تفسير الكتاب المقدّس،

الأب ابراهيم سعد،

“رسالة بولس الرّسول إلى أهل رومية – الإصحاح الرّابع”

النّص الإنجيليّ:

“فماذا نقول إن أبانا إبراهيم قد وُجد حسب الجسد لأنّه إن كان إبراهيم قد تبرّر بالأعمال فله فخر، ولكن ليس لدى الله لأنه ماذا يقول الكتاب؟ فآمن إبراهيم بالله فحسب له برًّا أمّا الّذي يعمل فلا تُحسب له الأجرة على سبيل نعمة، بل على سبيل دين وأمّا الّذي لا يعمل، ولكن يؤمن بالّذي يُبرّر الكافر، فإيمانه يحسب له برًّا كما يقول داود أيضًا في تطويب الإنسان الّذي يحسب له الله برًّا بدون أعمال طوبى للّذين غفرت آثامهم وسترت خطاياهم طوبى للرّجل الّذي لا يحسب له الرّب خطية أفهذا التّطويب هو على الختان فقط أم على الغرلة أيضًا؟ لأنّنا نقول: إنّه حسب لإبراهيم الإيمان برًّا فكيف حسب؟ أوهو في الختان أم في الغرلة؟ ليس في الختان، بل في الغرلة وأخذ علامة الختان ختمًا لبرّ الإيمان الّذي كان في الغرلة، ليكون أبًا لجميع الّذين يؤمنون وهم في الغرلة، كي يحسب لهم أيضًا البرّ وأبًا للختان للّذين ليسوا من الختان فقط، بل أيضًا يسلكون في خطوات إيمان أبينا إبراهيم الّذي كان وهو في الغرلة فإنّه ليس بالنّاموس كان الوعد لإبراهيم أو لنسله أن يكون وارثًا للعالم، بل ببرّ الإيمان لأنّه إن كان الّذين من النّاموس هم ورثة، فقد تعطّل الإيمان وبطل الوعد لأنّ الناموس ينشئ غضبًا، إذ حيث ليس ناموس ليس أيضًا تعدّ لهذا هو من الإيمان، كي يكون على سبيل النّعمة، ليكون الوعد وطيدًا لجميع النّسل. ليس لمن هو من النّاموس فقط، بل أيضًا لمن هو من إيمان إبراهيم، الّذي هو أب لجميعنا كما هو مكتوب: إني قد جعلتك أبًا لأمم كثيرة. أمام الله الّذي آمن به، الّذي يحيي الموتى، ويدعو الأشياء غير الموجودة كأنّها موجودة فهو على خلاف الرّجاء، آمن على الرّجاء، لكي يصير أبًا لأمم كثيرة، كما قيل: هكذا يكون نسلك وإذ لم يكن ضعيفًا في الإيمان لم يعتبر جسده – وهو قد صار مماتًا، إذ كان ابن نحو مئة سنة – ولا مماتية مستودع سارة ولا بعدم إيمان ارتاب في وعد الله، بل تقوّى بالإيمان معطيًا مجدًا لله وتيقّن أنّ ما وعد به هو قادر أن يفعله أيضًا لذلك أيضًا: حسب له برًّا ولكن لم يكتب من أجله وحده أنّه حسب له بل من أجلنا نحن أيضًا، الّذين سيحسب لنا، الّذين نؤمن بمن أقام يسوع ربّنا من الأموات الّذي أسلم من أجل خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا”.

شرح النّص الإنجيليّ:

نبدأ اليوم بفترة التّحضير والاستعداد للدّخول في حالة العيد، ولذلك ابتداءً من الأسبوع المقبل، سنتكلّم قليلاً عن هذا الأمر استعدادًا للعيد، لنحاول سرقة معاني العيد في كلّ سنة من ضجيج هذا العالم، لأنّها مختبئة بوهم انتظار الموت فقط، لكنّنا اكتشفنا أنّ الموت لا يُنتظر بل يعاش، فبموت شخص مقرّب منّي تموت أجزاء منّي. الموت كالحياة، كلّما نتعرّف بأحد نشعر بهذه الحياة في نفوسنا. فإذا كنّا نعيش الموت والحياة معًا، يكون العيد، اكتشافًا بأشياء جديدة تدفعنا إلى الأمام ونكتسب اللّغة أي نعيش المعنى. لذلك لا تنتظروا العيد بل عيشوه لنصل إلى فهم مقصد الله وحبّه الإلهيّ. فكلّما رأيتُ إنسانًا، ويسمح لي بأن أمارس معه لغة الحبّ الإلهيّ، عندها أكتشف أسرارًا عظيمة. فالمحبّة تستر جمًّا من الخطايا كما يقول الكتاب، لذلك فالعيد بمعانيه الجديدة يستر عنكم خطاياكم، ويجعل تركيزكم على هذا الحبّ الإلهيّ الّذي سكبه الله وما زال يسكبه عليكم، ولن تعرفوا الطّرق، ولن تدركوا كيفيّة عطاءات الله إلاّ بالنّاس وبالإنسان، فعليكم التحرّر من العلاقة التي تأسركم بالله فقط. كلّ ما نتعلّمه هو دافع جديد قويّ لتكتشفوا في الإنسان عظمة الله، رغم فظاعة العالم، في برامجه ومحطّاته وقوّته وقداسته وحبّه للإنسان. يُقال: “الحبّ جنون”. وواحدٌ فقط طبّق هذا القول في جنون حبّه وهو “أبو يسوع” أي يسوع. وستصطلح الدّنيا إذا اكتشف أهلها أنّ الله يحبّني ويحبّك.

في هذا الإصحاح اهتمّ بولس لعودة الجميع إلى هدف عمل الله، فقد ذكر إبراهيم ذلك الشّخص الّذي يعتبره اليهود أباهم، لكنّهم رغم اعتبار إبراهيم كأبيهم، كانوا يفرضون على النّاس الإيمان بالمسيح لنيل الخلاص، وبالتّالي يجبرونهم على ممارسة التّطهير الطّقسيّ. لم يُختن إبراهيم بالحقيقة، إذًا يستطيع الإنسان أن يخلص من دون المرور بالشّريعة، بل بالإيمان فقط بيسوع المسيح. الإيمان هو الإنجيل، فميزة إبراهيم هي امتلاكه لأرضٍ وعشيرة وملك واستقرار أي امتلاكه حياةً. لكن عندما ناداه ذلك الصّوت، طلب منه أن يتخلّى عن استقراره وحياته ورزقه وملكه، لأنّ المعدّ له سيكون أفضل.
لم يسأل إبراهيم عن ضمانة بل تخلّى عن كلّ شيء وذهب إلى المجهول مقتنعًا أنّ في كلمة الله المعلومة، لا المجهولة، بعكس المنطق البشريّ. قبول كلمة الله إذًا هو ما خلّص إبراهيم وليس إيمانه، فالإيمان هو الموضوع وأنت تكسب عندما تقبله. الإيمان غير المبنيّ على الفهم هو إيمان خرافيّ. “آمن بالحجر تخلص”، أي آمن بحجر الزّاوية يسوع المسيح، تخلص.

يطرح بولس في هذا الإصحاح أهميّة الإيمان والقيام بأعمال المحبّة بالإيمان. فتطبيق قانون دولة ما، لا يجعلك منها، لكنّ الإنتماء إليها هو الأساس، هو الّذي يمنحك الهويّة، لذلك عندما طلب اليهود أن يندرج كلّ من آمن بقيامة المسيح، وبمن أقامه من بين الأموات، في صفوفهم، كانوا يلغون قيمة الصليب وقيامة المسيح. نحن ننتقد في أعماقنا اليهود، لكنّنا نطبّق هذه النّظريّة الّتي تؤكّد أنّك لا تستطيع العيش مع إنسانٍ مختلف عنك، فخليّة الإلغاء موجودة فيك كقايين الّذي قتل هابيل لأنّه مختلف عنه. فالإنجيل يقودك إلى عيش كلّ يوم، وبشكل واضح، هو كتاب أرضيّ، كُتب لتعيشه على الأرض، وبين النّاس مع المختلفين عنك والّذين لا يقبلونك. تسيطر على النّاس فكرة قايين أي فكرة الإلغاء، وعدم الاستعداد لقبول شخص مختلف عنهم رغم أنّ الطّبيعة جعلتهم مختلفين عنه، فحتّى البصمة تختلف من شخصٍ إلى آخر.

وهب إبراهيم حياته لله ظنًّا منه أنّ كلّ حياة ثانية هي سراب ووهم. فقد آمن بأنّ كلمة الله حقيقة ومُحقَّقة رغم أنّها وعد، ولكن بعد قبوله لهذه الكلمة، سلك في الحياة كأنّها تحقّقت، مع أنّها بقيت وعدًا، هو العيش على أساس كلمة الله. ومات إبراهيم من دون أن تتحقّق كلمة الله الّتي وعده بها، بل تحقّقت وتمّت بعد مجيء يسوع. جاء يسوع بعد أن سكت الزّمان بعد إبراهيم، ولم يفتح فاه، كشاةٍ سيق إلى الذّبح. طلب مرّة واحدة أن تعبر عنه هذه الكأس، لكن ما لبث أن طلب أن تتمّ مشيئة الله، ثمّ قال:”إغفر لهم يا أبتاه لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون”. فالمطلوب إذًا هو الإيمان بيسوع المسيح ربًّا ومخلّصًا لتنال ما قد تناله به، ولكنّ هذا لا يفترض الإيمان بدون الأعمال. فالإيمان الحقّ يُترجَم بأعمال المحبّة كما يقول بولس لأهل غلاطية. فتصبح الأعمال ترجمة للإيمان، وليست الطّريق لنصلْ إلى الخلاص. فأنتم مثلاً لا تعترفون ليغفر لكم الله خطاياكم، فخطاياكم قد غُفِرتْ، والاعتراف هو القبول بغفران الخطايا. إذًا لقبول غفران الخطايا عليك أن تكون صادقًا، وتنكر أيّة علاقة بآلهة أخرى، وتعترف بربوبيّة يسوع المسيح.

سرّ الإعتراف ليس لمناقشة موضوع المعترف، بل لطرح مشروع الله من جديد على المعترف. فاللّيتورجيا مبنيّة على كلمة واحدة وهي “اليوم” أو “الآن” كقوله: “اليوم علّق على خشبة”، “اليوم يولد من البتول” أو “اليوم تكون معي في الفردوس”. لا أحد يكفل الغد سوى الله في مفهوم الذّهن. ويقارن يسوع إبراهيم باليهود الّذين يعتبرون أنفسهم أغنياء بكلّ ما يملكونه، وهم في الحقيقة لا يملكون شيئًا، بل كلّ شيء هو عطيّة من الله واعتبروها ملكهم عندما قال:”خير للجمل أن يدخل من ثقب الإبرة على أن يدخل غنيّ ملكوت السّماوات”. فالعالم والملكوت لك، ولكنهما ليسا ملكك، لأنّك عندما تستعمل كلمة “ملكي”، تجعل لنفسك حقّ التّصرّف.ولكنّها عطيّة عليها ألا تُنسّيك المعطي لأنّك عندما تنسى المعطي، تصبح أنتَ صاحب الحقّ، وبذلك تصبح أنتَ المعطي. نحن نتعلّم لنغيّر مسار التّاريخ، بتغيير مسار سلوكنا الشخصيّ ليس بالعجائب ولكن ببساطة القداسة. فعندما تعطي حقيقة الإنجيل للنّاس، تردّ الجميل لا للمعطي بل للعالم.

تعلّمتم في اللّاهوت أنّ ابن الله تجسّد ليصير الإنسان إلهًا، لكنّ ابن الله تجسّد ليصير الإنسان إنسانًا. هذا هو المسيح، بلاهوته الذي لا تستطيع أن تدركه أيّها الإنسان! فنحن نتكلّم عن ناسوته، وعمّا ندركه، كحبّ الربّ يسوع للنّاس وللأبرص والأعمى. ولكنّنا نخاف أن نتكلّم عن الله وعن ابنه يسوع، ونختبئ فيهما، وننسى إنسانيّتنا مع الآخر. وهذا يحوّلك إلى قاضٍ وديّان، والله منعك عن ذلك. لقد سطعت شمس النّهار على الجميع، فكانت عطيّة الرّبّ للكلّ، لذلك فإنّ الإيمان هو بالقبول، أي أن تحيا على أساس قبولك الإيمان. وعندما تخطئ تدخل في الخيانة، وهي خيانة عهد الله من جديد. تعيش الكنيسة رحمةً ونعمةً في القدّاس الإلهيّ ولكن عند خروجك منها، تهوى الوثنيّة وعبادة الأصنام أي تهوى اليهوديّة وتميّز نفسك ثمّ تعود بعد حين إلى الكنيسة، فتكون إمّا وثنيًا أو يهوديًّا، وتتعمّد من جديد بكلمة الله الّتي قيلت لك عبر الإنجيل، فتقبلها وتكون كابن الله، تقبل البنوّة من عند الله وتجلس على المائدة وتأكل أكلاً لم تصنعه يدك ولم تشترك فيه بفعلك. نحن تشترك فقط بالأكل، فلماذا نستغلّ الحريّة مع الله ونستغلّ العبوديّة مع النّاس؟ إذًا أنتم عبيد يا بشر شئتم أم أبيتُم. أعطاكم الله الحريّة لكنّكم تحنّون دائمًا إلى العبوديّة، لأنّ العبد لا يستطيع أن يحبّ سيّده. وهو لا يدعوكم عبيدًا فقط، ليكسب حبّكم الصّحيح له.

نؤسّس في شرحنا هذا للدّخول في الإصحاح الخامس، السّادس والسّابع، كي نفهم أهميّة عطيّة الله. طوبى للّذين غُفرت آثامهم، وسُترت خطاياهم. لقد سامحنا الله وغفر آثامنا رغم سيطرة خطايانا علينا، لكنّه طلب منّا العيش على الأسس الصّحيحة. يستيقظ الله في كلّ يوم ويجد الإنسان قد دخل في الخطيئة نفسها، فصار يفكّر بالاستقالة من كونه قاضيًا وبالابتعاد عن معاملة النّاس بالحقوق، لكن سيمارس دوره كأبٍ، وهم لم يعرفوا صورة أب مثله، لهذا قال”هذا هو ابني الوحيد”، الذي تخلّى عنه لأمثالنا ليبرهن لنا عن حبّه. فسحقناه ولم نصدّق أنّه يحبّنا، فمن هو الجلاّد إذًا ومن هي الضّحيّة في هذا الموضوع؟ لقد أضحى الله طبعًا، ضحيّة الإنسان الجلاّد. إن كنتم تظنّون أنّكم بأعمالكم تخلصون فالخلاص لا يكون سوى بالإيمان بيسوع المسيح، وهو الّذي يخلّصكم. لا تتّبعوا النّاموس، بل اتّبعوا يسوع الّذي أقامه الله من بين الأموات والّذي أُسلم من أجل خطايانا، أي مات بسببها، ولكنّه قام من أجلنا. فالمسيح لم يمت عنّا، بل مات من أجلنا.

جاء يسوع ليكشف لنا سرًّا مكتومًا منذ دهور حول مشروع الله بالبنوّة، لذلك تفهمون الآن أنّه خلقنا على صورته ومثاله. موت وقيامة المسيح ليسا عملين قانونيّن بمعنى كفّارة، بل هما كشِف إلهيّ لقصد الله أن تكونوا أبناءً له، والابن يعني الوريث، أي أنتم ورثة الله كما يسوع وريث الله الوحيد، فقد أشرككم الله بهذه العطيّة. لقد أورثكم الله ملكوته، وأنتم تتلهّون بأمورٍ سخيفة في الحياة كالمخاصمات والحقد والظّلم، وتعيشون الموت والحياة في الوقت نفسه ولا تتعلّمون أيّها الناس! فكلّ ما في هذه الحياة هو نعمة، رغم كلّ سيّئات هذا العالم، لا زلنا نجد بين الأخطاء نِعمًا تقوّينا، ومحبّة الله سوف تظهر. وكما آمن إبراهيم بكلمة الله أنّها محقَّقة ولم تكن بعد قد تحقّقت، هذه هي دعوتنا اليوم أن نعيش على تحقيق كلمة الله رغم الوعد المقدّم لنا، سيولد لكم مخلّص، ومن آمن بهذه الولادة وصدّقها فعليه أن يعيشها.

ملاحظة: دوّن الشرح بأمانةٍ من قبلنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp