تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“رسالة بولس الرّسول الثانيّة إلى أهل كورنثوس – الإصحاح الثاني عشر”
النّص الإنجيليّ:
“إِنَّهُ لا يُوافِقُني أن أفتَخِرَ. فإنِّي آتي إلى مَناظِرِ الربِّ وإِعلاناتِه. أَعرِفُ إِنسانًا في المسيحِ قَبلَ أرْبَعَ عشرَةَ سنةً. أَفِي الجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعلَمُ، أَم خارِجَ الجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعلَمُ. الله يَعلَمُ. اخْتُطِفَ هذا إلى السَّماءِ الثّالِثَةِ. وَأَعرِفُ هذا الإِنسانَ: أَفِي الجَسَدِ أَم خارِجَ الجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعلَمُ. اللهُ يَعلَمُ. أَنَّهُ اخْتُطِفَ إلى الفِردَوسِ، وسَمِعَ كَلِماتٍ لا يُنطَقُ بِها، ولا يَسُوغُ لإنسانٍ أنْ يَتَكَلَّمَ بِها. مِن جِهةِ هذا أَفتَخِرُ. وَلَكِنْ مِن جِهةِ نَفسي، لا أَفتَخِرُ إلّا بِضَعَفاتِي. فإنِّي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَفتَخِرَ لا أَكُونُ غَبيًّا، لأَنِّي أَقولُ الحقَّ. وَلَكِنِّي أَتحاشَى لِئَلّا يَظُنَّ أَحَدٌ مِن جِهَتِي فَوقَ ما يَراني أَو يَسمَعُ مِنِّي. وَلِئَلّا أَرتَفِعَ بِفَرْطِ الإِعلاناتِ، أُعْطِيتُ شَوْكَةً في الـجَسَدِ، مَلاكَ الشَّيطانِ لِيَلْطِمَني، لِئَلّا أَرتَفِعَ. مِن جِهةِ هذا تَضَرَّعْتُ إلى الربِّ ثَلاثَ مرّاتٍ أَنْ يُفارِقَني. فَقالَ لي: “تَكْفِيكَ نِعمَتي، لِأَنَّ قُوَّتِي في الضُّعفِ تُكمَلُ”. فَبِكُلِ سُرورٍ أَفتَخِرُ بِالحَريِّ في ضَعَفاتِي، لِكَي تَحِلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ الـمَسيحِ. لِذَلِكَ أُسَرُّ بالضَّعَفاتِ وَالشَتائِمِ والضَّروراتِ والاضْطِهاداتِ والضِّيقاتِ لِأَجلِ الـمَسيحِ. لِأَنِّي حِينَما أَنا ضَعيفٌ، فَحِيْنَئِذٍ أَنا قَوِيٌّ. قَدْ صِرْتُ غَبِيًّا وَأَنا أَفتَخِرُ. أَنتُم أَلزَمْتُمونِي! لِأَنَّهُ كانَ يَنبَغي أَنْ أُمْدَحَ مِنكم، إِذ لَمْ أَنْقُصْ شَيئًا عَنْ فائِقِي الرُّسُلِ، وإِنْ كُنْتُ لَسْتُ شَيئًا. إِنَّ عَلاماتِ الرَّسولِ صُنِعَتْ بَيْنَكُم في كلِّ صَبرٍ، بِآياتٍ وَعَجائِبَ وَقُوَّاتٍ. لِأَنَّهُ ما هُوَ الّذي نَقَصْتُم عن سائِرِ الكَنائِسِ، إلّا أَنِّي أنا لَم أُثَقِّلْ عَلَيْكم؟ سامِحُوني بِهذا الظُّلْمِ! هُوَذا الـمَرَّةُ الثَّالِثَةُ أَنا مُستَعِدٌّ أَنْ آتِيَ إِلَيْكُم ولا أُثُقِّلَ عَلَيْكم. لِأَنِّي لَسْتُ أَطْلُبُ ما هُو لَكُم بل إِيّاكُم. لِأَنَّهُ لا يَنبَغي أنَّ الأَولادَ يَذْخَرُونَ لِلوالِدِينَ، بَل الوَالِدونَ للأَولادِ. وَأَمّا أنا فَبِكُلِّ سُرورٍ أُنْفِقُ وَأُنفَقُ لِأَجلِ أَنفُسِكُم، وَإنْ كُنْتُ كُلَّما أُحبِّكُم أَكثَرَ أُحَبُّ أَقلَّ! فَليَكُنْ. أَنا لَمْ أُثقِّلْ عَليْكُم، لَكِنْ إذْ كُنتُ مُحْتالاً أَخَذتُكم بِمَكْرٍ! هلْ طَمِعْتُ فيكُم بأَحدٍ مِنَ الَّذينَ أَرسَلْتُهم إِلَيْكُم؟ طَلَبْتُ إلى تِيطُسَ وَأَرسَلْتُ مَعَهُ الأَخَ. هل طَمِعَ فيكم تِيطُسُ؟ أَمَا سَلَكْنا بِذَاتِ الرُّوحِ الواحِدِ؟ أَمَا بِذاتِ الخَطَواتِ الواحِدَةِ؟ أَتَظُنُّونَ أَيضًا أنَّنا نَحتَّجُ لَكم؟ أمامَ اللهِ في الـمَسيحِ نتكلَّمُ. وَلَكِنَّ الكُلَّ أيُّها الأحبّاءُ لأجلِ بُنيانِكُم. لأَنِّي أَخافُ إِذا جِئْتُ أنْ لا أَجِدَكُم كَما أُريدُ، وَأُوجَدَ مِنكُم كَما لا تُريدُونَ. أَنْ تُوجَد بَينَكم خُصُوماتٌ وَمُحاسَدَاتٌ وَسَخَطاتٌ وَتَحَزُّباتٌ وَمَذَمّاتٌ وَنَمِيمَاتٌ وتَكَبُّراتٌ وتَشْوِيشاتٌ. أنْ يُذِلَّني إِلَهي عِندَكُم، إذا جِئتُ أَيضًا وَأَنوحُ على كَثيرينَ مِنَ الّذينَ أَخطَأُوا مِن قَبْلُ وَلَم يَتُوبوا عَنِ النَّجاسَةِ والزِّنى والعَهارَةِ الّتي فَعَلوها”.
شرح النّص الإنجيليّ:
في هذا الإصحاح، يُعاتِب بولس الرّسول أهل كورنثوس، كما يُعاتِب الأب أبناءه، إذ يرغب في تقدُّمهم الروحيّ في مسيرة الإيمان، لا في بقائهم على حالتهم الّـتي كانوا عليها قَبل قبولهم الإنجيل. إنّ بولس يُعاتِبهم، في غيابه عنهم، من خلال هذه الرِّسالة، كي لا يُضطّر للتكلّم معهم بقسوةٍ، حين يحضر فيما بينهم. لقد شارك بولسُ أهلَ كورنثوس خِبرتَه الروحيّة الخاصّة، حين قال لهم: “أَعرِفُ إِنسانًا في المسيحِ قَبلَ أرْبَعَ عشرَةَ سنةً. أَفِي الجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعلَمُ، أَم خارِجَ الجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعلَمُ. الله يَعلَمُ. اخْتُطِفَ هذا إلى السَّماءِ الثّالِثَةِ”. كان الرّسول بولس يتكلّم عن ذاته في قولِه: “أعرِف إنسانًا”، وقد عبَّر عن علاقته المتينة بالله باستخدامه عبارة “السّماء الثّالثة”، للدلالة على عُمق تلك العلاقة وعلى عدم إمكانيّة أيِّ مخلوق إدراكها حتّى بولس نفسه. كان بولسُ الرّسول مُحِبًّا للخدمة الرّسوليّة، لذا طَلب مِنَ الربّ أن يَنزعَ منه كلّ عائقٍ يمنَعُه مِنَ التقدُّم في رسالته التبشيريّة قائلاً:
“أُعْطِيتُ شَوْكَةً في الـجَسَدِ، مَلاكَ الشَّيطانِ لِيَلْطِمَني، لِئَلّا أَرتَفِعَ. مِن جِهةِ هذا تَضَرَّعْتُ إلى الربِّ ثَلاثَ مرّاتٍ أَنْ يُفارِقَني”. كَثُرت الشروحات حول هذه العبارة، فاعتقد البعض أنّ بولس يُعاني مِن إعاقةٍ جسديّة حركيّة، أو مِن شِحٍّ في نظره، في حين اعتبر البعض أنّه يُعاني من ألَمٍ في مَعِدَته، أمّا آخرون فوَجدوا أنّه يُعاني من مَرضٍ غير معروفٍ إلّا مِن قِبَل الله وبولس فقط. ردًّا على طَلَبِ بولس الرّسول الثّلاثيّ حول نزْعِ شَوكةٍ مِن جسده، أجابه الربُّ قائلاً: “تَكْفِيكَ نِعمَتي، لِأَنَّ قُوَّتِي في الضُّعفِ تُكمَلُ”. ليس المقصود بهذا الكلام، أن يحاول بولس الرّسول تحويلَ ضُعفه البشريّ إلى مَصدَرِ قوّةٍ بشريّة، ولا المقصود دَفْعَه للتباهي بضُعفه، بل المقصود أن يسمح هذا الأخير للربّ بأن يُظهِر قوَّته الإلهيّة من خلال ضُعفِ بولس الإنسانيّ. وهذا ما عبَّر عنه بولس بالقول: “لِأَنِّي حِينَما أَنا ضَعيفٌ، فَحِيْنَئِذٍ أَنا قَوِيٌّ”. أمّا في عالمنا اليوم، فإنّنا نتحجَّج بضُعفِنا البشريّ لمقاطعة الله، والتهرّب من خِدمة الآخرين. فمثلاً، عندما نكون في حالة غضبٍ أو معاناةٍ من أَلمٍ جسديّ، نتشاجر مع الجميع متحجِّجين بضُعفِنا البشريّ.
ليس من السَّهل على الإنسان الافتخارُ بضُعفِه، فالافتخارُ بالضُّعف يحتاج إلى علاقة متينةٍ مع الله، كما كانت علاقة بولس بالله، وكما كانت علاقة يسوع المسيح بأبيه. لقد كان الربّ يسوع مُعلَّقًا على الصّليب، والصّليب كما هو معروفٌ، هو علامةٌ للعار والضُعف. ولكنّ الربّ بقبولِه الآلام، استطاع إظهار قوّة الله، إذ اعترف قائد المئة عند أقدام الصّليب بحقيقة المسيح، قائلاً فيه: “كان هذا حقًا ابن الله” (لو 23: 47). إنّه لسِرٌّ يصعبُ على الإنسان إدراكُه كيف يتحوَّل ضُعفه البشريّ إلى مكانٍ يُظهِرُ الربّ فيه قوّته الإلهيّة. إنّ قوّة الله تظهر من خلال الضُّعف البشريّ، حين يسلك الإنسان في حياته كما سلك الربّ في حياته، فيتحمّل المؤمِن صعوبات هذه الحياة بإيمانٍ ورجاء، كما تحمَّل المسيح آلامه على الصّليب، فيكون بذلك علامةَ رجاءٍ، وشاهدًا حقيقيًّا لقوّة الله الفاعلة في حياته. إنَّ عبارة “السّماء الثّالثة”، تؤكِّد إيمان المسيحيّين بأنّ السّماء مؤلّفة من عدّة طبقاتٍ، ولكنَّ بولس استخدمها ليُعبّر عن عُمق علاقته بالربّ، إذ يسعى لمطابقة أفكاره بفكر الله، متخلّيًا عن أفكاره البشريّة.
