تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“رسالة بولس الرّسول الثانيّة إلى أهل كورنثوس – الإصحاح التاسع”
النّص الإنجيليّ:
“فإنَّه مِنْ جِهَةِ الخدمةِ للقدِّيسين، هُوَ فُضُولٌ مِنِّي أن أَكْتُبَ إليكم، لأَنِّي أَعلَمُ نَشَاطَكُم الّذي أفتَخِرُ به مِن جِهَتِكم لدى الـمَكدُونيِّين، أنَّ أَخائيَةَ مُستَعدَّةٌ مُنْذُ العام الماضي، وغَيرَتُكُم قَد حرَّضَت الأكثَرينَ. وَلَكِنْ أَرْسَلْتُ الإِخوَةَ لِئَلّا يتعطَّلَ افتِخارُنا مِن جِهَتِكم مِن هذا القبيلِ، كي تَكونوا مُستعدِّينَ كما قُلْتُ، حتّى إذا جاءَ مَعي مَكدُونيِّون وَوَجَدُوكُم غيرَ مُستعدِّينَ، لا نُخجَل نَحنُ، حتّى لا أَقولُ أنتم، في جسارةِ الافتخارِ هذه. فَرَأَيْتُ لازِمًا أَن أَطلُبَ إلى الإِخوَةِ أَن يَسبِقُوا إلَيكُم، ويُهيِّئوا قَبلاً بَرَكَتِكُم الّتي سَبَقَ التَّخبيرُ بها، لِتَكُونَ هِيَ مُعَدَّةً هَكَذا كأَنَّها بَرَكَةٌ، لا كَأَنَّها بُخلٌ. هَذا وَإنَّ مَن يَزرَعُ بالشُّحِ أيضًا فَبالشُّحِ يَحصُدُ، وَمَن يَزرَعُ بالبَرَكاتِ فبالبَرَكاتِ أيضًا يَحْصُدُ، كُلُّ واحدٍ كما ينوي بِقَلبِهِ، لَيسَ عن حُزنٍ أَو اضطرارٍ، لأنّ الـمُعطِيَ الـمَسرورَ يُحبُّهُ اللّه. واللّهُ قادِرٌ أَن يَزيدُكُم كُلَّ نِعمَةٍ، لِكَي تَكونوا وَلَكُم كُلُّ اكتفاءٍ كُلَّ حينٍ في كُلِّ شيءٍ، تُزادُونَ في كلِّ عملٍ صالحٍ. كَما هُو مَكتُوبٌ: “فَرَّقَ. أعطى الـمَساكينَ. برُّهُ يبقى إلى الأبدِ.” وَالَّذي يُقدِّمُ بِذارًا لِلزّارعِ وخُبزًا للأَكْلِ، سَيُقدِّمُ ويُكثِّرُ بِذارَكُم وَيُنَمِّي غَلّاتِ بِرِّكُم. مُسْتَغْنِينَ في كُلِّ شيءٍ لِكُلِّ سَخاءٍ يُنْشِئُ بِنا شُكرًا للّهِ. لِأَنَّ افتِعالَ هذه الخِدْمَةِ لَيْسَ يَسُدُّ إعوازَ القدِيسين فقط، بَل يَزيدُ بشكرٍ كَثيرٍ للّه، إِذْ هُم باختِبارِ هذه الخِدمَةِ، يُمَجِّدُونَ اللّهَ على طاعَةِ اعتِرافِكُم لإِنجيلِ المسيحِ، وَسَخاءِ التَّوزيعِ لَهُم وَلِلجميعِ، وبِدُعائهم لأجلِكُم، مُشتاقينَ إِلَيكُم مِن أجلِ نِعمَةِ اللّه الفائقةِ لديكم. فَشُكرًا للّه على عَطِيَّتِه الّتي لا يُعبَّرُ عنها”.
شرح النّص الإنجيليّ:
إنّ بولس الرّسول الّذي أنشأ كنيسة كورنثوس حين بشَّرها بالكلمة الإنجيليّة، وَجد نفسَه مُتَطَفِّلاً عليها حين أراد توجيه بعض الملاحظات لها، إذ يقول: “هو فُضولٌ منِّي أنْ أكتُبَ إليكم”. لقد عبّر بولس الرّسول عن العطاء الإنسانيّ مستخدمًا كلمة “بَرَكَة” لا كلمة “كَرَمٍ”. إنّ استخدام بولس لكلمة “اضطرار”، تُشير إلى أنَّ البعض يقوم بالعطاء كَمن يقوم بواجبٍ دينيّ، لذا تكلّم بولس عن الـمُعطي المسرور، ليُشير إلى وجود “مُعطٍ غير مسرور”.
في هذا الإصحاح، يُعالج بولس الرّسول موضوع العطاء، أي الكَرَم. إنّ العطاء بسرور، هو انعكاسٌ لعلاقة الإنسان بربِّه، وهذا العطاء لا يُسمّى كَرَمًا بل “بركَةً” بحسب تعبير بولس الرّسول. إنّ العطاء غير المسرور، يعكس سَعْيَ الإنسان إلى المجد الشخصيّ، ورغبته في الحصول على التَّصفيق من قِبَل المحتاجين لعطائه، ولا يعكس علاقته بالربّ يسوع. إنّ الصّلاة لا تنفع الإنسان المحتاج، لأنّ حاجته تكمن في حصوله على الأمور الماديّة لا الأمور الروحيّة. فما فائدة الصّلاة للإنسان الجائع مثلاً؟ إخوتي، إنّ اللّه لا يملك مالاً في السّماء ليُرسِله إلى الفقراء في هذه الأرض، كما أنّه لا يملك مستودعاتٍ بأمور ماديّة.
إنَّ اللّه ليس ساحرًا، أي أنّه لا يستطيع إرسال ملائكته لإعطاء المحتاجين الطّعام السّاخن والألبسة الجاهزة من السّماء، ولهذا السبب، يتكِّل اللّه على المؤمنين به فيضع المحتاجين للأمور الماديّة على دروب حياتهم اليوميّة من أجل تأمين احتياجاتهم. إنَّ اللّه يملك في السّماء ما لا يملكه البشر على هذه الأرض، كما أنَّ البشر يملكون في الأرض ما هو غير موجودٍ في السّماء، وبالتّالي على الإنسان عدم لَوْمِ اللّه، حين لا يستجيب لطلباته الماديّة الدّنيويّة لأنّها غير متوافرة في السّماء. إنّ اللّه لا يَصمُّ آذانه عن احتياجاتِ البشر وطِلباتهم، ولكنّه غير قادرٍ على مَنْحِهم ما لا يملكه.
إنَّ العطاء بسرور، بالنسبة إلى بولس، هو مِن مواهب الرّوح القدس في الكنيسة. إنّ المؤمنين الّذين يُعطُونَ بسرورٍ في الكنيسة، يَسُدّون عَوَزَ المحتاجين مِن بينهم، فيشكِّل عطاؤهم هذا مدعاةَ شكرٍ للّه عند المحتاجين، على النِّعم الّتي نالوها من اللّه بواسطتهم. إنّ بولس يُشجِّع أهل كورنثوس على الاستمرار في تقديم البركات للكنائس المحتاجة، كي تتمكّن هذه الأخيرة مِنَ الاستمرار في العيشِ في هذه الحياة. إنَّ النّاس يَجِدُون صعوبةً في التمييز بين العطاء – الكرم، وبين العطاء – البركة، إذ يعتقدون أنّ اللّه سيُرسِل إليهم البركات بطُرُقٍ سحريّة؛ غير أنّ اللّه في الحقيقة يُرسِل بركاته إلى المؤمنين بشكلٍ دائم، ولكنّها تبقى غيرَ ظاهرةٍ للآخرين إلّا حين يقوم هؤلاء بالعطاء للمحتاجين، فيُقال فيهم إنّ بركة اللّه قد حلّت على المحتاجين بواسطتهم. على المؤمن ألّا ينتظر حلول بركة اللّه عليه كي يُعطي للآخرين وِفقَ احتياجاتهم، بل عليه أن يبادر إلى العطاء فيكتشف بركة اللّه الّتي فيه، ويكتشفها الآخرون من خلاله.
إنّ مفهوم الصّوم الفصحيّ عند المؤمنين هو مفهومٌ بوذيّ فلسفيّ، لا يَمتُّ إلى الإنجيل بِصِلَة: فالصّوم بالنسبة لهم، هو تطهيرٌ للنّفس، تنقية للذِّهن، وضبط للأهواء. غير أنَّ كلّ تلك الأمور الّتي صنَّفَها المؤمنون تحت إطار مفهوم الصّوم هي أمورٌ مطلوبة منهم في كلّ يومٍ، لا في زمن الصّوم وحسب، فالصّوم ليس مناسبةً لإلقاء الضَّوء مجدَّدًا على ما هو مطلوبٌ من المؤمنين بشكلٍ يوميّ، كما أنّه ليس مناسبةً لتبرير تقاعس المؤمنين عن ضبط أهوائهم خارج زمن الصّوم. إنّ الصّوم الإنجيليّ، لا علاقة له بضبط الأهواء، وتنقيه الذِّهن، وتطهير النَّفس.
إنّ الكنيسة هي “افخارستِّيا”، أي أنّها جماعة المؤمنين الّتي تُقدِّم الشُّكر للّه. إنّ المؤمنين يتشاركون معًا، في الكنيسة، بكلّ الاحتفالات الأسراريّة واللِّيتورجيّة: فيشتركون معًا في تناول جسد ابن اللّه ودمه، ويحتفلون بالمعموديّة بحضور الجماعة، ويشاركون جماعيًّا في المآتم ويصلّون معًا من أجل راحة أنفس موتاهم. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل: لماذا يتمّ الصّوم انفراديًّا بعكس كافة الاحتفالات الكنسيّة، الّـتي تتمّ بحضور الجماعة المؤمنة؟ على الصّوم أن يتمّ بشكل جماعيّ كما هي سائر الاحتفالات، ولكنّ الصّوم في أيّامنا يتَّخذ بُعدًا فردِيًّا إذ يصوم المؤمن من أجل طهارته وتوبته، أي من أجل نفسه لا من أجل الجماعة. إنّ الهدف من الصّوم بحسب المفهوم الإنجيليّ، هو من أجل الآخر المحتاج لا من أجل الصائم بحدِّ ذاته، لذا يستطيع المؤمن الامتناع عن الصّوم وشكلّياته حين يُعطي الآخر احتياجاته الماديّة. إنّ الصّوم في هذه الحالة يكون أكثر بركةً للصّائم وللمحتاج.
إنّ هدف الصّوم هو إفراح الآخر بتلبية احتياجاته، لا إفراح النّفس بضبط الأهواء، وتنقية الضمير. إنّ المؤمن يرتكب الخطيئة لأنّه فكَّر في ذاته فقط، أي في ما يسبِّب له فرحًا آنيًّا. أمّا العطاء، فيقوم على تفكير المؤمن بأخيه الإنسان المحتاج. لذا فالعدّو الأساسيّ للخطيئة هو العطاء لأنّه يدفع بالمؤمن إلى التفكير في الآخرين لا في ذاته، أي إلى التفكير بطريقة معاكسة للخطيئة، وبالتّالي يستطيع المؤمن التخلُّص من كلّ خطيئة تُكبِّله من خلال العطاء. إنّ أحد الآباء القدِّيسين ينصح المؤمنين بكَسْرِ كلّ تعلُّقٍ لهم بالخطيئة من خلال العطاء، لأنّه يُخرج المؤمن مِن ذاته صوب الآخر. إنّ المؤمِن لا يصوم للمسيح الّذي مات على الصّليب وقام في اليوم الثّالث، بل يصوم من أجل الآخر المهمَّش الّذي جاء المسيح من أجل خلاصه. على المؤمن أن يُصلّي ويقدِّم صومه من أجل المهمَّش كي يتمكّن هذا الأخير من إدراك قيمته في نظر اللّه الّذي لا يتوقّف عن الاهتمام به من خلال عطاءات المؤمنين. حين يكتشف هذا المهمَّش قيمته في نظر اللّه، سيعيش فرح القيامة وبركاتها قبل حلولها في العيد؛ كما أنّ المؤمن سيختبر بدَوره بركات القيامة حين يجعل صومه من أجل إفراح الآخر وسدِّ احتياجاته. إنّ العطاء ليس أمرًا مفروضًا على المؤمن تجاه الآخرين، بل هو وسيلةُ تعبيرٍ عن محبّة المؤمن لإخوته المحتاجين.
إنّ الكنيسة، من خلال آبائها القدِّيسين الّذين يشكِّلون مرجعيّة مهمَّة لها في الفكر واللّاهوت، قد نظّمت الصّوم وأعطته شكلاً مُحدَّدًا حين لاحظت فُتورًا في المحبّة عند المؤمنين. إنَّ القانون يُصبح ضرورةً حين تنقُصُ المحبّة في القلوب، أمّا إنْ كانت المحبّة مشتعلة في القلوب فلا ضرورة عندها للقانون. ولكن بما أنّ الصَّوم يتَّخذ بُعدًا جماعيًا، فمن المفضل أن يصوم جميع المؤمنين في الوقت نفسه. في الصّوم، يكثِّف المؤمنون صلواتهم للّه، غير أنّ الصّلاة هي ذات أبعادٍ ثلاثيّة، أي أنّها لا تقتصر على علاقة المؤمن بربِّه بمعزلٍ عن الآخر، فالصّلاة تُتَرجم وتَتحقَّق من خلال أعمال المؤمِن مع أخيه الإنسان. إذًا، انطلاقًا مِن هذا المفهوم الجديد للصّوم، يمكننا القول إنّ الصّوم لا يقتصر على حياة الإنسان الداخليّة الخاصّة، إنّما يشمل أيضًا واجب المؤمِن زرعَ كلمة اللّه في النّفوس.
إنّ المؤمِن يستطيع أن يزرع كلمة اللّه الحيَّة في النّفوس إمّا من خلال التبشير بها، وإمّا من خلال خدمته للآخرين فيتمكّن هؤلاء من اكتشاف كلمة اللّه السّاكنة في داخل المؤمن من خلال أعماله. إنّ الصّوم هو ذات بُعد جماعيّ، أي أنّه يجب أن يُمارس على صعيد جماعي لا على صعيد فرديّ، ولكنّ هذا لا يمنع أن يصوم المؤمن خارج هذا الزّمن من أجل العمل على تحسين ذاته بهدف التخلُّص مِن بعض الرذائل الّتي يُعاني منها.
إنّ الصّلاة هي ترجمة لعلاقة الحبّ الّتي تجمع الإنسان باللّه مِن خلال الآخر، وهي ليست إذًا، دواءً مُضادًا للكآبة. إنّ العلم تمكّن مِن شرح العوامل الّتي تؤدي إلى شعور الإنسان بالإحباط والكآبة، كما تمكّن مِن إيجاد العلاجات الطبيّة المناسبة لها، وبالتّالي أصبح بإمكان الإنسان التخلّص مِن حالة الاكتئاب الّتي يُعاني منها، مِن دون العودة إلى الصّلاة. إخوتي، إنَّ الصّلاة ليست عملاً سحريًّا يلجأ إليه المؤمن للحصول على الشِّفاء أو المعجزات، فالصّلاة لا تستطيع أن تمنح المؤمن أيَّ شيءٍ من ذلك. ليست الصّلاة الّتي تمنح الإنسان الشِّفاء بل اللّه الّذي يوجّه المؤمن إليه صلاته.
إنّ المؤمن لا يتوجّه في صلاته إلى إلهٍ مجهول الهويّة بالنسبة له، بل هو معروف الهويّة، فالإنجيل يُخبرنا عن إلـهنا الّذي هو أبو يسوع المسيح. وبالتّالي، فإنّ علاقة المؤمن باللّه هي واضحة لأنّه يعلم هويّة الإله الّذي يتوجّه إليه. إنّ الصّلاة هي تعبيرُ حبٍّ مِن المؤمن تجاه اللّه، وبالتّالي على المؤمِن ألّا ينتظر مقابلاً لصلاته، لأنّ الحبّ الحقيقيّ يكون مجانيًّا ولا ينتظر مكافآتٍ مِن الطرف الآخر. إنَّ هذا الحبّ الحقيقيّ يختبره الإنسان في عائلته، بين الأهل وأطفالهم: فالأهل لا يحبّون أولادهم منتظرين مكافآتٍ منهم، بل يحبّونهم لأنَّ ذلك الحبّ يُعطيهم الفرح والمعنى لحياتهم، على الرّغم من كلّ التَّعب. في العلاقات البشريّة، لا يهدف الحديث بين الأحبّاء إلى حصول الحبيب على مكافأةٍ من حبيبه، بل إنّ الحبيب يتحدّث مع حبيبه لأنّه يرغب في رؤية قيمته في عينيّ الّذي يحبّه، وفي تلك النَّظرة يجد الحبيب راحته وسعادته. وهنا يُطرَح السؤال: إذا كانت علاقات الحبّ بين البشر، لا تقوم على انتظار الحبيب المكافآت من حبيبه، فَلِمَ لا يمكن للبشر أن يحبُّوا اللّه بمجانيّة من دون انتظار المكافآت منه على صلاتهم له؟
إنّ المؤمن يصلّي إلى اللّه كي يطلب منه أمرًا معيّنًا: يصلّي له ليطلب منه الغفران أو الشِّفاء، وما الذبيحة الإلهيّة إلّا دليل على ذلك، إذ تتكرّر فيها بوفرة عبارة “من الربّ نطلب”، أو “نسألك يا ربّ”، حتّى إنّ صلوات الشكران الّتي يوجِّهها المؤمن إلى اللّه مبنيّة على شُكر اللّه على عطاياه السّابقة له، سائلاً إيّاه الاستمرار في فيض النِّعَم عليه في المستقبل.
إنّ بعض المؤمنين يعتقدون أنّ صلاتهم تعبِّر عن قناعتهم الكاملة أنّ اللّه هو كلّ شيءٍ بالنسبة لهم، طالما أنّه يحقِّق لهم ما يطلبونه في الصّلاة. ولكن السؤال الّذي يُطرَح هو: ماذا ستكون ردّة فعل هؤلاء، إن لم يستجب لهم الربّ في المستقبل؟ إنّ ردّة فِعلِهم ستكون: إمّا تبرير اللّه مُخفِّفين مِن وطأة خيبة الأمل الّـتي تعرَّضوا لها، وإمّا لَومُ اللّه فيتحوَّلون إلى مُلحِدين. إنّ غالبيّة الـمُلحِدين في العالم، كانوا مِن أكثر المؤمنين تمسُّكًا بإيمانهم، ولكنَّهم صُدِموا حين لم يستجِب اللّه لهم حين كانوا في أمسّ الحاجة له. إنّ علاقة هؤلاء مع اللّه كانت مَبنيّة على أنّ اللّه دائمُ الاستجابة لرغبات أبنائه، وقد صُدِموا حين اكتشفوا عدم صِحّة اعتقادهم هذا.
وهنا يُطرَح السؤال: كيف يجب أن تكون علاقة المؤمن باللّه؟ إنّ علاقة المؤمن باللّه لا تنجح إذا كانت علاقة أجيرٍ بربِّ عمله، أو علاقة عبدٍ بسيِّده، بل تنجح إذا كانت تلك العلاقة علاقة ابنٍ بأبيه، أو حبيبٍ بحبيبه. على المؤمن أن يشعر بحاجته إلى اللّه، فيهرَع إلى أحضانه،كما يفعل الطِّفل مع أبيه، أمّا الإنسان الّذي لا يشعر بحاجته إلى اللّه، فهو لن يتمكّن من بناء علاقة صحيحة مع الربّ. إنّ أحد الآباء القدِّيسين يُشدِّد على حاجة الإنسان للحبّ، وبالتّالي إمّا أن يكون الإنسان عاشقًا لامرأةٍ أو رجلٍ فيتزّوجان، وإمّا أن يكون عاشقًا للّه فيترَّهب. لا يستطيع الإنسان الّذي لم يختبر الحبّ في حياته أن ينجح في الحياة الرّهبانيّة، لأنّه يحتاج في هذه الحالة إلى معالَجةٍ نفسيّة. إنّ الإنسان يستطيع أن يحوِّل عشقَه لامرأة أو لرَجُلٍ إلى عشقٍ للّه، رغبةً منه في السّمو بعشقه إلى السماويّات، تاركًا وراءه كلّ ما له علاقة باللَّحم والدَّم. على طالبِ التَّرهب أن ينتسب إلى الرّهبانيّة لا هربًا من صعوبات الحياة، بل طلبًا لحضن اللّه أبيه الّذي لا يتركه رغم كلّ الصُّعوبات.
كي تكون العلاقة بين المؤمِن واللّه علاقة صحيحة، عليها أن تكون أوّلاً علاقة ابنٍ بأبيه، ولتوضيح تلك العلاقة أكثر، أودّ أن أخبركم عن اختباري الشَّخصي مع والِدي. كان أبي يعود من عمله، في الوقت المخصّص للَّعب مع الأصدقاء. وعند رؤيتي له، كنت أهرع إليه، طالبًا منه أن يشتري لي ولرفاقي بعض المرّطبات، فإذ به يشتري لنا جميعًا ما طَلَبْتُ منه. وبعد مرور فترة من الزّمن على هذا المنوال، قرّر أبي ألّا يُعطيني مالاً إلّا ما يكفي لشراء زجاجةً واحدة من المرَطِّبات، فما كان منّي إلّا أن شاركت رفاقي بزجاجة المرَطِّبات الخاصّة بي. عند رؤية أبي لهذا المنظر، قرَّر أن يعاود إعطائي مالاً كافيًا لشراء المرَطِّبات لجميع الرِّفاق.
إنّ شُعور المؤمن بالبنوّة للّه الآب يدفعه إلى رؤية حاجات الآخرين والعمل على تلبيتها كأنّها حاجاته الخاصَّة. إنّ العلاقة الّتي تجمع المؤمن باللّه قد يغلب عليها طابع الحبّ، فيتصرّف المؤمن مع اللّه على أنّه حبيبه، فلا يشعر المؤمِن بطول الوقت الّذي يُمضيه مع الربّ، كما أنّه يُصبح قادرًا على مواجهة صعوبات الحياة لأنّه يشعر بحضور اللّه وحبِّه له. حين يشعر الإنسان بأنّه محبوب من اللّه، سيتعامل مع إخوته البشر بمحبّة ولطفٍ وصبرٍ، وسيتمكّن من مسامحتهم حين يُخطِئون إليه، ويُحقِّق المحبّة بين البشر كما وصفها بولس الرّسول في نشيد المحبة (1كور 13). إذًا، حين تكون علاقة المؤمِن باللّه علاقةَ ابنٍ بأبيه، سينجح الإنسان في النّظر إلى حاجات الآخرين كأنّها حاجاته وبالتّالي سيطلب من اللّه أن يساعده على تلبية تلك الحاجات كأنّها حاجاته الخاصّة. وحين يتعامل المؤمِن مع اللّه على أنّه حبيبه، فإنّ خطايا الآخرين تجاه المؤمن لن تؤثِّر على علاقته باللّه، وبالتّالي سيتحوَّل اهتمامه من إدانة الآخرين على أخطائهم إلى العمل على تحسين ذاته تعبيرًا عن حبِّه للّه، وبالتّالي سيجد سهولةً في مسامحة الآخرين على أخطائهم تجاهه.
إنّ التحضير للصّوم في الكنائس الأرثوذكسيّة، أي الّتي تتبع التقويم الشرقيّ، يتمّ عبر أَحَدَين، هما: أحد مرفع اللّحم وأحد مرفع الجُبن. في أحد مرفع اللَّحم، يُتلى على مسامع المؤمنين إنجيل الدَّينونة: “ما لم تفعلوه لأحد إخوتي هؤلاء الصِّغار فإليّ لم تفعلوه”، لذا يُسمّى أحد الدَّينونة. ويلي هذا الأحد، أَحدُ مرفع الجُبن، وهو أحد مدخل الصّوم أيضًا، ويقرأ فيه إنجيل: “إغفروا لإخوتكم زلّاتهم فيغفر لكم أبوكم السماويّ زلّاتكم”، ولذا يُسمّى أحد الغفران لأنّ هذا الإنجيل يدعو المؤمنين إلى المغفرة لبعضهم البعض. إذًا، إنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة تضع أمام المؤمنين هذين الأحدين قبل بدء الصّوم، لتُشجِّع المؤمنين منذ بداية صومهم على السَّعي لمساعدة الآخرين واعتبارها مساعدة للّه، وعلى الغفران لكلِّ مَن يُسيء إليهم، على مثال غفران الربّ للبشر زلاتهم. إذًا، لم تعد الإماتات وضبط الأهواء والتقشفات تعبِّر عن حقيقة الصّوم إذ إنّ كلّ تلك الأمور مطلوبة من المؤمن طوال الأيّام، أمّا ما هو مطلوبٌ منه بنوع خاصّ في زمن الصّوم فهو التفاتته إلى المحتاجين لمساعدتهم، إضافةً للرّحمة والمغفرة للآخرين زلّاتهم. وبالتّالي لم يعد عدم الانقطاع عن الطّعام في زمن الصّوم يشكِّل خطيئةً، لأنّ هدف الصّوم بحسب الإنجيل، الاهتمام بحاجات الآخرين وغفران الزلّات للمخطئين إلينا.
إخوتي، إنّ المفهوم الجديد للصّوم لا يُعفينا من الالتزام بقانون الصّوم الّذي وضعته الكنيسة، إذ إنّ عدم الالتزام بالقانون يؤدّي إلى نشوء فوضى في صفوف المؤمنين. إخوتي، على الإنسان أن يميِّز بين الحريّة والفوضى، فالحريّة لا تعني أبدًا الفوضى. إنّ الحريّة قد تكون مسؤولة فينتج عنها أشخاصٌ في الحقيقة أحرارًا، كما أنّ الحريّة قد تكون غير مسؤولة وتُنتج عنها فوضى. إنّ الحريّة المسؤولة تبني المؤمن والآخرين، أمّا الحريّة غير المسؤولة فتَهدُمهم. إنّ الحريّة لا تُعطي الحقّ للإنسان في التعدّي على ممتلكات الآخرين، فإنّ قام الإنسان بِمِثل تلك الأعمال، كانت حريّته غير مسؤولة. إنَّ تناول الطّعام أو الانقطاع عنه، لن يُسبِّب أزمةً للمؤمِن الّذي يرى في اللّه أبًا أو حبيبًا، لأنّه يُدرِك أنّ الربّ جاء إلى أرضنا كي يُحرِّر المؤمنين به من قانون الممنوع والمسموح، وليُعبِّر لنا عن حبّه المجانيّ الّذي لا يخضع للقانون. فمثلاً، عند زيارة المؤمِن للعائلات المحتاجة، عليه أن يقبل كلَّ ما تُقدِّمه له هذه العائلة من أطعمة للتعبير عن امتنانها لعطائه، فلا يرفض مشاركتها الطّعام كونه لا يتلاءم مع قطاعة الصّوم الأربعينيّ، لأنّه في مشاركته لهم تعبيرًا عن مدى حبّه لهم. إنّ الطّاهي في بلادنا الشرقيّة، يضع من ذاته في الطّعام الّذي يُحضِّره، لذا لا يترّدد في تقديم هذا الطّعام لضيوفه عند مشاركتهم له في مائدة الطّعام، ولذا يُقال “أصبح بيننا خِبزٌ ومِلحٌ”. إنّ رَفضَ الضُّيوف المشاركة في الطّعام يُعبّر عن قلّة احترام لأصحاب البيت. إخوتي، إنّي لا أدعوكم بهذا الكلام إلى عدم الصّوم، وبالتّالي إلى الفوضى، بل أدعوكم إلى التحرّر من الطّعام أمام الإنسان المحتاج.
إنّ الربّ يسوع قد صار عبدًا لأجلنا، فقَبِلَ أن نكون نحن أسياده، تعبيرًا عن محبّته لنا وعن رغبته في خلاصنا، فبادلناه تلك المحبّة بالحُكم عليه بالموت. على المؤمن أن يتشبّه بالمسيح فيقبَلَ أن يكون عبدًا لكلّ مَن يحتاجه، وأن يكون المحتاج سيِّدًا عليه، فمتى قَبِلَ المؤمن بتلك العبوديّة، عبَّر عن مدى حبّه للفقير وعن فَهمِه لعمل المسيح الخلاصيّ. لا يستطيع المؤمن أن يعيش تلك العبوديّة الطوعيّة رغمًا عنه، إذ إنّها تشكِّل اختياره الخاصّ النابع من إرادته الحُرَّة، كما أنّه لا يستطيع القبول بصيرورة المسيح عبدًا لأجله، مِن دون أن يرضى أن يُصبح هو بِدَورِه عبدًا لإنسانٍ آخر مهمَّشٍ ومرذولٍ من الآخرين. إنَّ المؤمِن الّذي يصوم بذهنّية مختلفة عن هذه، هو إنسانٌ يعيش في حالة من الغشِّ لذاته، وبالتّالي يعيش حالةً من الفريسيّة، فالفرِّيسيون يصومون خارجيًّا من دون الاهتمام بالآخر المحتاج.
إنّ ممارسة المؤمنين للصّوم بشكله الخارجيّ لا يدلّ على الّذين سيختبرون روح الفصح حقيقةً، إذ إنّ كثيرًا مِن غير الممارسين لشعائر الصّوم قد يختبرون روح الفصح أكثر من الصّائمين أنفسهم، وبالتّالي لا يستطيع أحد، سوى اللّه، أن يعرف مَن مِنَ المؤمنين قد اختبر حقًّا روحيّة الفصح. إنّ الصّوم يزرع الوهم في نفوس هؤلاء “الفريسيّين”، في أنّهم على استعداد للقاء الربّ بفضل صومهم، أكثر مِنَ غير الصّائمين. إخوتي، إنّ اللّه لا يهتمّ للأمور الخارجيّة بل إلى داخلها، ولكن هذا لا يعني عدم التزام الصّوم، بل يعني أنّه لدينا الحريّة الكاملة ما بين الصّوم أو عدمه، إن كُنّا نلتزم بهذه الذهنيّة، الّتي تعبِّر عن إدراكنا لمفهوم حبّ اللّه لنا، وعمله الخلاصيّ لأجلنا. إنّ الفوضى تكمن حين لا يلتزم المؤمن بشكلّيات الصّوم، ولا يلتزم كذلك بذهنيّة الصّوم الّتي تكلّمنا عنها. إنّ قبول المؤمن بمفهوم الصّوم الجديد، سيدفعه حتمًا إلى تغيير نهج حياته واعتماد مفاهيم جديدة، أكثر انسجامًا مع مفاهيم الإنجيل.
إنّ محبّة المؤمِن لإخوته البشر ستبقى على الدّوام ناقصة ولن تصل إلى كمالها، لذا على المؤمن الاستعانة دائمًا بالقوانين الّتي تضعها له الكنيسة علَّه يصل من خلالها إلى كمال المحبّة. وهنا يُطرَح السؤال: صَوْمُ أيّة كنيسة هو الأفضل والأصحّ؟ أَصَوْمُنا اليوم هو أفضل مِن صوم آبائنا القدِّيسين في القرون الوسطى؟ أم أنّ صوم آبائنا الرّسل القدِّيسين هو أفضل من صَومِنا اليوم؟ إذا كان صومُنا اليوم هو أفضل من صَوم أبائنا، فهل هذا يعني أنّ أصوامهم لم تكن مقبولة عند الربّ؟ إنّ الصّوم قد تطوّر على مراحل، عبر التّاريخ: تَطَوُّرٌ في الزّمان وفي المكان أيضًا. قد يقول البعض إنّ صَومَنا هو أفضل لأنّ الرّسل والآباء القدِّيسين لم يكونوا على دراية بهذا المفهوم الجديد للصّوم. وهنا يحقّ لنا السؤال: هل أتى الخلاص للبشر على مراحل أم دُفعةً واحدة؟ هل نال الإنسان كلمة اللّه على مراحل أم دُفعةً واحدة؟ إخوتي، إنّي لا أدعوكم إلى عيش الفوضى في مفهوم الصّوم، بل إنّ رغبتي هي رؤية الصّوم من منظار آخر هو ناموس الحبّ، الّذي منحنا إيّاه الربّ يسوع في تجسُّده على أرضنا. إنّ ناموس الحبّ هذا، يحرِّر المؤمن من عبوديّته للنّاموس، ويمنحه حريّة أبناء اللّه، تلك الحريّة المسؤولة، كما يمنحه نعمة اختياره العبوديّة الطوعيّة للآخر تعبيرًا عن فَهمِه لمفهوم حبّ اللّه له، أي أن يكون على مثال المسيح الّذي صار عبدًا لأجل خلاص البشر. إنّ بعض المؤمنين لا يتردّدون في أن يمنحوا ذواتهم بكلّيتها للآخرين غير آبهين للانتقادات الّتي سيتعرَّضون لها، كأنّ يتمّ وَصْفُهُم بالسَّذاجة والبساطة.
منذ بداية الخليقة، يرفض الإنسان كلّ أمرٍ يُفرَض عليه، ويتَّجه صوب الأمور الّتي تمنحه الحريّة. إنّ الإنسان عبر التّاريخ، يرفض كلّ أشكال العبوديّة، ويسعى إلى التحرُّر منها. وقد برهن التّاريخ أنّ الثّوار كانوا وليدة رفضهم للعبوديّة الّتي أُجبروا عليها، فتحدّوها وقد كانت لهم ردّات فعل قاسية في بعض الأوقات، وأدّت إلى نشوء فوضى في مجتمعاتهم.
إنّ كلّ حالات التمرُّد الّتي نقرأ عنها في التّاريخ كانت نتيجة رفض البعض لقانون المسموح والممنوع. إنّ معاناة الأهل مع أولادهم المراهقين هي أكبر دليل على رفض الإنسان لكلّ أشكال العبوديّة، لذا على الأهل أن يلجؤوا إلى كلّ وسائل الإقناع لردع أولادهم عن ارتكاب الشُّرور، دون اللّجوء إلى لغة الأمر، أي لغة “الممنوع والمسموح”. على الأهل رعاية أولادهم، لا التعامل معهم كَمَن يُخضِعهم للاستجواب والتحقيق. على الأهل مساعدة أبنائهم على تخطيّ الصّعوبات الّتي تعترضهم لا إخضاعهم لقانون “الممنوع والمسموح”. إنّ عالمنا اليوم أصبح مجتمعًا استهلاكيًّا بامتياز، لذا علينا أن نتصرّف بحكمةٍ، فنكون في هذا العالم، دون أن نغرق في شروره، متذكِّرين قول المسيح في المؤمنين به: “أنتم في هذا العالم، لكنّكم لستم من هذا العالم”. كي نتمكّن من تحقيق كلام المسيح فينا، علينا أن نتسلَّح بالحكمة وبصبر القدِّيسين، ونتمتَّع بالفطنة الروحيّة. على المؤمن ألّا يحوّل الصّوم إلى شريعة دينيّة فارغة من معناها، لأنّ المسيح يريد “رحمةً لا ذبيحة”، أي أنّه لا يهتمّ بالصّوم وشكليّاته إنّما يهتمّ للذهنيّة الّتي تدفع المؤمِن إلى التزام الصّوم.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف.