تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“رسالة بولس الرّسول إلى العبرانيّين – الإصحاح الخامس”
النصّ الإنجيليّ،
“لأنَّ كلَّ رئيسِ كهنةٍ مأخوذٍ مِنَ النَّاسِ يُقامُ لأجلِ النَّاسِ في ما لله، لكي يُقَدِّمَ قرابينَ وذبائحَ عن الخطايا، قادرًا أنْ يَتَرَفَّقَ بالجُهَّالِ والضَّالينَ، إذ هُوَ أيضًا مُحاطٌ بالضَّعفِ. ولِـهذا الضَّعفِ يَلتزِمُ أنّه كما يُقدِّمُ عن الخطايا لأجلِ الشَّعب هكذا أيضًا لأجلِ نفسِه. ولا يأخُذُ أحدٌ هذه الوظيفةَ بنَفسِه، بلِ المدعوُّ مِن الله، كما هارونُ أيضًا. كذلك الـمَسيحُ أيضًا لَـم يَـمَجِّدْ نفسَه ليصيرَ رئيسَ كهنةٍ، بَل الّذي قال له: “أنت ابني أَنا اليومَ وَلَدْتُكَ”. كما يقولُ أيضًا في مَوضِعٍ آخر: “أنتَ كاهِنٌ إلى الأبد على رُتْبَةِ مَلْكِي صَادَق”. الّذي، في أيّامِ جَسَدِهِ، إذ قدَّمَ بِصُراخٍ شديدٍ وَدُموعٍ طَلَباتٍ وَتَضرُّعاتٍ للقادر أَنْ يُخلِّصه مِنَ الموتِ، وَسُمِعَ له مِنْ أجلِ تقواهُ، مَعْ كونِه ابنًا تعلَّمَ الطَّاعةَ مِـمَّا تأَلَّـمَ به. وَإذْ كُمِّلَ صارَ لِجَميعِ الّذينَ يُطِيعونَهُ، سببَ خلاصٍ أبديٍّ، مَدْعُوًّا مِنَ الله رئِيسَ كهَنةٍ على رُتبَةِ مَلْكِي صَادَق. الّذي مِنْ جِهَتِه الكلامُ كثيرٌ عِندَنا، وَعَسِرُ التَّفسيرِ لِنَنْطُقَ به، إذْ قَدْ صِرتُم مُتَباطِئي الـمَسامِع. لأنَّكم إذْ كانَ يَنبَغي أَنْ تَكُونوا مُعلِّمينَ لِسَببِ طولِ الزَّمانِ تَحْتاجُونَ أَنْ يُعلِّمُكم أحدٌ ما هيَ أَركانُ بَداءَةِ أقوالِ الله، وصِرتُم مُحتاجينَ إلى اللَّبَنِ، لا إلى طَعامٍ قَويٍّ. لأنَّ كُلَّ مَنْ يَتَناوَلُ اللَّبَنَ هُوَ عَديمُ الـخِبرَةِ في كلامِ البِّرِ لأنّه طِفلٌ، وأمّا الطَّعامُ القويُّ فَلِلْبالِغِينَ، الّذينَ بِسَببِ التَّمَرُّنِ قَدْ صارَتْ لَهُمُ الحواسُ مُدَربَّةً على التمييزِ بينَ الخيْرِ والشَّرِ.”