لقد استطاع بولس التمييز بين واجبه الرّسوليّ تجاه أهل كورنثوس، وبين ضُعفه: فهو لم يرضخ للاضطهادات والإشاعات الّـتي تعرَّض لها، بل ثابرَ في رسوليّته ناشرًا الإنجيل في كلّ المسكونة. لقد اتَّهمَ أهل كورنثوس بولسَ الرّسول بطَمَعه في الحصول على القوت الأرضيّ مقابل بشارته لهم بالإنجيل؛ لذا رَفَضَ بولسَ كلّ تقدِماتهم الماديّة مخافةَ أن يُساهم قبولُه بها في تعطيل الإنجيل، إذ إنّ هَدفه من البشارة لا الحصول على القوت الأرضيّ، بل الحصول على أهل كورنثوس أبناءً لله في الإيمان.
أمام هذا الافتراء على بولس مِن قِبَل أهل كورنثوس، انتقل بولس إلى مدينة أخرى، مُعيِّنًا أحد تلاميذه وهو تيطس، لمتابعة الرِّسالة في كورنثوس، فسلك هذا الأخير على مِثال بولس معلِّمه، رافضًا كلّ تقدِمات أهل كورنثوس الماديّة، ساعيًا إلى التبشير بالمسيح لِما في ذلك مِن خلاص لنفوس أهل تلك المدينة، عند قبولهم بالإنجيل.
في هذا الإصحاح، عبّر بولس لأهل كورنثوس عن استعداده لإِنفاق كلّ أمواله في خدمتهم في البشارة، وعن استعداده للموت من أجلهم إن كان في ذلك خلاص نفوسهم، إذ قال لهم: “وَأَمّا أنا فَبِكُلِّ سُرورٍ أُنْفِقُ وَأُنفَقُ لِأَجلِ أَنفُسِكُم، وَإنْ كُنْتُ كُلَّما أُحبِّكُم أَكثَرَ أُحَبُّ أَقلَّ!”. بالنسبة إلى بولس، إنّ المحبّة تُتَرجم من خلال الخدمة، وقد وَجد نفسه مقصِّرًا في محبّته لأهل كورنثوس نظرًا لمسيرتهم المليئة بالمحاسدات والتحزّبات والنميمات وسواها من الأمور الّتي لا يرضاها الله، لذلك قرّر بولس مُضاعفة حبِّه لهم، ليتمكّنوا من إصلاح مسيرتهم الإيمانيّة. كان باستطاعة بولس الاحتيال على أهل كورنثوس للحصول على رِضاهم، لكنّه فضَّل أن يبقى أمينًا لكلمة الله، ولو كلَّفه ذلك المزيد من الإشاعات والرّفض لرسوليّته.
إنّ الآية الأخيرة من هذا الإصحاح:” أنْ يُذِلَّني إِلَهي عِندَكُم، إذا جِئتُ أَيضًا وَأَنوحُ على كَثيرينَ مِنَ الّذينَ أَخطَأُوا مِن قَبْلُ وَلَم يَتُوبوا عَنِ النَّجاسَةِ والزِّنى والعَهارَةِ الّتي فَعَلوها”، تُلقي الضوء على مشكلة أساسيّة في كورنثوس، وهي عدم رغبة بعض أهلِها إعلان توبتهم عن أخطائهم، على الرّغم من مجيء بولس إليهم عدّة مرّات. في رسالته التبشيريّة، كان بولس يبشِّر مدينة تِلو الأخرى، وما إن يقبل أهلُها الإيمان، حتّى يترك المدينة لرعاية أحد تلاميذه، منتقلاً للتبشير في مدينةٍ أخرى، ولا يعود إليها إلّا للضّرورة القصوى. كان التّلاميذ ينقلون إلى بولس أخبار المؤمِنِين الجُدد، وحين كان يرى بولس ضرورة للتدّخل لحلّ إحدى المشاكل، كانت الرسائل الّتي يُرسلها لهم كافيةً لذلك. إذًا، لم يكن بولس يكرِّر زياراته للـمُدُن الّتي يبشِّرها إلّا عند الضرورة القصوى، أمّا في كورنثوس فهو اضطّر نتيجة كثرة المشاكل فيها، إلى زيارتها ثلاث مرّات وهذا ما لم يكن مألوفًا في مسيرة بولس التبشيريّة.
في ظلّ هذا الوضع المتأزِّم في كورنثوس، نطرح السؤال: ما هو السبب الأساسيّ لوجود كلّ هذه المشاكل؟ بكلمة واحدة، إنّه الخوف. إنّ الخوف يدفع النّاس إلى ارتكاب الخطايا، والتكبُّر على الآخرين. إنّ المتكبِّر هو إنسانٌ يخاف الآخرين، ولا يشعر بالأمان إلّا بإخضاع الآخرين له، أو بإلغائهم؛ وخَيرُ مِثالٍ لنا على ذلك هم الديكتاتوريّون الّذين عَرَفهم التّاريخ البشريّ. ليس بالضرورة أن يكون الإنسان الخائفُ متكبِّرًا، ولكنَّ كلّ إنسانٍ متكبّرٍ هو إنسانٌ خائفٌ بكلّ تأكيد.
إنّ الخوفَ يُفقِد الإنسانَ أمانَه، لذلك يلجأ هذا الأخير إلى الانغلاق على ذاته والابتعاد عن الآخرين. هذا ما اختبره الرّسل في العليّة، بعد موت يسوع وقبل حلول الرّوح القدس عليهم، إذ يقول لنا الإنجيليّ يوحنّا إنّه “في مساء ذلك اليوم، يوم الأحد، كان التّلاميذ في دارٍ أُغلِقَت أبوابُها خوفًا مِنَ اليهود” (يو 20: 19). إنّ الخوف يقطع كلّ جسور التواصل بين البشر، أمّا المحبّة فتَبنِيها، ولذلك قال يوحنّا الرّسول: “إنّ المحبّة تطرد الخوف”، وأنا أُضيفُ قائلاً: “والخوف يطرد المحبّة خارجًا”، إذ لا يستطيع الإنسان أن يُحِبَّ مَن يخاف مِنه. فكما أنّ الموت لا يلتقي مع الحياة، كذلك الخوف لا يلتقي مع المحبّة. إنَّ الخوف يرسم لك صُوَر الموت، أمّا المحبّة فتَرسُم لك صُوَر الحريّة الّتي تمنحُكَ الحياة. لا يستطيع الإنسانُ التخلُّصَ مِن خوفه إلّا من خلال كلمة الله المحرِّرة: فكلمة الله وحدها قادرة على طرد كلّ خوفٍ من حياة الإنسان، أخارجيّ كان أم داخليّ بسبب نقائصه؛ وهي قادرة على تحويل ضُعفه البشريّ إلى مكانٍ لإظهار قوّة الله. إنَّ نقائص الإنسان البشريّة، كالمرض والإعاقة، قد تشكّل عائقًا أمام خَدَمته للآخرين، ولكنّها لا تستطيع منعَهُ مِن محبّتهم، وهنا نتذكِّر قول بولس الرّسول إنّ لا شيء يستطيع أن يفصِلنا عن محبّة المسيح: لا شِدّة ولا ضيق، ولا أيّ نوعٍ آخر من الاضطهادات. لقد دَفع الخوفُ آدمَ إلى ارتكابِ الخطيئة، ودفعَ الرّسلَ إلى الهرب بدلاً مِن مرافقة يسوع المسيح، معلِّمهم، في ساعاته الأخيرة على هذه الأرض.
إنّ كلّ مخاوف الإنسان مرتبطةٌ بشكلٍ أساسيّ بخوفه من الموت، وبالتّالي حين يَطمئنُّ الإنسان لاندثار الموت، يزول كلّ سببٍ لخوفه في هذه الحياة. يخاف الإنسان مِن تعرُّضه للمَرَض لأنّه يخاف أن يؤولَ به هذا المرض للموت؛ كما أنّه يخاف من الجوع، بسبب خوفه من الموت. إنَّ الخوفَ نوعان: “خوفٌ مِن”، و”خوفٌ على”. إنَّ خَوفكَ على الآخر يدفعُكَ إلى مضاعفةِ حبِّك له، فَيَكون حبُّك سَنَدًا له ودعمًا يساعده في تَخطّي صعوباته، وبالتّالي يكون خَوفك عليه مقوِّيًا لحبِّك له.
أمّا الخوف مِن الآخر، فيطرد الحبَّ خارجًا، لذلك فإنّ الإنسان الّذي يخاف من الموت، يموت نفسيًّا وروحيًّا قبل موتِه الجسديّ. إنَّ الإنسان الّذي لا يخاف من الموت هو إنسانٌ لا يرى في الموت إلّا وسيلةً للعبور من هذه الحياة للقاء الحبيب، يسوع المسيح. وبولس الرّسول لا يخاف الموت، بل يعتبره جسر عبورٍ من هذه الحياة للقاء الحبيب، يسوع المسيح، لذلك لم يَخجلْ مِن تعداد مُعاناته أمام أهل كورنثوس. وقد عبّر الرّسول بولس عن شوقه لمغادرة هذه الحياة، حين قال في إحدى رسائله، إنَّ حياتَه هي المسيح، والموت رِبحٌ له. إنَّ بولس يتمنّى الموت من أجل اللّقاء بالربّ، ولكنّه طالما أنّه لا يزال على قيد الحياة، فهو لن يتوقَّف عن خِدمة الكنائس والتبشير بالإنجيل. إنّ الربّ قد حرّر بقيامته من الموت، البشريّة جمعاء مِن خوفها من الموت، إذ انتصر الربُّ عليه وأفقدَه كلّ سُلطانٍ له على البشر.
وبالتّالي على البشر، أن يُعطُوا الموتَ قيمتَه الحقيقيّة، فلا يُعظّموه كأنّه نهاية كلّ شيء، ولا يُقلِّلوا من أهميّته، فيعيشوا حياةً لا تعكس استعدادهم للقاء الحبيب، يسوع المسيح. إنَّ الإنسان الّذي يدّعي خَوفه على الله، هو في الحقيقة إنسانٌ يَخاف منه: إذ إنّه، بحجّة الدِّفاع عن الله، يقتلُ الآخرين ويؤذيهم، وهذ ما تقوم به الجماعات الإرهابيّة المتعصّبة، الّتي يخاف أعضاؤها من عقاب الله لهم في اليوم الأخير، لذلك يسعوَن إلى فرضِ معتقداتهم الدِّينية على الآخرين بالقوّة. إنّ خوفَنا على الله نختبرُه في حياتنا اليوميّة، إذ قد نتشاجر مع الآخرين بحجّة الدِّفاع عن الله، فلا نقبل بآرائهم، مُدّعين أنّ الحقيقة هي مِلكٌ حصريٌّ لنا دُون سوانا من البشر. إنّ تَصَرُّفَنا هذا مع الآخرين لا يعكِسُ خوفَنا على الله، إنّما خوفَنا مِن تهميش الآخرين لنا، بعبارة أخرى، خوفَنا من العزلة الّتي تشكِّل إحدى صُوَر الموت. إنّ الإنجيل يتضمّن بشرى سارّة للمسكونة بأسْرِها إذ يُقدِّم لنا صورة الله الحقيقيّة، وهي مُغايرة للصّورة الّتي رسمناها قديمًا عن الله: فالله هو أبٌ محبٌّ للبشر، لا قاضٍ ديّان لهم على أعمالهم السَّيئة.
إنّ غالبيّة مخاوِفنا البشريّة مَبنيّة على أوهامٍ لا على الحقيقة. إنّ الوَهم يُشبِه الحقيقة من حيث الشّكل الخارجيّ، غير أنّه مُغايرٌ لها في المضمون. فمثلاً: قد يراك البعض شاحِب الوجه، فيُوهِمونك بأنّك مريضٌ، فتُصدِّق كلامهم، على الرّغم من إدراكِك بأنّك لا تُعاني من أيِّ مرضٍ في الحقيقة. هذا ما يسعى إليه الشيطان، منذ بدء الخليقة، أي من آدم إلى يومنا هذا، أن يزرع الأوهام في أذهان البشر، مُحاولاً إقناعهم بأنّها الحقيقة. إنّ الشيطان لا يَتعَب مِن نَصب الأفخاخ للبشر، أمّا الإنسان فيسعى إلى الاستراحة من عَمَلِه التبشيريّ في كلّ مناسبةٍ، لأنّه يخاف مواجهة الصُّعوبات في الرِّسالة.
إنّ الرّسل قد اختبروا الخوف مِن مواجهة صعوبات الرِّسالة: فَبَعد موت الربّ يسوع على الصّليب، خاف الرّسل من اليهود، فاختبأوا في العليّة وأغلقوا أبوابها إذ وَجدوا فيها مصدَر أمانٍ لهم. بعد موت الربّ، اعتقد الرّسل أنّ اختبارهم معه كان وَهمًا لا حقيقة، فظهر لهم الربّ في العليّة مُظهرًا لهم آثار المسامير ليؤكِّد لهم أنّه حقيقةٌ لا وَهم. إنَّ الربّ وحده يستطيع أن يخلِّص الإنسان من كلّ وَهمٍ، ويمنحه السّلام والفرح اللّذين لا يزولان. لقد تحرّر الرّسل من كلّ مخاوفِهم حين حَلّ الرّوح القدس عليهم بشكلِ أَلسِنةٍ من نارٍ، فشرّعوا أبواب العليّة وانطلقوا للكرازة بالإنجيل، غير آبهِين بالموت، وما عِظة بطرس أمام الجموع، في يوم العنصرة، إلّا دليلٌ على تحرّره من كلّ خوفٍ.
إنَّ بطرس لم يأبه للموت، الّذي كان سيكون مِن نَصيبه، عند معرفة اليهود بإعلانه لحقيقة الربّ، فأعلن أمام الجموع من دون خوفٍ أنّ يسوع المسيح الّذي قَتله اليهود، قد جعله اللهُ ربًّا ومسيحًا. إنّ اسطفانوس، أوّل شهداء الكنيسة، لم يأبه للموت فأعلنَ كلمة الله بكلّ شجاعة، وقد كلّفه ذلك الموت رجمًا على يد بولس الرّسول. في لحظات حياته الأخيرة، أي حين تعرَّض للرّجم، غفر القدِّيس اسطفانوس لقاتليه مردِّدًا كلام يسوع على الصّليب: “اغفر لهم يا أبتاه، لأنّهم لا يَدرون ماذا يفعلون”، ثمّ نظر إلى السّماء مُبتسمًا وأَسلم الرّوح.
إنّ الموت وَهمٌ يزرعه الشرير في فِكر الإنسان، فيُقنِعه أنّ الموت هو نهاية كلّ شيء. يخاف الإنسان مِن الموت لأنّه يرى فيه حِرمانًا مِن ملذّات هذه الدّنيا الزائلة. إنّ الحياة الحقّة هي في السّماء، لا في هذه الأرض، فملذّات هذه الدّنيا هي سلسلةٌ من الأوهام الّتي تزول بالموت الجسديّ. لا يستطيع الإنسان التمسُّك بهذه الحياة وملذّاتها، إن كان يرغب في الحياة الأبديّة، ومعاينة وجه الله. غير أنّ الإنسان طمّاع في طبيعته، لذ يحاول بشتّى الطُرق الحصول على الحياة في هذه الأرض، وعلى الحياة في السّماء أيضًا، ولكنّه فشل في ذلك، إذ تحوّل إلى جلّادٍ لإخوته البشر، بهدف التخلُّص من أوهامه، وحوَّل الإنسان ذاته إلى ضحيّة ضُعفاته في اليوم الأخير، فيسأل الربّ الشفقة عليه لأنّه كان ضحيّة مخاوفه البشريّة.
إنّ عبارة “المسيح قام”، ليست مجرَّد تحيّة فصحيّة يتبادلها المؤمِنون عشيّة الاحتفال بالعِيد، بل هي موقفٌ حياتيّ يتخذّه المؤمِن ويعبّر عنه بقوله “المسيح قام”. عندما يردّد المؤمِن عبارة “المسيح قام”، فهو يُعلِن لسامعيه أنّه إنسانٌ لا يخاف الموت لأنّه يؤمِن بالربّ يسوع الّذي غلب الموت بقيامته. أمّا المؤمِنون في عالمنا اليوم، فيردّدون هذه التحيّة كتحيّة صباحيّة مُبقين على خصاماتهم المبنيّة على الأوهام الزائلة الّتي يرزعها الشرير في نفوسهم. على المؤمِن في هذه الحياة أن يحمل لواء الحقّ، أي لواء المسيح، ويدافِع عنه، حتّى وَلو كلّفه ذلك في بعض الأحيان، نشوء مخاصماتٍ مع الّذين يحمِلون لواء الباطل. وهنا يجدر بنا القول، إنّ غالبيّة خصوماتنا مع إخوتنا البشر، مبنيّة لا على تمسُّكنا بالحقّ، بل على خوفِنا الأساسيّ من الموت.
لقد سَرَدَ بولس الرّسول في بداية هذا الإصحاح، أمام أهلِ كورنثوس، مجموعةً من الصّعوبات الّـتي تحمَّلها في سبيل إعلانه الإنجيل، قائلاً:”لِذَلِكَ أُسَرُّ بالضَّعَفاتِ وَالشَتائِمِ والضَّروراتِ والاضْطِهاداتِ والضِّيقاتِ لِأَجلِ الـمَسيحِ”. وفي ختام الإصحاح نفسه، يسرِدُ لنا بولس سلسلةً من المشاكل الّتي تُعاني منها كنيسة كورنثوس، والّتي أساسها الخوف، قائلاً: “أَنْ تُوجَد بَينَكم خُصُوماتٌ وَمُحاسَدَاتٌ وَسَخَطاتٌ وَتَحَزُّباتٌ وَمَذَمّاتٌ وَنَمِيمَاتٌ وتَكَبُّراتٌ وتَشْوِيشاتٌ”.
إنّ المسيح قد قام من الموت وما رؤيتنا للقبر الفارغ إلّا لنتأكَّد من حقيقة قيامته. وبالتّالي أمام القبر الفارغ، على المؤمِن إمّا تصديق إشاعة رؤساء اليهود، بأنّ جثمان الربّ يسوع قد تعرّضَ للسَّرقة، وإمّا تصديق الملاك الموجود عند القبر والّذي أعلَن أنّ المسيح قد قام. إنّ الثِّياب البيضاء الّتي كان يرتديها الملاك عند القبر، تدلّ على القيامة، أي على المعموديّة الجديدة، الّتي يقتبلها المؤمِن مُعلنًا من خلالها دَفن العتيق فيه، وتَحَوُّله إلى إنسانٍ جديدٍ، مُعلنًا البشارة السّارة: “المسيح قام”.
ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.