تفسير الكتاب المقدّس،

الأب ابراهيم سعد،

“رسالة بولس الرّسول إلى العبرانيّين – المقدّمة” 

هذه السنة سوف نشرح رسالة مار بولس إلى العبرانيين. وشرح الرسالة لا نقصد به بتاتًا تفسير آياتها جميعها، إذ إنّ ذلك يتطلّب الكثير من الوقت، لذا سوف أبدأ في مرحلةٍ أولى، بشرح بُنيَة الرسالة وتركيبتها. إنّ رسالة مار بولس إلى العبرانيين، ليست رسالة، ولا بولس هو كاتبها، ولا هي موجّهة إلى العبرانيين، إنّما عظة ليتورجيّة يتمّ فيها شرح إحدى الرُتَب الكنسيّة، كالقدّاس الإلهيّ أو العماد. أودّ الإشارة إلى أنّ الاسلوب المستخدم في هذه الرسالة ليس أسلوب بولس المتعارف عليه في بقيّة الرسائل. فعندما يُغيّر أحد الكتّاب أسلوبه، يتجرّأ القارئ على القول إنّ الّنص الّذي بين يديه ليس حقًا للكاتب المقصود بل لآخر، وكقارئ وناقد أدبيّ، أسعى إلى تأكيد وجهة نظري عبر الطعن بالنّص وإظهار أين يكمن هذا الاختلاف في الأسلوب، وهذا ما يُطلق عليه “النقد الأدبيّ”. فمثلاً، إن قرأت نصًّا قيل إنّه لشكسبير ووجدت فيه اختلافًا في الأسلوب، أستطيع أن أطعن في النّص مقدّمًا البراهين على اختلاف الأسلوب. فالنّص قد يكون لأحد تلاميذ الكاتب وليس للكاتب نفسه، ولكنّه مكتوب بروح الكاتب. هكذا هو الأمر بالنسبة إلى رسالة مار بولس إلى العبرانيين، فالمرجّح أن يكون قد كتبها أحد تلامذة بولس، أو أحد الأشخاص الّذين عرفوه، بدليل الاختلاف في الأسلوب بين هذه الرسالة وباقي رسائل مار بولس، فالعبارات الّتي غالبًا ما يستخدمها بولس في الرسائل غير متوافرة في هذه الرسالة. إذًا، هذا أحد الأدلّة على أنّ هذه الرسالة ليست لبولس مع أنّ التقليد الكنسيّ يؤكِّد عكس ذلك. إنّ هذه الرسالة ليست موجّهة إلى العبرانيين، لأنّه إن كان بولس كاتبها، فهو غالبًا ما يوجّه رسالته إلى مدينة معيّنة كقورنتس، فيلبيّ، أفسس، وغيرها من الـمُدُن، فما من رسالة وجّهها بولس إلى اليونانيين مثلاً، أو إلى العبرانيين. وبالتّالي، فإنّ هذه الرسالة مجهولة المرسَل إليه، إذ لا يوجد أيّ كنيسة أو قرية أو مدينة تُسمّى بالعبرانيين. وهذه الرسالة ليست موجّهة إلى العبرانيين، لأنّ بولس قد توجّه في بشارته للأمم أي للوثنيين، فهل يستطيع أن يوجّه أحد رسالة إلى من لا يعرفهم، أو من لم يبشِّرهم؟ لذلك فمن المحتمل ألّا تكون الرسالة لبولس. أمّا الّذي نسب هذه الرسالة إلى بولس، فهدفه، على ما أعتقد، أن يقيم مقارنة بين هذه الرسالة وبين الكتب الموسوية الخمسة (التكوين، الخروج، تثنية الاشتراع، العدد، اللّاويين).

إنّ هذه الرسالة تشكِّل صلة وصلٍ بين العهد القديم والعهد الجديد، وهذا ما أراده الكاتب، على ما أعتقد، من كتابة الرسالة بهذا الشكل. إن هدف كاتب هذه الرسالة هو أن يستبدل العبرانيون التوراة بهذه الرسالة الّتي تشكّل العهد الجديد بالنسبة إليهم. إنّ الكاتب قد حاول تفسير الكتب الموسويّة في هذه الرسالة، وقد قام بتقسيمها إلى قسمين، فالقسم الأوّل منها متَّصلٌ بشكل مباشر بسفر التكوين. إنّ سفر التكوين يتكلّم عن الخلق، وفي هذه الرسالة يتكلّم الكاتب عن الخلق أيضًا إذ نقرأ: “الله، بعد أن كلَّم الآباء بالأنبياء قديمًا، بأنواعٍ وطُرُقٍ كثيرة، كلّمنا في هذه الأيّام الأخيرة في ابنه، الّذي جعله وارثًا لكلّ شيءٍ، الّذي به أيضًا عمل العالَمِين”، ففي هذه الآيات يتكلّم عن الملائكة والخلق، وبهذا تشبه هذه الرسالة سفر التكوين. ويتابع الكاتب شارحًا عن الخلق فيقول:”وأنتَ يا ربّ في البدء أسَّست الأرض، والسّماوات هي عمل يديك”. إن القسم الثاني من الرسالة لا يبدأ بالضرورة من الإصحاح الثاني منها. فالرسالة تُقسم إلى قسمين متوازيين من حيث عدد الآيات، استنادًا إلى آية تفصل بين القسمين إذ تشكِّل “حجر الزاوية” للرسالة، وعليها يستند بناؤها، إذ بدونها تسقط الرسالة بأكملها، فهذه الآية تشكِّل الإعلان الصريح عن يسوع المسيح.

الآن، سوف ننتقل لتحديد الإطار العامّ للرسالة. إنّ أحد المسؤولين في الكنيسة سُئِلَ مرّةً عن ماهيّة المسيح بالنسبة له فكان جوابه:”الله بعدما كلّم الآباء بالأنبياء قديمًا، بأنواعٍ وطرقٍ كثيرةٍ، كلّمنا في هذه الأيّام الأخيرة في ابنه، الّذي جعله وارثًا لكلّ شيءٍ، الّذي به صنع العالمين، الّذي، وهو بهاء مجده، ورسم أقنومه (جوهره)، وحاملُ كلّ الأشياء بكلمة قُدرتِه، بعد ما صنع بنفسه تطهيرًا لخطايانا، جلس عن يمين العظمة في الأعالي”(عب ا/ 1-3)، وعندما سُئِلَ بعدها مباشرة، عن ماهيّة الرّسول “محمَّد”، فأعطى بكلِّ هدوءٍ الجواب نفسه. فبالنسبة لنا نحن المسيحييّن، يشكِّل المسيح خاتمة الأنبياء، فالله قد قال كلّ ما لديه من خلال ابنه يسوع المسيح، “كلمة الله”، الّذي أرسله في نهاية الأزمنة. إنّ المسيح هو الرسالة وكلّ ما هو خارج عن المسيح هو مرفوض، وغير مقبول. وقد عبّر بولس الرّسول عن هذه الفكرة قائلاً إنّه إن بشَّركم أحد من الملائكة، أو من البشر حتّى لو كنت أنا نفسي بولس، بإنجيلٍ آخر مختلف عمّا بشَّرتكم به في السّابق، فلا تقبلوه، بل انبذوه واطردوه من بينكم.

إنّ الزّمان لم يبدأ مع يسوع بل انتهى معه. ونحن المسيحيّين لا نقوم بتعداد الأيّام الماضية المنصرمة، إنّما ننظر إلى الأيّام المقبلة، بكلّ رجاء. وهذا هو الفرق بين من يقوم بتمزيق ورقة أحد أيّام الروزنامة، فرحًا بمُضِي يومٍ، وبين آخر ينتظر الأيّام المقبلة وهو في حالة توق وانتظار لمجيء المسيح. فحالة الانتظار للمسيح هذه تدفعنا إلى أن نسعى كي نكون على مستوى هذا اللّقاء، وهذا سيشكِّل همّنا الوحيد الّذي يؤدي إلى خلق اهتمامات أخرى لدينا لنكون على مستوى هذا اللّقاء. لكنّ الخطورة تكمن في أن يتشتّت الإنسان ويُضيّع الهدف، فيعتقد أنّ كلّ اهتماماته تصبّ في الهدف ذاته، ولكنّها ليست كذلك في الحقيقة. إنّ هذا الهمّ، وهذا الاهتمام الأوحد بأن نكون على مستوى اللّقاء بالرّب، يدفعنا إلى التحلّي بالهمّة والنشاط والحماس لتحقيق هذا اللّقاء بالرّبّ يسوع. إنّ هذا الاهتمام وهذا الهمّ وهذه الهمّة لا يتمّ البرهان عنها إلاّ من خلال الآخر الّذي نعيش معه. فكلامنا عن انتظارنا للمسيح الآتي الّذي نؤمن به، لا يمكن أن يقتصر على العلاقة بين الإنسان والله فقط، إنّما يتخطّاها ليشمل علاقة الإنسان بأخيه الإنسان وخاصّة المختلف عنه. إنّها حكمةٌ فائقة الوصف، حكمة الله، إذ لم تخلق البشر متشابهين، بل جعلت كلّ شخص منّا فريدًا بحدّ ذاته، ولم يتمكّن الإنسان إلى اليوم، من فهم تلك الحكمة الإلهيّة، على الرّغم من كلّ ما توّصل إليه من علومٍ واختراعات وتقدّم. 

إنّ حكمة الله لم تكتفِ بخلق النّاس، كلّ واحدٍ مختلفٍ عن الآخر، بل تخطّت ذلك، لتصل إلى إتخاذ يسوع المسيح ابن الله جسدًا كسائر البشر ومشاركتنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة، فقد شاركنا بطبيعتنا البشريّة إذ أخذ لحمًا ودمًا بشريّين (عبرانيين 2/ 14). لقد شاركنا المسيح يسوع في طبيعتنا البشريّة وذلك ليخلّص البشريّة بأسرها من الموت. فلو تناسى يسوع اتّخاذ أي شيء من بشريّتنا لما كان قد خُلِّص هذا الشيء، لأنّه ما لم يُتخَّذ لم يُخلَّص. إنّ المسيح لم يتّخذ الخطيئة، لأنّها ليست من الطبيعة البشريّة، فهي أمرٌ طارئ على الإنسان، وليست من صُلب إنسانيّته. إنّ الرّبّ يسوع قد أخذ طبيعتنا البشريّة الّتي تأكل وتجوع، تحزن وتبكي وتعاني الآلام وتموت. إنّ جسد يسوع لم يُفنَ ويُبلَ لأنّه لم يتخّذ الخطيئة، فاستطاع أن يقوم من بين الأموات. إنّ هدف المسيح من تجسّده بين البشر، لم يكن إعطاءهم تعليمًا عقائديًا، بل إظهار ملء حبّه للبشر. إنّ كلّ تعليمٍ عقائدي للدّين يُنتج أشخاصًا بعيدين كلّ البُعد عن الإيمان الحقيقيّ بالمسيح. إنّ واجبنا، إذًا، يعتمد على إظهار حبّ الله لنا لسائر البشر، ليندفعوا ويتحمسّوا للتقرّب من المسيح ومعاشرته، فيكتشفوا، في خطواتٍ لاحقة، حبّ الله الشخصيّ لكلّ منهم: هذه هي أعظم بشارة في العالم.

فإن لم يتمكّن النّاس الّذين نبشِّرهم من التماس حبّ الله لنا، فهم لن يؤمنوا بأنّ الله يحبّ البشر، ولن ينتظروا كي يتمكّنوا من اكتشاف ورؤية حبّ الله لهم. إنّ على حبّ الله لنا أن يصبح مرئيًا من خلالنا. إنّ العهد القديم يستند على فكرة عبادة الشعب لله دون سواه من الآلهة، لأنّه الوحيد الّذي يستطيع أن يعطيهم الفرح الحقيقيّ الّذي لا يزول، وكلّ خللٍ قد يطرأ على هذه العبادة من إشراكٍ لآلهة أخرى في هذه العبادة، ستؤدي حتمًا إلى الموت والهلاك.

إنّ الخير كلّه يكمن في الله، وكلّ ما هو خارج عن الله هو شرّ. إنّ اختصار الشّر بالشيطان فقط، إنّما هو تصغير لحجم الشّر، إذ إنّ كلّ ما هو خارج عن الله هو شرّ. إنّ الشّر قد يتجسّد من خلال كتاب أو عمل أو إنسان. إنّ الشّر ليس الإنسان بحدّ ذاته، إنمّا هو الإنسان الّذي يدفعك إلى الابتعاد عن الله. وكذلك بالنسبة إلى الكتاب، فإن زرع كتابٌ معيّن فيك الحماس للابتعاد عن الله فهو شرّ. والمال في حدّ ذاته، هو خير، ولكن إن دفعك امتلاكه إلى ارتكاب الشّر، فهو يتحوّل إلى شّر. إذًا، الشّر هو كلّ ما يدعوك ويشجّعك على الابتعاد عن الله، حتّى وإن عرض عليك مجرّد المحاولة في الابتعاد عن الله؛ وتصديقك لإمكانيّة وجود إلهٍ آخر غير الله، هو شرّ. إنّ العالم الّذي نعيش فيه، يعيش في أزمةٍ كبرى، نتيجة ابتعاده عن الإله الحقيقيّ، وعدم اكتفائه به. إنّ الاكتفاء بالله لا يعني عدم اللّجوء إلى الأمور الّتي تحتاجها طبيعتنا البشريّة كالأكل والشرب، وغيرها من الأمور الحياتيّة، فالمسيح نفسه قد جاع وأكل ونام. فحذارِ أن يُزايد أيّ إنسانٍ منّا في تقواه على تقوى المسيح يسوع. إذًا، علينا أن نعيش حياتنا بطريقة طبيعيّة أي أن نأكل ونشرب، ونعمل ونهتّم بصحّتنا. إنّ تأثّرت علاقتك بالله، بفقدانك لأمرٍ ما كان يشكِّل لك مصدر أمانٍ، فهذا دليل على أنّ ما فقدته كان إلهًا آخر، بالنسبة لك. فإن سبّب مثلاً فقدانك للمال، الّذي هو أحد مصادر الأمان عندك، اهتزازًا في علاقتك بالله وفي نظرتك إليه، فهذا دليل على أنّك كنت تعبد المال الّذي احتلّ في حياتك مكان الإله الحقيقيّ. وإن دفعك فقدانك لأحد الأشخاص الأعزّاء في حياتك إلى قطع العلاقة مع الله، فهذا يشير إلى أنّ هذا الشخص أصبح مركز أمانك كلّه، وأصبح بالتّالي إلهًا آخر لك بدلاً من الإله الحقيقيّ. إذًا، الصعوبة لا تكمن في علاقة الإنسان بالله، بل تكمن في العيش بعيدًا عن الله.

إنّ الله قد خلق العالم بكلمته الخلاّقة، فما إن قال على سبيل المثال ليكن نورًا، حتّى كان النّور. وليس على سبيل الصدّفة أن يُسمّى يسوع المسيح بـ”كلمة الله”، فالله قد خلق به العالم، وبه قال الله كلّ شيء للبشر. إنّ المسيح هو كلمة الله الخلاّقة. فكلّ شيء يستطيع أن يكون بعيدًا عنك إلّا كلمتك، فهي تنطلق منك باتّجاه الآخر لكنّها تبقى في داخلك. فالكلمة إذًا، تستطيع وحدها أن تكون في مكانين في آنٍ معًا: في داخلك، وفي داخل كلّ سامعٍ لها. إنّ ابن الله، يسوع المسيح، قد استطاع أن يصل إلى الإنسان، مع بقائه على العرش السماويّ في الوقت نفسه، لذلك هو حقًا “كلمة الله الأزليّة”. إنّ كلّ كلمة يتفوّه بها الإنسان هي كلمة خلاّقة إذ تخلق في فكر الانسان السّامع لها صورةً معيّنة تُجسِّد الكلمة المنطوق بها. فما إن أقول مثلاً تفاحةً، سيّارةً، أو امرأةً، حتّى يتبادر إلى أذهانكم صورةً معينّةً عن كلّ كلمة من هذه الثلاث، مع اختلاف بعض الشيء فيما بين الصُوَر. ولكن إن تلفّظت باسم شخصٍ معيّن كـ”أوباما”، “البابا فرنسيس”، “الأمّ تريزيا”، فإنّه ليستحيل تصوّر هذه الشخصيّات بأشكالٍ مختلفة، إذ إنّ ذكر الاسم يفترض ظهور صورة محدّدة في ذاكرتنا لهم، دون أن يحقّ لنا إجراء أي تعديل على تلك الصُوَر. 

إنّ ذكر اسم شخص محدّد، لا يجعل صورته فقط تتبادر إلى أذهاننا، إنّما يخلق له ذكر هذا الاسم حضورًا دامغًا وثابتًا، من دون أن نتمكّن من إلغائه، أو تشويه صورته، مع المحافظة على حقّنا في رفض هذا الإنسان. إنّ الله، بعد أن كلّم شعبه قديمًا بكلّ الطرق، قرّر في آخر الأزمان أن يقول كلّ شيءٍ لشعبه، بواسطة كلمته، أي بواسطة يسوع المسيح الّذي تجسّد في أرض البشر. وبعد أن قال الله كلمته في آخر الأزمان، لم يعد لنا من مبرِّر لنبحث عن كلمات أخرى لله عبر ظهوراته لقدّيسيه، فهو قد قال كلّ شيء بيسوع المسيح “كلمة الله الأزليّة”. وكلّ الكلمات الّتي تَلتْ مجيء الرّبّ، ما هي إلّا تعبير أو ترنيم لله، وهذه كلّها لا يجب أن تنفصل عن يسوع المسيح، فكلّ الكلمات متعلّقة لا محالة بالمسيح.

إخوتي، علينا نَبِذ كلّ ما لا ينسجم مع كلمة الله، حتّى وإن كان يحوي بعض الصّحة، لأنّ الكتاب يخبرنا قائلاً إنّ الله، في آخر الأزمنة، كلّمنا بابنه الّذي جعله وارثًا، لكلّ شيء، وهذا مفاده أن كلّ الميراث قد حصل عليه يسوع المسيح. وإن كنّا نريد الحصول على هذا الميراث، فعلينا اتبّاع المسيح، وأمّا إن كنّا نبحث عن ميراثٍ آخر، فمصيرنا الهلاك بالتأكيد. وهذا بالتحديد ما حصل مع آدم، إذ إنّ الله أعلن له الحقيقة، إذ قال له موتًا تموت إن قرّر الابتعاد عن الله، ولم يكن ذلك الكلام عقابًا من الله لآدم على خطيئته، إنّما كان إعلانًا مسبقًا لنتائج أعمال آدم. وإليكم مثالٌ: إن اشترى أحد أولادكم قطعة حلوى قد تعرّضت للشمس على الرّغم من نصيحتكم له بعدم شرائها. فإن قلت له:”لا يجوز لك شراؤها لأنّك موتًا تموت”، فهذا لا يعني بتاتًا أنّك تعاقبه لأنّه لم يمتثل لكلمتك، بل إنّ ما فعلته هو فقط إعلانٌ مسبقٌ له عمّا سيحدث نتيجة تناوله لها، إذ إنّ صحّته ستتدهور. 

في هذا المثل، لم يعاقب الأب ابنه لأنّه رفض سماع كلمته، بل إنّ الأب حذّر ابنه بهذا الكلام من نتيجة أعماله الطائشة. إذًا، من هذا المنطلق، فاللّه لم يعاقب آدم على أعماله، وابتعاده عنه، إنّما قام فقط بتنبيهه لما سيحدث جرّاء أعماله. إنّ الله يعطي الحريّة للإنسان كي يكون مسؤولاً عن اختياراته وتصرّفاته، من دون أن يتوانى عن تقديم المشورة له باستمرار حين يطلبها. غير أنّ الإنسان يحاول دائمًا أن يكون سيّد ذاته غير آبهٍ لمشورة الله له، فيقوم بأعمال تؤدي به إلى الهلاك. إنّ النبيّ هوشع يذكّر أنّ لا إله حقيقيًّا سوى الله الّذي يعبدونه، وأنّ ما يعتبرونه حياة لهم ليس إلاّ وَهمًا، فيعيد لهم قصتّهم حين كانوا في الصّحراء، حيث لا ماء ولا نبات ولا حياة، حين اكتشفوا أنّ لا أحد يكترث لحالتهم إلاّ الله وحده، الّذي أسرع إلى نجدتهم حين صلّوا إليه وتوسلوه تخليصهم من الموت في الصحراء، فاستجاب الرّبّ لأدعيتهم. إنّ الله قادرٌ على إعطائنا الحياة، حتّى من قلب الصّحراء، غير أنّنا لا ندرك نعمة الحياة وسواها من النِّعَم الّتي يفيضها علينا الرّب عندما نكون في بحبوحة وراحة. فعندما تحتاج إلى شيء وتدرك أنّك لا تستطيع الحصول عليه بقدرتك، وتحصل عليه على الرّغم من ذلك، فتأكدّ حينها أنّ الله هو من منحك إيّاه لأنّك تحتاجه، فلا تتجّرأ على نسب الفضل في ذلك إليك.

إنّ كلمة الله أعطيت اسمًا وهو “يسوع المسيح”، لقد أصبح لها حضور، وهي لا تتفوّه إلاّ بالحقيقة، وتَدُلُّك عليها. وعندما يصبح لكلمة الله حضور، فهذا يفترض منك أن تتناقش معها انطلاقًا من حوار وتحدٍّ. إنّ كلمة الله هي حياة، فإن لم تناقشها ولم تتحدّاها، فهذا يعني أنّك ميّت، أو أنّ تلك الكلمة ميّتة، وبما أنّه من المستحيل أن تموت كلمة الله فهذا يعني أنّك أنت الميّت. إنّ بعض النّاس هم أموات على الرّغم من أنّهم أحياء، والبعض الآخر هم أحياء على الرّغم من أنّهم أموات. فكلمة الله لا تبحث عن إغنائك بالمعلومات إنّما بحضورها أمامك تخبرك عن الحقيقة. والسؤال الّذي يجب أن يطرحه كلّ إنسانٍ على ذاته هو: كيف أحيا في حضرة الله؟ 

إنّ هذا السؤال من شأنه أن يخلق فيك همًّا واهتمامًا وهمّة، فتقرّر نوعيّة علاقتك مع إخوتك البشر. فعلى علاقتك بالله أن تُتَرجَم من خلال علاقتك بالبشر، وعليك أن تتذّكر دائمًا أنّ إلهك قد أصبح بشرًا وقد ساوى نفسه بهم، وجعلهم أحبّاء له، لكن حذارِ أن تستبدل الله بالبشر. لذا عليك أن تنظر إلى أخيك الإنسان وترى فيه المسيح، وتتعامل معه من هذا المنطلق أي أنّ المسيح هو الّذي يسكن فيه. إنّ كلّ مسيحيّ يعاني من غشاوة في الرؤية حين ينظر للآخر، إذ يرى تارةً المسيح فيه، وطورًا يرى الإنسان فقط دون المسيح. إنّ الإنسان لا يستطيع أن يدخل الملكوت من دون المسيح ومن دون الآخر فهما يشكّلان معًا الباب الّذي تدخل من خلاله إلى الملكوت. يجب على الإنسان أن يخدم الآخر المحتاج حقًّا إلى مساعدة، إذ لا يجب أن يسمح للآخر بأن يستغلّه، فيصبح خادمًا لرغباته، وشهواته.

إنّ المسيح قرّر أن يتماهى مع المظلوم، وليس مع الظالم. إنّ المظلوم يحصل على فرصة للخلاص بمعزلٍ عن خطاياه، لأنّه تعرّض للظلم. فإن تعرّض خاطئٌ للظلم، فإن رحمة الرّبّ ستؤازره أكثر من ذلك الّذي لم يرتكب خطيئة، وقام باستمرار بالأعمال الحسنة، ولم يُظلَم. وخير دليلٍ على ذلك هو نصّ لعازر والغنّي في الإنجيل. إنّ الغنّي كان رجلاً يقيم الولائم ويتنعمّ بها ولم يتمكّن من الانتباه إلى ذلك الفقير لعازر المطروح عند بابه، والّذي عانى من القروح فكانت الكلاب تداوي له جروحه فتلحسها. فعندما مات الغني ودُفِن يقول الكتاب: أما لعازر فقد ذهب إلى أحضان ابراهيم بعد موته، أي أنّه حصل على الرفاهية في الحياة الثانية. إنّ كلّ إنسان على هذه الأرض، هو إنسان خاطئ، وبالتّالي لا يمكن أن يكون لعازر وحده معصومًا من الخطيئة، فهو بالتأكيد قد ارتكب الخطايا في حياته. غير أنّ لعازر عانى من الظّلم في هذه الحياة، ومظلوميّته هذه هي الّتي محت كلّ خطاياه أمام الرّبّ بعد مماته، لذلك ذهب إلى أحضان ابراهيم. 

أمّا بالنسبة إلى الغنيّ، فحتّى ولو كان إنسانًا صالحًا من خلال قيامه بكلّ واجباته الدّينيّة، فإنّ كلّ هذه الفضائل ما عادت مرئية للرّب، وذلك لأنّه ظلم أخيه الإنسان، أي لعازر، إذ لم ينتبه لاحتياجاته. إنّ المسيح يدعونا إلى الانتباه إلى جميع المظلومين في هذه الحياة إذ يقول لنا: كنت عطشانَ، مريضًا، ومسجونًا، فإن لم ننتبه إلى مظلوميّة هؤلاء، أصبحنا ظالمين لهم من دون قصدٍ منّا. إن عذاب الغنيّ كان في عدم انتباهه لمظلوميّة لعازر في هذه الحياة. لكن حذارِ من أن تظلم نفسك لتتجنّب الهلاك الأبديّ، لأنّك تكون في هذه الحالة ظالـمًا لذاتك، وبالتّالي فلن تُفلت من العقاب والهلاك الأبديّ. إنّ كلّ مظلوميّة تظهر أمام عينك، عليها أن تدفعك لتطرح السؤال على نفسك عن مدى الرّحمة الّتي تُظهرها تجاه هؤلاء المظلومين. فكلّ مظلوميّة تتعرّض لها، تمنحك فرصةً كي تعيش الرّحمة تجاه الآخر. ولكن السؤال هو: كيف يمكن أن يكون المظلوم، راحمًا في الوقت نفسه؟ هذا ما أتمّه يسوع على الصليب: “اغفر لهم يا أبتاه لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون”، لقد أصبح يسوع المظلوم، إذ تعرّض للصّلب، راحمًا لكلّ من صلبوه، إذ حاول أن يبرّر لهم ظلمهم حين قال إنّهم لا يدرون ماذا يفعلون، مع أنّه يُدرك تمامًا مع الآب، أنّهم يدرون ماذا يفعلون. هذه هي الرّحمة الحقّة، الّتي لا توفِّر طريقة في سبيل حصول الآخر عليها. إنّ الرّحمة مفتاحٌ للتوبة، لأنّه إن عاملت من أخطأ إليك بالرّحمة، تكون قد فتحت أمامه طريقًا للعودة عن ظلمه لك، وبالتّالي طريقًا لتوبته. هنا تجدر الإشارة إلى أنّ الآخر لا يتوب جرّاء تعاملك معه بالرّحمة، إذ إنّ التوبة هي قرارٌ شخصيّ. إنّ أهمّ أسلوب من أساليب الرّحمة، هو أن تجعل الآخر المخطئ بحقّك ينسى خطيئته تجاهك من خلال طريقة كلامك معه وتصرّفك معه. وهذا ما يطلبه الرّب منّا إذ يقول لنا إنّه علينا أن ندير للآخر الذي آذانا، الخدّ الأيمن، في محاولة لجعل الآخر ينسى أذيّته لنا، إذ لا يعود قادرًا على رؤية الخدّ الأيسر حيث ضربنا. 

إنّ يسوع لم يقصد بكلامه هذا، أن نسمح للآخر في التمادي في أذيّتنا. عادةً، عندما يضرب أحدهم آخرًا على خدّه، فإن تلك الضربة يجب أن تكون على الخدّ الأيمن، لكنّ يسوع قال من ضربك على الخدّ الأيسر، ويقصد بذلك، من تعامل معك باحتقار ومذّلة، وقلّة احترام. عندما تتعرّض للاحتقار والمذّلة، تصبح مظلومًا، وإنّ يسوع في هذه الحالة يدعوك إلى أن تصفح عن أخيك الظالم عندما تدير له الخدّ الأيمن حين تلتقي به من جديد، لينسى أنّه قد تسببّ بالآلام لك، فيحصل على رحمتك له، الّتي تشكِّل فرصةً له للتوبة. أمّا إذ التقيت بظالمك، مرّة أخرى، وتعاملت معه على أساس أنّك لم تنسَ له الأذيّة وأنّك تتحيّن الفرصة لتؤذيه، فإنّك بهذه الطريقة، أصبحت أنت الظالم، والمشكلة لم تتوقَّف عند الآخر، بل تخطّته لتصل إليك، فالمشكلة إذًا تكمن فيك الآن. إنّ الإنجيل يقدّم لنا مثلاً واضحًا في هذا الموضوع، فنرى أن يسوع قد تعامل مع الفريسيّ الّذي يأتيه طالبًا جوابًا عن سؤال يشغل تفكيره، فإنّه يتعامل معه بكلّ احترامٍ ويعطيه مطلبه؛ ولكنّه عندما كان يريد يسوع توبيخ الفريسيّين فإنّه لم يكن ليتهاون مع أفعالهم السيئة أبدًا. 

فإن أساء إليك أحد، لا تحاول أن تذهب إليه لتضع إصبعك على أخطائه، مدّعيًا أنّك تريد الخير له، فإنّك لن تُصلحه بهذه الطريقة، لأنّه يشعر بأنّك لا تريد الخير له، إذ إنّك لا تحبّه. إنّك بتلك الطريقة، تعطي لذاتك صلاحيّة إدانة الآخرين. إنّك تلعب دور الحمل الوديع، مع العلم أنّك أسدٌ زائر تريد أن تلتهم الآخر، إنّك شيطانٌ ترتدي ثياب ملاك النّور. عندما تتحضّر للقاء شخص قد تعرّض لك بالأذيّة، حاول أن تخلق فيه صدمةً إيجابيّة، لم يكن ليتوقّعها منك بعد الأذيّة الّتي وجّهها إليك. فإنّ مثل تلك الصدمة قد تشكِّل له الفرصة لكي يتوب. ولكن، إن تعاملت مع الشخص الّذي أذاك في كلّ مرّة تراه، انطلاقًا من الوجع الّذي سبّبه لك، أي من خلال نبرة صوتٍ عاليّة وقلّة احترام، فإنّك تشّرع له بهذه الطريقة الحقّ في الاستمرار في أذيّتك.

فلنتعاملْ مع بعضِنا البعض، إخوتي، كما يتعامل الرّب معنا. فتخيّلوا معي، لو أنّ يسوع يذكِّرنا في كلّ يومٍ نقف أمامه بالخطايا الّتي ارتكبناها خلال النّهار! فإنّنا بالتأكيد بعد توبيخ يسوع لنا في هذه الحالة، لن نعود نؤمن بحقيقة غفران الله لخطايانا نحن البشر. إنّ الرّب لا يفرح بخطيئتي، لكنّه يتعاطى معي على أنّني شخص مريض، مكسور وبحاجة للاهتمام والعلاج. إنّ بولس يعود ليكرّر كلام المسيح بطربقة أخرى فيقول إنّ المحبة لا تفرح بالخطيئة، لا تفرح بالظلم، لا تفرح بالسوء (1قور 13). علينا المحاولة دائمًا أن نتصرّف كما تصرّف يسوع، حتّى وإن تعرّصنا لانتقادات من مجتمعنا غير القادر على تقبّل مثل تلك التصرّفات الّتي تعبّر عن الرّحمة والمحبّة للآخر. إخوتي، إنّ يسوع نفسه لم يتمكّن من إرضاء كلّ محيطه: إن يسوع قد تعرّض لأنّ يتمّ إلغاء اسمه، فعندما مات أطلق عليه اليهود اسم “الـمُضلِّل”. لقد خاف اليهود من يسوع لذلك قاموا بإلغاء اسمه وحاولوا إلغاءه عندما قتلوه، لقد خافوا من صدقه في تحقيق ما كان يقوله عن قيامته في اليوم الثالث، لذلك، قاموا برشوة الحرّاس ونشر أخبار كاذبة كأن يقولوا إنّ التّلاميذ قد سرقوه ليلاً. لقد حاولوا إلغاء حضوره بإلغائهم اسم يسوع، لقد حاولوا إلغاءه عندما قتلوه، إذ أعطوا لذواتهم الحقّ الشرعيّ ليقتلوه، فجعلوه غريبًا عنهم: لقد غربّوه فقتلوه، وعندما قتلوه، قام وجعلهم أحبّاء له.

في هذه الرسالة، سوف نكتشف هذا الإله الّذي كلّمنا في آخر الأيّام بابنه يسوع، كما يقول الكتاب. ويضيف الكتاب فيقول عن الله إنّه هو الّذي أسّس في البدء السمّاوات والأرض، وهي عمل يديه، وأنّه هو الوحيد الأزليّ. في القرى الجنوبيّة اللّبنانيّة، عندما يُحمَل نعش الميّت، يصرخ الشعب قائلاً إنّ الله وحده أزليّ، لا يموت، وفي ذلك، إعلانٌ صريحٌ لحقيقة إيماننا المسيحيّ، بأنّنا كلنّا زائلون ما عدا الله. استوقفتني مرّة إحدى النّساء لتخبرني عن صديقة طفولتها الّتي قامت بأذيتّها، وقد شوّهت صيتها في المجتمع، وهي غير قادرة على مسامحتها، وهي ما زالت تغضب عند رؤيتها، أمّا جوابي لها فكان أنّه ما نفع الاستمرار في الغضب تجاه تلك الصديقة، فإن الأذيّة قد وقعت، والغضب المستمّر من تلك الصديقة لن يفيد أحدًا، فإن لم تتَمَكَّني من التعامل معها بلطف فهذا يعني أنّكِ لم تسامحيها فعلاً، وبالتّالي أصبحت المشكلة عندك. إنّ الغضب من الأذيّة الّتي يوجّهها إليك الآخرين، لَهُو مضيعة للوقت، إذ يجعلك تحيد عن الاهتمام الأساسيّ وهو تحضير ذاتك لكي تكون على مستوى اللّقاء بالمسيح. في اللّيتورجية الشرقيّة الارثوذكسيّة، قبل أن يُصعِد الكاهن القرابين إلى المذبح، يرتِّل: “لنطرح عنّا كلّ اهتمامٍ دنيويّ، إذ إنّنا مزمعون أن نستقبل ملك الكلّ”. إذًا، في الوقت الّذي ننتظر فيه مجيء ملِك الكلّ، لا يجب أن نلتهيَ بالأمور الدنيويّة الزائلة. إنّ هذا الهمّ الأساسيّ بلقاء المسيح، يجب أن يضمّ كلّ اهتماماتنا الآخرى.

ملاحظة: دوِّنت المحاضرة مِن قِبلنا بتصرّف.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp