تفسير الكتاب المقدّس،

الأب ابراهيم سعد،

“رسالة بولس الرّسول إلى أهل رومية – المقدّمة” 

نعود مجددا ًإلى الإنجيل لكي نلبس الفرح والتعزية الروحيّة لأن الدنيا تعرّينا من الفرح الحقيقيّ، من كلّ رجاء.
يقول بولس الرسول في رسالته الى أهل رومية: “لن تستقيم الأمور مهما عظمت أفكار الناس إلاّ إذا كان سلاحك هو كلمة الله”. فكلمة الله تعطيك الراحة والسلام والطمأنينة والقدرة على مواجهة تحديّات الدنيا. أما كلّ ما هو خارج هذه الحقيقة فهو وهم. عندما تكون كلمة الله مسيطرة، أي أنّ الشعب قبِلها، تكون البيئة نظيفة. أمّا إذا كانت البيئة خالية من كلمة الله، أو تظنّ نفسها تتبع كلمة الله، ولكنّها تتبعها عن مصلحة وخوف وأوهام، فتعمّ النفوس التوتر والاضطراب. وكلّ متوتر يُعدي غيره. وكلّ مطمئن يُعدي غيره. لأنّ الناس يتأثرون بعضهم ببعض سلبا ًأو إيجابا. من هنا على كلّ إنسان مسؤولية. المسؤولية الأولى أن يتحلّى الإنسان بحصن حتى لا يتأثر بالخطأ، أمّا المسؤولية الثانية، فهي أن يزرع الإنسان في غيره الإيجابية والفرح اللّذين يستمدّهما من الإنجيل.

لا يستطيع الإنسان أن يكون على الهامش، أي أن ينأى بنفسه، أن يتبع سياسة النأي بالنفس. فإمّا أن يكون الإنسان مع الحقّ، وإمّا أن يكون مع الباطل. الحياد هو أمر سلبيّ في الإنجيل لإنّ الإنسان المسيحيّ مُلتزم بالحقّ.
أمام كلمة الله وجب على الإنسان أن يبرز موقفه. أي أن يقول أنا أقبل كلمة الله أو لا أقبلها. إذا قبل الإنسان كلمة الله تغيّر سلوكه، وذلك لأنّ كلمة الله ̓تعاش. بعض المسيحييّن يتغنّون بكلمة الله ولكنّهم لا يعيشونها، لذلك نراهم يقعون بسرعة في الإحباط والحزن والخوف.

مفعول كلمة الله فينا، أنّها تنحتنا من جديد. كلمة الله هي النّحات ونحن الصنم، تنحتنا على الشكل الذي تريده هي. لذلك نحن نطيع كلمة الله، ما من طاعة مقدسة إلاّ طاعة واحدة، وهي الجواب على الحبّ. ولا طاعة من دون حُبّ. فكلمة الله يسوع المسيح هي الحبُّ، هي المحبة، وبالتالي نحن نطيع المحبة، أي مَن بذل نفسه من أجلنا. لكنّنا، نحن الناس، نهوى الذين يسودون ويتسلّطون علينا، وعندها نذهب إلى الجهل. فكلمة الله تعطينا الحكمة لكي نواجه ونصبر، كلمة الله لا تغشّنا، تجعلنا نرى الدنيا على حقيقتها، وهي لا تعظّم الأمور. بل تعلّمنا كيف نحزن، عندها نحزن كالذين لهم رجاء. كلمة الله تعلّمنا كيف نبني، كلمة الله حازمة، كلّها رحمة. فالتصحيح أو التصويب إن لم يكن نابعا ًمن الحبّ، يصبح دينونة للنّاس، ونحن دائما نستسهل الأحكام المسبقة، ونفضّل إدانة النّاس. كلمة الله تعلّمنا كيف نقف أمام المرآة وتسمح لنا أن نرى أنّ لكلّ منّا عينين وأذنين … ولكن لكلّ منّا لسان واحد.



كلمة الله تعطينا عيونًا لا من تراب، بل عيونًا من بلور الملكوت. فلا نعود نرى أنفسنا فقط كأننا أمام مرآة بل نرى الآخرين كأننا أمام بلور الملكوت.(الفرق بين المرآة والبلور أن المرآة اُضيف عليها طلاء من فضة. والفضة هنا تعني المادة، أي الذهنية المادية التي تطفئ في الإنسان الرّوح). فكلمة الله تعطينا آذانًا ملؤها الرحمة، لا تظن بالسوء. لا تدين أحدا، ًأو تلبسه صفة هو بعيد عنها. تفتح أيدينا لخدمة الناس وتجنّد أرجلنا لتسلك في طريق الربّ. وأخيرا ً تعطينا قلوبا ًملؤها العقل وعقولا ًملؤها القلب، أي لا تعود قلوبنا تنحرف بسبب العاطفة، أو يسيطر على عقولنا الجفاف. بجملة واحدة نختصر ما قلناه، أنّ كلمة الله تجعل من كلّ منّا “إنساناً”. فما “الإنسان”؟ الإنسان الذي على صورة الربّ يسوع المسيح، الذي أحبّنا وافتدانا على الصليب. من هنا وبسبب محبتنا للذي افتدانا وجب علينا أن نطيعه، ونعمل ما يرضيه.

ولكنّنا في هذه الأيام نعيش في زمن الوهم والغش في كلّ شيء. فالسّياسيون والذين يدّعون خدمة الشعب، لا يخدمون كلمة الله. “بل إنهم يرعون أنفسهم ولا يرعون الغنم” يقول الربّ. حتى المسؤولون عن خلاص نفوسكم لا أعرف إذا كانوا يعلمون قيمة خلاص نفوسكم. وبالتالي لا إله إلا الله، وكلّ الناس بشر. فكيف يصبح هذا البشري بعد شهر تراباً، وهل يكون بشريّا ًأو يكون تراباً، كالهباء الذي تذريه الرّياح عن وجه الأرض؟ تقول سفر المزامير. إذًا من الآن إلى أن تصبح ترابًا، أي إلى اليوم الذي تموت فيه، أنت مدعوّ إلى أن تصبح نوراً. لكن هذا النّور قمريّ وليس شمسيًّا، فالقمر يضيء لأنه يعكس نور غيره، لكنّ الشمس هي مصدر ذلك النور. أنت نورك قمريّ تعكس نور غيرك، أي نور كلمة الله، أي يسوع المسيح في كلّ أبعاده. فالمسيح هو المصدر الذي نستمّد منه نورنا. نحن نستطيع أن نكون نوراً إلى أن نتحوّل إلى تراب، أي حتّى الممات، ويصبح هذا التراب المعبر إلى النّور. إذ لم يكن عندنا هذا الرجاء، يذهب تعبنا سُدى، كما يقول الرسول بولس : فلنأكل ونشرب….وغدًا نموت.
يبدأ بولس رسالته إلى أهل روما بأنّه عبد ليسوع المسيح، وقد دُعي رسولاً، مُفرزا ًلإنجيل الله. هذا الكلام ̓يؤكد لنا مفهوم كلمة الله عند بولس. لا يمتاز بولس عن الآخرين إلا لأنّه يحمل مسؤولية إيصال كلمة الله إلى كلّ إنسان منّا.

يتعامل بولس مع الله تعامل العبد مع سيّده. في اليونانيّة تترادف كلمتا العبد والخادم. بولس هو إذا ًخادم ليسوع المسيح، ولكن له ذهنية العبد بمعنى أنّه لم يعد لديه مزاج خاص به. أي لم يعد لديه حريّة انتقاء المكان والزمان لتوزيع كلمة الله بناء على وضعه هو. فمزاج الإنسان هو الشيطان الرجيم، لأنّ أكثر الأمور التي يتلكأ الإنسان عن عملها سببها مزاجه، وخصوصاً الأمور التي تختص بالله كالصلاة وغيرها مثلا ً: كنت أصلّي وأنا واقف ثمّ وأنا نائم ثم بدأت أقصّر في الصلاة … أو حتّى عندما تدعو كلمة الله الإنسان إلى خدمة ما فيعمل بحسب مزاجه. إنّ الله لم يسكب لبولس نعمة تزيده عن الآخرين، ولكنّه بالعكس، أغراه بالصليب. وهذا ما أغرى المسيحين الأوائل أيضاً. أمّا في أيّامنا هذه، المسيحيون يرغبون أن يكون لهم وجود وهيبة، ويريدون أن يكونوا كسائر الناس. فنعيد بالذكر أنّ اليهود طلبوا من الله أن يعاملهم كسائر الشعوب. أي أن ̓يصبح لهم ملك ودولة. ولكنّ الله قال لهم: “أنا هو ملككم”.

يقول الربّ أنتم في هذا العالم ولكنّكم لستم من هذا العالم، أي أنّ ذهنيتكم لا يجب عليها أن تكون من طينة هذا العالم. لذلك كلمة الله معموديّة يوميّة جديدة، وهي ليست معموديّة بالجسد، لأننّا تعمدنا مرة واحدة بالجسد، ولكنها معموديّة العقل نفسها. الرسول بولس هو عبد يسوع المسيح لأنه لا يعرف أن يقول لله إلاّ كلمة :”بأمرك”. وهكذا يبدأ بولس رسالته إلى أهل روما بكلمة “بأمرك”. أي أنّه لن يركز على مزاجه، ولا على أهوائه، ولا على ما يحبّه هو، بل سيفعل كلّ يا يأمره به الله.

بولس هو إذًا عبد ليسوع المسيح وهو يُدعى رسولًا. أي أنّه من يحمل رسالة ليوصلها، ولا يملك الحقّ بفتح الرسالة، ولا أن يضيف إليها كلمة أو أن يحذف منها كلمة. إذ إنّه لا يملك الحقّ أصلا ًفي أن يقرأها وإلّا فذلك يعتبر خيانة. لأنّه إن أوصل مرسال رسالة إلى الملك الفلاني وغيّر في محتواها قطع (الملك صاحب الرسالة) رأسه، أو فعل الملك الذي استلمها ذلك. فالمرسال هو دائما ً تحت خطر الموت، أي تحت خطر إلغائه.
اعتبر بولس نفسه رسولا ًمفرزاً. بالعبريّ فراز تعني قداش أي أنّه قدّس نفسه. وبمعنى آخر اعتبر نفسه أنّه أرض مفروزة صارت ملك أحدهم، والمالك هو إنجيل الله. بمعنى آخر أن بولس هو أرض يملكها إنجيل الله. بولس هو إذا ًعبد ورسول ومُفرز، ثلاث كلمات لا تعطيه الحقّ أن يقول “بس أنا”. والأنا بمعنى الأنا الإلغائية، أي أن يلغي غيره. أمّا الأنا وأنا الآخر تصبح نحن وهذه هي عائلة الله.
بولس هو مفرز لإنجيل الله أي للبشارة السّارة. وجميعنا نحبّ البشارة السّارة ولكن لماذا نرفضها؟، ليس لأنّنا لا نحبّ العبودية، بل لانّ الانسان يحنّ الى الحريّة ويمارس ممارسة العبودية. ليس لانّه لا يريد أن يكون عبدًا بل لانّه يخاف من الالتزام بكلمة الله. لانّه يظن ان كلمة الله سوف تحرمه من أمور كثيرة، وهو يشعر انها مصدر من مصادر الفرح في حياته، وسيكتشف أن هذه الأمور هي وهم بوهم بعد قراءة بولس الى اهل رومية.
ونعدكم في قراءتنا لرسالة بولس الى أهل رومية، أنّ كلّ اصنام افكاركم والأحلام بأوهام الفرح والراحة سوف تتهدّم. وتبقى في النهاية كلمة الله امامكم لتحدِّدوا موقفكم منها.

ملاحظة: دوّنت المحاضرة من قبلنا بتصرّف.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp