد لله أن لا أحد غير الله يستطيع معرفة بواطن النّاس وخفايا القلوب. وبما أنّنا لا نعرف داخل الانسان وخفايا قلبه، فإن حُكمَنا على الآخر ليس عادلاً وليس مضمونًا، وبالتّالي فَرَحمَتُنا لا تستند على مبادئ، إنّما هي مستندة على مصالح، وكذلك الأمر بالنسبة إلى حبّنا تجاه الآخر، فهو مرتبط بما يفيدنا وما لا يفيدنا، لذلك نحن نحبّ شخصًا معيّنًا اليوم ونكرهه غدًا. إنّ الله هو الوحيد الّذي يحبّنا الأمس واليوم وغدًا، فحبّه لنا ليس مرتبطًا بأعمالنا أو بنوايانا أو بقلوبنا، لذلك”لا إله إلاّ الله”.
أن يكون منطقنا كمنطق الله- وهذا ما على فكرنا أن يكونه “أمّا نحن فلنا فكر المسيح”، على حدّ قول بولس الرّسول- هذا يجعلنا غير قادرين على أن نحكم على النّاس بل رافضين لهذه الصلاحيّة. إنّه ليس من شَرٍّ مطلق في أحد، وليس من خيرٍ مطلق في أحد، كل إنسانٍ فيه خير وفيه شَرّ. إنّ المشكلة بيننا وبين الله، أنّه يركِّز على الأعمال الصالحة فينا بينما نركّز نحن على الأعمال الشريرة في الآخرين. فإنّنا لا نرى إلاّ الاعمال السيئة في الآخر، حتّى وإن كان لم يرتكب سوى عمل شريرٍ واحدٍ، فنحن لا نغفر له. إنّ الله لا يرى إلاّ العمل الصالح في الانسان حتّى وإن ارتكب آلاف الأعمال الشريرة، فإنّه يسامحه ويرحمه من أجل هذا العمل الصالح الوحيد. إذًا، يختلف منطقنا وفكرنا عن منطق الله وفكره، وهذا ما يظهر جليًا في تعاملنا مع بعضنا البعض.
إنّ بولس الرّسول يقول لنا إنّنا نحاول أن نظهر أمام الله كأنّنا ندافع عنه، غير أنّنا نكتشف أنّ الموضوع لا يتعلّق بالله، بل يتعلّق بكيفيّة وجودنا وأهميّة وجودنا، متسربلين بثياب التّقوى. إذا استطعنا أن نفهم عمل المسيح على الصّليب، فإنّنا سنرتاحُ من دينونة الآخرين، من الظنون بهم، ومن الحكم المسبق عليهم. إنّ المسيح على الصّليب أعلن الغفران لقاتليه، وهم لم يتوبوا ولم يعتذروا، بقوله: “اغفر لهم يا أبتاه لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون!” إنّ المسيح غفر لهم من دون أن يتوبوا، وكان بحاجة إلى سببٍ كي يغفر لهم، فكانت حجته أنّهم لم يدروا ماذا يفعلون. إنّ الإنسان يبحث عن حجة وعن سببٍ كي لا يغفر لأخيه الإنسان بل ليدينه ويحكم عليه. فإن كنّا نَعُدّ أنفسنا من الّذين يتبعون المصلوب لا نستطيع أن نُصدر الاحكام على الآخرين. غير أنّنا إن كنّا من أتباع الصالب، فنستطيع عند ذلك أن نحكم وندين، فهذا ما فعله الّذين صلبوا بيسوع، فَهُم قد أدانوه.
إنّ كلّ موقف نأخذه فيه روح إدانة، نكون عندئذٍ نتمرّد على الله حتّى وإن كنّا أقدس القدّيسِين إذ أنّنا بذلك نهدم مملكة الله ومشروعه للبشر. إنّ روح الإدانة يمنع الخاطئ من التوبة. إمّا روح الرّحمة، وإن لم يتب الخاطئ بعد، فيعطيه فرصةً كي يتوب. إنّ اللطف والحبّ يستطيعان أن يفتحا الطريق أمام الخاطئ لكي يتوب.
من ناحية أخرى، الكنيسة هي جماعة من الخطأة تقوم بمسيرة لتنقية ذاتها، وليست جماعة من المؤمنين بالرّبّ يسوع. نحن نعلم أنّنا كلّنا خطأة وهذا مؤكد، لكنّنا لا نستطيع أن نعرف مَن هو مؤمِن ومن هو غير مؤمِن، وبالتّالي لا نستطيع أن نحكم. إذًا، الكنيسة ليسَت جماعة مؤمنِين بل جماعة خطأة، إنّها جماعة من الخطأة يتطّهرون، يتنّقون بكلمة الله وروحه. وبالتّالي هذا التّعريف للكنيسة يجعلنا متساوين مع سوانا من البشر. فإن كنّا كبقيّة البشر، فكيف نستطيع أن نحكم على الآخرين؟ فإن كنّا نعتقد أنّ بعض الأعمال الّتي نقوم بها في الكنيسة تعطينا إمتيازًا على الغير، فنحن مخطئون في ذلك، لأنّنا نخلُص بفعل النّعمة وليس بفعل الأعمال، فالنّعمة تأتي من المسيح.
إنّ الله قد أمطر على الجميع نِعَمَهُ، لكنّنا لا نستطيع أن نعرف من يستفيد من نِعَم الله ومن لا يستفيد. علينا أن نكون متأكدين من أمرٍ واحدٍ هو أنّنا لن نستطيع الحكم على النّاس مطلقًا. وبالتّالي يُمنع علينا التّعامل مع الآخرين مستندين على حكمٍ مسبق عليهم. إنّ الأمور في الدنيا بأسرها تتغيّر، إن تعاملنا معها من دون حكمٍ مسبقٍ. حتّى وإن كنّا بحسب علمنا، وفهمنا وخبرتنا ومعلوماتنا، نعلم أمرًا معيّنًا عن شخصٍ ما، فإنّه لا يجوز لنا أن نتعامل معه انطلاقًا من أعماله إنّما من أهميّة وجوده في نظر الله؛ إذ إنّه يمكن ألاّ يكون هذا الشخص ذا أهميّة في نظرنا. إنّ أهميّة وجود الآخر في نظر الله هي سبب وجوده. إنّ كلّ إنسان يمشي على هذه الأرض يصبح بمستوى يسوع المسيح كائنًا من كان: هذا هو مشروع الله. فإن اعترضنا وقلنا إنّه لم يؤمن، أتانا الجواب من الله أنّه لم تصله البشرى بالخلاص.
إذًا، نحن لا نستطيع أن نقطع الأمل في خلاص أي إنسان، فنحن لا نعرف الطريق الّذي سيتّبعه الله كي يصل إلى هذا الشّخص. إنّ الله يصل إلى كلّ منّا بطريقة مختلفة عن الآخر ومثالاً على ذلك، سِيَر أكبر الملحدين وأكبر المجرمين والوثنيّن والرّسل، وأكبر القديسين، فهم لم يؤمنوا جميعًا بالطريقة نفسها. نحن نسأل الآخر:”ماذا كنتَ؟” بينما الله يسألنا:”من أنت؟”، وهذا الفرق كلّه. إنّ العديد من الأمور قد تتغيّر لو أنّنّا نتعامل مع بعضنا كما يتعامل الله معنا وكما ينظر إلينا.
أنّ الرّحمة لا تعني أن نغفر الخطايا فقط، بل تعني أن نرى الآخر كما يراه الله. الله إذًا، لا يقطع الأمل في أحد. فلو تاب يهوذا، بعد أن بكى بكاءً مرًّا، لكان الله قد قَبِلَهُ، بدليل أنّ الله قد غفر لآخر وهو بطرس عندما تاب. غير أنّ يهوذا ندم ولكنّه لم يتب، وهنا الفرق. ندم يهوذا على خطئه وبقي هناك، فهو لم يعد إلى الله. إنّ فعل تاب بالّلغة العبريّة “شابا” تعني أن تعود إلى الله. إنّ بطرس ارتكب الخطأ نفسه الّذي ارتكبه يهوذا. خيانة يهوذا ليسوع وإنكار بطرس له هما جِهتان لعُملَةٍ واحدة، فكلاهما قد تخليا عن يسوع. لكنّ الفرق بينهما هو في تصرّفهما بعد النّدامة، فإنّ بطرس قد صدّق الكلام الّذي كان قد سبق وقاله للرّبّ:
“إلى من نذهب يا ربّ وكلام الحياة الأبديّة عندك؟” إنّ بطرس قد تذكّر هذا الكلام بعد أن أخطأ، فأدرك أنّ لا مكان يذهب إليه أفضل من الرّبّ، عندئذٍ تاب وعاد إلى الرّبّ. أمّا يهوذا فقد اعتبر أنّ لا حياة له بعد خطيئته، فالأمر بالنسبة له مرتبط بخطيئته وليس بموقف الله منه. هذا هو الفرق بين الإنسان الّذي لا يعرف رحمة الله، وذلك الّذي يعرف رحمة الله. فالإنسان الّذي لا يعرف رحمة الله له، هو انسانٌ قد منعته خطيئته من رؤية رحمة الله. والانسان الّذي يعرف رحمة الله هو الّذي كشفت له خطيئته الرؤية فاستطاع رؤية رحمة الله له. لذلك، لا تيأس يا إنسان مهما حصل معك، فأنت تضمن رحمة الله لك وهي كبيرة جدًّا. إن ضماننا لرحمة الله وحبّه لنا لا يجعلنا نستغل هذه الرّحمة وهذا الحبّ، بل يجعلنا نتخلّى عن وضعنا كخطأة ونذهب إلى الرّبّ.
فإن رأينا، في طريقنا ومسيرتنا صوب الله، أنّ الآخرين لم يصلوا إلى الرّبّ بعد، وهم لا يزالون بعيدين عنه، فهذا لا يعطينا الحقّ في أن نحكم عليهم، بل علينا أن نشفق عليهم، ونصلي لهم ونساعدهم عبر مرافقتنا في الطريق صوب الربّ، وبهذه الطريقة سوف تصطلح الدّنيا بأسرها. فلننظر إلى ما تعاني منه الكنيسة، وإلى المشاكل الّتي نتتج عن العلاقات بين البشر وبخاصّة بين الّذين يدّعون أنّهم يتبعون الله، فلا أحد يخيفني غير أتباع الله. والمثال على ذلك هو انقسام الكنيسة: فموضوع الانقسام بين الكنيستين لم يكن الله هو السببب فيه، بل الحجة الّتي استندوا عليها كي ينقسموا، فالعقيدة هي حجة إتّخذوها ليختلفوا، أمّا السبب الأساسي للانقسام فهو الخلاف على السلطة والنفوذ وشهوة المال. إنّنا نرتدي لباس التّقوى وحماية الله والدّفاع عنه، ولكن عندما يعبّر الآخر بطريقة مختلفة عنّا بما يؤمِن به نشعر حينها بخطر على الإيمان فتشتعل فينا رغبة الدّفاع عن الإيمان. لذلك نسعى إلى أن نسيطر على الآخر ونُخضعه لما نؤمِن به أو يكون مصيره الإلغاء، فنحن لا نبحث عن التّحاور معه، فالحوار بالنسبة لنا هو إعطاء الآخر المزيد من الوقت كي يؤمن بما نحن نؤمِن به.
إنّ الحوار، يا إخوتي، هو أن نعترف بأنّنا على حقٍّ بجزءٍ معيّن لكنّنا على خطأ في جزءٍ آخر، وكذلك هي الحال مع الآخر المخطئ في قسمٍ ما فيما يقوله، لكنّه مُحِقّ في قسمٍ آخر. ففي الحالة الأولى، عندما نقول إنّ الحقّ كلّه معنا، وأنّ الآخر مخطئ تمامًا، وأنّ الحوار معه يقضي بأن نقنعه بما نؤمن فيتوب، فيؤمن بما نؤمن به ويعتمده، فهذا لا يسمّى حوارًا بل يسمّى عرض مواقف، وينتج عن ذلك إمّا إخضاع الآخر، إمّا إلغاء الآخر، فإن لم نُلغِه بالقوّة والعنف والقتل نلغيه من فكرنا، نلغيه من اهتمامنا، نلغيه من عالمنا الّذي قد رسمناه لذواتنا. فلنفكِّر في خصوماتنا الّتي من حولنا، فهي ترتكز على أنّ الآخر قد تعرّض لنا بالأذية وعوض أن نرحمه ونغفر له، نبادله بالأذية. إذًا، قِيَمُنا هي موسميّة وغير مرتبطة بعلاقتنا بالله، بل بما يفعله النّاس بنا. أمّا الّذين يتعلّقون بالله وبمبادئه وفكره، لا تزعزعهم تصرّفات النّاس معهم. إنّ ذلك لا يعني أن نقبل الخطأ والأذية، فعلينا أن نرفض الخطأ ويجب عدم المساومة على الصواب. أمّا السؤال فهو: لماذا تجعلنا تصرفات الآخرين نتحوّل إلى إنسانٍ آخر؟ لماذا نتحوّل إلى دَّيانين ومعاقِبين وحاقدين على الآخرين جرّاء تصرّفاتهم معنا؟ إنّ من يتحلّى بعلاقة حقيقيّة وداخليّة مع الرّبّ لا يستطيع أن يَدين الآخر، وأن يحكم عليه، وأن يحقد عليه.
أين هو التغيير الداخليّ فينا الّذي ينتج عن إيماننا بالله، وعن معرفتنا بكلمته، وعن صلواتنا له؟ وإذا حصل هذا التغيير الدّاخلي فينا، فلماذا نعود إلى الحالة الأولى بسبب تصرّف أحدهم؟ إنّ الاختلاف والتخاصم يحصل على مستوى الفكر، ولكن عندما يصبح في القلب حينها وإن وُجد الحلّ لهذا الخصام في الفكر، فالتلاقي يُصبح بغاية الصعوبة لأنّ البُعد في القلب قد حصل. إن الأشخاص المتخاصمين يشعرون بالغضب تجاه بعضهم البعض، لذلك عندما يتحادثون، يصرخون ويتكلّمون بصوت مرتفع على الرغم من وجود الشخص الخصم بالقرب منهم جغرافيًّا، ذلك لأنّ القلوب ابتعدت واصبحوا يشعرون بمسافة كبيرة بينهم وبين الآخر، لذلك يصرخون كي يسمع الآخر. أمّا المتحابون فيتهامسون عندما يتكلّمون سويًا إذ إنّ القلوب أصبحت قريبة فيشعرون بقرب المسافة فلا حاجة بهم إلى الصّراخ. هل الأمر يستحق أن نخسر كلّ ما تسلّمناه من نِعَم من الله، من رحمته ومن حبّ الله والتّي لا فضل لنا بها؟ فهل نعتقد أنّ الله رحمنا وأحبّنا بسبب قداستنا، أم بسبب ضعفنا وخطايانا؟ إنّ الله رحمنا بسبب ضعفنا وخطايانا.
إنّ محبة الله ورحمته تزدادان كلّما ازدادت خطايانا. أمّا نحن، فتزداد نقمتنا على الآخر وحُكمَنا عليه، كلّما ازداد شعورنا بأن الآخر لا يحبّننا ولا يسمعنا، وليس بالضرورة أن يكون الآخر قد أخطأ إلينا. إنّ ذلك لَظُلمُ لا يساويه ظلم. لذلك مَن لم تحرقه جمرة الحبّ الإلهيّ وجمرة الرّحمة الإلهيّة لا يستطيع أن يحبّ وأن يرحم، هو فقط يدين ويحكم، وهو بالتّالي يتمرّد على الله لأنّ الـحُكم هو مِن صلاحيّة الله ولا يستطيع أحد أن يأخذها منه. إنّ الله قد أعطانا قداسته وقد أعطانا ميراثه وكذلك الملكوت، لكنّه لم يُعطِنا صلاحيّة الجلوس على العرش والحكم، غير أنّ الإنسان يفهم ذلك على أنّ الله لا يحبّه بما يكفي، كونه احتفظ بالعرش والحكم.
إنّ الله محبته لنا كبيرة لذلك، لم يعطِنا صلاحيّة الجلوس على العرش، لأنّه يدرك أننا كُنّا لنُلغي الجميع، وما كان لِيُوجَد مخلوق يخالفنا الرأي بسبب ظلمنا. إنّه لمن المفيد ألاّ تعرف النّاس خطايا بعضها البعض، فماذا لو عرفنا خطيئة الكاهن الّذي يقف أمامنا اليوم وهو يتكلّم بكلمة الله منذ فترة عشر سنين في هذه الجماعة؟ إنّه من المؤكد أنّه لن يعود أحد ينتصح بكلامه بل يذهب سدىً، هكذا هو الأمر بالنسبة للكاهن. فكم بالأحرى الأمر بالنسبة لسائر البشر غير المكرّسين؟ أنا لا أقول لكم مسبقًا، أنّني خاطئ وعليكم قبولي بخطيئتي، بل أخبركم كم أنّ جمرة الرّوح قد ألهبتكم.
إنّ بداية تأسيسنا لهذا الاصحاح الحادي عشر الصعب ترتكز على مفهوم أنّ هناك آخرٌ يحبّ الله مثلنا لا بل أكثر منّا، وهو مؤمن بالله ونحن نجهل هويّته، ونحن نريد أن نعرف من هو هذا الآخر الّذي يفوقنا إيمانًا وحبًّا بالله، وذلك ليس لنتعزّى به، بل من أجل أن نفجِّر انتقامنا وغضبنا في الآخرين. إذًا، نحن لدينا روح الانتقام، روح الدينونة. فليس في سبيل الصدفة أن يكون لباس الكهنة أسودًا، إذ إنّ هذا اللّون يجعل الكاهن ينتبه لأقلّ لمسة غبار قد تلوّث ثيابه، إذ إنّه يصبح مرئيًا من الآخرين، والنّاس لا ترحم. إنّ النّاس تحبّ أن تضع هالةً على الكهنة، وذلك لأنّ حكمهم عليهم يصبح أكثر قسوةً عندما يُخطئ. ويتحجّج النّاس عند إخطاء الكاهن وحُكمهم عليه بأنّه هو اختار هذا الطريق. أنا لا أبرّر خطيئة الكاهن، إنّما أدعوكم لكي تنتبهوا إلى إنسانيته، لأهميّة وجوده كخاطئ بنظر الله. فأهميّة وجوده كخاطئ في نظر الله يساوي تمامًا أهميّة وجودك بنظر الله كخاطئ. وهنا نعود إلى دينونته لأنّه مكرّس لله وهو اختار ذلك. نحن نعيش في زمنٍ لا نفهم فيه عمل الله على الصليب ونعتقد أنّه من واجبنا نحن الدّفاع عن الصليب. الويل لنا إن ظهر المصلوب الآن، وأخبرنا ما نحن فاعلون به.
إنّ اليهود هم أكثر لطفًا به منّا نحن المسيحيين، إذ إنّهم تحجّجوا ليظلموه بأنّهم لم يعرفوه، أمّا نحن فما هي حجتنا؟ نحن لأنّنا عرفناه، ظلمناه. هم قتلوه، لأنّهم عرفوه طبعًا، فَهُم قد عرفوا أنّ المسيح هو ربّ المجد لذلك قرّروا إلغاءه، لأنّه لا يتناسب ومصالحهم. ألا نفعل نحن الأمر نفسه؟ أفضل صلاة نتلوها هي”أبانا الّذي في السّماوات”، لكنّنا عندما نصليها نطلب من الله البقاء في سمائه، فحضوره في عالمنا وحياتنا وتفاصيلها لا يناسبنا فهو سيغيير فيها كلّ شيء. إنّ المسيح هو بمثابة فيروس يغيِّر نوعيّتنا، إذا دخل جسمنا، وكياننا. أمّا نحن، فنحبّ أن يكون المسيح كقطعة سكريّات أو حلوى، فنجعله لذيذًا. فنعبِّر مثلاً للكاهن أن القدّاس كان جميلاً، والعظة سريعة وجميلة. ألا نعلم أنّ الكلمة اللّذيذة الّتي نتناولها في القدّاس، هي لذيذة في الفمّ لكنّ طعمها مرٌّ في الجوف، في أحشائنا، لأنّها ستُفتِتنا من الدّاخل؟! ألم يكن هذا ما قاله صاحب الرؤيا، إنّه أكل السفر، فكان طعمه حلوًا في فمه، ولما وصل إلى أحشائه أصبح مرارةً، إنّه اكتشف أين هو؟ أنا أطلب منكم أن تنظروا إلى النّاس بنظر الله.
إنّ الله قد ألبسنا عينه في المعموديّة، عندما آمنّا، عندما قبلناه، عندما تسميّنا باسمه. إنّ المسيح عندما صُلب وقام وصعد إلى السّماء وأرسل الروح القدس إلينا، فعل ذلك من أجل “كلّ ذي جسد”. إنّ المسيح قد نظر أيضًا إلى الّذين يضطهدون المسيحيين ويقتلونهم، إنّ المسيح قد نظر إليهم، لكنّهم لم يقبلوه. أنا لا أطلب منكم أن نُشَرِّع لهم قتلنا وظلمنا، إذ علينا أن نكون ضدَّ الخطيئة وأن نحاربها. علينا أن ننظر الى الخاطئ بعين الرّحمة وذلك من أجل أن نفتح له نافذة كي يتوب. فليس المطلوب، أن نقبل وضعه، أي أن نقبل الخطيئة الّتي يرتكبها. فهل المسيح قَبِل أحد في خطيئته؟ عندما أتوا يسوع بالمرأة الزانيّة، قال لهم: من منكم بلا خطيئة فليرجمها بأوّل حجر. ولكن عندما ذهب الجميع، قال لها “اذهبي ولا تعودي إلى الخطيئة”. إنّ طبيعة الله هي الحبّ وهو لا يستطيع إلاّ أن يحبّنا. إنّ الإله الّذي نعبده، طبيعته هي محبّة، فإنّ الله لم يقم بعمل محبّة بل إنّه كائن محبّ.
إنّ الله عندما قال في الكتاب لنصنع الإنسان على صورتنا ومثالنا، كان يعني أنّه خلقنا على مثاله كائنًا محبًّا. أوّل صدمة تلقاها الله من الانسان كانت من آدم الّذي قال له إنّ المرأة الّتي أتاه بها هي السبب في أكله من الشجرة. أمّا قبل الخطيئة، فقدكانت المرأة بالنسبة لآدم لحمًا من لحمه وعظمًا من عظامه. عندما أتت الشهوة والمصلحة والكبرياء، أصبحت المرأة سببًا في فساد الأمور. كذلك قايين الّذي قتل أخاه لأنّ الله نظر إلى تقدمة هابيل بنظرةٍ لم تعجب قايين. إنّ هذه، مجرّد أمثلة لأمور كثيرة في هذه الدنيا. إنّ المسيح قد قُتل لأنّه قال إنّه يجوز العمل نهار السبت وهذا الأمر هو ضدّ الله بالنسبة لليهود، فَهُم اعتقدوا أنّهم بتلك الطريقة أي بقتل يسوع، يدافعون عن الله. عندما ندخل في مسألة الدّفاع عن الله، نصبح متّمردين وعاصين له.
فإنّ كلّ الأصوليّات هي عدوّة لله، وكلّ المتشدّدِين هم أعداء الله مع أنّ همّهم هو الدّفاع عنه. هناك سبعة آلاف رجل لم تركع رِكَبُهم لبعل، فهل أنت يا إيليّا النبيّ ستدافع عن الله؟ فكان جواب الله على دفاعه هذا، بأنّه اختار نبيًّا آخر مكان إيليّا، إذ أصعده على مركبة ناريّة يفرح بها النّاس، لكنّه لن يعود بعد ذلك الحين نبيًّا. فعلينا الانتباه إلى أنّ ليست كلّ ترقية هي بالأمر الحسن. أنظروا إلى هؤلاء الّذين تتمّ ترقيتهم وإعطائهم الدروع إحتفالاً بنهاية خدمتهم، فالدرع هو تشريع الإلغاء. إنّ إيليّا انتهى دوره، عندما قرّر أن يدافع عن الله، حتّى القدّيسين ينتهي دورهم إن دافعوا عن الله، فالله لا يميّز بين هذا أو ذاك. نحن لا ندافع عن الله، إنّما نشهد له. إنّ الشهادة لله تكون نتيجتها صَلبُنا، بينما الدّفاع عن الله فنتيجته هي صلب الآخرين.
أن نشهد لله نتيجته أنّنا نُصلَب، بينما نتيجة دفاعنا عن الله هي أن نَصلُب الآخرين. إن كنّا نتبع المسيح، فلا يحقّ لنا أن نحكم على هذا أو ذاك إن كان مؤمنًا أم لا، فحينها نكون قد دخلنا في مسألة الدّفاع عن الله، فلننتبه لذلك كي لا يسلِّمنا الله دروعًا . فآمل أن لا تستلموا دروعًا في حياتكم، وأن يتمّ إنهاء دوركم وإلغاؤكم. آمين.
ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ من قِبَلِنا.