شرح النّص الإنجيليّ:
إنّ بولس وجّه كلامه هذا، إلى أشخاصٍ بالغين في العُمر، لكنّ تصرّفاتهم تدّل على أنّهم ما زالوا أطفالاً في الإيمان. إنّ الشخص البالغ يتميّز عن الطفل بالخبرة والفهم والعِلِم والمقدرة على التمييز بين الخير والشّر. إنّ ذكاء الإنسان ملوَّثٌ بحبائل الشّرير إذ يتصرّف كأنّه جاهلٌ للأمور، ليتمكّن من إلقاء مسؤوليّة فشله في قراراته على الآخرين. إنّ كلّ قرار يتّخذُهُ الإنسان يكون نابعًا إمّا من رغبته العميقة في إرضاء الله، وإمّا من رغبته في إرضاء أهوائه البشريّة. عندما يكتشف الإنسان أنّه أخطأ في القرار الّذي اتّخذه، يبحث عن شخصٍ يلقي عليه مسؤوليّة فشَلِه، ويكون هذا الشخص في أغلب الأحيان إمّا الله وإمّا الشيطان. إنّ الإنسان يرمي المسؤوليّة على الله عندما لا يستطيع إيجاد تفسير لِما يحصل معه، أو عندما يرفض مواجهة تحدّيات هذا العالم؛ ويلقي المسؤوليّة على الشيطان ليبرِّر أخطاءه الناتجة عن انجراره وراء أهواء هذا العالم. إذًا في الحالتين، يُلقي الإنسان اللّوم على غيره، غير أنَّ لا هذا ولا ذاك، مسؤولٌ عن الفشل، فالمسؤول الحقيقيّ عن الفشل هو الإنسان نفسه. إنّ الإنسان الجاهل بحسب القدِّيس بولس، هو ذاك الّذي يتصرّف كالأطفال، وطعامه بالتّالي يجب أن يكون اللَّبن وهو طعام الأطفال، إذ لا يمكن للإنسان أن يعتبر نفسه راشدًا ويسمح لنفسه بارتكاب أخطاء الأطفال. إنّ بعض الأشخاص يتعاملون مع الله، ومع ذواتهم، ومع الآخرين بطريقة الأطفال على الرّغم من نضوجهم، ممّا دفع بكاتب الرّسالة إلى توجيه دعوة إلى كافّة المؤمنين بضرورة تدريب حوّاسهم كي تتمكّن من التمييز بين الخير والشَّر.
إنّ بولس الرّسول “كاتب الرسالة” لم يقل إنّ النّاس قد أصبحوا مُدَرَّبِين بسبب التمرّن على التمييز بين الخير والشّر، بل قال إنّ “الّذين بسبب التمّرن قد صارت لهم الحواس مدّربة على التّمييز بين الخير والشّر”، وبالتّالي فإنّ الحواس هي الّتي تصبح مدربّة بسبب التمرّن على التمييز بين الخير والشَّر. إنّ الإنسان يستطيع تدريب حاسّة السّمع عنده، عندما يختار ما يريد أن يسمعه وما لا يريد سماعه، فتصبح هذه الحاسّة قادرة على التمييز بين الخير والشَّر، ومتحرِّرة من ضَغطِ أهواء العالم. هناك اختبارات عدّة يمكن للإنسان اللّجوء إليها لمعرفة مدى قدرة حاسّته على التمييز بين الخير والشّر: أوّلاً من خلال ادراكه لردّة فعله لدى سماعه كلامًا بذيئًا، وثانيًا من خلال اختبار نفسه لمعرفة تفاعله مع أخبار خطايا الآخرين وضعفهم البشريّ. إنّ فَرَح الإنسان عند سماعه الكلام البذيء، واستسهاله لنقل أخبار ضُعف الآخرين إنّما يُشير إلى أنّ حاسّة السّمع عند هذا الإنسان ما زالت بحاجة إلى التدريب كي تتمكّن من التمييز بين الخير والشَّر. إنّ الطُبَّ يشير إلى أنّه حين يكون سَمَعُ الإنسان معطّلاً، فإنَّ لسانه بالضرورة سيكون أيضًا مُعطَّلاً، وهذا ما يبرِّر حالة الأشخاص الصُّم البُكم. وبالتّالي، فإنْ كان سَمَعُكَ غيرَ خاضِعٍ لأهواءِ الدّنيا، فلسانُكَ أيضًا لن يكون خاضعًا لها؛ أمّا عندما يكون سَمَعُكَ خاضعًا لأهواء الدّنيا، فإنَّ كلامَك لن يُعبِّر إلّا عنها. إنّ الثرثرة تُشَوِّه صيت الآخرين، وهي بمثابة عمليّة قتلٍ اجتماعيّة لهم: فالقتل الجسديّ ينتهي بَعد تسليم المقتول روحه، أمّا تشويه السُّمعة، فإنّه يقتل الإنسان في مجتمعه وهو ما زال حيًّا. إنَّ القتل هو عمل شخصيّ فرديّ، أمّا تشويه السُّمعة فهو عملٌ جماعيّ اجتماعيّ. إنّ البعض يستمتِع بنقل أخبار الآخرين السيئة، على الرّغم من معرفتهم بالأذى الّذي يُسبِّبونه للآخرين، فمَرَض الثرثرة يُصيب الكثيرين دون تمييز. إنّ الحواسَ الخمسَ أدواتٌ تساعد الإنسان على إقامةِ جسورٍ مع الآخرين: فالإنسان يتكلّم مع الآخر، ويسمعه ويَشُّمُه، ويَلمسُه، وينظر إليه، فكلُّ حواسِ الإنسان مرتبطةٌ بالآخر. إنّ العلماء، قديمًا، لم يُصنِّفوا القلب ضمن الحواس الخمسة، على الرّغم من أنّه مركز أحاسيس الإنسان وعواطفه، غير أنّ علماء الطبّ النفسيّ قد أضافوا إلى الحواس الخمسة حاسّةً جديدةً أُطلق عليها اسم الحاسّة السادسة. إنّ الحواس لا تكون خاضعة لأهواء الدّنيا، عندما تكون قادرة على التمييز بين الخير والشَّر، أي عندما تكون متحرّرة من ضَغطِ أهواء الدّنيا، وبالتّالي متحرّرة من كلّ ما مِن شأنه أن يبعث في نفس الإنسان القلق والاضطراب، نتيجة تناقل أخبار سيئات لآخرين. إنَّ سبب قلق الإنسان واضطرابه نتيجة انشغاله بأمور هذه الدّنيا وأهوائها، هو ضَغط إحساس الإنسان على حواسه. إنّ الإنسان لا يُمكِنُه أن يتحرّر من حواسه إنّما يُمكِنُه أنْ يتحرّر مِن ضغط إحساسه بحواسه،
فمثلاً الإنسان المتكبِّر هو الإنسان الّذي يستسلم لضغط إحساسه بحواسه، فنراه يعطي أهميّة لِكلّ ما يسمعه وما يراه، إذ إنّه يسعى لمعرفة آراء الآخرين فيه، كما يسعى إلى تقسيم النّاس إلى خطأة وصالحين مستندًا على أرائه فيهم، أمّا الإنسان المتواضع فَهو الإنسان الّذي لا يهتّم لشؤون الآخرين الخاصّة ولأخطائهم، وهو بالتّالي قد تجرّد مِن ضَغطِ إحساسه بحواسه. إنّ تجرّد الإنسان عن ضَغط إحساسه بحواسه، يتمّ حين يسعى إلى عيش روحانيّة الإنجيل، أي عيش بساطة الإنجيل. إنّ الروحانيّة لا تعني أبدًا أن يكون الإنسان غير ماديّ، بل تعني أن يكون الإنسان خاضعًا لِرِضى الرّوح.
في العهد القديم، قام الله بتربية شعبه، من خلال المسيرة الّـتي قام بها معهم، أمّا مجيء المسيح، فكان من أجل حصول الشعب على الخلاص لا مِن أجلِ تربيتهم. وبالتّالي، فإنّ مسيرة الله مع شعبه في العهد القديم هي مسيرة تمهيديّة، تُمكِّن الشعب مِن نَيْلِ الخلاص الأبديّ الّذي مَنَحَهم إيّاه الله بيسوع المسيح، ابنه الوحيد. إنَّ أصَل الفعل “ربّى” في اللّغة العربيّة، هو “رَبّ”، وبالتّالي فإنّ مَن يُربِّيكَ هو الّذي يقودك إلى الربّ. أمّا في اللّغة اليونانيّة، فكلمة “ربّى” تعني pedagogos، وهي مؤلّفة مِن كلمتين هما: pedia وتعني وَلَدٌ، وكلمة gogos وتعني الّذي يقود، وبالتّالي فإنّ الّذي يُربّي هو الإنسان الّذي يقود الولد إلى بيت السيّد. ففي القديم، كان يُعيِّن الـمَلِكُ مُربّيًا لابنه، وقد يكون مِن العبيد، كي يهتمّ بشؤون هذا الولد القاصر، وإعادته إلى القصر إن أضاع طريق العودة إليه عند ذهابه في نُزهةٍ. وقد كانت مِن صلاحيّات هذا الشخص استعمال الحَزم مع ابن الملك حين يرفض الانصياع لأوامره، وذلك لِما فيه خير الصّغير. أمّا التربية في عصرنا اليوم، فَقَدْ فَقَدَتْ هذا الحزم المطلوب خوفًا من تَضَرُّر نَفسِيّات الأبناء. إنّ الله في العهد القديم، قاد شعبه في مسيرةٍ صوب الخلاص كما يقود المربّي الأطفالَ، غير أنّهم عاندوه، إلّا أنّه لم يستسلم لِعنادِهم هذا، فأرسَل إليهم الأنبياء، والخاتمة كانت مع إرساله يسوع المسيح، ابنه الوحيد إليهم، وذلك من أجل تحقيق هدفه وهو حصول الشعب على الخلاص الأبديّ. إنّ الشعب لم يكتفِ بمعاندة الله، بل رفض يسوع المسيح، هذه الوسيلة الخلاصيّة الأخيرة الّـتي أرسلها الله إليهم، فقتلوه ومات على الصليب مِن أجل خلاصِهم. إنّ كاتب الرسالة دعا المؤمنين بالمسيح إلى استذكار مسيرة الشعب القديم مع الله، ودَفَعِهم إلى تدريب حواسهم كي يتمكّنوا من التمييز ما بين الخير والشَّر.
كان شعب العهد القديم يختار رئيس كهنته بالقُرعَة، ليُقرِّب عنهم وعن نفسه الذبيحة لله، كما تقتضي الشريعة. إذًا، مفهوم الكهنوت مرتبطٌ بمفهوم تقديم الذبائح. إنّ مفهوم الذبيحة في العهد القديم، يقوم على تقديم الإنسان ذبيحةً لله، تعويضًا عن الخطايا الّتي ارتكبها، ليَتَجَنَّب العقاب. كان الله يتعامل مع الشعب انطلاقًا من كونِه مُربّيًا لهم، لذا كان يقبل منهم الذبائح، معتقدًا أنّهم بتلك الطريقة سيفهمون مقصدَه الخلاصيّ منها، ولكنْ دون جدوى. إنّ رئيس الكهنة هو خاطئٌ كالشعب، لذا كان يُقدِّم الذبيحة عن نفسه كما كان يُقدِّم الذبائح عن الشعب. إنّ رئيس الكهنة لا يَتَسلّم هذا المنصب من تلقاء ذاته إنّما يحصل على هذا المنصب نتيجة انتخاب الشعب له، إذ قد كسَبَ بركة الله عند حصوله على الكهنوت. إنّ استعمال كلمة “كذلك”، في الآية “كذلك الـمَسيحُ أيضًا لَـم يَـمَجِّدْ نفسَه ليصيرَ رئيسَ كهنةٍ”، دَفَعَت البعض إلى الاعتقاد أنّ يسوع هو رئيس كهنةٍ على مثال أولئك الرؤساء الّذين يتمّ انتخابهم من قِبَل الشعب لتقديم الذبائح لله. إنّ المسيح لم يُنَصِّب نفسه رئيس كهنةٍ، بل إنّ في الأناجيل علاماتٍ كثيرة تُشير إلى أنّ الله قد اختاره لهذه الوظيفة.
إنّ لوقا الإنجيليّ يَعرِض لنا نصّ بشارة رئيس الكهنة زكريّا الّذي دخل إلى الهيكل ليُقدِّم الذبيحة، فخرج منه معقود اللّسان حين طلب علامةً مِن الملاك تؤكِّد كلامه. إنّ سؤال زكريّا مُنطلِقٌ مِن شكِّه بكلام الملاك، أمّا سؤال مريم فكان من أجل الاستفسار. إنّ الله لا يُعطي الإنسان بُرهانًا مسبَقًا على كلامه، إذ على الإنسان أن ينظُر إلى كلام الله على أنّه قد تحقّق على الرّغم من أنّه ما زال كلامًا موعودًا به غير مُحقّق حتّى السّاعة، فالله أمينٌ في وعوده للبشر، وهذا ما يُسمّى إيمانًا. إنّنا كمؤمنين نطلب باستمرار علاماتٍ مِن الله تؤكِّد مصداقيّته، بدليل لُـجُوئِنا إلى النذورات. إنّ القداسة ترتكز على الفهم وليس على العِلم. إنّ نعمة الفهم هي الّـتي تعطي الإنسان المقدرة على التمييز بين الخير والشَّر. عندما تدخل كلمة الله إلى داخل الإنسان، فإنّها تغيِّر عقله وقلبه، وكلّ كيانه. إنّ تقدِمات المؤمن تتمّ إمّا عن اعتقادٍ مِنه أنّ الله سيُسرِع في الاستجابة نتيجة هذه التقدمات، وإمّا خوفًا مِن تراجع الله عن الاستجابة له في المرّة القادمة في حال عدم إيفاء المؤمِن لنذوراته السّابقة. إنّ مفهوم النذورات عند المسيحيّين يستند إلى مفهوم تقديم الذبائح عند اليهود، إذ يقوم المؤمِن بتقديم نذر أو ذبيحة مقابل نعمةٍ قد حصل عليها من الله، أو مِن أجل طلب الرّحمة مِنه والمسامحة. إنّ المفهوم اليهوديّ للذبائح والتقادم قد تَسَرَّب إلى عقول المؤمنين بالمسيح إذ اعتبروا أنّ عمل الله الخلاصيّ مِن أجلهم يقتصر على تخليصهم مِن خطاياهم. قبل مجيء المسيح، كان الشعب اليهوديّ يعتقد أنّ لا خلاص له مِن خطاياه إلّا عبر تقديم الذبائح، لكنّ المسيح بمجيئه أراد أن يُخبر الإنسان عن مدى قدرة الله، فأزال عنه كلّ خطاياه، وأراد أن يُطلِعه مِن خلال ذلك على أنَّ المشكلة لا تكمن في خطاياه بحدّ ذاتها، إنّما في كونها السبب في ابتعاده عن الله. إنّ عمل المسيح الخلاصيّ يهدف إلى أن يشارك الإنسان المسيح في ميراث الله. إنّ المسيح لم يُصَلب بدلاً مِن الإنسان الّذي كان يجب أن يُصْلَب، بل صُلِبَ مِن أجل الإنسان، أي أنَّ هدف يسوع المسيح هو الإنسان وليس خطاياه. إنّ سفر التكوين يُخبرنا عن الله الّذي خلق الكون كلّه في ستّة أيّام، وفي اليوم الأخير، خلق الإنسان على صورته ومثاله، وأعطاه سلطانًا على جميع المخلوقات. إنّ الله قد أودع الإنسان مسؤوليّة الاهتمام بالخليقة بأسرها، دون أن تصبح مُلْكَه، فمالِكُها الأوحد هو الله. في الخلق الأوّل، نجد أنّ الله قد خلق كلّ شيء مِن أجل الإنسان؛ أمّا في الخلق الثاني، فإنّ الخليقة بأسرها قد خُلِقَتْ مِن جديد بقيامة المسيح، فالخليقة الجديدة هي خليقة نورانيّة، على مثال يسوع المسيح القائم مِن الموت.
إنّ الإيمان يرتكز على قبول الإنسان لعطيّة الخلاص المجانيّة الّـتي يهبه إيّاها الله، حتّى وإن لم يتمكّن من إدراكها بعقله البشريّ المحدود. فحقيقة القيامة لا يمكن أن يُدرِكها الإنسان بعقله البشريّ إذ لا نستطيع تقديم البراهين العلميّة الدامغة عليها. إنّ العقيدة الإيمانيّة تَبطُل عن أنْ تكون كذلك، إن تمكّن الإنسان مِن تقديم البراهين العلميّة عليها، لأنّها تتحوّل عند ذلك إلى حقيقة علميّة. إنّ الإيمان مبنيّ على الفَهم، ولكنّ البراهين عليه هي براهين كيانيّة إنسانيّة، وليست بالضرورة براهين حسيّة ملموسة، فمثلاً لا أحد يستطيع إقناع المؤمن بعدم وجود الله إنْ كان يشعر بحضوره وبرهبة وجوده. إنَّ عمل المسيح الخلاصيّ يختلف كلّ الاختلاف عن أعمال الأنبياء في العهد القديم، وعن عمل الرُّسل في العهد الجديد.
إنّ المسيح هو رئيس الكهنة، ولكنّه كان في الوقت نفسه الذبيحة المقدَّمة لله، بعكس كلّ الكهنة، فقد قدَّم المسيح ذاته ذبيحة، وجَمَع في شخصه الذبيحة ومُقدِّمها، غير أنّ المنطق البشريّ يتطلّب وجود ذبيحة ومُقدِّم للذبيحة، وهو لا يستطيع أن يكون من حيث الظاهر الذبيحة ومقدِّمها في آنٍ. لذا، فإنَّ المسيح هو الذبيحة، أمّا مقدِّمها فَهوَ الله، إذ قد أرسَل ابنه الوحيد يسوع المسيح ليبذل نفسه فداءً عن البشريّة. في العهد القديم، قال أشعيا النبيّ عن الماسيّا(53/ 10) أنّه سيقدّم نفسه “ذبيحة إثمٍ”. إنّ هذه العبارة دَفَعت الكثيرين إلى الاعتقاد أنّ المسيح قد قدّم نفسه ذبيحة عن البشر، وبذلك الاعتقاد قد أساؤوا فَهمَ قول النبيّ. إنّ أشعيا قصد بكلامه أنّ الله قد قدَّم ابنه فداءً عنّا: إنّ سفر التكوين يُخبرنا قصّة ابراهيم الّذي أراد تقديم ابنه اسحق ذبيحة لله غير أن ّالله لم يرضَ بموت اسحق فأرسَل إلى ابراهيم جَدْيًا لتقديمه كذبيحة عوضَ عن ابنه. إنّ الله أرادَ أن يُوضِح للشعب مِن خلال ما عاشه ابراهيم، أنّ الخلاص لا يتمّ إلّا إذا قدّم الوالد ابنه ذبيحة، وما صورة ذبيحة ابراهيم إلّا صورة مُسبَقة عن تقديم الله لابنه الوحيد كي يكون ذبيحة لأجل خلاص كلّ البشر. وبالتّالي، فإنّ القداس الإلهيّ ليس عبارة عن ساعة صلاة يقدِّمها المؤمن لله عبر تحويل هذا الوقت إلى وقفة مع الذّات. إنّ القدّاس هو الوقت الّذي يقدِّم فيه الله خلاصه للبشر، لذا على المؤمن أن يكرِّس هذا الوقت لِيَقبل نعمة الله المجانيّة له، فلا تَخَف من التقرّب من الله بسبب ضعفك البشريّ، فإنّ الله عالِـمٌ بحالتك الـمُذريّة المجبولة بالخطايا الّتي لا يمكنك التعويض عنها مهما فعلت. إنّ هذه الذبيحة الّتي يقدِّمها الله للإنسان تدفَعُه إلى النظر إلى ماضيه المجبول بالخطايا وإلى رؤية مصيره، أي مستقبله. إذًا الذبيحة الإلهيّة تهدف إلى جعل الإنسان مُدرِكًا لِما قام به الله مِن أجله، فلا يعود الإنسان يغرق في ماضيه الأسود، إنّما ينظر إلى المستقبل حيث الله ينتظره ليعطيه ميراثه. إنّ مقدّم الذبيحة في القدّاس هو الله الآب، والذبيحة هي يسوع المسيح.
إنّ البشر كانوا غرقى في العبوديّة لأهوائهم الدّنيويّة، غير أنّ الله لم يتركهم في عبوديّاتهم، لذا نادى الربّ شعبه، ودعاهم لتلبية هذا النّداء مِن خلال سماعهم لصوته في الذبيحة الإلهيّة في القدّاس. إنّ كلمة “الكنيسة” في اللّغة اليونانيّة تعني ecclessia، وهي مُشتَّقة مِن كلمة caleo الّتي يعني “نادى” أو “دعا”. وبالتّالي، فإنّ المؤمن يستطيع تلبية دعوة الله له من خلال الكنيسة، كما أنّه يستطيع رفض تلك الدعوة الإلهيّة. على المؤمن الذّهاب إلى الكنيسة للمشاركة في القدّاس دون التذمّر قائلاً إنّ الصلوات قد أصبحت قديمة وبالتّالي يجب إدخال بعض التعديلات عليها. إنّ الله في القدّاس يَعرِض على المؤمن الميراث أي الملكوت، وبالتّالي فإنّ الاعتراض على هذا الميراث هو دليل لِرَفضِ المؤمن لِما يُقدِّمه الله له. في هذا العصر، لا يوجد سوى مسيح دجّال واحد هو الجهل، وبالتّالي فإن المسيح الدّجال ليس عبارة عن شخصٍ ملموسٍ متواجد في إحدى بِقاع الأرض، إنّما هو موجود في داخل كلّ إنسان. لذا على المؤمِن أن يُحارِب الجهل، فيُميّز ويُدرِك ما هو الخير وما هو الشَّر في أهواء هذه الدّنيا الّتي تُعرَض عليه. إنّ المؤمِن لن يستطيع التمييز بين الخير والشَّر إلّا إذ قام بتدريب حواسه على ذلك. إنّ علاقة المؤمن المتينة بالله تُعرّفه إلى المسيح الحقيقيّ، وبالتّالي سيكون قادرًا على التمييز بينه وبين المسيح الدّجال. إذًا، لنسعَ إخوتي، كي تتقوّى علاقتنا بالمسيح، تلك الذبيحة الّتي قدّمها الله لأجلنا كي نتمكّن من الحصول بواسطتها على ميراثه.
إنّ الإنسان يتوّقع دائمًا الحصول على مُقابلٍ لعطائه، أي أنّه قد تعوّد أن يدفَع ثمن كلّ خِدمةٍ يحصل عليها. غير أنّ المنطق الإلهيّ مختلفٌ تمامًا عن تفكير البشر، إذ إنّه يُقدِّم لهم نفسه، مِن دون أن يطلب منهم شيئًا بالمقابل سوى قبولهم لعطاياه لهم. إنّ الله لا يطلب من الإنسان شيئًا سوى استخدام تلك العطايا الّتي يَمنَحُها الله له. إنّ الله يعطي ميراثه للإنسان بكلّ مجانيّة. إنّ الإنجيل ليس ناموسًا جديدًا بمعنى أنّنا لا نجد فيه شرائع وفتاوى على مثال الشريعة اليهوديّة القديمة، فنحن لا نجد في الإنجيل إلّا شريعةً واحدة هي الحبّ، وذلك لأنّ الحبّ هو الطريقة الأسمى للتعبير عن الحريّة المطلقة الّتي وَهَبَنا إيّاها الله منذ البدء. إنّ العبد لا يستطيع أن يحبّ لأنّه ينفذّ أوامر سيّده، فالحبّ ينبع من حريّة الإنسان الشخصيّة. فعندما يحبّ العبد إنسانًا معيّنًا، يكون قد مارس حريّته الشخصيّة. إنّ الحبّ هو الحريّة. إنّ مفهوم الحريّة عند الإنسان تَشُوبُه الأخطاء: فالحريّة لا تعني بتاتًا أن يقوم الإنسان بما يحلو له، فإنّ مِثْلَ تلك الحريّة مِن شأنها أن تُعيد الإنسان إلى العبوديّة، فهي تجعله ضحيّة أهوائه البشريّة.
إنّ يسوع هو الكاهن إلى الأبد، إذ إنّه الوحيد القادر على أن يُخلِّص الإنسان من الموت، لأنّه بحسب كاتب هذه الرسالة “قدَّمَ بِصُراخٍ شديدٍ وَدُموعٍ طَلَباتٍ وَتَضرُّعاتٍ للقادر أن يُخلِّصه”، فهو الّذي صرخ إلى الله كي يُخلِّص البشر، وقد استجاب الله له، وخلّصهم بواسطته. إنّ كلّ كهنة الشعب اليهوديّ ينتمون إلى سلالة هارون الكهنوتيّة غير أنّ “مَلْكِي صادَق”، هو الكاهن الّذي تمّ ذِكره في الكتاب مِن دون أن تُعرَف سلالته، وبالتّالي فإنّه لا ينتمي إلى السلالة الكهنوتيّة. إنّ المسيح هو بادِئ الكهنوت وخاتِمَه، ومفسِّره. إنّ الكهنوت في الفكر الشرقيّ القديم لا ينبع مِن بَرَكَة الله إنّما مِن سرّ الإفخارستيّا، أي أنّ الكاهن يُولَد من كأس الذبيحة، لا العكس، فبدون سرّ الإفخارستيّا لا ضرورة لوجود كهنة. إخوتي، فلنَجتَهد كي نُدرِّب حواسنا على التمييز بين الخير مِن الشَّر. آمين.
ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ مِنْ قِبَلِنا.