تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“رسالة بولس الرّسول الثانيّة إلى أهل كورنثوس – الإصحاح الحادي عشر”
النّص الإنجيليّ:
“لَيتَكُم تَحتَمِلونَ غَباوَتِي قليلاً! بل أَنتُم مُـحتَمِلِيَّ. فإنِّي أَغارُ عليكم غَيرَةَ اللهِ، لأنِّي خَطَبتُكم لِرَجُلٍ واحدٍ، لأُقدِّمَ عذراءَ عفيفةً للمَسيحِ. ولَكِنَّنِي أَخافُ أنَّه كما خَدَعَتِ الحيَّةُ حوّاءَ بِمَكرِها، هكذا تُفسَدُ أَذهانُكم عنِ البساطَةِ الّتي في المسيحِ. فإنَّهُ إنْ كانَ الآتِي يَكرِزُ بِيَسوعَ آخرَ لَم نَكرِزْ بهِ، أَو كُنتُم تأخُذُونَ رُوحًا آخرَ لَم تأخُذُوه، أو إنجيلاً آخرَ لم تَقبَلوه، فَحَسنًا كُنتُم تَحتَمِلون. لأنِّي أَحسِبُ أنِّي لم أَنقُصْ شيئًا عَنْ فائِقِي الرُّسُل. وإِنْ كُنتُ عامِّيًّا في الكلامِ، فَلَستُ في العِلْمِ، بل نَحنُ في كلِّ شيءٍ ظاهِرونَ لَكم بين الـجَميعِ. أَمْ أَخطأتُ خَطيئةً إذْ أَذلَلْتُ نَفسِي كَي تَرتَفِعوا أَنتُم، لِأَنِّي بَشَّرتُكم مَجَّانًا بإنجيلِ اللهِ؟ سَلَبْتُ كَنائِسَ أُخرى آخِذًا أُجرةً لأجلِ خِدمَتِكم، وإذا كُنتُ حاضِرًا عِندَكُم وَاحْتَجتُ، لَم أُثَقِّلْ على أحدٍ. لِأنَّ احتياجي سَدَّهُ الإِخوَةُ الّذينَ أتَوا مِن مَكدُونيَّةَ. وفي كُلِّ شيءٍ حَفِظْتُ نَفسِي غيرَ ثَقيل عليكم، وسَأَحفَظُها. حَقُّ الـمَسيحِ فيّ. إِنَّ هذا الافتِخارَ لا يُسَدُّ عَنِّي في أَقالِيمِ أَخائِيَةَ. لِمَاذا؟ أَلِأَنِّي لا أُحِبُّكم؟ اللهُ يَعلَمُ. وَلَكِنْ ما أَفعَلُهُ سأَفعَلُهُ لأَقطَعَ فُرصةَ الّذينَ يُريدُونَ فُرصَةً كَي يُوجَدوا كَما نَحنُ أَيضًا في ما يَفتَخِرُونَ بِهِ. لأَنَّ مِثلَ هَؤلاءِ هُمْ رُسُلٌ كَذَبَةٌ، فَعَلةٌ ماكِرُونَ، مُغيِّرونَ شَكلَهم إلى شِبهِ رُسُلِ المسيحِ. ولا عَجَبَ. لِأَنَّ الشَّيطانَ نَفسَهُ يُغيِّرُ شَكلَهُ إلى شِبهِ ملاكِ نورٍ! فَلَيسَ عَظيمًا إِنْ كان خُدَّامُهُ أيضًا يُغيِّرونَ شَكلَهم كخُدَّامٍ للبِرّ، الّذينَ نِهايَتُهم تَكونُ حَسَبَ أَعمالِهم. أَقولُ أَيضًا: لا يَظُنَّ أحدٌ أَنِّي غَبِيٌّ. وإلّا فاقْبَلُوني وَلَو كَغَبِيٍّ، لِأَفتَخِرَ أنا أيضًا قليلاً. الّذي أَتَكلَّمُ بهِ لَسْتُ أَتكلَّمُ بهِ بِحَسبِ الربِّ، بل كأنَّهُ في غباوةٍ، في جسارةِ الافتِخارِ هذهِ. بِما أنَّ كَثيرِينَ يَفتَخِرونَ حَسَبَ الجَسَدِ، أَفتَخِرُ أنا أيضًا. فإنَّكُم بِسُرورٍ تَحتَمِلونَ الأغبياءَ، إذ أنتم عُقلاءُ! لِاَنَّكُم تَحتَمِلونَ: إِنْ كانَ أَحدٌ يَستَعبِدُكُم! إِنْ كانَ أَحدٌ يأكُلُكم! إنْ كانَ أَحدٌ يَأخُذُكم! إِنْ كانَ أَحدٌ يَرتَفِعُ! إِنْ كانَ أَحَدٌ يَضرِبُكم على وُجُوهِكم! على سبيلِ الـهَوانِ أَقولُ: كَيفَ أَنَّنا كُنَّا ضُعَفاءَ! وَلَكِنَّ الّذي يَجتَرِئُ فيهِ أَحدٌ، أَقولُ في غباوةٍ: أنا أيضًا أَجتَرِئُ فيهِ. أَهُمْ عِبرانِيّون؟ فأنا أيضًا. أَهُمْ إسرائيليّونَ؟ فأنا أيضًا. أهُم نَسْلُ ابراهيمَ؟ فأنا أيضًا. أهم خُدّامُ الـمَسيح؟ أَقولُ كَمُختَّلِ العَقلِ، فأنا أَفضَلُ: في الأتعابِ أَكثَرُ، في الضَّرباتِ أَوفَرُ، في السُّجونِ أَكثَرُ، في الـمِيتاتِ مِرارًا كَثيرةً. مِن اليَهودِ خَمسَ مرّاتٍ قَبِلْتُ أربَعينَ جَلدةً إِلّا واحدةً. ثلاثَ مرّاتٍ ضُرِبتُ بالعِصيّ، مَرَّةً رُجِمتُ، ثلاثَ مرّاتٍ انْكَسَرَتْ بِيَ السَّفينَةُ، ليلاً وَنَهارًا قَضَيْتُ في العُمقِ. بأَسفارٍ مِرارًا كثيرةً، بأَخطارِ سُيُول، بأخطارِ لُصوصٍ، بأَخطارٍ مِن جِنْسِي، بأَخطارٍ مِنَ الأُمَمِ، بأَخطارٍ في الـمَدينةِ، بأَخطارٍ في البريَّةِ، بأَخطارٍ في البَحرِ، بأَخطارٍ مِن إخوةٍ كَذَبةٍ. في تَعَبٍ وَكَدٍّ، في أَسهارٍ مِرارًا كثيرةً، في جُوعٍ وعَطَشٍ، في أَصوامٍ مِرارًا كثيرةً، في بَرْدٍ وَعُرْيٍ. عَدا ما هُوَ دُونَ ذلِكَ: في التَّراكُمُ عليَّ كلَّ يومٍ، الاهتمامُ بِجَميعِ الكَنائِسِ. مَن يَضعُفُ وأنا لا أَضعُفُ؟ مَن يَعثُرُ وأنا لا أَلتَهِبُ؟ إِنْ كان يَجِبُ الافـتِخارُ، فسأَفتَخِرُ بأُمورِ ضُعفي. اللهُ أَبو رَبِّنا يَسوعَ المسيحِ، الّذي هو مُبارَكٌ إلى الأبدِ، يَعلَمُ أَنِّي لَسْتُ أَكذِبُ. في دِمشقَ، وَالِي الحارِثِ الـمَلِك كانَ يَحرِسُ مَدينَةَ الدِّمَشقِيِّينَ، يُريدُ أَنْ يُمسِكَني، فَتَدَلَّيْتُ مِن طاقةٍ في زَنْبِيل مِن السُّورِ، ونَجَوتُ مِن يَدَيهِ”.
شرح النّص الإنجيليّ:
في هذا الإصحاح، يُخبرنا بولس عن الصّعوبات الّتي واجهَتْهُ في رسالته التبشيريّة إلى أهل كورنثوس، بسبب إخوةٍ مُعتَبَرين رُسلاً أو تلاميذَ رُسُلٍ، ولكنّهم في الحقيقة إخوةٌ كَذَبة، لأنّهم سعوا إلى تعطيلِ الإنجيل من خلال تشويهِهم لسُمعة بولس الرّسول. حاول هؤلاءِ الإخوةُ التشكيكَ بمصداقيّة بشارة بولس لأهل كورنثوس، من خلال التشكيك برسوليّته فقالوا فيه إنّه ليسَ بِرسولٍ أصيلٍ لأنّه ليسَ مِن رُسل يسوع الاثني عشر. إنّ بولس الرّسول قد كرَّس ذاته للبشارة بالإنجيل، وبالتّالي هو يجد أنَّ الردّ على ما يَطاله شخصيًّا من إشاعاتٍ هو مَضيعةٌ للوقت، لذا وَصَفَ بولسُ ردَّه على تلك الإشاعات، بـ”الغباوة”. لقد اضطّر بولس إلى الدِّفاع عن نفسه، عندما رأى أنّ تلك الإشاعات ستؤدِّي إلى تعطيل الإنجيل، وإلى عرقلة مسيرة الخلاص في الوصول إلى النُّفوس. بعد أن دافع بولس عن نفسه، شكر أهل كورنثوس على إصغائهم إلى غباوته تلك. إنّ المؤمِنِين في عالمنا اليوم، يُعانون أيضًا ممّا عانى منه بولس: إذ تتعرَّض سُمعة كلِّ مؤمِنٍ يسعى إلى نقل البشارة للآخرين إلى التشويه، بهدف تحويل تفكير السّامعين له من السماويّات إلى الأرضيّات.
لقد وَلد بولس أهل كورنثوس في الإيمان، إذ إنّه هو الّذي بشَّرهم بالإنجيل، فاقتبلوا منه البشارة. إذًا، إنّ بولس يعتبر أنّ أهل كورنثوس هم أبناؤه في الإيمان وأنّ واجب رعايتهم مُلقىً على عاتقه. وكما أنّ الأب يقدِّم ابنته لعريسها في يوم زفافها، كذلك يقدِّم بولس رعيّته في كورنثوس، عروسًا لعريسها، يسوع المسيح، وهذا ما قصده بالقول: “لأنّي خَطَبْتُكم لِرَجُلٍ واحدٍ، لأُقدِّمَ عذراء عفيفةً للمسيح”.
إنّ غيرة بولس الرسوليّة على أهل كورنثوس هي غيرةُ أبٍ على أبنائه وقد تجرّأ على وَصفها بأنّها على مِثال “غيرة الله عليهم”، إذ إنَّه يهتمّ بهم ويقلق على مصيرهم الخلاصيّ، ويسعى لما فيه سعادتهم. إنَّ بولس الرّسول حذّر أهل كورنثوس من الوقوع في فخاخ الإخوة الكَذَبة الّذين يسعون إلى تشويه سُمعة الرُّسل، كما وَقعت حوّاء حين أصغت إلى مَكر الحيّة. كما حذّر بولس أهل كورنثوس من عدم السّماح لهؤلاء الإخوة بانتزاع بساطتهم الإنجيليّة الّتي نالوها من الربّ حين آمنوا به ربًّا ومُخلِّصًا. كما طلب منهم رَفضَ كلّ تعليمٍ مخالفٍ للإنجيل الّذي سَمِعوه منهم. لقد دافع بولس عن نفسه أمام أهل كورنثوس قائلاً لهم إنّه رَسولٌ كبقيّة الرُّسل، وإنّه نَقَل لهم البشارة بكلّ أمانة كما فَعل سائر الرُّسل الاثني عشر في المناطق الّـتي بشَّروا بها. ثمّ أضاف بولس قائلاً لهم إنَّ إخبارهم بالبشارة ببساطة، لا يدلّ أبدًا على عدم عِلمِه بالأمور اللّاهوتيّة، بل يدلّ على مدى محبّته لهم إذ حاول إيصال البشارة لهم بطريقة سهلة وبسيطة، كي يتمكّنوا من إدراكها بشكل أفضل،
وهذا ما قصده بقَوله لهم: “أم أخطأتُ خطيئةً إذ أَذلَلْتُ نفسي كي ترتفعوا أنتم”. إنَّ معاناة بولس مع أهل كورنثوس تُذكِّرنا بمعاناة يسوع مع تلاميذه، في اللّيلة الّتي كان يستعدّ فيها لآلامه الخلاصيّة: غلَب النُّعاس على التّلاميذ في بستان الزيتون، حين كان يسوع يصلّي للآب بعيدًا عنهم. لقد استاء يسوع لذلك التصرّف لأنّ التّلاميذ لم يتمكّنوا من السّهر معه في السّاعات الأخيرة من حياته، هو الّذي سَهِر على تلمَذَتهم، فعاتبهم بالقول: “ما بالكم نائمين؟”(لو 22: 46). لقد عانى يسوع أيضًا في تلك اللّيلة من خيانة يهوذا تلميذه، إذ سلَّمه إلى الجنود الرومانيّين، أي إلى الموت، بقُبلةٍ، أي أنّه استخدم إحدى علامات الحبّ وحوَّلها إلى علامةٍ للخيانة والـمَكر. لقد عاتب يسوع يهوذا بالقول: “يا يهوذا، أَبِقُبلةٍ تُسلِّم ابن الإنسان؟” (لو 22: 48).
لم يقبل بولس الرّسول بتقدِمات أهل كورنثوس، كي لا يتعطّل الإنجيل، إذ اتَّهموه بأنّه يبشِّرهم بكلمة الله، كي يحصل على القوت الأرضيّ منهم. فقرّر العمَل في كنائسَ أخرى مقابل أَجرٍ، ليتمكّن من تأمين احتياجاته الأرضيّة واحتياجات الرِّسالة في كورنثوس. وقد أخبر أهل كورنثوس بذلك، حين تعرّضَ لخيبة أملٍ كبيرة مِن قِبَلِهم، قائلاً لهم: “سَلَبْتُ كنائسَ أُخرى آخذًا أجرةً لأجل خدمَتِكم، وإذا كنتُ حاضرًا عندَكم واحتَجْتُ، لم أُثقِّل على أحدٍ”. إنّ الكنائس الأُخرى الّتي خَدَمها بولس وبشَّرها، كانت تُرسِل إليه المساعدات حين كان في كورنثوس، ولم يتردّد يومًا في قبولها، لأنّه كان يعلم أنّ تقدِمات تلك الكنائس له تعبِّر عن محبّتها له، وبالتّالي فإنَّ الإنجيل فيها لن يتعطّل في قبوله لتلك العطايا.
إنّ الّذين حاولوا تشويه سُمعة بولس في كورنثوس، لم يكونوا من المؤمِنين الضُّعفاء النّفوس، بل كانوا من الرُّسل، أي من أصحاب السُّلطة والنّفوذ، بدليل اضطرار بولس للدِّفاع عن نفسه أمام تلك الإشاعات الّتي انتشرت بسرعةٍ بين المؤمِنِين. فمثلاً، حيت تصدر إشاعة من المؤمِنِين تجاه أحد الكهنة، فهي سُرعان ما تتبدّد، ولكن حين تصدر من رئيس كنسيّ ضدّ هذا الكاهن، فإنّها تؤدِّي إلى إثارة بلبلة في صفوف المؤمِنِين لأنّها صَدَرت من شخصٍ مسؤول في الكنيسة. لقد وَصَف بولس المشوِّهين لسُمعَته بأنّهم “رُسلُ كذَبة”، لا للدّلالة على أنّ ما يقولونه هو افتراء، بل للدّلالة على أنّهم خسِروا صِفتهم الرسوليّة حين سَعوا إلى تعطيل الإنجيل بإشاعاتهم هذه. كما أطلق عليهم صِفة الـمَكر أي أنّه شبَّههم بالحيّة الّتي ترمز إلى الشِّرير، إذ قال فيهم، إنّهم “فَعَلةٌ ماكِرون”. فكما أنّ الشِّرير يُغيّر شكلَه مرتديًا ثيابَ ملاكِ النّور ليغِشَّ المؤمِنِين،كذلك هؤلاء “الإخوة الكَذَبة”، قد ارتدوا ثياب الرّسوليّة بهدف تعطيل الإنجيل. إنَّ شخصيّة بولس قد استفزّت العديد من الرّسل في الكنيسة، على الرّغم من أنَّه لم يكن صاحب مركزٍ في الكنيسة.
لقد كان بولس رسولاً كبقيّة الرّسل، يعلِن كلمة الحقّ بكلّ أمانة، ولكنّ إعلانه لكلمة الحقّ قد أثرّت على مصالح بعض الرُّسل، فقرّروا تشويه سُمعته عند المؤمِنِين. إنّ جميع القدِّيسين في الكنيسة قد اختبروا معاناة بولس، إذ تعرّضوا لتشويه السُّمعة مِن قِبَل إخوتهم في الرّهبنة أو في الكهنوت، فَقِيل على سبيل الـمِثال في القدِّيس نكتاريوس إنّه شاذٌ جنسيًّا، وفي القدِّيس يوحنّا الذّهبي الفمّ إنّه تخلّى عن السماويّات واهتمّ بالأرضيّات لأنّه كان يستحمّ يوميًّا، مخالفًا بذلك التّقاليد الرّهبانيّة والكهنوتيّة في عصرِه، الّتي كانت تقوم على أن تكون رائحة جسد الرّاهب كريهةً تعبيرًا منه على نَبذِه لمجد الأرض، واهتمامه بمجد السّماء. غريبةٌ هي تلك العادات الّتي أدّت إلى تشويه سُمعة يوحنّا الذّهبيّ الفمّ، في حين طَلَبَ الربُّ من أتباعه المؤمِنِين الاهتمام بنظافتهم وبشكلهم الخارجيّ، في قَوله لهم:”ادهِن رأسكَ واغسل وَجهك، لكيلا لا يظهر للنّاس أنّك صائمٌ، بل لأبيكَ الّذي في الخُفية، وأَبوك الّذي في الخفية هو يُجازِيك” (متى 6: 17-18). لقد اتُّهِم يوحنّا الذّهبيّ الفمّ بأنّه يهتمّ بالأرضيّات لا بالسّماويّات، لأنّه كان يأكل عسلاً،
إذ كان يعلَم أنَّ العسل هو دواءٌ مُفيدٌ لكلّ داء. لقد نال القدِّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ إقبالاً عند المؤمِنِين إذ كانوا يُصغون إلى عِظاته الطويلة من دون ملل، وكانوا يُصفِّقون له تعبيرًا عن إعجابهم بكلماته، أمّا هو فقد كان ينزعج من ذلك التَّصفيق، لأنّه كان يرغب بأنْ يتحوّل هؤلاء السّامعون بعد مُضي ثلاث سنوات على سماعه لعِظاته، إلى مبشِّرين بكلمة الله، في الكنائس المجاورة. وهنا السؤال يُطرَح: ماذا تُراهم سيَفعلون رعاة كنيستنا لو تمكّنوا من سماع عِظات القدِّيس يوحنّا الذهبيّ الفمّ: أكان نَمطُ حياتهم سيَتغيّر، أم تُراهم سيقومون بتشويه سُمعته للمحافظة على مصالحهم الخاصّة؟ إخوتي، إنّ الإنسان الحقود يفضّل قَتل الآخر معنويًّا من خلال الإشاعات، أكثر من قَتلِه جسديًّا، لأنّ القَتل الجسديّ قد يُحوّل الآخر إلى شهيدٍ في نظر الآخرين، أي إلى بطلٍ؛ أمّا في القَتل المعنويّ، فيتحوّل الآخر إلى أداةٍ للتحقير والسخريّة بسبب سُمعَته الّتي تتشوّه يومًا بعد يوم، وهذا ما يصبو إليه الإنسان الحقود.
أعلن بولس كلمة الله بكلّ أمانة، فقال إنّ الربّ قد مَنَح الخلاص لجميع المؤمِنِين دون تفرقة. إنّ هذه الحقيقة الإيمانيّة لم تلقَ ترحيبًا عند المسيحيّين الّذين كانوا من أصلٍ يهوديّ، فأطلقوا الإشاعات على بولس بهدف تشويه سُمعته، لأنّ ما يبشِّر به بولس، يخالف مصالحهم، فَهُم كانوا يعتقدون أنّ على كلِّ مؤمِنٍ مسيحيّ أن يعتنق اليهوديّة أوّلاً قبل إعلان اعتناقه المسيحيّة، لأنّه بحسب نَظَرِهم، جاء الخلاص للبشريّة من خلال اليهود. بالنسبة إلى بولس، إنّ جميع المؤمِنِين ينالون الخلاص متى آمنوا بالربّ،
أكانوا من أصلٍ وثنيّ أم يهوديّ، وبالتّالي لا أفضليّة لأُمّةٍ على أُخرى، في الإيمان. إنّ هَدف بولس من البشارة هو تحقيق مجد الله لا مجد النّاس، لذا لم يراعِ خواطر “الإخوة الكَذَبة”، بتشويه الحقيقة، فكان أمينًا لكلمة الله. إنّ هذه البشارة لم تنَلْ إعجاب المؤمِنِين من أصلٍ يهوديّ، إذ كانوا يطمحون إلى التّباهي على بقيّة الأمُمَ، وهذا ما تطمح إليه بشريًّا كلّ أمّةٍ في الأرض، إذ تسعى إلى إبراز تمايُزِها عن الأُخرَيات، مُعتَبِرَةً ذاتها: “إنّها خَيرُ أمّةٍ أُخرِجَت للنّاس”. هذا ما تعيشه كنيستُنا اليوم، فأصبحت كلّ كنيسةٍ تسعى للتّباهي على الأُخرى، مُعتَبرَة ذاتها أنّها الأفضَل، وأنّها الوحيدة في امتلاك حقيقة يسوع المسيح.
على المؤمِنِين الحقيقيّين بالربّ يسوع المسيح، أن يسعوا لِنَقل بشارة الإنجيل بكلّ أمانة، فيعترفوا بأنّ جميع المؤمِنِين متساوون في الخلاص بإيمانهم بالربّ يسوع، كما يعترفوا بأنَّ إيمانهم بالربّ هو عطيّة مجانيّة منه، لذا عليهم نَقْلُ اختبار حبّ الله لهم للآخرين بفرح، وبمجانيّة تامّة. إنّ جميع المؤمِنِين بالمسيح، متّفقون على أنّ الربّ قد مات على الصّليب وقام من بين الأموات لأجل خلاصهم، وقد مَنحهم بقيامته الحياةَ الأبديّة، وبالتّالي لا خلاف مع بولس على هذا الصّعيد، ولكن ما شكَّل سببًا للخلاف بين بولس و”الإخوة الكَذَبة” هو اعتراف بولس أنّ جميع المؤمِنِين متساوون في الإيمان أمام الربّ.
إنّ كلامَ بولسَ غير مقبولٍ بشريًّا بدليل أنّ معظم الخلافات بين البشر سببُها الأساس، هو أنَّ أحد أطراف النِّزاع ينظر بفوقيّة إلى الطرف الآخر، إذ يعتبر نفسه أفضَل منه، وبالتّالي تكمن مشكلة البشر في عدم قبولهم بمساواتهم مع الآخرين. وهنا نطرح السؤال على ذواتنا: كيف نطبِّق إيماننا بالمساواة مع جميع البشر، في حياتنا اليوميّة؟ إنّ جميع النّاس وبخاصّة المؤمِنِين منهم، يسعون إلى الظّهور والجلوس في المراتب الأُولى: فمثلاً في احتفالات العشاء الّتي تنظِّمها المنظّمات الكنسيّة، نلاحظ أنّ بعض المؤمِنِين يسارعون إلى مغادرة الحَفل، عندما يجدون أنّ طاولاتهم بعيدةٌ عن الأضواء. كما أنّنا نجد بعض المؤمِنِين يسارعون إلى الجلوس في الصُّفوف الأماميّة في الكنيسة، نظرًا للمركز المرموق الّذي يحتلّونه في الحياة المدنيّة، ولِلَفت الأنظار إليهم، كونُهم لا يحضرون إلّا نادِرًا إلى الكنيسة أي في المناسبات الكبرى. وإن تجرّأ أحد الكهنة على إعطاء ملاحظة لأولئك في هذا الشأن، عرَّضوا سُمعته للتشويه في كافّة مجالسهم، فيتعطّل الإنجيل إذ يُنبَذ الكاهن في رعيّته، فلا يعود كلامه مسموعًا منهم.
إنّه من الصَّعب على الإنسان القبول بالمساواة بينه وبين سائر النّاس، وهذا ما يختبرُه المؤمِنون يوميًّا، في تربيتهم لأطفالهم ونقاشهم معهم، في حديث المعلِّمين مع تلامِذَتهم وحديث التّلامِذة مع معلِّميهم، في حديث أرباب العمل مع أُجرائهم وحديث هؤلاء مع أرباب عَمَلِهم. وإليكم في هذا الصَّدد، مَثلٌ إنجيليٌّ، لتوضيح هذه المسألة، وهو مَثل الكرّام الّذي ذَهب لإحضار فَعلةٍ إلى كرمِه، منذ الصّباح الباكر. وفي ختام هذا النّهار، ساوى ربّ العمل جميع الفعلة، فأعطاهم جميعًا الأَجر نفسه، ممّا أدّى إلى ثورة عمّال الصّباح لأنّهم تَعبوا أكثر من سواهم، وبالتّالي كانوا ينتظرون أَجرًا أفضل من الّذين عَملوا ساعةً واحدة. إنّ ما اختبره هؤلاء العمّال، يختبره أيضًا بعض المؤمِنِين في الكنيسة في زمن الفِصح، إذ يعتقد المؤمِنون الّذين التزموا بمسيرة الصّوم أنّهم أفضل من إخوتهم الّذين لم يتمكّنوا من الالتزام بالصّوم، ولذا يتفاجأون حين يجدون أنّ الّذين لم يتمكّنوا من المشاركة في الصّوم الكبير يشعرون بفرَح الفِصح أيضًا كسِواهم من الصائمين، لا بل ويسارعون قبل الآخرين إلى الحصول على المناولة القربانيّة.
إخوتي، إنّ الصّوم لا يُعطينا أفضليّة على سوانا من المؤمِنِين، كما أنّ فَرح العيد ليس مرتبطًا بمدى التزامنا بالصوّم الكنسيّ. إنَّ الله في جوهره يعلِّمنا على المساواة: فالله هو ثالوثٌ أي أنّه ثلاثة أقانيم: الله الآب، والله الابن، والله الرّوح القدس، وجميع هذه الأقانيم متساوية في الجوهر، أي أنّ كلّ واحدٍ منهم فريدٌ في عملِه، من دون أن يكون لأيّ أقنوم من الأقانيم أهميّة أكبر من الأقنومَين الآخرَين. إنّ الله، بجوهره وطبيعته، يدعونا إلى التمثُّل به وإلى عيش المساواة بين بعضنا البعض.
إذًا، ليست المساواة، فِكرةً بشريّة من اختراع بولس، بل هي فِكرة إلهيّة من تصميم الله. إنّ المحبّة تُعاش أفقيًّا، أي بالمساواة، لا عاموديًّا، أي بالفوقيّة أو الدونيّة بين البشر. كان بولس على حقٍّ في ما أعلنه للمؤمِنِين، وبالتّالي بأيِّ حقٍّ شوّه الإخوة الكَذَبة سُمعَة بولس؟ لقد أكّد بولس على فِكرة المساواة بينه وبين سائر الرّسل من حيث الهويّة حين قال:” أَهُمْ عِبرانِيّون؟ فأنا أيضًا. أَهُمْ إسرائيليّونَ؟ فأنا أيضًا. أهُم نَسْلُ ابراهيمَ؟ فأنا أيضًا”.
أمّا من ناحية الخِدمة الرسوليّة، فتجرّأ بولس على القول إنّه أفضل من سائر الرّسل، كَونه عانى أكثر منهم في الرِّسالة، معدِّدًا أمام أهل كورنثوس ما ناله من الاضطهادات جرّاء إعلانه لكلمة الله: “أَهُم خُدّامُ الـمَسيح؟ أَقولُ كَمُختَّلِ العَقلِ، فأنا أَفضَلُ: في الأتعابِ أَكثَرُ، في الضَّرباتِ أَوفَرُ، في السُّجونِ أَكثَرُ، في الـمِيتاتِ مِرارًا كَثيرةً. مِن اليَهودِ خَمسَ مرّاتٍ قَبِلْتُ أربَعينَ جَلدةً إِلّا واحدةً. ثلاثَ مرّاتٍ ضُرِبتُ بالعِصيّ، مَرَّةً رُجِمتُ، ثلاثَ مرّاتٍ انْكَسَرَتْ بِيَ السَّفينَةُ، ليلاً وَنَهارًا قَضَيْتُ في العُمقِ. بأَسفارٍ مِرارًا كثيرةً، بأَخطارِ سُيُول، بأخطارِ لُصوصٍ، بأَخطارٍ مِن جِنْسِي، بأَخطارٍ مِنَ الأُمَمِ، بأَخطارٍ في الـمَدينةِ، بأَخطارٍ في البريَّةِ، بأَخطارٍ في البَحرِ، بأَخطارٍ مِن إخوةٍ كَذَبةٍ. في تَعَبٍ وَكَدٍّ، في أَسهارٍ مِرارًا كثيرةً، في جُوعٍ وعَطَشٍ، في أَصوامٍ مِرارًا كثيرةً، في بَرْدٍ وَعُرْيٍ.” لم يفتخر بولس بمركزٍ ناله في البشارة، بل هو افتخر بالعذابات الّتي نالها في أثناء عملِه كرسول. إنّ البشر يفتخرون بإنجازاتهم لا بهَوانهم، أمّا بولس فيفتخر بضعفه لا بقوّته، ولذا لا يتردّد في عرض لائحة بالاضطهادات الّـتي عاناها في مسيرته التبشيريّة بالربّ. إنّ بولس الرّسول هو مِثال الرّاعي الحقيقيّ: فهو يتألّم، حين يرى أحد أبنائه متعثّرًا في الإيمان، أي أنّه يريد التّراجع عن إيمانه بالربّ نتيجة الصّعوبات الّتي تواجهه في حياته. إنّ بولس قد تعرَّض للملاحقة مِن قِبَل والي الدِّمشقيّين، فما كان مِن بولس إلّا أن أسرع بالهرب منه، متدلِّيًا مِن أعلى السّور في سلّة.
إنّ بولس يُذكّر أهل كورنثوس، في هذا الإصحاح، أنّه عانى الكثير من الاضطهادات في سبيل البشارة بكلمة الله، وبالتّالي مَن تَحمّل كلّ تلك الآلام في سبيل الرِّسالة، أيستطيع تعطيل الإنجيل من أجل منصبٍ، أو قوتٍ أرضيّ، أو مجدٍ دنيويّ؟ إنّ بولس يؤكِّد لأهل كورنثوس أنّ هَدَفه من تبشيرهم بالإنجيل هو حصولهم على الخلاص الّذي لا يستطيع أحدٌ منَحهم إيّاه سوى الربّ. إنّ عالـمَنا اليوم، بأمسّ الحاجة إلى رُسل أمثال بولس، إذ لا يعود بإمكاننا اعتبار بعض المؤمِنِين الّذين يقفون على أبواب الكنيسة لجمع التبرعات “رُسُلاً”، عندما نسمع بمعاناة بولس في سبيل الرِّسالة. كيف يمكننا أن نسمّي أنفسَنا رُسلاً عندما نَجِد أنّ بعضًا منّا، نحن المؤمِنِين يتجرّأ على التشكيك بمصداقيّة البشارة الّتي وَصَلت إلينا من خلال الرُّسل؟
إنّ متّى الرّسول كان يُطلق على الرّسل، عبارة “تلاميذ”، في حين أنّ يوحنّا الرّسول يُطلق على يسوع عبارة “الرّسول”، أي أنّه حَسب متّى، التّلاميذ يبقَون تلاميذَ للربّ، مهما تقدّموا في معرفتهم له؛ أمّا حسب يوحنّا، فلا وجود لرسولٍ آخر سوى يسوع المسيح، فهو “الرّسول” الوحيد، أما الرّسل الاثني عشر، ونحن الرّسل في هذا العالم، فمتساوون في نَقل البشارة للآخرين، فلا فرقَ بين بطرس أو بولس، وبيننا، نحن المؤمِنِين في هذا العالم، في نَقل البشارة، فنحن جميعًا متساوون في التّلمذة. قد يقول البعض إنّ بطرس هو أفضل منّا وأعظم منّا لأنّه رأى الربّ وعاش معه، أذكِّركم بأنَّ الربّ نفسه قد أعطى الطوبى لنا، إذ قال حين ظهوره لتوما: “طوبى للّذين آمنوا ولم يَروا”. إنّ الربّ قد باركنا، نحن المؤمِنِين به، قَبل أن نولَد من أحشاء أمّهاتنا، ودعانا للإيمان به. إذًا، لا فرقَ بيننا وبين الرّسل الاثني عشر من حيث التّلمذة، أو دعوة الربّ لنا للإيمان والتبشير به. إنّ الربّ هو الرّسول الوحيد، هو الوحيد الّذي يملك حقيقة الربّ، وقد أظهرها لنا، وطلب منّا إخبار الآخرين بها. إنّ الربّ قد ساوانا بالرّسل الاثني عشر، فمَن أين نحصل على الحقّ للتمييز بين المؤمِنِين؟ إنّ التمييز بين المؤمِنِين يدلّ على عِطلٍ في التفكير البشريّ.
إنّ المساواة بين المؤمِنِين انطلاقًا من إيمانهم بالربّ، لا تعني أبدًا المساواة بينهم على مستوى المواهب: فقد يبرعُ مؤمِنٌ في القيادة وآخر لا، وبالتّالي لا يجوز لنا إعطاء القيادة لِمَن لا يستطيع القيادة متسلِّحين بفكرة المساواة، لأنّ التسلُّح بالمساواة هنا قد يؤدِّي إلى غرق السَّفينة وإهلاكِها. إنّ الربّ قد سلّم مسؤوليّة قيادة الكنيسة إلى رعاتها، وبالتّالي لا يحقّ لهم، مراعاة خواطِر البعض عندما يتعلَّق الأمر بإيمان الكنيسة، لأنّ الربّ قد وَضع بين أيديهم مسؤوليّة هلاك النّفوس أو خلاصِها.
إذًا، جميع البشر سينالون الخلاص نفسه من الربّ إن آمنوا به، ولكن حين يتعلَّق الأمر بِبُنيان الكنيسة، فلا يجوز لنا التَهاون في ذلك، من أجل الحصول على مديحِ النّاس، فنُعطي مسؤوليّةً معيّنة في الكنيسة لِمَن ليس أهلاً لها، مراعاة لخواطِر البعض، بحجّة المساواة. إنّ قبولَنا بإعطاء المسؤولية لِمَن لا يستحقّها يجعلنا “إخوة كَذَبة”، أي أنّنا نهدِف في مهمّتنا الرسوليّة إلى إرضاء النّاس لا إلى إرضاء الله، وهذا سيؤدِّي إلى فشلٍ وانقسامٍ في جسد المسيح السريّ. إنّ بولس لم يتهاوَن في المسؤوليّة الّتي أَوكَلَه بها الربّ، لذا تخلّى عن كلّ تلاميذه الّذي ساهموا في تعطيل الإنجيل في بعض الكنائس، أمثال برنابا، وبالتّالي لم يبقَ معه سوى تلميذٍ واحدٍ، هو تيموثاوس. كذلك الربّ لم يتهاوَن أبدًا مع تلاميذه، حين كانوا يُعطِّلون مسيرته الخلاصيّة، إذ قد تجرّأ الربّ على القول، لبطرس، رئيس رُسُلِه:”سِر خلفي يا شيطان”، حين كانت أفكاره غير منسجمة مع تفكير الله. لم يكن الإنجيل قادرًا على الوصول إلينا بالشَّكل الّذي وَصل به إلينا، لو أنّ الربّ سعى إلى إرضاء بطرس في أفكاره، وبولس سعى إلى إرضاء رغبات سامعيه.
إنّ الرّسول النّاجح في رسالته هو ذاك الّذي يسعى بكلّ طاقاته، إلى إرضاء الله وحده من دون الآخرين، غير آبهٍ لمحبّة الآخرين لشخصه، وتعاطفهم معه، إذ على الرّسول إيصال كلمة الحقّ وحدها بكلّ أمانة، ومن دون مراوغة. آمين.
ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.