تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“رسالة بولس الرّسول إلى أهل رومية – الإصحاح الخامس، آية: 1-11”
النصّ الإنجيليّ:
“فإذ قد تبرّرنا بالإيمان، لنا سلام مع الله بربّنا يسوع المسيح الّذي به أيضًا قد صار لنا الدّخول بالإيمان إلى هذه النّعمة الّتي نحن فيها مقيمون ونفتخر على رجاء مجد الله، وليس ذلك فقط بل نفتخر أيضًا في الضّيقات عالمين أنّ الضّيق ينشئ صبرًا والصبر تزكية و التّزكية رجاء، والرجاء لا يخزي لأنّ محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالرّوح القدس المعطى لنا، لأنّ المسيح إذ كنّا بعد ضعفاء مات في الوقت المعيّن لأجل الفجّار، فإنّه بالجهد يموت أحد لأجل بارّ ربّما، لأجل الصّالح يجسر أحد أيضًا أن يموت، ولكن الله بيّن محبته لنا لأنّه ونحن بعد خطأة مات المسيح لأجلنا فبالأولى كثيرًا ونحن متبرّرون الآن بدمه نخلص به من الغضب، لأنّه إنّ كنّا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه فبالأولى كثيرًا ونحن مصالحون نخلص بحياته، وليس ذلك فقط بل نفتخر أيضًا باللّه بربّنا يسوع المسيح الّذي نلنا به الآن المصالحة”.
شرح النّص الإنجيليّ:
قال بولس الرّسول في المقدّمة ” الإيمان يُبرّر”، وعندما نقول الإيمان يبرّر لا نقصد أنَّ إيمانك، بمعنى رأيك أو قبولك أو مرجعيّة خلاصك، يُخلّصَك أي أنّك لا تخلص فقط بإيمانك، فلم يقل بولس: إذا آمنتم خُلِّصتم، بل الإيمان يبرّرك.
والإيمان يعني الربّ يسوع المسيح، أي الإنجيل، وهذا هو المعنى الحقيقيّ لكلمة الإيمان، أي أنّ فحوى المضمون الّذي قبلتموه، هو الّذي يبرّركم، وليس لأنّكم قبلتم هذا الإيمان تتبرّرون، فالربّ يسوع هو المرجعيّة. فإذا تساءلتم ما الّذي يبرّر: الإيمان أو الأعمال؟ ما من إيمان خارج الأعمال.
أتعتقدون أنّ الإيمان هو تصديقكم لموت وقيامة يسوع المسيح، وبُنُوَّته لله حتّى الشّياطين تصدّق هذا، الإيمان إذًا لا يكون فقط بالتّصديق بما حصل، بل هو الدّخول بما حصل، ذلك يعني أن تصبح واحدًا من الأشخاص الذين نزل ابن الله إلى الأرض لأجلهم، إذًا تصبح أنت معنيّاً بالموضوع، وواحدًا منه.
الإيمان هو أن تدخل في هذا الموضوع، وتقبله على أساس أنّ الربّ يسوع المسيح هو المخلّص، على أن تتبّنى العلاقة التي عرضها عليك يسوع، أن تكون ابنًا لله؛ إذا فالإيمان هو التّعبير أنّ الله تبنّاك وأنت فرحت بهذا التبنّي. إذًا أنتَ تسلك كابن.
فما هو الإيمان الّذي يعني أن تسلك كابن الله؟ ذلك يعني أنّك أصبحت وريثًا، كما أنّ يسوع هو وريثٌ للملكوت. ألا يجعل هذا لكم سلامًا مع الله؟ طبعًا، لكنّ هذا يكون فقط بالرّبّ، فهو الباب، ولا يمكنكم أن تكونوا في علاقة مع الله بدون يسوع المسيح، لأنّ يسوع هو الّذي دخل إلى عالمكم وانتشلكم منه، وأعطاكم تذكرة لتذهبوا إلى عالمه. هذا هو الإيمان، هذا هو التّبرير. أن تحافظوا أو لا تحافظوا على هذه التّذكرة هذا من شأنكم، فهي تزرع فيكم الفرح والسّلام، لكنّها لا تضعكم مباشرةً في عالم الربّ يسوع إذا لم تسلكوا كأولاد الله. إذًا بيسوع أيضًا صار لنا الدّخول بالإيمان إلى هذه النّعمة الّتي نعيشها حاليًّا وهذا يجعل لنا فخرًا على رجاء مجد الله.
هل تُلغي علاقتكم بالربّ يسوع وإيمانكم وسلامكم والطّمأنينة الّتي حصلت جرّاء هذه العلاقة، الضّيقات الموجودة في العالم؟ طبعاً لا! لذلك عندما تواجهون الضّيقات، ابحثوا عن الافتخار فيها، أي عندما تكونون في ضيقٍ عليكم أن تبحثوا على الحفاظ على ما أنتم عليه بالإيمان، لأنّ أكبر تحدٍّ لنا في الشّدّة هو الحفاظ على إيماننا، لذلك في قصص الرّهبان، لا يتدخّل الشّيطان في الرّهبان غير الجدّيين لكيلا يضيّع وقته بل يجرّب الجدّيين والملتزمين، فتصبح حربه أكبر. من هنا يطرح المؤمن السّؤال التّالي: لماذا أتعذّب أكثر من سواي؟ هذا بسبب علاقتكم باللّه، فحتّى في الضّيق لا تملكون سوى الله، لذلك تعاتبونه. ومن هنا تكتشفون ما يخبّئ لكم الضّيق من الافتخار بما لديكم. إنّ الضّيق ينشئ صبرًا، ولا يوجد صبرٌ وأنتم في حالة من الفرح، بل هناك صبرٌ في الحزن والضّيق.
والصّبر يعني من هم تحت الضّيق أو الشّدّة. وهذا الضّيق ينشئ صبرًا. ومن خطورة الضّيق أنّه يوهم الإنسان ويضعه في صراعٍ مع الوقت، فلا يعود للوقت معنىً، أمّا عند المؤمن فللوقت معنى لأنّه معبر حقيقيّ لتبقوا على ما أنتم عليه، ولو بوجود الضّيق. والصّبر ينشئ التّذكية، والتّذكية تنشئ الرّجاء وهو انتظار ما وعدنا الله به، لأنّ الوعد هو الأساس الّذي يعطيكم القوّة حتّى لا يغلبكم الوقت، بل تربحونه لحين موعد الوقت المحدّد. لذلك عليكم أن تتحلّوا بالصّبر والقوّة على التّحمّل، أمّا إذا كنتم أنتم في الرّجاء أي في الانتظار للوعد الّذي وعدْتُم به، فليس لرجائكم الأساس بل للوعد. الأمل هو الّذي تعِدون أنفسَكم به وتنتظرونه، أمّا الرّجاء فهو وعدٌ صادقٌ من الآخر وسيحصل لا محالة.
مفترض بعد الآن أن نقول إنّ الرّجاء لا يُخزي، لأنّ محبّة الله انسكبت في قلوبكم بالرّوح القدس المعطى لكم، وبسبب وعْيِكُم على محبّة الله لكم، هذا الّذي يعطيكم القوّة والصّبر. المؤمن إذًا هو الّذي أيقن أن الله يحبّه. حاولوا كلّ يوم في صلاتكم الشّخصيّة أن تردّدوا: “الله يحبّني”، حتّى تتذكّروا دائمًا ماذا يعني وجودكم في هذه الحياة، لأنّ الجميع يتساءل عن سبب خلق الله له، ألهذا العذاب؟
خلقكم الله لأنّه لا يعرف أن يحبّ ذاته، بل يبحث عن أحدٍ ليحبّه. هو يظهر محبّته من خلالكم. وهذا يعني أنّه لولا وجود الإنسان على الأرض لما كشف الله لكم أنّه إله محبّة، فحتّى في الثّالوث لم يظهر الله نفسه أنّه إله محبّة. هذا هو السّرّ المكتوم الّذي لم يظهره لكم سوى يسوع النّاصريّ الذّي كشفه لنا على الخشبة. وما هي الخشبة؟ هي الضّيقات الّتي واجهته وصبر عليها، لأنّه وُعِد من أبيه أنّه مهما حصل فسوف يتحقّق الوعد في النّهاية، لذلك انتظر وقَبِلَ، وقد أنشأ هذا الضّيق الصّبر عند يسوع الإنسان. أنتم تكشفون إذًا محبّة الله الّتي لا يمكن أن تشاع إلّا بإيجابيّة على النّاس. فالأشخاص الإيجابيّون يشعرون أنّهم محبوبون وفرحون مع الآخر، أمّا السّلبيّون فلا يشعرون بهذا. فالحبّ يصنع منكم خلائق جدداً، وعدمه لا يصنع منكم شيئًا، فحبّ الله قد انسكب في قلوبكم التي لا تخفيه.
إذ لا يمكن إخفاء الحبّ، وبالأخصّ إذا اَحبّوكم لا فقط إذا أحببتم. أنت كئيبٌ، ليس لأنّك بدأت برؤية مشكلتك مع نفسك أو مع قريبك، بل لأنّ انتباهك لحبّ الله لك بدأ يخفّ.
إنّ المناولة هي لنباهة نفوسكم ويقظتها حتّى تظلوا متنبّهين لحبّ الله. فكلّ من آمن بحبّ المسيح بواسطة النّاس ومن خلالهم، شعر أنّه محبوبُ من هؤلاء. فالمحبّة تستر جنبًا من الخطايا، والّذي نحبّه لا ينتبه إلّا لمحبّتنا له، ولا يرى خطايانا، ونحن كذلك متى أحببناه، فلا نرى خطاياه، لأنّ المحبة تستر خطايا الكلّ. ومحبّة الله الّتي انسكبت في قلوبنا بالرّوح القدس، أخفت خطايانا، ما يعني أنّ الله لا ينظر إلى خطايانا. وهل هناك أجمل من أن نمثل أمام من يرانا كاملين؟
كم يزرع ذلك من الفرح في قلوبنا؟ فالله ينظر إلينا نظرة كمالٍ، وهذه عبارة عن الحبّ وجنونه. فبعد اكتشافنا لهذا الحبّ أيجوز لنا أن نلهو بالأمور الدّنيويّة. إذا كان يصعب علينا أن نضحّي بأنفسنا لأجل شخص صالح، فكم بالأحرى لشخص طالح؟ شخصٌ واحد فعل هذا وهو يسوع المسيح. ويجب أن تنتبهوا إلى أنّ المسيح مات لأجلنا وليس عنّا، وهذا لا يفعله سوى من يحبّنا.
تستر محبّة الله خطايانا، وعلينا بدورنا ألا ننظر إلى هذه الخطايا في محبّة الله لنا. لقد صالحنا يسوع مع الله بموته، وكسر كلّ حاجز بيننا وبين الله، وبين بعضنا البعض. يقول يوحنّا: كيف يمكننا أن نحبّ الله ونحن لا نراه، ولا نستطيع أن نحبّ أخانا الّذي نراه؟ فإنّنا بذلك متوهّمون وعلينا الافتخار بثلاثة أمور: برجاء مجد الله، بالضّيقات لأنّها تجعلنا نصل إلى الرّجاء، وبالله بربّنا يسوع المسيح الّذي نلنا به المصالحة. وكما أنّه بإنسانٍ واحدٍ وهو آدم دخلت الخطيئة إلى العالم، ولأنّ بهذه الخطيئة عبر الموت إلى النّاس، كذلك علينا أن نحرّر المسيح من الأسر الموجود فيه؛ أسر الهيكل الّذي وضعناه بأنفسنا فيه، وأن نحرّر ذواتنا من السجّن الّذي سجنا أنفسنا فيه. عندها يتمّ اللّقاء وتتمّ المصالحة في الإنسان الآخر.
ملاحظة: دوّنت المحاضرة من قبلنا بتصرّف.