تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“رسالة بولس الرّسول إلى العبرانيّين – الإصحاح السّادس”
النّص الإنجيليّ:
“لذلك، ونَحنُ تارِكون كلامَ بداءَةِ المسيحِ، لِنَتَقدَّم إلى الكمال، غيرَ واضِعينَ أيضًا أساسَ التّوبة مِن الأعمالِ الميِّتَةِ، والإيمانِ بالله، تعليمَ الـمَعموديّات، وَوَضعَ الأيادي، قيامة الأمواتِ، والدَّينونَةَ الأبديّةَ، وهذا ما سنَفعَلُهُ إنْ أَذِنَ الله. لأنَّ الّذينَ استُنِيروا مرَّةً، وذاقوا الـمَوهِبَةَ السّماويّةَ وصاروا شركاءَ الرّوحِ القدسِ، وذاقوا كلمة الله الصَّالِحةَ وقُوّاتِ الدَّهر الآتي، وسَقَطُوا، لا يُمكِنُ تَجديدُهم أيضًا للتّوبةِ، إذ هُم يَصلِبُونَ لأنفسِهِم ابن الله ثانيةَ ويُشَهِّرونَهُ. لأنَّ أرضًا قَد شَرِبَت الـمَطَرَ الآتيَ عليها مِرارًا كثيرةً، وَأَنْتَجَتْ عُشبًا صالِحًا للّذينَ فُلِحَتْ مِن أَجلِهِم، تنالُ بركةً مِنَ الله. ولكنْ إنْ أَخرَجَتْ شَوكًا وَحَسَكًا، فَهيَ مَرفوضَةٌ وقربيةٌ مِنَ اللَّعنَةِ، الّتي نهايتُها للحريق. ولكنّنا قَد تَيَقَّنا مِنْ جِهَتِكم أيّها الأحبّاءُ، أمورًا أفضلَ، ومُختَصَّةً بالخلاص، وإنْ كُنَّا نتكلَّم هكذا. لأنَّ الله ليس بِظالمٍ حتّى يَنسى عمَلَكم وتعَبَ المحبَّةِ الّتي أَظهَرتُموها نَحوَ اسمِه، إذ قَد خَدَمتُم القدِّيسين وتخدمونهم. ولكنّنا نشتهي أنَّ كلَّ واحدٍ مِنكم يُظهِرُ هذا الاجتهادَ عَينَهُ لِيَقِينِ الرَّجاءِ إلى النِّهايةِ، لِكَي لا تَكونوا مُتباطِئينَ بل مُتمثِّلينَ بالّذينَ بالإيمانِ والأناةِ يَرِثُونَ الـمَواعيدَ. فإنَّه لـمّا وَعَدَ اللهُ إبراهيمَ، إذ لم يَكُنْ لَهُ أَعظَمُ يُقسِمُ بهِ، أَقسَم بِنَفسِه، قائلاً: “إنّي لأُبارِكَنَّكَ بَرَكَةً وأُكَثِّرَنَّكَ تكثيرًا”. وهكذا إذْ تَأَنَّى نالَ الـمَوعِدَ. فإنَّ النَّاسَ يُقسِمُونَ بالأَعظَمِ، ونِهايَةُ كلِّ مُشاجرةٍ عِندَهم لأجل التَّثبيتِ (البُرهانِ) هيَ القَسَمُ. فلِذلِكَ إذْ أرادَ اللهُ أَنْ يُظهِرَ أَكثَرَ كثيرًا لِوَرَثَةِ الـمَوعِدِ عدَمَ تَغيُّرِ قضائِه، تَوَسَّطَ بِقَسَمٍ، حتّى بِأَمرَين عَديمِي التَّغيُّرِ، لا يُمكِنُ أنَّ اللهَ يكذِبُ فيهما، تَكُونُ لنا تعزيةٌ قوِيَّةٌ، نحن الّذينَ التَجأْنا لِنُمسِكَ بالرّجاءِ الموضوعِ أمامنا، الّذي هوَ لنا كَمِرساةٍ للنَّفسِ مُؤتمنةٍ وثابتةٍ، تَدخُلُ إلى ما داخِلَ الحِجابِ، حيثُ دخَلَ يسوعُ كسابق لأجلنا، صائرًا على رُتْبَةِ مَلكِي صادَقَ، رئيسَ كهنةٍ إلى الأبد.”.
شرح النّص الإنجيليّ:
إنّ موضوع هذا الإصحاح هو صِدقُ وعدِ الله: إنّ الله قد أقسم بذاته للإنسان علَّه يُصدِّق هذا الأخير وعود الله له، غير أنّ تحقيقَ الله لمواعيده يستغرق وقتًا طويلاً، وبالتّالي على الإنسان التحلّي بالصبر والاجتهاد والإخلاص. إنّ إبراهيم يشكِّل مثالاً للإنسان المنتظِر تحقيق مواعيد الله. إنّ المؤمِن يَخرجُ مِن جرن المعموديّة قدِّيسًا، ولكن في مسيرة حياته، يرتكب الخطايا نتيجة أهوائه البشريّة، وهذا الأمر يدفع بالمؤمِن إلى أن يَطرح السؤال على ذاته: كيف السبيل للعودة إلى حياة القداسة؟ إنّ المعموديّة لا تُمنح إلاّ مرّة واحدة، وبالتّالي لا يمكن للمؤمِن الحصول على العماد في كلّ مرّة يخطئ فيها. إنّ كاتب الرسالة أراد وَضعَ التعليم جانبًا ليُركِّز على”الّذين استُنيروا مرّةً، وذاقوا الموهبة السّماويّة، وصاروا شركاء الرّوح القدس، وذاقوا كلمة الله الصَّالِحةَ وقُوّاتِ الدَّهر الآتي”. إنّ الاستنارة تعني المعموديّة، وبالتّالي فالمقصود بعبارة: “الّذين استُنِيروا”، أولئك الّذين آمنوا بالمسيح فنالوا المعموديّة. إنّ “سبت النّور” قد عُرِف بهذا الاسم، في العصور الأولى للمسيحيّة، لأنّه فيه كانت تتمّ المعموديّة، ليتمكّن الّذين نالوا هذا السّر مِن المشاركة في عيد الفصح، أمّا في العصور اللّاحقة، فقد نُسِبَت هذه التسمية، إلى النّور الّذي يَفيض من قبر المسيح، في يوم السبت، فجر القيامة.
إنّ الله قد صَدَق في مواعيده للبشر، فحقَّقَ كلَّ ما وعدهم به، غير أنّ الإنسان غير قادر على الإخلاص لله، إذ يبقى ضعيفًا مُعرَّضًا للسقوط في الخطيئة نتيجة أهوائه البشريّة. إنّ الله لا ينسى أيّ عملٍ صالح يقوم به الإنسان، حتّى بعد سقوطه في الخطيئة، ولكنّ الإنسان لا يستطيع أن يكتشف عظمة رحمة الله وَصِدق مواعيده، إلّا إن تحلّى بالصبر والاجتهاد. إنّ القدِّيس أنطونيوس الكبير، الّذي نحتفل بعيده اليوم، هو خيرُ مثالٍ لنا عن ذلك: فهو قد تخلّى عن العالم حبًّا بالمسيح، لا كراهية بالعالم، تخلّى عنه لأنّه وجد في المسيح، ما يؤمِّن له سعادةً أكبر وغنىً أكثر. إنّ الإنسان لا يتخلّى عن الأمور الدنيويّة لأنّها سيئة، بل يتخلّى عنها على الرّغم من صلاحها ومنفعتها، لأنّه لا يستطيع الاحتفاظ بها إن كان يريد الحصول على وعود الله. إنّ التخلّي عن الأمور الدنيويّة لا يعني بتاتًا، عدم استعمال الإنسان لها مجدّدًا، إنّما يعني عدم بناء مصيره عليها. صحيحٌ أنّ المعموديّة لا تُمنَح للإنسان إلّا مرّة واحدة، ولكنّه يستطيع إعادة عهد معموديّته، عندما يتذكّر عطايا الله ورحمته له، فيسعى إلى تحسين مسيرته الإيمانيّة مع الربّ. فكما أنّ الأرض تُنبت عشبًا صالحًا إن ارتوت لمدّة طويلة جرّاء تساقط الأمطار، كذلك حال الإنسان إذ لا يمكنه أن يتغيّر ويتحسّن بطريقة سريعة، إنّما يتغيّر نتيجة محاولاته المستمرّة للتغيير، فالتغيير يتطلّب وقتًا. أمّا الإنسان الّذي لا يريد أن يتغيّر، فَحالُه تُشبِه أرضًا غير صالحة، إذ لا تُنبِت إلاّ حسكًا وشوكًا على الرّغم من توافر المياه لها. ويُضيف كاتب الرسالة قائلاً: “ولكنّنا قَد تَيَقَّنا مِنْ جِهَتِكم أيّها الأحبّاءُ، أمورًا أفضلَ، ومُختَصَّةً بالخلاص، وإنْ كُنَّا نتكلَّم هكذا لأنَّ الله ليس بِظالمٍ حتّى يَنسى عمَلَكم وتعَبَ المحبَّةِ الّتي أَظهَرتُموها نَحوَ اسمِه، ولكنّنا نشتهي أنَّ كلَّ واحدٍ مِنكم يُظهِرُ هذا الاجتهادَ عَينَهُ لِيَقِينِ الرَّجاءِ إلى النِّهايةِ لِكَي لا تَكونوا مُتباطِئينَ بل مُتمثِّلينَ بالّذينَ بالإيمانِ والأناةِ يَرِثُونَ الـمَواعيدَ”. إنّ المؤمِن يعيش صراعًا دائمًا ما بين تحقيق رغباته الدّنيوية، وما بين سعيِه لإرضاء الله، وهذا ما قد يُشعِره بالإحباط واليأس. على الإنسان أن يكون حكيمًا فيتمكّن من إعطاء كلّ أمرٍ قيمته الحقيقيّة، فلا يجعل الأمور الدّنيويّة في نظره تفوق عطايا الله قيمةً. إنّ الإنسان لا يذكر من أعمال الآخرين تجاهه إلّا سيئاتها حتّى وإن كانت أعمالهم في غالبيّتها صالحة تجاهه، أمّا الله فإنّه لا يتذكّر من أعمال النّاس إلّا الصالحة منها.
إنّ الله قد أقسم بنفسه لإبراهيم، إذ لم يجد شيئًا أعظم مِن نفسِه يُقسِم به. إنّ الإنسان يبقى مُشكِّكًا في كلام أخيه الإنسان وغير مصدِّقٍ له إلى أن يُقسِم هذا الأخير بأغلى ما عنده. استخدم الله لغة البشر، فأقسَم بذاته – مع أنّ القَسم لا يجوز حسب وصايا الله-عسى الإنسان يُصدِّق كلام الله، لكنّ محاولات الله هذه لإقناع البشر باءت بالفشل، إذ بَقِيَ الإنسان غير مُصدِّقٍ لوعود الله. إنّ الله حلف بنفسه لإبراهيم، قائلاً: “إنّي لأُبارِكَنَّكَ بَرَكَةً وأُكَثِّرَنَّكَ تكثيرًا”، ولكن كاتب الرسالة يُضيف أنّ ابراهيم قد نال الموعد لأنّه تأنّى وصبَرَ. إنّ الله قد وعد إبراهيم بالكلام، ولكنّ ابراهيم صدَّق كلام الله، وفي هذا تكمن ميزة ابراهيم: ففي الطبيعة البشريّة، لا يُصدِّق الإنسان وعود أخيه الإنسان إلّا عندما يُحقق هذا الأخير ما وعد به، فيُقال فيه إنّه صادقٌ في مواعيده. إذًا بحسب حكمة البشر، الإيمان يأتي بعد تحقيق الوعود، أمّا ابراهيم، فقد آمن بالله مستندًا إلى كلامه فقط، أي قَبلَ أن يُحقّق الله وعوده. وفي هذا يكمن برّ ابراهيم، إذ عاش حياته واثقًا أنّ الله سيُحقّق ما وعده به، حتّى قَبلَ أن يتحقّق. إنّ ابراهيم قد جعل كلام الله مساويًا لعمله. عندما يثق الإنسان بمواعيد الله، ويعيش على أساس أنّها تحقّقت، فإنّ كلّ شدّة قد يعاني منها الإنسان فيما بعد لن تتمكّن مِن فَصلِه عن محبّة الله.
إنّ مشكلة الإنسان تكمن في عدم قدرته على الصبر طويلاً والانتظار كي تتحقّق مواعيد الله له. إذًا، المشكلة تكمن في طُولِ الزمن ما بين وعد الله للإنسان بالكلام، وبين تَحقُّق هذا الوعد. إنّ القدِّيسين قد انتظروا برجاءٍ كبير أن تتحقّق مواعيد الله لهم في هذا الزمن، وعلى المؤمِن الاقتداء بهم، فلا يكون انتظاره مضيعةً للوقت، إنّما يكون انتظارًا يملؤه الرّجاء بأنّ الله سيُحقّق ما وعد البشر به، مهما طال الانتظار. إنّ الإيمان هو انتظار المؤمِن لمواعيد الله، انتظارًا مقرونًا بالصبر والرّجاء، قادرًا على زرع الفرح والقوّة في قلب المؤمِن فيستمرّ في الانتظار دون ملل. في حياته الرهبانيّة، لم يكن مار انطونيوس الكبير في غاية السّعادة، فهو قد عانى مِن تجارب الشيطان له في جسده، فهو كان يشعر بوجع الانتظار وبضرورة الصبر على الشِّدة إلى أن تتحقّق مواعيد الله.
إنّ القدِّيس أنطونيوس قد آمن بأنّ كلمة الله هي فاعلة على الرغم من عدم تحقّقها بعد، وعاش كما ابراهيم، مرتكزًا على كلمة الله وكأنّها قد تحقّقت فعلاً. إنّ مار انطونيوس، قد تَرَكَ هذا العالم، وتَبِعَ المسيح: إنّ التخلّي عن هذا العالم، واتّباع المسيح هما أمران متلازمان أي أنّ الإنسان لا يترك كلّ شيء في هذا العالم، إنْ لم يجد في الله كلّ شيء، فالترك لا يكون من دون سبب. إنّ الفلسفة الماديّة تقوم على أن يترك الإنسان هذا العالم كراهيّةً بالمادة، غير أنّ المؤمن الحقيقيّ لا يترك هذا العالم لأنّ الأمور الدنيويّة لا صلاح فيها، بل يتركها لأنّه أحبّ المسيح أكثر منها.
ليس على الإنسان أن يترك شيئًا عن كراهيّة فيه، فالكراهيّة تؤذي صاحبها. لذا، على الإنسان ألّا يسمح للكراهيّة بأن تتسلّل إلى أعماقه تحت أيّة حجةٍ كانت. كما على الإنسان ألّا يترك الخطيئة كراهيّةً بها، بل حبًّا بالمسيح، وبالصلاح. إنّ الإنسان يترك الخطيئة لأنّ ارتكابه لها يؤدي إلى خلق هوّة بين المؤمن والله. إنّ الخطيئة تنبع من رغبة صالحة عند الإنسان ولكنّها تتحوّل إلى خطيئة عندما يقوم بها الإنسان بطريقة لا يرضى الله عنها. إنّ كلّ شيءٍ هو صالح، غير أنّ نظرة الإنسان الخاطئة له وتفكيره فيه، هو ما يجعله يتحوّل إلى أمر غير صالح بِنَظرِه، وهذه النظرة السلبيّة إلى الأشياء تُعبِّر عن وجود تَشوُّهٍ في علاقة الإنسان بالله. إنّ عمل السرّقة هو خطيئة بكلّ تأكيد على الرّغم من أنّ الإنسان لا يسرق شيئًا غير صالح، بل يسرق أمورًا صالحة، فالمال هو أمرٌ صالحٌ بحدّ ذاته، لكنّه يتحوّل إلى خطيئة انطلاقًا من نظرة الإنسان له ومِن تفكيره فيه. كذلك الجسد، فهو أمرٌ صالحٌ غير أنّ نظرة الإنسان إليه هي مَن تجعله موضوع زنى.
إذًا، إنّ نظرة الإنسان وتفكيره في الأمور يحوّلان تلك الأشياء إلى خطيئة، وبالتّالي على الإنسان أن يُصحِّح نظرته إلى الأمور انطلاقًا من علاقته بالله. إنّ الإنسان الّذي ترك خطيئة الزنى عن كراهيّةٍ بها، لا عن حبٍّ بالمسيح، فإنّه بهذا الفعل يحوِّل كراهيّته لا إلى الخطيئة بحدّ ذاتها إنّما إلى الآخر، شريكه في هذه الخطيئة. إذًا، على الإنسان أن يتخلّى عن الأمور الدنيويّة حبًّا بما هو أسمى وأفضل أي بالله، لا عن كراهيّة للأمور بحدّ ذاتها. إنّ الإنسان الّذي يترك الخطيئة نتيجة كراهيّته بها، يضع نفسه في خطر كبير إذ عليه التنبّه من عدم عودته إلى الخطيئة نفسها عند زوال كراهيّته لها. إنّ مَن يترك الخطيئة نتيجة حبّه لله وعشقه له، لن يعود إلى الخطيئة نفسها مهما اشتّدت الـمِحَن عليه، لأنّ مَن يحبّ، لا يعود يهتمّ إلاّ بإرضاء المحبوب، ولا تعود للأمور الأخرى أيّة أهميّة، فلا تعود تَلفِتُ انتباهه.
في الحياة المسيحيّة، لا يمتنع المؤمِن عن أمور صالحة كراهيّةً بها بل حبًّا بالمسيح. ففي الصوّم مثلا، لا يمتنع المؤمِن عن الطعام نتيجة كراهيّته لبعض أصنافه، أو لأنّ الطعام هو غير صالح بحدّ ذاته، بل على العكس مِن ذلك، فالطعام على أنواعه مفيد للإنسان. إنّ فَكّ الإنسان في الطبيعة، مُعدّ لتناول اللّحوم والأعشاب، وبالتّالي فإنّ اللّحوم الّتـي يمتنع عنها الإنسان في فترة الصوم هي أطعمة مسموحة طبيعيًّا للإنسان. إنّ الإنسان يترك الطعام في النصف الأوّل من نهاره في فترة الصوم، حبًّا بالله وبالفقير المحتاج. إنّ حبّ الإنسان للفقير يدفعه إلى عيش الصوم بكلِّ فرحٍ وقناعةٍ تامّة، لا عن إحساسه بأنّ الصّوم فريضة يجب الالتزام بها.
إنّ الإنسان الّذي يترك الطّعام نتيجة كراهيّته له، أو لأنّه يرى الطعام أمرًا سيّئًا، فإنّ الصّوم بالنسبة لهذا الإنسان، هو همٌّ وفريضة إجباريّة يجب القيام بها. إنّ الصّوم ينبع من رغبة صالحة عند الإنسان، ولا يجب أن تتحوّل إلى مصدر لخصومة البعض مع الطّعام. إنّ أساس الصوّم هو الفرح، ولا يجب أن يتحوّل سببًا للكآبة. فكما هي حال الصّوم، كذلك هي حالة الصّلاة، إذ لا يجوز للمؤمِن أن يعيشها على أنّها فرضٌ واجبٌ عليه يجب القيام به، لأنّه حينها يحوّل صلاته إلى مصدر للضجر والتشتّت، لا إلى وقت مميّز يقضيه الإنسان مع المحبوب، أي الله. وكذلك الأمر بالنسبة إلى أعمال الرّحمة، إذ إنّها ليست أعمالًا مفروضةً على المؤمن، بل يجب أن تكون صادرة عن محبّة الإنسان للّه.
إنّ المسيح، حين تجسَّدَ على أرضنا، أراد أن يُلغي مفهوم الإنسان للشريعة، فالوصايا ليست لائحة بالمسموح والممنوع. إنّ مِثلَ تلك اللائحة تُدخِل الإنسان في حالةٍ من الكراهيّة والعداوة مع الأمور الممنوعة، إذ إنّ كلّ أمرٍ ممنوع بالنسبة للإنسان، هو أمرٌ سيّئ بحدّ ذاته، ويحمل في طيّاته سلبيّة معيّنة. إنّ كلّ سلبيّة تحوي في طيّاتها نوعًا من الخصومة الداخليّة والروحيّة عند الإنسان، فَمَثلاً إن عاش الإنسان حالة من الخصومة مع الطعام في فترة الصّوم، فإنّ هذا سينعكس عند المؤمن، خصومة مع الله، مع ذاته، وكذلك مع الآخرين. إذًا، بتجسُّده، استبدل المسيح فكر الشريعة الّذي كان سائدًا في ذلك الحين، بشريعة الحبّ. إنّ شريعة الحبّ، تقوم على تخلّي الإنسان عن بعض الأمور، لأنّه يحبّ المسيح، لا لأنّه لا يحبّ الأمور الّتي يتخلّى عنها. إنّ الراهب يختار الحياة الرهبانيّة لا كراهيّةً بالعالم، إنّما حبًّا بالمسيح. إنَّ مَن يترك الحياة الرهبانيّة لا يتركها تعبيرًا عن كراهيّته للإخوة، بل يترك تلك الحياة لأنّه يحبّ أمرًا آخر. إنّ المؤمِن يصِل إلى إتِّزانِه الروحيّ عندما يبحث عن الحبّ في كلّ أمرٍ يقوم به.
إنّ المؤمِن يُفتِّش عن الحبّ تعبيرًا عن طول أناته في انتظاره كي يحقّق الربّ ما وعد به البشر، فالبحث عن الحبّ يرتكز على رجاء الإنسان بالله وإيمانه به. على المؤمن أن يتمتّع برجاء كبير أنّ الله سيحقّق وعده، على الرغم من البراهين الملموسة الّتي قد نجدها في الحياة، وقد تدفعنا إلى الاعتقاد أنّ الله هو خيال وَوَهمٌ، لذا لا داعي للانتظار. إنّ الله، بالنسبة للمؤمِن، هو حقيقة لا يمكن نكران وجودها مهما حاول العالم إقناعه بالعكس، تماماً كما كانت حالة العلماء “نيوتن” و”غاليليه” على سبيل المثال، إذ لم يتمكّن أحد من اقناعهما بعدم صّحة ما توصلا إليه من نظريّات حول كرويّة الأرض وجاذبيّتها، فالإيمان بقضيّة معيّنة لا يرتكز على البراهين العلميّة إنّما على حبّ الإنسان لها. إنّ الله لم يطلب من ابراهيم الإيمان بالله في فكره فقط، إنّما طلب منه التخلّي عن كلّ ما قد يؤمِّن له وجوده، إذ طلب منه أن يترك أرضه وعشيرته وبيت أبيه، وأن يتبع كلمة الله الموعودة.كان يستطيع يسوع أن ينزِل عن الصّليب، ويتحوّل إلى زعيم يهوديّ، غير أنّه رفض ذلك لأنّ رجاءه بأبيه لا حدّ له، فهو على ثقةٍ بأنّ الله سيحقّق ما وعده به، وإن لم يتحقّق ذلك قبل موته على الصّليب. إنّ يسوع لم يقبل بالموت، لأنّه لا يحبّ الحياة، بل قَبِلَ به حبًّا باللّه أبيه، والدليل على أنّه يحبّ الحياة، هو إظهاره لعظمة حبّه للبشر،
إذ غفر لصالبيه. إنّ المنطق البشريّ يقضي بأن يكره الإنسان مَن سعى إلى أذيّته، أمّا منطق يسوع، فهو منطق الله، إذ لم يكره مَن قام بأذيّته بل على العكس مِن ذلك، فهو قد غفر لهم لأنّه يحبّهم. على المؤمِن أن يسلك بحسب ناموس المسيح، ناموس الحبّ، أي ناموس الصّليب، فـ”كلمة الصّليب عند الهالكين حماقة، أمّا عند المخلَّصين فهي قوّة الله”، بحسب قول بولس الرّسول. على المؤمِن أن يترك أمور هذه الدّنيا ليتعلّق بربّ الآخرة، أي الله. إنّ كاتب الرسالة يدعو سامعيه إلى عدم التّلهي بخطاياهم لأنّهم حصلوا على كلّ شيء، حين نالوا العماد. على المؤمِن أن يكرِّس الوقت الـمُعطى له في هذه الحياة للبشارة بالمسيح والتعبير عن حبّه له من خلال خدمته للآخرين، لا أن يقضيه في التحسُّر على خطاياه، لأنّه يستطيع أن يتوب عن خطاياه وأن يُعوِّض عنها. على المؤمِن ألّا يكره نفسه، بسبب الخطايا الّـتي ارتكبها، لأنّه بهذا الفعل، يكون قد قتل نفسه، وقتل الآخرين، إذ لم ينقل إليهم البشارة. إنّ مَن يُحِبّ نفسه، يمنح نفسه فرصةً للخلاص، وعندها سيترك خطاياه.
إنّ الإنجيل لم يتكلّم عن الكراهيّة بل عن الحبّ، ودعا كلّ المؤمنين بالمسيح إلى أن يحبّوا أعداءهم. إنّ اليهود لم يقبلوا بكلام المسيح هذا، لذا حاولوا تشويه صورة العدّو كي يتمكّنوا مِن إيجاد عذرٍ لكراهيّتهم. لم تكن نيّة المسيح، دفع المؤمنين إلى الشعور باليأس والإحباط حين طلب منهم أن يمشوا مِيلَيْن مَع مَن يسخِّرهم للمشي، وأن يُعطوا رداءهم لمن يطلب منهم ثوبًا، وأن يُديروا خدودهم اليُسرى لمن يضربهم. إنّ المسيحيّ الحقيقيّ هو ذاك الّذي يرفض عيش اليأس والإحباط. إنّ المسيح لم يكره الفقر، لكنّه أحبّ الفقراء وسعى إلى إبعاد الفقر عنهم. إنّ الله لا يرغب في أن يطلب الإنسان الألم، فالألم ليس وسيلة للقداسة، إذ على الإنسان أن يحافظ على صحتّه، وأن يقبل بالألم، حين يتعرّض له بكلّ فرح. فالقدِّيسون لم يطلبوا الألم كوسيلة للقداسة، بل طلبوا الألم، حبًّا بالمسيح وقد أرادوا التعبير عن حبّهم هذا عبر طلبهم من الله أن يشاركوا المسيح في آلامه.
إذًا، القداسة تكمن في كيفيّة مواجهة المؤمِن الألم بفرح، إذ على المؤمِن أن يواجه مرضه لا كراهيّةً بالمرض والألم، إنّما حبًّا بالمسيح. ومن هنا، أودّ الإشارة إلى رفضنا لمفهوم إماتة الجسد والنّفس، إذ إنّ تعذيب الجسد، الّذي هو نعمةٌ من الله، لن يساعد المؤمِن للانضباط في حياته الروحيّة. فعلى المؤمنين استبدال مفهوم إماتة الجسد وتعذيبه، بمفهوم إماتة الأهواء والخطايا، لأنّ في ذلك منفعةٌ روحيّةٌ وتقدُّمًا صوب القداسة. على المؤمِن إذًا، أن يعمل على ترتيب طريقة تفكيره، ليتمكّن من ضبط جسده وأهوائه. إنّ الصوم لا يهدف إلى تجويع الجسد، بهدف تعذيب الجسد، إنمّا يهدف إلى دفع الإنسان من خلال الامتناع عن الطعام إلى ترويض جسده وأهوائه، حتّى يصل إلى القداسة، فيحصل على الخلاص. إنّ الصوم يشكِّل فرصةً للمؤمِن كي يفهم معنى الصوم الحقيقيّ، فمتى تَوَصَّل إلى إدراك معناه يستطيع عندئذٍ أن يتناول الطعام، إذ إنّ هدف الصوم هو ترويض النّفس لا الامتناع عن الطعام لقهر الجسد.
إنّ الصوم والصلاة، قد تحوّلا عند بعض المسيحيّين إلى أصنامٍ، إذ يُقدِمون على الصوم والصلاة كأنّهما فريضتان يجب تقديمهما لإرضاء الإله. على المؤمِن أن يفهم المعنى الحقيقيّ للصّلاة والصّوم، وأن يعيش الهدف المرجوّ منهما، وإلّا فلا فائدة منهما. إنّ هدف تلاوة المسبحة، عند المسيحيّين الأقدمين، كان تمرين الإنسان على أن يجعل مِن نَفَسِه مرتبطًا بالله، وقد كانت المسبحة إحدى الوسائل المستخدمة لمحاربة التشتت أثناء الصّلاة، ولإبعاد الأفكار الشريرة عن عقل الإنسان. إنَّ تَحَوُّل الصلاة إلى قانونٍ إجباريّ على المؤمِن، يدفعه إلى النفور من الصّلاة، وبالتّالي إلى الابتعاد عن الله، واللّجوء إلى البِدَع الّتي مِن شأنها زرع الكراهيّة في النّفوس. إنّ الكنيسة البروتستانتينيّة نشأت نتيجة نفور بعض المؤمنين من رتابة الصلاة وتَحَوِّلها إلى أصنام، إضافة إلى النفور مِن سُلطَة رجال الدّين الّذين حوَّلوا الإيمان إلى لائحة من الأمور الممنوعة، والأمور المسموح بها.
إنّ الكنيسة قد انشقت إلى قسمين: كنيسة كاثوليكيّة وأخرى أرثوذكسيّة، نتيجة اعتبار الواحدة أنّها تملك حقيقة الله، وأنّ الأخرى على خطأ، وكانت الواحدة تتذرّع بحجة الدفاع عن الله، فترفض إيمان الأخرى، فكانت النتيجة ابتعاد الاثنتين عن حبّهما للمسيح، أي عن الإيمان الصحيح. إنّ المسيح لم يكن بحاجة إلى أحد كي يدافع عنه، فهو يستطيع الدفاع عن ذاته. إن الانشقاق بين الكنيستيْن، أدّى إلى خلق كراهيّة وعدائية في نفوس المؤمنين المنتمين إلى هاتين الكنيستين، ولذا أصبحت الوحدة فيما بينهما صعبة المنال مِن دون تدّخل إلهيّ، لأنّ الكراهيّة ترسّخت في نفوس المؤمنين، وهي الآن تسربّت إلى نواحي متعدّدة في حياتهم الإيمانيّة. إنّ كراهيّة الإنسان لأمر معيّن، تُشير إلى امتلاكه طاقة كبيرة كي يكره العالم كلّه، لأنّ كراهيّته لأمرٍ معيّن ستتسرّب مع الوقت إلى كافة نواحي حياته، وبالتالي فلن يتمكّن المؤمِن من أن يعيش الفرح الحقيقيّ لإيمانه بالله، ولن يستطيع أن يتوب توبةً حقيقيّة إن بَقِيَ مُحتفظًا بكراهيّته لبعض الأمور، فالتوبة تقتضي نزع الكراهيّة من النفوس، لأنّ الكراهيّة تتنافى مع ناموس المسيح، ناموس الحبّ. إنّ كلّ عملٍ صالح، مهما كان صغيرًا، هو تعبير حبٍّ لله، مِن قِبَل المؤمِن. على المؤمِن الافتخار بحبّه للمسيح، الّذي منحه النّعمة كي يقوم بهذه الأعمال الصالحة تعبيرًا عن حبّه له. على المؤمِن ألّا يسعى إلى الأعمال الصالحة الكبيرة فَحَسب، بل عليه أيضًا أن يشعر بالفرح والتعزيّة الإلهيّة في كلّ عملٍ صالحٍ يقوم به.
علينا دائمًا أن نتذكّر الآية القائلة:”إلى مَن نذهب يا ربّ وكلام الحياة الأبديّة عندك؟”، فلا نهدر الوقت الـمُعطى لنا بالتّلهي بخطايانا والتحسّر عليها، بل ننكبّ على إعلان البشارة. إنّ الله لن يستعمل القوّة لإبقائك معه، ولا نستطيع استمالة الله للتصرّف بحسب أهوائنا البشريّة، بل على المؤمِن أن يسعى كي يكتشف تعزيات الله له في حياته، فيتمكّن المؤمن الّذي كان قد استنار بكلمة الله ونال المعموديّة مِن أن يكون شريكًا للرّوح القدس، لأنّه ذاق المواهب السماويّة، وكلمة الله، وقوّات الدّهر الآتي، على حسب الآية الواردة في هذا الإصحاح من الرسالة إلى العبرانيين.
إنّ المؤمِن ينسى كلّ ما اختبره مع الله، حين يتعرّض للأذيّة أو حين يقع في الخطيئة، وهذا ما على المؤمِن أن يعمل على تصحيحه، لأنّ الدّنيا لا تنتهي ولا تتوّقف عند ارتكابه للخطايا لذا عليه أن يتخطّاها، فيسعى من جديد ليكون من أبناء الملكوت، كما كان حين تعمّد ويسعى إلى نشره على هذه الأرض، وفي نفوس المؤمنين. على المؤمِن أن يتخطّى كلّ خصومة مع الآخر، فلا يدعها تستمرّ لفترة طويلة من الزمن، وعليه التشبّه بالمسيح الّذي لم يُخاصم أحدًا على الرّغم من الإساءات الّتي تعرّض لها، وأنّه لو تَوَقَّف المسيح عند كلّ إساءة لما تمكّن مِن منح المؤمنين الخلاص، ولكانت تحوّلت حياته إلى حياة يَعُمُّها اليأس والإحباط والكآبة.
إذًا، على المؤمِن أن يكتشف تعزيات الله له، وأن يتذكّر دائمًا أنّ الله لن ينسى أعماله الصالحة على الرّغم من خطاياه الكثيرة، لأنّ الله ليس بظالم كما يقول لنا كاتب هذه الرسالة، وبالتّالي على المؤمِن عدم التلّهي بخطاياه والتحسّر عليها، إنّما عليه أن يسعى باستمرار للتعبير عن حبّه لله من خلال إعلانه للبشارة.
ملاحظة: دوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرّف.