تفسير الكتاب المقدّس،

الأب ابراهيم سعد،

“رسالة بولس الرّسول إلى أهل رومية – الإصحاح العاشر” 

النصّ الإنجيليّ:

“أَيُّها الإِخوَةُ، إنَّ مَسَرَّةَ قَلبي وَطَلبَتي إلى اللهِ لأَجلِ إِسرائِيلَ هِيَ للخَلاصِ. لأَنِّي أَشهَدُ لَهُم غَيرَةً لله، وَلَكِنْ لَيسَ حَسَبَ المعرِفَةِ. لأَنَّهُم إذْ كانوا يَجهَلُونَ بِرَّ الله، وَيَطلُبُونَ أَن يُثْبِتُوا بِرَّ أَنْفُسِهِم لَمْ يُخْضَعُوا لِبِرِّ الله. لأنَّ غايَةَ النَّاموسِ هِيَ: المسِيحُ لِلبِرِّ لِكُلِّ مَنْ يُؤمِنُ. لأنَّ مُوسى يَكْتُبُ في البِرِّ الّذي بالنَّاموسِ: إنَّ الانسانَ الّذي يَفعَلُها سَيَحيا بِها. وَأَمَّا البِرُّ الّذي بالإيمانِ فَيَقُولُ هَكَذا: لا تَقُلْ في قلبِكَ: مَنْ يَصعَدُ إِلى السَّماءِ؟ أَيْ لِيُحْدِرَ المسيحَ، أَوْ: مَنْ يَهْبِطُ إِلى الهاوِيَةِ؟ أَيْ لِيُصعِدَ المسيح مِنَ الأَمْواتِ. لَكِنْ مَاذَا يَقُولُ؟ “الكَلِمَةُ قَريبَةٌ مِنْكَ، في فَمِكَ وَفي قَلبِكَ” أَيْ كَلِمَةُ الإيمانِ الَّتي نَكْرِزُ بِها: لأَنَّكَ إِنْ اعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بالرَّبِّ يَسُوعَ، وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ اللهَ أَقامَهُ مِنَ الأَمواتِ، خَلَصتَ. أنَّ القَلبَ يُؤمَنُ بِهِ لِلبِرِّ، والفَمَ يُعْتَرَفُ بِهِ لِلخَلاصِ. لأَنَّ الكِتَابَ يَقُولُ: كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ لا يُخْزَى. لأَنَّهُ لا فَرقَ بَيْنَ اليَهُوديِّ واليُونانِيِّ، لأَنَّ رَبًّا واحِدًا لِلجَميعِ، غَنِيًّا لِجَميعِ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِهِ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَدعُو بِاسْمِ الرَّبِّ يَخْلُصُ. فَكَيفَ يَدعُونَ بِمَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ؟ وَكَيفَ يُؤْمِنُونَ بِمَنْ لَمْ يَسْمَعُوا بِهِ؟ وَكَيفَ يَسْمَعُونَ بِلا كارِزٍ؟ وَكَيفَ يَكرِزُونَ إِنْ لَمْ يُرسَلُوا؟ كَما هُوَ مَكْتُوبٌ: مَا أَجمَلَ أَقْدامَ المُبَشِّرينَ بالسَّلامِ، المُبَشِّرينَ بالخَيراتِ. لَكِنْ لَيسَ الجَميعُ قَدْ أَطاعُوا الإِنجيلَ، لأَنَّ إِشَعياءَ يَقُولُ: يَا رَبُّ مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنا؟ إِذًا الإِيمانُ بِالخَبَرِ، وَالخَبَرُ بِكَلِمَةِ اللهِ. لَكِنَّني أَقُولُ: أَلَعَلَّهُم لَمْ يَسْمَعُوا؟ بَلَى! إِلَى جَمِيعِ الأَرضِ خَرَجَ صَوتُهُم، وَإِلَى أَقاصِي المَسكُونَةِ أَقوالُهُم. لَكِنِّي أَقُولُ: أَلَعَلَّ إِسرائِيلَ لَمْ يَعْلَمْ؟ أَوَّلاً مُوسَى يَقُولُ: أَنا أُغِيْرُكُم بِما لَيسَ أُمَّةً، بِأُمَّةٍ غَبِيَّةٍ أُغِيظُكُم. ثُمَّ إِشَعياءُ يَتَجاسَرُ وَيَقُولُ: وُجِدْتُ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَطْلُبُوني، وَصِرْتُ ظَاهِرًا لِلَّذينَ لَمْ يَسْأَلُوا عَنِّي. أَمَّا مِنْ جِهَةِ إِسْرائِيلَ فَيَقُولُ: “طُولَ النَّهارِ بَسَطْتُ يَدَيَّ إِلَى شَعْبٍ مُعانِدٍ وَمُقاوِمٍ”.

شرح النّص الإنجيليّ:

في هذا الفصل، يتكلّم بولس عن الّذين اتّخذوا النّاموس دينًا لهم ولكنّهم لم يفهموا مقصد الله منه، فاهتّموا بإظهار بِرِّ أنفسهم بسلوكهم وليس إظهار برّ الله. هذا من ناحيةٍ، أمّا من ناحية أخرى، فيركِّز بولس على البِرِّ بالإيمان. إنّ البِرَّ بالإيمان لا يقتصر على تصديق قصّة يسوع، فلكي تكون بارًّا بالإيمان عليك أن تؤمن بيسوع المسيح مخلِّصًا، وأن تؤمن بما قام به، عندئذٍ تكون بارًّا. إنّ الإيمان بيسوع المسيح يصل إلينا عبر الكرازة، أي عبر التبشير بكلمة الله. وفي حديث مار بولس مع أهل رومية، نلاحظ نفحته الأبويّة الرعائية، إذ يقول إنّ لديه مسّرة داخليّة وإنّه يصّلي دائمًا من أجل إسرائيل كي يَخلُصوا. إنّ كلمة “اسرائيل” في الكتاب المقدّس هي كلمة لاهوتيّة ليتورجيّة ولا تعني أبدًا المكان الجغرافيّ ولا تدّل على مجموعة النّاس الّذين لديهم هوّيات اسرائيليّة. 

أنت تنتمي إلى “إسرائيل” عندما يكون سلوكك وإيمانك بالله إيمان اسرائيل، إذ لا يكفي أن تكون مولودًا من يهوديّة لتكون اسرائيليًا. حين لا يظهر إيمانك بالله من خلال سلوكك أو حين ترفض الله والإيمان به، فأنت ما عدت اسرائيليًا وإن كنت مولودًا من أمٍّ يهوديّة. فكلمة “اسرائيل” تعني: الّذين لبّوا صرخة الله، فإنّ كلمة الله هي نداؤه لشعبه، ومتى نادى الله على من سمع النّداء أن يلبّي. فإن لبيّت نداء الله وتبعته، تنتمي إلى الكنيسة “ecclesia”. إنّ كلمة Ecclesia اليونانيّة متجذِّرة من فعل caleo ويعني “نادى”. فالكنيسة، وهي كلمة موجودة في العهد القديم، تعني الجماعة الّتي سمعت نداء الله فاستجابت لندائه وأطاعته. إذًا لا يمكننا الحديث أو التّكلم عن كنيسة تضع لنفسها حدودًا، بمعزل عن سبب وجودها الّذي هو نداء الله لها. ومتى قَبِلْنا بهذا التعريف للكنيسة تصبح الكنيسة في حالة صيرورة دائمة لأنّ نداء الله دائم، وكلمة الله دائمة في التّاريخ وفي الزّمان والمكان. وطالما أنّ كلمة الله هي باقية ومستمرّة، تبقى الكنيسة مستّمرة طالما هي مرتبطة بكلمة الله، ومتى انقطعت الكنيسة عن كلمة الله لا يعود هناك وجود لها حتّى وإن استمرّت بأعضائها لكنّها لا تعود اسمها كنيسة إذ انفصلت عن كلمة الله، وهذا هو الأساس. غير أنّنا ما زلنا نقع في الفخ اليهوديّ إذ نعتقد أنّه مهما فعلنا نبقى كنيسة الله، وهذا أمرٌ خاطئٌ. إنّ الله سيبقى موجودًا أآمنّا به أم لا. صحيح أنّ الله قال إنّ أبواب الجحيم لن تقوى على الكنيسة، تلك الكنيسة المؤلفة من خطأة. غير أن أبناء الكنيسة بتصرّفاتهم قادرون أن يَقْووا على الكنيسة ويهدموها، بل إنّهم أكثر خطورة عليها من أبواب الجحيم. فعندما يتصرّف أبناء الكنيسة كأنّ لا علاقة لهم بنداء الله، يتحوّلون إلى “مسيحيي هويّة” فقط، ويصبحون بالتّالي حزبًا وطريقة وجودٍ ويشبهون عندئذٍ الفريسيين. 

إذًا ماذا يميّز المجموعات عن بعضها؟ الّذي يميّزها هو أنّ هناك مجموعة اعتبرت كلمة الله سبب حياتها ووجودها كمجموعة، وهي لا تستطيع قطع “حبل الصرّة” بينها وبين كلمة الله لأنّها إذ ذاك تموت. هذا هو شعورها، هذا هو إيمانها وعقيدتها. وطريقة وجود هذه المجموعة، أي الكنيسة، ترتبط بطريقة شهادتها وسلوكها، وطريقة ظهورها للعالم. وكلّ نقاش بولس مع أهل رومية يدور حول هذا الموضوع وهو أن تمسّك اليهود بحرفية النّاموس، قد أفرغه من معناه. إنّ النّاموس وضعه الله لكي يكون صلة الوصل بينه وبين شعبه، فتكون كلمته هي الجسر الّذي يصل من خلاله ما يريده الله من شعبه. غير أنّ كلمة الله لا تُقيَّد بل إنّها قادرة أن تصل إلى جميع الشعوب، وإن لم يكونوا يهودًا.

أمّا أهل رومية فقد احتكروا وظنّوا أنّ لا أحد سواهم سوف يخلّص كونهم يؤمنون بالله، وقد فهموا كلام الله لهم “من يؤمن بي فيخلص”، على أنّ الخلاص محصورٌ بهم، إنّ الله لم يُعطِهِم حقّ الاستنتاج. إنّ الله تحدث معنا وطلب منّا أن نؤمن به فنخلص، ولكنّه لم يعطِنا الحقّ في تقرير مصير بقيّة الشعوب الّتي لم تؤمن به. إنّنا، نتيجة استنتاجاتنا لكلام الله، قد رسمنا صورتنا الخاصّة عنه غير أنّها ليست صورته الحقيقيّة. إنّ الله هو غير مُدرَك، ومجهول دائمًا أي أنّ عقولنا لا تستطيع احتواءه وفهمه. وهنا أتذّكر قصّة الراهب الّذي كان يمشي على شاطئ البحر وهو يفكِّر كيف يستطيع فهم الله والثالوث والعقيدة، واحتواءه بعقله. وبينما هو يمشي، ظهر له طفلٌ وطلب منه أن يُفرِغ البحر في حفرة على الشاطئ. لكن الراهب اعترض على ذلك قائلاً إنّ ذلك لأمرٌ مستحيل. عندئذٍ قال له الطفل إنّ عليه أن يُدرِك أنّ الله لا يُدرَك، ولا يستطيع عقله البشري احتواء الله. نحن لا نستطيع أن نفهم الله وبالتّالي لا نستطيع أن نحتوي إرادته، ومشيئته، وخياراته، وطريقته. 

إن الله يُخلِّص مَن يريد، ويسامح مَن يريد، هذا شأنٌ إلهيّ لا علاقة للإنسان به، ومتى فهمنا ذلك خفّ اضطرابنا وقلقنا. إنّ مسألة خلاص البشر أجمعين هي مسؤوليّة الله، وإيماني به يجب أن يكون محصورًا في علاقتي به. غير أنّ الطريف هو أنّنا نريد ان نحصر الله فينا، نحن شعبه. إن كلمة الله والنّاموس كانت لكي تَحصُر الشعب بالله الواحد غير أنّه لا يمكننا أن نحصر الله فينا وحدنا، فكلمته هي لتحصرنا نحن ولا تستطيع أن تَحدَّهُ أو تَحصُره ولا يحقّ لنا بالتّالي أن نحاسب الله على كيفيّة خلاصه لمن ليسوا بشعبه. أمّا الامر الأصعب فهو أن تبرهن أنّك على علاقة طيّبة بكلمة الله وأنّك خاضع لها ويُسَرّ الله فيك، وذلك من خلال تصرّفك مع آخر وغالبًا ما يكون غريبًا عنك أي أنّه ليس من جماعتك. فيصبح مقياس علاقتك بالله ثلاثيّة وليست ثنائية. فمشكلة اليهود مع النّاموس هي أنّهم اعتقدوا أنّ النّاموس هو أنّ الله حصر علاقته بهم فقط وبالتّالي أصبح سؤالهم عمّا يجب فعله ليكونوا على علاقة طيّبة بالله. في كلّ الديانات، يستطيع المؤمن أن يُعدِّد لك الأمور المطلوبة منه ليكون قريبًا من الله إلاّ في المسيحيّة، فالمؤمن لا يستطيع ذلك، لأنّ الله لا يطلب منه شيئًا.

إنّ المسيحيّ لا يعرف ما هو المطلوب منه كي يرضي الله. غير أنّنا لا نقبل بهذا الجواب من الله، إذ اننّا كبشر نسعى لنكون مرتبطين بقانون، والانسان لديه ميل ليكون خاضعًا لقانون كي يرتاح نفسيًّا. إليكم مثالًا، فعندما تتسلّم وظيفة وتكون لك مطلق الصلاحيّة، تجد نفسك مرتبكًا لا تدري ما هو المطلوب منك تحديدًا، لذلك تطالب أن تحدّد مسؤوليتك في العمل، فتكون مطمئن الضمير. إنّ الله لا يطلب من الانسان شيئًا سوى أن يعيش كلمة الله في حياته اليوميّة أي مع شخص آخر وهذا الآخر لا يمكن أن يكون الله لأنّه ليس من الطبيعة الانسانيّة، ولكنّ الله أرسل ابنه لنا، وعلمنّا كيف نتعامل مع بعضنا البعض ونعبّر عن علاقتنا بالله من خلال الآخر. ولكن عندما أدرك الانسان أن لا شيء محدَّدًا مطلوبًا منه، فضَّل القانون والفتاوى والنّاموس، وهذا ما كان يقوله بولس لأهل رومية، إنّ الله لا يطلب منهم شيئًا محدّدًا وإنّهم فضّلوا النّاموس. 

إنّ بولس يبدأ بكلام لطيف ومديح لأهل رومية ليعود بعد ذلك فيوبخّهم على سيئاتهم: هذه هي طريقته في التعبير إذ يستعمل طريقة ليجذب إليه السّامع عبر استخدام كلام المدح للسّامع ثمّ يعود لينتقده، ويخبره ما يجب فعله. بدأ بولس حديثه مع اهل رومية قائلاً إنّ مسرّة قلبه وطلبته إلى الله هي من أجل خلاصهم، ثمّ مدحهم قائلاً إنّه لمس عندهم غيْرة على كلمة الله لكنّها ليست مقرونة بالمعرفة وبذلك أرادوا أن يثبتوا برّ أنفسهم وبالتّالي فإنّهم لم يخضعوا لبرّ الله أساسًا. وعندما يتكلّم بولس عن الكلمة يقول: “إنّ الكلمة قريبة منك”. إنّ كلمة “قريبة” لا تعني القُرب في الزمان أو المكان، فكلمة قريبة منك تعني أنّها في فمك، وهذا ما يعود فيفسِّره بولس لاحقًا فيقول إنّها قريبة منك، في فمك، وفي قلبك والمقصود بذلك كلمة الإيمان الّتي نكرز بها. إن بولس يربط بين الكلمة في الفمّ، والكلمة في القلب: فإن كانت الكلمة في الفمّ فقط دون القلب، فهذا ما يسّمى بالكلام النّظريّ ولا يمّت إلى الواقع بصلة؛ أمّا إن كانت الكلمة في القلب فقط دون الفمّ فلن يسمع الآخر ما أنتَ تؤمن به.

إذًا من الواجب أن يكون هناك تزاوج بين الكلمة الّتي في فمك وبين الكلمة الّتي في قلبك، وهذه مسؤوليّة المسيحيّ المؤمن. لكن الخطر هو وجود عدم انسجام بين الكلمة في فمك ومفعولها في قلبك: إذ لا تستطيع أن تتكلّم عن تغيير الكلمة في حياتك في حين أنّك تدفنها في قلبك وأنت قد وضعت عليها حجرًا لن يتزعزع ولن تسمح بأن يدحرجه أحد؛ ولا تستطيع أن تستحي بالشهادة لحبّ الرّبّ الّذي قد تكون قد اختبرته. غالبًا ما نقع في هذا الفخ فنتردّد في أن نتكلّم وأن نشهد خوفًا من أن نُعَيَّر من قبل النّاس إن شهدنا لإيماننا، ونقوم بحسابات كثيرة ونضع أحكامًا مسبقة لما ستكون ردة فعل النّاس على كلامنا، وبعد طول تفكير، نتراجع عن الشهادة بإيماننا إذ إنّنا قرّرنا ذلك استنادًا لشكوكنا وظنوننا وتفكيرنا. لذلك فإنّ مثل تلك الحسابات الكثيرة قد تمنع الحقيقة من أن تنتقل إلى الآخرين، وقد يكون في انتقالها إليهم من فمك سببًا لخلاصهم. فلا تستهينوا بالفرصة التّي يمكنكم استغلالها من أجل أن تشهدوا لإلهكم، لأنّها قد تكون فرصة للخلاص.
فإنّ إيمانك الّذي تخبئه ولا تعترف به لا يخلص أحد به. أمّا إيمانك المترجم والّذي يصل إلى الآخرين فهو يؤدّي إلى الخلاص حتّى وإن هلكتَ. حين تريد أن تشهد للمسيح لا تجعل من أولوياتك تنقيّة ذاتك تمامًا من كلّ خطاياك وأن تصبح طاهرًا أوّلاً، فإن فكِّرتَ هكذا فأنت لن تبشِّر بالمسيح أبدًا لأنّك لن تكون طاهرًا كليًا إذ إنّك ستبقى مجبولًا بالخطايا حتّى مماتك، وسيأتي المسيح في مجده ثانيّة قبل أن تبشِّر به. إنّ في ذلك كبرياء، إذ تعتقد أنّك المثل الصالح غير أنّ يسوع هو المثل الصالح، علينا التبشير بالمسيح وليس بذواتنا. فلا تضعوا حججًا واهيّة مثل أنّك لا تستطيع التبشير بعدم الكذب إن كنت أنت تكذب، فإنّ الكلمة الّتي تعترف بها قد تصل إلى مستمع آخر يسمعها ويفهمها بطريقة مختلفة عنك، لذلك إن لم تفعل الكلمة فيك فعلها، حتمًا ستفعل فعلها في شخصٍ آخر وتغيِّره وتخلِّصه حين يسمعها منك. وبالتّالي مسؤوليتنا كمؤمنين كبيرة جدًّا: إنّه لمهمٌّ جدًّا أن تعترف بالكلمة وتخبر بها. إن الانسان يبحث على أن تكون نتيجة عمله بحسب روزنامته في توقيته المناسب له. أمّا توقيت الله فمختلف عن توقيتك، وطريقة تفكيره في الأمور مختلفة عن طريقتك، وكيفيّة حصول الأمور بالنسبة لك مختلفة عن كيفيّة حصولها بالنسبة للّه.

وهنا عدنا إلى مسألة مدى معرفتك بمنطق الله، كن متأكدًّا إنّك لا تعرف منطق الله تمامًا. لم يقبل اليهود فكرة كونهم متساوين أمام الله مع أولئك الّذين آمنوا بالله وهم ليسوا يهودًا في الأصل.
الشرط الأوّل هو أن تؤمن بالله، وكي تؤمن يجب أن تكون البشرى قد وصلت إليك، أي أن أحدهم أخبرك بها، وهنا نرى أهميّة الكارز أي المبشِّر. إن كلمة كارز تأتي من فعل kirissoباليونانيّة وهي تأتي من كلمة kirigma وتعني البشارة أو التبشير والتعليم المرتكز على أساس التبشير. إنجيل بولس إلى أهل كورنتس هو أنّ المسيح مات من أجل خطايانا، ودفن وقام وظهر للرّسل. فإنجيل بولس يُركزّ على أن المسيح ظهر للرّسل، فلو لم يظهر المسيح للرّسل، مَنْ كان سيخبرنا بحقيقة القيامة؟ إذًا إنجيل الخلاص يتضمّن بشارات الرّسل بالمسيح القائم. وهنا نكتشف كيف أنّ الله ربط نفسه بالإنسان لكن المشكلة تكمن في مزاجيّة الانسان الّتي قد يستخدمها للتبشير أحيانًا وقد تدفعه إلى الاعتكاف عن ذلك أحيانًا أخرى، فعلى المبشِّر أن يتحيَّز الفرصة ليشهد لإيمانه وليبشِّر به. وعندما تسنح لك الفرصة كي تبشِّر وأنتَ تتردّد وتتراجع، 

إن ذلك من شأنه أن يجعل أشخاصًا يهلكون في حال لم تتكلّم وتخبر النّاس بالكلمة. هذا أمرٌ يختبره الكاهن كثيرًا خاصّةً عندما يعِظ، إذ إنّ العِظة تكون له فرصة للشهادة. فالكاهن يشعر بالرهبة عند إلقائه عظة على مسامع المؤمنين، إذ إنّه في حال مات بعد العظة، سيسأله الله عن عظته هل كانت مجرّد كلمات منمّقة أم أنّها كانت سببًا لخلاص أحدهم، وهل كانت هذه العظة صالحة لتجعل أحدهم يتوب ويرجع إلى الله ويقول: “ارحمني يا الله، أنا الخاطئ”.

فإن لم يشعر الكاهن أنّ وقت العظة هو الوقت الوحيد المتبقي من حياته كي يشهد للمسيح، فهو سيتفوّه بأمور لا فائدة منها. على الكاهن أن تكون تعزيته في عيون النّاس الّذين سمعوه يبشِّر بكلام الله فأحدثت الكلمة فيهم تغييرًا. أن تقول كلمة الله هي الفرصة الّتي تجعلك تموت حين تنتهي من الكلام، أم تجعل الآخر يموت حين انتهائك من الكلام. إنّ الشيطان لديه حِيَل مهولة وإحدى أبرز هذه الحِيَل هي أن يقنعك بأنّ كلامك فارغ وغير مهمّ، فتتراجع عن الشهادة لإيمانك بالله. إن ما يهمّ الشيطان هو ألاّ تقال كلمة الله. فإن لم يستطع أن يُسكِتَك بالحسنى أي بالإغراء فإنّه يفعل ذلك بالقوّة. أنتَ تبشِّر بالسّلام وبالخير، ومع أنّ الكثيرين يبشرون بالكلمة لكن لم يُطِعْ الجميع الانجيل. إن بولس يتكلّم عن واقع، إذ إنّ البعض لم يصدِّقوا كلمة الله. إذًا الإيمان بالخبر ولكن ليس بأي خبر، الخبر بكلمة الله. إنّ الكلمة قد وصلت إلى أقاصي الأرض، فلم يكن أحدٌ مستثنى. موسى قال لهم إنّهم إن لم يطيعوا كلمة الله فإنّه سيرسل لهم أمّة غبيّة ويغيظهم بغباوتها. إنّ العلم والمعرفة كانا لدى اليهود، لكنّهم لم يقبلوهما، وأصبحوا كأيّ أمّة غبيّة في العالم ولا فرق بينهما. إنّ الله دائمًا يبسط يديه لشعبه لكنّ شعبه يعاند ويتمرَّد.

إن الكلمة قادرة على أن تصل إلى كلّ الاماكن وخاصّة إلى الاماكن الّتي لا نتوقعها، وبخاصّة إلى الاماكن الّتي لا نتوّقع أن يخرج منها شيءٌ صالح:” أيخرج من النّاصرة أمرٌ صالح؟”. سألتُ مرّةً أحد السجناء عن مدّة وجوده بالسّجن، فأجابني عن مدّة سجنه الّتي هي سبع وعشرون سنة كما يلي: أنا مسجون منذ ست وعشرين سنه ومحرّر منذ سنة، أي حين بدأت أقرأ الكتاب المقدّس. هناك أشخاص في هذه الاماكن بدأوا يعرفون نعمة الله وهم موجودون في هذه الاماكن المظلمة وقد استناروا. ولكن هناك أشخاص أيضًا لم يتغيّروا. إذًا نحن لا نستطيع أن نعرف إلى أين تذهب كلمة الله وكيف تعمل خاصّة مع الاشخاص الّذين قد استسلمنا وقطعنا كلّ رجاءٍ بهم بأن يتغيّروا ويتحوّلوا صوب الأفضل. لذلك على الانسان أن يتعلّم أن يرحم الآخر، وعندما يرحم غيره، يكون ذلك بمثابة إنجاز قداسة. فالقداسة هي أن يكون لدينا ميل صوب الرّحمة.

 الرّحمة هي أن نقبل أنّ هناك أشخاصًا قد تتوب دون أن نقطع الأمل من اصطلاحهم وتَغَيُّرِهم. ولا يمكننا أن ندين الآخر ونشّك في توبته إذ أنّنا لسنا الله ونحن لا نقدر أن نعرف الكِلَى والقلوب كما هو الله. فمن كانت كلمة الله محفورة في داخله، فإنّ الغشاوة الّتي على عينيه تكون أقلّ من تلك الّتي ليست محفورة في داخله كلمة الله. فعندما تكون العين غليظة فهي غير قادرة على الرؤية بشكل واضح لأنّ القلب متصلِّب وقاسٍ. وعندما يكون القلب ليّنًا، تصبح العين قادرة على الرؤية بشكل أفضل وأوضح. فإنّ كانت كلمة الله محفورة في قلبك، فإنّك تملك عندئذٍ عيونًا مختلفة عن الّذين يعتبرون الامور الدينيّة نواميس وفتاوى: أي أنّه يجب القيام بهذا أو لا يجب القيام بذلك. إنّ مسرة قلبي وطلبتي إلى الله من أجلكم هي للخلاص.

ملاحظة: لقد دوِّن الشرح بأمانةٍ من قبلنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp