تفسير الكتاب المقدّس،

الأب ابراهيم سعد،

“رسالة بولس الرّسول الثانيّة إلى أهل كورنثوس – الإصحاح السّابع” 

النّص الإنجيليّ:

“فإذْ لَنا هذهِ المواعيدُ أيُّها الأحِبَّاءُ لنُطَهِّر ذواتِنا مِن كلِّ دنَسِ الجَسَدِ والرُّوحِ، مُكَمِّلينَ القداسَةَ في خوفِ الله. اِقْبَلونا. لمْ نَظلِمْ أحدًا. لَم نُفسِدْ أَحدًا. لَمْ نَطمَع في أحدٍ. لا أقولُ هذا لأجلِ دينونةٍ، لأنِّي قَدْ قُلتُ سابقًا إنَّكُم في قلوبِنا، لِنَموتَ مَعَكُم وَنَعيشَ مَعكُم. لي ثِقَةٌ كثيرةٌ بِكُم. لي افْتِخارٌ كثيرٌ مِن جِهَتِكم. قَدِ امْتَلأْتُ تَعزيةً وازدَدْتُ فَرَحًا جدًّا في جميع ضِيقاتِنا. لِأَنَّنا لَمَّا أَتَيْنا إلى مَكدُونيَّةَ لَمْ يَكُن لِجَسَدِنا شيءٌ مِنَ الرَّاحةِ بل كُنَّا مُكْتَئِبينَ في كلِّ شيءٍ: مِن خارِجٍ خُصُوماتٌ، مِن داخِل مخاوِفُ. لكنَّ اللهَ الَّذي يُعزِّي المُتَّضِعِينَ، عَزَّانا بمجيءِ تيطُسَ. وَلَيسَ بِمَجيئِهِ فَقَط بَلْ أيضًا بالتَّعزيَّة الّتي تَعزَّى بها بسَبَبِكُم، وهُوَ يُخبِرُنا بِشَوقِكُم ونَوحِكُم وغَيرَتِكُم لأجلي، حتّى إنِّي فَرِحْتُ أَكثَرَ. لأنِّي وإِنْ كُنْتُ قَدْ أَحزَنْتُكُم بالرِّسالةِ لَسْتُ أندَمُ، مَعَ أَنِّي نَدِمْتُ. فإنِّي أرى أنَّ تلكَ الرِّسالةَ أَحْزَنَتْكُم وَلَو إلى ساعةٍ. الآنَ أنا أَفرَحُ، لا لأنَّكم حَزِنْتُم، بل لأنَّكم حزِنتُم للتَّوبة. لأنَّكم حَزِنْتُم بِحَسَبِ مَشيئَةِ الله لكي لا تَتَخَسَّرُوا مِنّا في شيءٍ. لِأَنَّ الحُزنَ الّذي بِحَسَبِ مَشيئَةِ الله يُنشِئُ توبةً لِخَلاصٍ بِلا ندامةٍ، وأمَّا حُزنُ العالَم فيُنشِئُ مَوتًا. فَإنَّهُ هُوَذا حُزنُكم هذا عيْنُهُ بِحَسَبِ مَشيئَةِ الله، كَم أنشَأَ فِيكُم: مِنَ الاجْتِهادِ، بَل مِنَ الاحْتِجاجِ، بَلْ مِنَ الغَيظِ، بَلْ مِنَ الخَوفِ، بَلْ مِنَ الشَّوقِ، بَلْ مِنَ الغَيْرَةِ، بَلْ مِنَ الانتقامِ. في كلِّ شيءٍ أَظهَرتُمْ أَنفُسَكُم أنَّكم أَبرياءُ في هذا الأَمرِ. إذًا وَإنْ كُنتُ قَدْ كَتَبْتُ إلَيكُم، فَلَيسَ لأجلِ الـمُذْنِبِ ولا لأجلِ الـمُذنَبِ إليهِ، بَلْ لِكَي يَظهَرَ لَكُم أمامَ اللهِ اجْتِهادُنا لِأَجلِكُم. مِن أَجلِ هذا قَدْ تَعَزَّينا بِتَعزِيَتِكُم. ولَكِن فَرِحْنا أَكثَرَ جدًّا بسَبَبِ فَرَحِ تيطُسَ، لأنّ رُوحَهُ قد استراحَتْ بِكُم جميعًا. فإنِّي إِنْ كُنتُ افتَخَرْتُ شيئًا لَدَيْهِ مِن جِهَتِكُم لَمْ أُخْجَل، بَلْ كما كَلَّمناكُم بِكُلِّ شيءٍ بالصِّدقِ، كذلِكَ افتِخارُنا أيضًا لَدى تيطُسَ صار صادِقًا. وَأَحشاؤُهُ هِيَ نَحوَكُم بالزِّيادَةِ، مُتَذَكِّرًا طاعَةَ جميعُكُم، كيفَ قَبِلتُموه بِخَوفٍ ورَعدَةٍ. أنا أَفرَحُ إذًا أَنِّي أَثِقُ بِكُم في كلِّ شيءٍ”.

شرح النّص الإنجيليّ:

في لقائنا الأوّل بعد مرور فترة الأعياد المجيدة، أتمنّى أن يكونَ جميعُ الحاضرين قد تمكّنوا من اختبار عمقٍ روحيٍّ في هذه المناسبات، ومِن عَيشِ مفاعيلها في حياتهم اليوميّة، فلا تكون حياتهم صورةً عن حالة الحزن الّـتي تكلّم عنها بولس في هذا الإصحاح. إنّ تيطس هو تلميذُ بولس الرّسول، وقد زار كورنتوسَ استجابةً لطلب مُعلِّمه. إنّ بولس يُذكِّر أهل كورنثوس برسالته الأُولى إليهم، الّتي سبَّبت لهم بعض الحُزن، ثمّ يقوم بمَدحِهم لا من أجل زرع الغرور في نفوسهم إنّما مِن أجل تعزيَتهم وحثِّهم على متابعة مسيرتهم مع الربّ.

في هذا الإصحاح، يقول لنا بولس الرّسول: “لِأَنَّ الحُزنَ الّذي بِحَسَبِ مَشيئَةِ الله يُنشِئُ توبةً لِخَلاصٍ بِلا ندامةٍ، وأمَّا حُزنُ العالَم فيُنشِئُ مَوتًا”. في هذه الآية، يميِّز بولس نَوْعَين من الحُزن: حُزنًا يؤدِّي إلى موت الإنسان؛ وحُزنًا يُعطي الحياة للإنسان إذ يدفعه للعودة إلى الربّ أي إلى التوبة. إنّ كلمة “توبة”، في اللّغة العبريّة، مشتقَّة مِن فِعلِ “شَابَ”، ومعناه تابَ أي عاد إلى الله. أمّا في اللّغة اليونانيّة، فكلمة “توبة”، تعني “مِيتانويا”، وهي مشتقَّة مِن كلِمَتين: “مِيتا” وتعني الانقلاب، و”نُوس” وتعني أعلى مراتب الذِّهن أو الفِكر، وبالتّالي يُصبح معنى كلمة “توبة” في اليونانيّة، انقلاب الذِّهن، وهذا هو المعنى الحقيقيّ للتوبة. 

إنّ الكلمة اليونانيّة “مِيتانويا” قد تُرجمَت إلى العربيّة فأصبحت “مطانيّة”، وهي تشير إلى تلك الحركة الجسديّة الّتي يقوم بها المؤمِن ليعبّر عن توبته العميقة فينحني حتّى تُلامس جبهته الأرض. في هذه الحركة الجسديّة يُعبِّر الإنسان عن رغبته العميقة لتغيير مسيرة حياته وعودتِهِ إلى الربّ مُعلنًا توبته عن خطاياه. إنّ التّوبة لا تقتصر على النّدامة أي على اعتراف المؤمِن بخطاياه، بل تتطلّب أن يتَّخِذ المؤمِن قرارًا بالعودة إلى الربّ. فالإنسان قد يعترف بخطيئته مِن دون أن يعود بالضرورة إلى الله. إذًا، النّدامة هي “الرّجوع عن”، أمّا التّوبة فهي “الرّجوع إلى”.

إنّ بعض الأحداث الّـتي يتعرَّض لها الإنسان في حياته، كما بعض الأقوال الّتي يسمعها، قد تُسبِّب له حُزنًا في داخله لأنّها تُذكّره بحالته، أي بابتعاده عن الله. إنَّ هذا الحزن الّذي يختبره الإنسان هو “حُزنٌ بحسب مشيئة الله” حسب قولِ الرَّسول، لأنّه يدفعه إلى اتِّخاذ القرار بتغيير مسيرته والعودة إلى الله. أمّا حُزنُ العالم فهو حُزنٌ يتعرَّض له الإنسان نتيجة ما يحدث معه في حياته، فيدفعه للغرق في اليأس والإحباط. إنّ الخصومات بين البشر تؤدِّي حتمًا إلى موت الإنسان روحيًّا لأنّها تقتل فيه كلّ قدرة على الحبّ والمسامحة وكلّ قدرة على الإصغاء للآخرين؛ كما تخلق فيه قلبًا قاسيًا غير قادر على التّعاطف والإحساس مع الآخرين. 

إنّ تعرُّضَ الإنسان لحالةِ مرضٍ أو ألمٍ أو موتٍ في حياته تُساهم هي أيضًا، إضافةً إلى الخصومات بين النّاس، في خلق حالةٍ من الحزن الدُّنيويّ عند الإنسان، يؤدّي إلى حالةٍ مِنَ الفتور في علاقة الإنسان مع ربِّه. إنّ الربّ ليس مسؤولاً عن أحزاننا، بل إنّ أحزاننا في غالبيّة الأوقات تكون ثمرة انشغالاتنا الدُّنيويّة وتعلّقاتنا الأرضيّة الّتي لا تستطيع أن تمنحنا الفرح الحقيقيّ. إنّ الكآبة الّتي يتعرَّض لها الإنسان تخلق فيه حُزنًا من دون أن تدفعه إلى التّوبة، وبالتّالي هذا الحزن هو مِن أحزان العالم لا مِن الأحزان الّتي بحَسَب مشيئة الله تدفع بالإنسان إلى التّوبة وبالتّالي إلى حصوله على الخلاص. إنّ حزن العالم هو حزنٌ يتعرَّض له الإنسان، ولكنّه يدفع الإنسان إلى الغرق في حالة الحزن؛ أمّا الحزن الّذي هو مِن الله، فهو حُزنٌ يتبدّد سريعًا لأنّه يجعل الإنسان يشعر بظمئه إلى الربّ وبالتّالي يخلق فيه الرّغبة بالعودة إلى أحضان الربّ الّذي يفتح يديه على الدّوام ليضمّ إلى قلبه كلّ خاطئٍ يعود إليه فيقبّله في عُنُقِه.

بين أهل كورنثوس خصوماتٌ كثيرة أدّت إلى حالةٍ من الحزن في نفوس هؤلاء. كان بولس يتخوّف مِن استمرار تلك الخصومات، وبالتّالي مِن هلاك نفوس أهل كورنثوس، وهذا معنى كلامه: “مِن خارج خصومات، ومِن داخل مخاوف”. لقد شعر بولس بالفرح، حين عَلِم مِن تلميذه تيطس، أنّ الرّسالة الأُولى الّتي أرسلها إلى أهل كورنثوس قد خلقَتْ فيهم حُزنًا دفعهم إلى التّوبة، وبالتّالي إلى خلاص نفوسهم. ولذا قال: “إنِّي فَرِحْتُ أَكثَرَ. لأنِّي وإِنْ كُنْتُ قَدْ أَحزَنْتُكُم بالرِّسالةِ لَسْتُ أندَمُ، مَعَ أَنِّي نَدِمْتُ. فإنِّي أرى أنَّ تلكَ الرِّسالةَ أَحْزَنَتْكُم وَلَو إلى ساعةٍ. الآنَ أنا أَفرَحُ، لا لأنَّكم حَزِنْتُم، بل لأنَّكم حزِنتُم للتَّوبة”. 

في بعض الأحيان، قد يخلق فينا حُزن الآخر فرحًا، في حالَتين: أولاً حين نشعر برغبة في الشماتة في الآخرين لفشلهم في تحقيق ما يصبون إليه؛ وثانيًا، حين نختبر أنَّ حُزنَهم قد ساهم في إنشاء توبةٍ في نفوسهم، فعادوا إلى الربّ ونالوا الخلاص. إنّ بولس يشعر بالحزن حين يجد أنّ المؤمِنين قد أساوؤا فهمَ كلمة الله، ولذا هو يتمنّى الموت في ذلك الحين، لأنّه يشعر بأنّه فَشِلَ في إيصال الله لهم كما ينبغي. وكما هي حال بولس، كذلك هي حال كلّ مسؤول في الكنيسة عن نشر الكلمة، إذ يشعر بالحزن والكآبة حين يرى أنّ المؤمِنين قد أساؤوا فَهم كلمة الله المحيية، فجعلوها صنمًا ممّا أدّى إلى انحرافاتٍ في العبادة الحقيقيّة لله الواحد، وبذلك يحقِّقون أهواءهم الأرضيّة الزائلة.

ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp