تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“رسالة بولس الرّسول إلى العبرانيّين – الإصحاح الأوّل”
النّص الإنجيليّ:
“اللهُ، بعد ما كلَّم الآباء والأنبياء قديمًا، بأنواعٍ وطرقٍ كثيرةٍ، كلّمنا في هذه الأيّام الأخيرة في ابنه، الّذي جعله وارثًا لكلّ شيءٍ، الّذي به أيضًا عَمِل العالَمِين، الّذي، وهو بهاء مجده، ورسم جوهره، وحاملٌ كلّ الأشياء بكلمة قدرته، بعد ما صنع بنفسه تطهيرًا لخطايانا، جلس عن يمين العظمة في الأعالي، صائرًا أعظم من الملائكة بمقدار ما ورث اسمًا أفضل منهم. لأنّه لِمَن من الملائكة قال قطّ (أيضًا): “أنت ابني وأنا اليوم ولدتك؟” وأيضًا: “أنا أكون له أبًا وهو يكون لي ابنًا؟”. وأيضًا متى أدخلَ البكر إلى العالم يقول: “ولتسجد له كلّ ملائكة الله”. وعن الملائكة يقول: “الصانع ملائكته أرواحًا وخدّامه لهيب نارٍ”. وأمّا عن الابن: “كرسيُّك يا الله إلى دهر الدّهور. قضيب استقامةٍ قضيب مُلكِكَ. أحببتُ البرّ وأبغضتُ الإثم. من أجل ذلك مسحك الله إلهُكَ بزيت الابتهاج أكثر من شركائك”. و”أنت يا ربُّ في البدء أسَّست الأرضَ، والسّماوات هي صنع يديك. هي تبيد ولكن أنت تبقى، وكلّها كثوبٍ تبلى، وكرداءٍ تطوِيها فتتغيَّر. ولكن أنتَ أنتَ، وسِنوكَ لن تفنى”. ثمّ لِمَن مِن الملائكة قال قطّ: “اجلس عن يميني حتّى أضع أعداءَك موطِئًا لِقَدَمَيك؟” أليس جميعهم أرواحًا خادمةً مرسلةً للخِدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص!”.
شرح النّص الإنجيليّ:
إن بولس الرسول في هذه الرسالة، يربط ويقارن بين العهد القديم أي الكتب الموسويّة (التّوراة) وبين العهد الجديد. ويبدأ بولس الرسول هذه المقارنة بإظهار الفرق بين الملائكة والربّ يسوع ابن الله، فيقول لنا إنّ الله قد ميزّ يسوع المسيح من الملائكة إذ أخبره أمورًا، دون الملائكة. قديمًا، كان الله يكلّم شعبه من خلال الملائكة، أمّا في نهاية الأزمنة، فقد كلّمهم من خلال الربّ يسوع. إنّ “شهود يهوه” يزعمون أنّ المسيح يسوع هو الملاك ميخائيل، وقد تمّت ترقيته من قِبَل الله ليصبح ابنًا له.
إنّ ذلك يهدف إلى نكران ألوهيّة المسيح وربوبيّته. إنّ كلام شهود يهوه هذا، هو نتيجة تأثير الفلسفة اليونانيّة القديمة، الّـتي كانت تؤمن أنّ الآلهة ترسل إلى الأرض فيضاناتٍ، وأهمّ فيضان تُرسِله هو الكلمة logos. وتشكّل الكلمة أعلى الخلائق كلّها، وتسمو على البشر. إنّ الله كلّم الشعب بواسطة الملائكة في العهد القديم، فهو يخبرنا على سبيل المثال عن زيارة الملائكة الثلاثة لإبراهيم في إشارة إلى أنّ الله كلّمه بواسطتها. إنّ كلمة “ملاك”، في اللّغة العبريّة، تعني رسول، وهذا يعني أنّ الله كان يُرسِل إلى شعبه رُسلاً هم الملائكة، فيخاطبهم من خلالهم. إنّ الله كان يستخدم في بعض الأحيان البرق والرعد، النسيم العليل والعاصفة، وعمود النّار، كوسائل ليكلّم شعبه من خلالها. إذًا، كان الله يكلّم شعبه بطرق عديدة ومتنوّعة في العهد القديم. إنّ بولس في رسالته إلى العبرانيين، استخدم عبارة “كلّم” ليشير إلى أنّ الله لم يوفّر وسيلة من أجل إيصال إرادته ومشيئته للبشر. إنّ الكلمة هي الجسر الّذي نتواصل من خلاله مع الآخرين. إنّ كلمة “كلّم” لها معنى آخر، غير ذلك المتعارف عليه، وهو جَرَحَ، فالكلوم هي الجروح. وبالتّالي، فالتكلّم مع شخص معيّن يعني إمّا محادثته أو جرحه. إذًا، إنّ الكلمة تترك علامةً أي تأثيرًا عند سامِعِها.
إنّ العهد القديم يقدّم لنا مفهومًا جديدًا للكلمة، فيبدأ سفر التكوين بالقول إنّ الله خلق النّور وكلّ شيءٍ بكلمته، فالخلق إذًا تمّ بكلمةٍ من الله: “قال الله ليكن…، فكان…”. إنّ الله خلق العالم بأسره بقوّة كلمته، غير أنّه لم يخلق الإنسان بالكلمة إنّما بالعمل، ففي سفر التكوين لا نجد أبدًا: “قال الله ليكن الإنسان، فكان الإنسان”، بل نجد “وصنع الله الإنسان على صورته ومثاله”، وبالتّالي فإن الإنسان تطلّب في خلقه عملاً من الله. إذًا، الإنسان هو الخليقة الوحيدة الّتي كانت نتيجة عمل الله لا كلمته، وهذا ما يميّزه من سائر المخلوقات. إنّ سفر التكوين يخبرنا أنّ الله استعان بالطين ليخلق الإنسان وأنّه نفخ فيه من روحه، أي أنّ الله وضع في الإنسان شيئًا منه، وهذا ما يشكِّل ميزة الإنسان عن سائر المخلوقات، ثمّ أعطاه الله سلطانًا على كافة المخلوقات وبالتّالي، جعله سيّدًا عليها. إنّ الإنسان الّذي ميّزه الله عن سائر المخلوقات، إذ صنعه بيديه ولم يخلقه بقوّة الكلمة، ترك الله بسبب الكلمة الّتي نطقت بها الحيّة.
إذًا، إنّ الإنسان تعامل مع الله بالطريقة الّتي لم يعامله الله بها عندما خلقه؛ وبالتّالي، فكأنّ الإنسان يقول لله إنّه لا يريد أن يكون مميّزًا عن سائر المخلوقات، بل يرغب في أن يكون مثلها مخلوقًا جامدًا دون نموّ. إنّ الكلمة إخوتي، هي خلاّقة، إذ إنّها لا تخلق في أذهان سامعيها صورةً معيّنة فقط بل تخلق فيهم كذلك قصّة. فمثلاً، إن لفَظْتُ اسم “يسوع” أمام أحد الأشخاص، فلن يتوارد إلى ذهن السّامع الشكل الخارجيّ ليسوع فحسب، بل كلّ العمل الخلاصيّ الّذي قام به الربّ يسوع من أجل البشر، إضافةً إلى الخبرة الشخصيّة لهذا الشخص مع “يسوع”، فقد يجعل البعض هذا الاسم عدوًّا لهم لا مخلِّصًا.
إنّ استخدام بولس الرسول لعبارة “الأيّام الأخيرة”، يعني أنّ لا أيّام بعد تلك الأيّام، وأنّ الأيّام الآتية هي من النوعيّة نفسها لتلك الأيّام. وبالتّالي عبارة “الزّمان الأخير” تشير إلى أنّ لا زمان بعد ذلك الزمان، وأنّ المؤمنين بالمسيح اليوم، يعيشون في هذا الزمان الأخير، الّذي بدأ بمجيئه. إنّ الله قد قال كلّ شيء للبشر بيسوع المسيح ابنه، وبالتّالي لم يعد هناك كلام آخر. إنّ يسوع المسيح هو المعيار الّذي يجب على كلّ مؤمن الاستناد إليه ليعرف إن كانت الكلمة الّتي يسمعها هي من الله أم لا. فعلى المؤمن أن يرفض كلّ كلمة يسمعها إن كانت لا تنسجم مع أقوال المسيح وبشارته الّتي أعلنها لنا.
إنّ الابن “أصبح وارثًا لكلّ شيء”: هذه العبارة تشير إلى أنّ الميراث كلّه أصبح بين يديّ الربّ يسوع، وبالتّالي مَن يريد الحصول على ميراث الله، فعليه اللّجوء إلى الربّ يسوع، إذ لا يستطيع ذلك دون رضى الربّ يسوع. ولذا، فإن كنت تريد الحصول على الميراث، فعليك اتبّاع المسيح والسير وفق تعاليمه، فالخلق تمّ بالابن. إنّ هذا الاصحاح من الرسالة إلى العبرانيين يشكّل أحد أهمّ النّصوص الّتي تتكلّم عن الثالوث، إذ تَظهر من خلاله، مشاركة الأقانيم الثلاثة في عمل الخلق. إنّ كلمة “مجد” تشير إلى الحضور والثقل. إنّ الربّ يسوع هو بهاء مجد الله أي إنّه يشكّل حضور الله بين البشر، وبالتّالي فقد أصبح من المستحيل أن يصلّي الإنسان إلى الله من دون العبور بالمسيح، فالمسيح هو الوسيط في العلاقة الّتي تجمع الإنسان بالله. إذًا، إنّ مشيئة الله هي مشيئة يسوع المسيح، ورضى الله هو رضى يسوع المسيح. إنّ أحد تلاميذ الربّ يسوع، وهو فيلبّس، سأل يسوع قائلاً له: “يا ربّ، أرِنا الله وكفانا”. فكان جواب يسوع له: “من رآني فقد رأى الآب”، وبالتّالي فإنّ الربّ يسوع يعكس صورة الله وهو بهاءُ مجده أي علامة حضوره بين البشر. إنّ الجوهر لا نستطيع رؤيته ولكنّنا نستطيع أن نعطيه صورةً كي نتمكّن من شرحه للآخرين، وبالتّالي فإنّ يسوع المسيح هو صورة الله الّتي تعبّر عن جوهره، وهذا يشير إلى الوحدة الموجودة بين الله الآب وابنه يسوع. إذًا، لا تستطيع رؤية جوهر الله إلاّ من خلال يسوع المسيح.
إنّ بولس الرسول كتب هذه الرسالة حين كانت البِدَع منتشرة، والمسحاء الكذّابون متواجدين بكثرة. إنّ هذه البدع وهؤلاء المسحاء الدّجالين كانوا يوهمون المؤمنين بأنّ الإيمان بالمسيح وحده لا يكفي للحصول على الخلاص، ولذا عليهم، الانتماء إلى الدّين اليهوديّ أوّلاً، والقيام بكلّ ما تطلبه الديانة الموسويّة كالتطهير مثلاً للرّجال قبل إعلان إيمانهم بالمسيح، لينالوا الخلاص. إنّ بولس الرسول أراد أن يقول من خلال هذه الرسالة للمؤمنين جميعًا إنّ الخلاص قد تمّ بالمسيح يسوع، لذا لا مبرِّر لوجود نبيّ أو مسيح آخر، فما قام به الربّ يسوع على الصّليب كان كافيًا لكي يكون الخلاص شاملاً. وكما كان صعبًا على اليهود أن يقبلوا انتماء المهتدين إلى المسيحيّة من دون العودة إلى الدّين اليهوديّ، كذلك هو الأمر معنا نحن مسيحيّي اليوم: فمتى قبل أحدهم البشارة بيسوع المسيح عن يدنا، لا نقبل به لمجرّد إعلانه الإيمان بالمسيح، فنحن نسعى لإعلان انتمائه للمسيح من خلال تبنيه لإحدى الكنائس، إذ نريد تصنيفه. وفي مراجعة سريعة لتصرفاتنا مع الآخرين نجد أنّ الفكر اليهوديّ ما زال سائدًا في أوساطنا المسيحيّة، إذ على كلّ مهتدٍ أن يحصل على رضى الجماعة الّتي ينتمي إليها، وكأنّ رضى الله وحده على الإنسان لا يكفي.
إنّ يسوع المسيح، كلمة الله، له ملء السّلطان والقدرة، والإنجيل يقدِّم لنا مثلاً واضحًا عن قدرة الكلمة وسلطانها من خلال شفاء خادم قائد المئة، إذ جاء القائد طالبًا من الربّ يسوع أن يشفي خادمَه بقوّة كلمته. إنّ النّص الإنجيليّ يخبرنا أنّ هذا القائد أخبر الربّ يسوع أنّه لديه السلطة على جنوده، فيقول لهذا تعال ولذلك اذهب، فيقومان بما طُلب منهما دون تردّد أو طلب للشرح، وبالتّالي هذا المثل يوضح لنا قدرة الإنسان والسّلطان اللّذين يملكهما بواسطة كلمته. إذًا، القدرة تعبّر بالكلمة، وهي تُعطي سلطانًا.
إنّ المسيح يسوع على الصّليب قدّم نفسه ذبيحة، وبتقديم ذاته ذبيحة عنّا قام بتطهيرنا من خطايانا. وبعد أن أتمّ هذا العمل، جلس على يمين العظمة في الأعالي أي على العرش السماويّ، ذلك العرش الّذي لا يجلس عليه سوى الله. إنّ البِدَع تتغاضى عن رؤية هذا العمل الخلاصيّ، لكي تنكر ألوهيّة المسيح، غير أنّ المسيح قد تجسّد وقد رأينا عمله الخلاصيّ. إنّ المسيح قد ورث اسمًا أفضل من جميع الأسماء، وهو “كيريوس”، أي الرّب. وهذا الاسم لم يعطِه الله الآب للملائكة، إنّما فقط للمسيح يسوع.
إنّ عبارة “أنت ابني وأنا اليوم ولدتك”، هي عبارة مأخوذة من المزمور الثاني الّذي كان ينشده الشعب يوم تنصيب الملك على العرش. إنّ الملك في العهد القديم هو صورة للإله الّذي يعبده الشعب، وهو بالتّالي يعكس صورة الله وقدرته وسلطانه. ولذا يأتي الإله في المرتبة الأولى، ثمّ الملك، ثمّ المملكة من حيث أولويّات الشعوب ذات الأنظمة الـمَلكيّة. إنّ الملك هو صلة الوصل بين الشعب والله، فما يعلنه هو بالنسبة للشعب هو كلام الله وواجب عليهم إطاعته، وهو ينقل إلى الله كلّ طلبات الشعب. إنّ الشعب اليهوديّ، في العهد القديم، قد سأل الله إعطاءهم ملكًا تشبّهًا بسائر الأمم، إذ إنّ الله هو مَلِكُهم ولكن صورته غير منظورة، فأعطاهم الله ملكًا، وأصبحوا كباقي الشعوب، لديهم إله ومملكة، ومَلِكًا، ولكن هل سيكون هذا الملك المنتخب من بينهم قادرًا على أن يعكس لهم مشيئة الله وسلطانه ورحمته، أم سيعكس لهم مشيئته الخاصّة وسلطانه وقسوته؟ إنّ النبيّ، عند سماعه لطلب الشعب لـمَلِك أرضيّ، نبّههم من أن طلبهم هذا سيؤدي إلى دمار المملكة، وهذا فعلاً ما أثبته التّاريخ إذ تعرّض الشعب إلى انقسام مملكته بين مملكة يهوذا ومملكة اسرائيل، ومن ثمّ اندثار المملكتين، وقد تعرضتا أيضًا للسَبي والتهجير. وبالنسبة إلى كاتب الكتاب المقدّس، فإنّ المآسي الّتي عانى منها شعب الله هي نتيجة طلبه التشبّه بسائر الأمم. إنّ سائر الشعوب تذهب للسجود لإلهها في قصر الملك، وبالتّالي فقد أصبح الملك هو إلهها. إنّ كلمة “هيكَل” في اللّغة العبريّة تعني القصر، وكلمة “معبد” تعني الهيكل. وبالتّالي يصبح القصر هو الهيكل والمعبد أي أنّ العبادة تتمّ في قصر الملك، فقد أصبح الملك هو الإله بالنسبة لسائر الشعوب.
إنّ زعماء عصرنا والأغنياء فيه، يَقُومون بتشييد كنيسة صغيرة في قصورهم سائلين أحد كبار رجال الدّين بمباركتها. إنّ هؤلاء لا يقومون بهذا العمل عن سوء نيّة، إنّما نتيجة تقاليد تمّ توارثها عبر الأجيال. إن عدنا إلى التّاريخ لوجدنا أن الخلاف بين ملك بريطانيا هنري الثالث والبابا حول زواج الملك ثانيةً بُغية إنجاب البنين، هو في الأساس مرتكز على اعتقاد الملك أن إرادته ورغباته، هي إرادة الله ورغباته. إنّ الملك كان يعتقد أنّ المملكة تزول إن لم يكن له وريث، إذ إنّه بالنسبة لهذا الملك، إرادة الله هي أن يكون للملك نسل من أجل بقاء المملكة. إنّ السلطة الكنسيّة الممثَّلة بالبابا، لم تقبل بطلاق الملك، فما كان من الملك إلّا أن شقّ الكنيسة من جديد، فكانت الكنيسة الانغليكانيّة. إنّ مفهوم استمراريّة المملكة، في نظر الملوك البشريّين، تكمن في ثلاث نقاط أهمّها: وجود وريث ليضمن استمراريّة الحكم، وحماية المملكة من العداوات الّتي تأتي من الممالك الأخرى، وأخيرًا الحكم الدّاخلي، أي حماية المملكة من الثورات والمؤامرات الّتي من شأنها إنهاء الحكم الملكيّ، فحدوث خلل في إحدى هذه النقاط يشكِّل تزعزعًا للملك وبالتّالي للملكة. عانت الممالك في القرون الوسطى، من الثورات والتمرّد الآتي من داخل المملكة، فقد كان المتمرّدون يسعون إلى قتل الوريث أوّلاً، ومن ثمّ يقومون بإقالة الملك، وعندها يتمّ تغيير النّظام الملكيّ. إنّ الأمر مشابه تمامًا لما فَعَلَه اليهود، إذ قاموا بقتل ابن الله لأنّه الوريث، ليحافظوا على سلطتهم، وحكمهم للشعب. إذًا، لكلّ ملك عرش، وعلى كلّ مَلِك عدم ترك العرش وإلاّ شكّل ذلك خطرًا على المملكة، وإن تَرِك الملك للعرش قد يؤدي إلى الإطاحة به من قِبَل المتمرّدين.
إنّ سفر التكوين كُتب في الإمبراطوريّة البابليّة، حيث كان الشعب يخضع للملك ويأتمر بأوامره، وقد كان الشعب البابليّ يعتبر أنّ الملك هو صورة الله دون سواه، فجاء كاتب السفر ليذكِّر الشعب أنّ الله هو خالق الكون بكلمته الخلّاقة، وأنّ الإنسان هو من صُنْعِ الله وقد نفخ الله فيه من روحه. إذًا، جاء كاتب سفر التكوين، ليذكّر شعب الله، بأنّ كلّ إنسانٍ هو على صورة الله ومثاله، فالملك ليس الوحيد المخلوق على صورة الله ومثاله، وبالتّالي، قام كاتب هذا السفر بنقض النّظام الملكيّ من جذوره، وحقّق ثورة في عصره. غير أنّ اختيار الشعب فيما بعد، لـمَلِك من بينهم أُسوَةً بباقي الشعوب، أعاد من جديد، نَسبَ صورة الله ومثاله إلى الملك، وتناسى الشعب أنّ كلّ فردٍ من بينهم هو على صورة الله ومثاله، هذا ما يبرِّر إنشادهم للمزمور الثاني عند تنصيب الملك على العرش إذ¬ يقولون: “أنت ابني وأنا اليوم ولدتك”. فبالنسبة للشعب، إنّ الله يَلِد الملك ابنًا له في يوم تنصيبه ملكًا ولذا على الجميع إطاعته والشعور بالخوف منه، تمامًا كأنّه الإله.
إنّ العهد الجديد جاء ليرسم صورة جديدة للملك، إنّها الصورة الحقيقيّة للملك الّذي يريده الله. فالملك الّذي يريده الله، عليه أن يتحلّى بالصِّفات الواردة في سفر أشعيا، الّذي كُتب قبل 700 سنة لمجيء المسيح، وهي أن يكون ملكًا لا يفتح فاهه، وقصبةً مرضوضةً لا يَكْسِر، ولا يُسمَع صوته في الشوارع، بل أكثر من ذلك أنّه يُساق كشاةٍ إلى الذّبح. إنّ هذه الصورة للملك معاكسة تمامًا للصورة الّتي يملكها الشعب عن الملك، إذ إنّه على الملك، بالنسبة لهم، أن يتمتّع بالسّلطة والقضاء. إنّ الشعب لم يستطِع أن يجد بين أفراده إنسانًا يتحلّى بهذه الصفات ليقدّمه لله فيُنَصبّه ملكًا عليهم. لذلك قام الله بإرسال ابنه الجالس على العرش، لا ليكون ملكًا كسائر ملوك الأمم، إنّما ليصبح ملكًا كالبشر، بل أكثر من ذلك، مَلِكًا على صورة البشر في أدنى مستوياته، أي كالعبد بين البشر. إنّ الربّ يسوع، هذا الملك الّذي هو بحسب إرادة الله، نال عقاب العبيد من البشر، إذ صُلب كما يُصلَب العبيد. إنّ الربّ يسوع، الّذي أطاع الله حتّى الموت، موت الصّليب، كان سبب سرور الآب، وقد أشار الله الآب إلى البشر بوجوب السمّاع له. إنّ عبارة “له اسمعوا”، الّتي وضعها العهد الجديد على لسان الله الآب، هي عبارة تشير إلى أنّ الابن، أي يسوع المسيح، هو الوحيد الكفيل بنقل كلمة الله وإرادته للبشر، فيسوع المسيح هو كليم الله، وعلى شعب الله أن يسمعوا له.
إنّ يسوع الإنسان، لم يعتدّ بنفسه، فهو قَبِلَ العقاب الذي أنزله به البشر، لم يستخدم امتيازه بأنّه مساويًا لله الآب في الجوهر ليتخلّص من هذا العقاب، بل على العكس من ذلك فهو قد تمكّن من الوصول إلى أقصى درجات الاتّضاع والإمّحاء. إنّ يسوع المسيح بقبوله للصّليب، شكّل الذّبيحة المقبولة عند الرّب، وبهذه الذبيحة تمّ تطهيرنا من كلّ خطايانا. وهذا ما يقوله بولس في رسالته إلى أهل فيلبيّ في نشيد الإخلاء. إنّ الاسم هو الوجود: إنّ الإنسان يستطيع أن يعطي الآخرين ممتلكاته، وكلّ ما يملك من ثروات، لكنّه لا يستطيع إعطاءهم اسمه، لأنّه بذلك يكون قد ألغى ذاته، ولم يعد من مبرِّر لوجوده. إنّ الله وحده هو الّذي يستطيع أن يعطي اسمه لآخر من دون أن يزول، فالله قد أعطى اسمه ليسوع الإنسان. إنّ الله أعطى يسوع الإنسان الاسم الّذي كان له منذ البدء، أعطاه ليسوع الإنسان وليس لملكٍ معيّنٍ أو مسؤول محدّد، وبالتّالي فإنّ الله قد أصبح مشابهًا لكلّ انسان.
إنّ الربّ يسوع قد جلس على يمين العظمة على العرش. إنّ الله الآب جالسٌ على العرش وكذلك الابن، فهذا هو سرّ الثالوث، إذ في المنطق البشريّ لا يمكن أن يجلس على عرشٍ واحد ملكان في الوقت نفسه. إنّ الله عندما تجسّد وجلس على العرش فيما بعد، سمح لكلّ انسانٍ، على مثال الابن، أن يجلس حول العرش ويفرح وكأنّه جالس على العرش، عندما يكون في حضرة الله في الملكوت، أي عند العبور من هذه الحياة إلى الحياة الثانية. إنّ عطاء الله ومحبّته للإنسان يفوقان الوصف، إذ لم يعطِ هذا الامتياز للملائكة إنّما أعطاه فقط للإنسان: أن يشاركه في الملكوت حول العرش. وهذا ما يحدث في أثناء الاحتفال بالذبيحة الإلهيّة، إذ يحصل الإنسان على الله عندما يتناول غير أنّ الملائكة غير قادرة على ذلك، وهذا دليل على قيمة الإنسان الكبيرة في عينيّ الله، على الرّغم من حنين الإنسان إلى الانحدار والهوان والابتعاد عن الله، والضياع والاضطراب اللّذين يعاني منهما، إذ يرغب الإنسان في بعض الأحيان إتبّاع الله وفي أحيانٍ أخرى، يسعى وراء السّلطة والمصالح الشخصيّة والأهواء.
إنّ البكر لا يعني الولد الأوّل في عائلة ما، إنّما يعني وريث الأبوّة، وقصّة يعقوب وعيسو هي خير مثال على ما نقوله. فعندما أصبح اسحق مسنًّا وصار يعاني من ضعف النّظر، أراد تسليم البركة لابنه البكر ليُكمِل السلالة من بعده. على الرّغم من أنّ عيسو هو البكر، غير أن يعقوب هو الّذي حصل على البركة ومعه تابعت السلالة البشريّة انضمامها إلى شعب الله. وفي انجيل متّى نقرأ ما يلي في النصّ الّذي يتكلّم عن ولادة الربّ يسوع: “لم يعرفها حتّى ولدت ابنها البكر وسمّاه يسوع”، إنّ ذلك يشير إلى أنّ يوسف لم يكن له دور في إعلان الله لمريم بأنّ من وَلَدَتْه هو بكر الله وهو وريثه. إنّ تلك الآية قد أُسِيءَ فهمها من قِبَل البروتستانت و”شهود يهوه”، إذ اعتقدوا أنّ ليسوع إخوة بشريّين أي من اللّحم والدّم نفسه. إنّ هدف الإنجيل ليس التبشير ببتوليّة مريم إنّما إعلان البشارة بملكوت الله. وفي دراسة سوسيولوجيّة للمجتمع، وجدنا أنّ الكثيرين تمنّوا وجود ملائكة على عرش الله، لا ابنًا وارثًا لله. وهنا يجدر الإشارة إلى ضرورة الانتباه إلى صلواتنا إلى ملائكتنا الحرّاس، إذ في إحدى الصّلوات الّتي نتلوها نحن الشرقيّين للملاك الحارس نقول: “أيّها الملاك الحارس، الملازم لنفسي الشقيّة، سامحني”.
إخوتي، إنّ الملاك غير قادر على مسامحتنا، إنّ الله هو من يستطيع مسامحتنا على خطيئتنا. إنّ ملاكنا الحارس هو الربّ يسوع ولا أحد سواه، ولكن بما أنّ المسيح يسوع هو على العرش الآن ونحن ما زلنا في حالتنا البشريّة، فللتّعبير عن صلة الوصل بيننا وبين الله نستخدم عبارة “ملاك”، وهي مجرّد عبارة نستخدمها أدبيًّا للتعبير عن صلة الوصل بين الله وبيننا نحن البشر. ويقول الربّ يسوع في إحدى النصوص الإنجيليّة: إنّ ما فعلناه لأحد إخوته الصّغار فله قد فعلناه، وإنّ ملائكتهم حاضرة في السّماء. تُرى هل لله ملائكة تقوم بإرسال التقارير له عن كلّ انسان؟! إنّ الملائكة هي الله يسوع المسيح نفسه غير أنّنا نجد صعوبة في أن نقول إنّ لا وسيط بيننا وبين الله، لذا نستخدم عبارة الملائكة في لغتنا البشريّة. في العهد القديم، أي قبل مجيء المسيح، لم يكن يتجرّأ الإنسان على التعامل مع الله من دون تكلّف، غير أنّنا اليوم، بعد مجيء المسيح، بِتْنا نستطيع ذلك، إذ لا وسيط بيننا وبين الله سوى المسيح يسوع، وهذا ما يؤكّد عليه بولس الرّسول إذ يقول إنّ يسوع هو وسيطنا الوحيد في علاقتنا مع الله.
إنّ هذه الرسالة إذًا هدفها أن تُظهِر لنا نحن المسيحيّين حقيقة يسوع المسيح، كما تهدف إلى ضرب كلّ التفكير اليهوديّ، إذ يريد اعتماد هذا التفكير المسيحيّ الجديد، مع إبقائه على العهد القديم. وهذا أمر غير ممكن، إذ يجب التخلّي عن التفكير اليهوديّ القديم، كي نقبل التفكير الجديد الّذي حصلنا عليه بيسوع المسيح، فيفعل بنا ويثمر. آمين.
ملاحظة: دوِّن الشرح بأمانةٍ من قِبلنا.