تفسير الكتاب المقدّس،

الأب ابراهيم سعد،

“رسالة بولس الرّسول الثانيّة إلى أهل كورنثوس – الإصحاح العاشر” 

النّص الإنجيليّ:

“ثُمَّ أَطلُبُ إِلَيْكُم بِوَداعَةِ المسيحِ وَحِلمِه، أنا نَفسِي بُولسُ الّذي في الحَضرَةِ ذَليلٌ بَينَكُم، وَأَمَّا في الغَيْبَةِ فَمُتَجاسِرٌ عليكُم. وَلَكِنْ أَطلُبُ أنْ لا أَتجاسَرَ وأنَا حاضِرٌ بالثِّقَةِ التّي بِها أَرَى أَنِّي سَأَجتَرِئُ على قومٍ يَحسَبُونَنا كَأَنَّنا نَسلُكُ حَسَبَ الجَسَدِ. لِأَنَّنا وَإِنْ كُنَّا نَسْلُكُ في الجَسَدِ، لَسْنا حَسَبَ الجَسَدِ نُحارِبُ. إذ أَسْلِحَةُ مُحارَبَتِنا لَيْسَتْ جَسَدِيَّةً، بَلْ قادِرَةٌ باللهِ على هَدمِ حُصُونٍ. هَادِمِينَ ظُنُونًا وَكُلَّ عُلْوٍ يَرتَفِعُ ضِدَّ مَعرِفَةِ اللهِ، وَمُسْتَأْسِرِيْنَ كلُّ فكرٍ إلى طاعةِ المسيحِ، وَمُستَعِدِّينَ لِأَن نَنتَقِمَ على كلٍّ عِصْيانٍ، مَتَى كَمِلَتْ طاعَتُكُم. أَتَنظُرُونَ إلى ما هُوَ حَسَبَ الحَضْرَةِ؟ إِنْ وَثِقَ أَحَدٌ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ لِلمَسيحِ، فَلْيَحسِبْ هذا أَيضًا مِن نَفسِهِ: أَنَّهُ كَما هُوَ للمَسيحِ، كَذَلِكَ نَحنُ أيضًا للمَسيحِ! فَإِنِّي وَإِنْ افتَخَرْتُ شَيئًا أَكثَرَ بِسُلْطانِنا الّذي أَعطانا إِيَّاهُ الرَّبُ لِبُنيانِكُم لا لِهَدمِكُم، لا أُخْجَلُ. لِئَلّا أَظهَرَ كَأَنِّي أُخيفُكُم بالرَّسائِل. لِأَنَّهُ يَقولُ:”الرّسائِلُ ثَقِيلَةٌ وقَوِيَّةٌ، وَأَمَّا حُضُورُ الجَسَدِ فَضَعيفٌ، وَالكَلامُ حَقيرٌ”. مِثْلُ هذا فَلْيَحْسِبْ هذا: أَنَّنا كَما نَحنُ في الكَلامِ بالرَّسائِلِ وَنَحنُ غائِبونَ، هَكَذا نكونُ أَيضًا بالفِعلِ وَنَحنُ حاضِرُونَ. لِأَنَّنا لا نَجتَرِئُ أَنْ نَعُدَّ أَنفُسَنا بينَ قَومٍ مِنَ الَّذينَ يَمَدَحُونَ أَنفُسَهُم، ولا أَنْ نُقابِلَ أَنفُسَنا بِهِم. بَلْ هُم إذ يَقيسُونَ أَنْفُسَهُم على أَنْفُسِهم، ويُقابِلُونَ أَنفُسَهُم بِأَنفُسِهِم، لا يَفهَمُونَ. وَلَكِنْ نَحنُ لا نَفتَخِرُ إلى ما لا يُقاسُ، بَلْ حَسَبَ قِياسِ القانونِ الّذي قَسَمَهُ لنا اللهُ، قِياسًا للبُلُوغِ إِلَيْكُم أَيضًا. لِأَنَّنا لا نُمَدِّدُ أَنفُسَنا كَأَنَّنا لَسْنا نَبلُغُ إلَيْكُم. إِذ قَدْ وَصَلْنا إِلَيْكُم أَيْضًا في إِنجيلِ الـمَسيْحِ. غَيرُ مُفتَخِرينَ إلى ما لا يُقاسُ في أَتعابِ آخَرينَ، بل رَاجينَ إذا نَما إيمانُكُم أنْ نَتَعَظَّمَ بَيْنَكُم حَسَبَ قانُونِنا بِزِيادَةٍ، لِنُبَشِّرَ إلى ما وَرَاءَكُم. لا لِنَفتَخِرَ بالأُمورِ الـمُعَدَّةِ في قانونِ غَيْرِنا. وَأَمَّا:”مَن افتَخَرَ فَليَفْتَخِرْ بالرَّبِّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَنْ مَدَحَ نَفسَهُ هُوَ الـمُزَكَّى، بَلْ مَنْ يَمْدَحُهُ الربُّ”.

شرح النّص الإنجيليّ:

يَختُمُ بولس الرّسول هذا الإصحاح بالقول إنَّ ليس الـمُزكّى مَن يَمدَح نفسه أو يتلقَّى الـمَديح من الآخرين، بل الـمُزكّى هو مَن ينال الـمَديح مِن الربّ. إنّ الربّ يَمدَح المؤمِنِين به في اليوم الأخير، أي في يوم الدّينونة لا في هذه الحياة، وبالتّالي على كلّ مؤمِنٍ أن يسعى للقيام بما يجعله مستحقًّا لـمَديح الربّ في يومِ انتقاله من هذا العالم، حين يقف أمام عرشه للدينونة. إنّ مَديح النّاس لنا مرتبطٌ بمدى انسجامِ أعمالِنا مع أهوائهم ورغباتهم الأرضيّة، لا بمدى تَطابُقِ أعمالِنا مع كلمة الله الحقّة، أي أنّنا ننال الـمَديح من النّاس عندما نقوم بما يُرضيهم لا بما يُرضي الله. ففي بعض الأحيان، قد يقوم إنسانٌ بما يستحقّ الـمَديح من دون أن ينالَه من النّاس لأنّ ما قام به لا يُرضي أهواءهم؛ في حين أنّ آخرَ قد يقوم بعملٍ سيِّئٍ ويحصل على الـمَديح لأنّ ما قام به أرضى أهواء النّاس ورغباتهم. إذًا، إنَّ مَديح النّاس لنا لا يدلّ على أنَّ ما قُمنا به هو صالحٌ وحقّ، بل يدلّ على أنّ ما قُمنا به تلاقى مع مِزاجيّتهم. وهنا نستنتج أنّه ليس على الإنسان الافتخار بممتلكاته الأرضيّة ومَديح النّاس له، بل عليه الافتخار فقط بالربّ الّذي منه ينال الـمَديح الحقيقيّ.

أعطى بولس الرّسول أهل قورنتس تعليمًا إيمانيًّا في الرسائل الّتي كَتبها إليهم، أي في غيابه عنهم، وقد خاطبهم بقساوة وحزمٍ، لأنّ التَّعليم لا يقبل تهاونًا أو مراوغة. أمّا حين كان يزورهم، فإنّه كان يفتقدهم كالأب الّذي يحرص على رعاية أبنائه، فيقوِّم مسيرة الّذين ضلّوا الطريق ويُثَبِّت السّالكين في طريق الحقّ، ولذلك كان يتعامل مَعهم باللِّين خاصّة أنّه كان مُدرِكًا أنَّ بعضًا من أهل هذه المدينة يشكِّكون في رسوليّته كَونه لم يكن مِن تلاميذ يسوع الاثني عشر. وهذا ما قصده في بداية هذا الإصحاح، بقوله لهم: “أنا نَفسِي بُولسُ الّذي في الحَضرَةِ ذَليلٌ بَينَكُم، وَأَمَّا في الغَيْبَةِ فَمُتَجاسِرٌ عليكُم”. لقد اتَّهم البعض من أهل قورنتس بولسَ الرّسول ومعاونيه في الرِّسالة أنّهم “يسلِكون بحسب الجسد”، أي أنّهم يبشِّرون بكلمة الله لا مِن أجل خلاص النّفوس، بل من أجل الحصول على القوت الأرضيّ. عند سماعه تلك الإشاعات، وَجَدَ بولس ضروةً للدّفاع عن نفسه لا مِن أجل الحفاظ على كرامته وكرامة معاونيه، بل مِن أجل الحفاظ على البشارة الّتي يُعلنونها، إذ في انتشار مِثل تلك الإشاعات تعطيلٌ للإنجيل، وهذا ما لا يستطيع بولس القبول به. لم يكن هدف أولئك المشكِّكين برسوليّة بولس، الخوف على خلاص نفوس أهل كورنثوس والحفاظ على إيمانهم من دون أيّ زعلٍ، بل كان هدفهم تشويهَ سُمعةِ بولس كي يُصبح غير مقبولٍ بين أهل كورنثوس، وبالتّالي تُصبح بشارته أيضًا مرفوضة. لقد كان بولس مُدرِكًا أنّه يخوضُ حربًا لا ضدّ أشخاصٍ جسديّين، بل ضدّ “حُصون”، أي ضدّ أفكارٍ وظنون سيئة. في عالمنا اليوم، نخوض، نحن المسيحيّين، حروبًا لا ضدّ لحمٍ ودَمٍ بل ضدّ أفكار هذا العالم، ضدّ بِدَعٍ تهدف إلى إلغاء المسيح وتعاليمه من عالمنا. إنّ هذا النّوع من الحروب لا يمكن التغلّب عليه إلّا من خلال إصرار المؤمِن على طاعته لكلمة الله والعيش وِفقها على الرّغم من كلّ الصّعوبات الّتي يواجهها في حياته اليوميّة.

إنّ عالمنا اليوم، يُعاني من العُصيان لكلمة الله، أي أنّه يسعى إلى التمردّ على كلمة الله ورَفضِها في حياته. وحالة العُصيان هذه، تؤدّي إلى زعزعة ملكوت الله الحاضر فيما بيننا، والّذي لا يعود إليه سلامُه إلّا من خلال عودة المؤمِنِين إلى طاعة كلمة الله. ليست الطاعة لله مبادرةً تَصدرُ عن الإنسان تجاه الله، بل هي جوابُ الإنسان على مبادرة الحبّ الّتي قام بها الله تجاهه وتجاه البشر جميعًا. إنّ الطّاعةَ نوعان: طاعةٌ لا إراديّة كطاعة العبد لسيِّده، وطاعة إراديّة كطاعة الحبيب لحبيبه. إنَّ طاعة العبد لسيِّده هي طاعةٌ لا إراديّة، وهي تنطوي على حقدٍ وكراهيّة في داخل العبد على سيِّده، إذ يسعى العبد للثّورة على ظُلمِ سيِّده عند أوّل فرصةٍ. 

أمّا الطاعة الإراديّة فهي طاعةُ الحبيب لحبيبه، وهي تنطوي على الحبّ، فيطيع الحبيبُ حبيبَه لا خوفًا منه، بل لأنّه يجد في ذلك وسيلةً لإسعاد حبيبه، وهذا هو هدفُ حبِّه له. ولكن حين لا يطيع الحبيب حبيبه ويطرح السؤال على ذاته حول مسألة ضرورة الطاعة لحبيبه أو عدمها، فهذا يشير إلى وجودِ خللٍ في تلك العلاقة، وهو: إمّا عدم شعور الحبيب بأنّه محبوبٌ من الطرف الآخر، أو أنّ الحبيبَ يرفض الحبّ من الطرف الآخر على الرّغم من شعور الحبيب بحبّ الطرف الآخر، أو أنّ الحبيبَ يشعر بعدم قدرته على مبادلة الطرف الآخر الحبّ. في أثناء الاحتفال برتبة الإكليل المقدَّس، تُتلى على مسامِعنا قراءاتٌ من مار بولس فيه تذكير للنِّساء بضرورة الطّاعة لأزواجهنَّ، وتذكيرٌ للرِّجال بضرورةِ محبّةِ نسائهم على مثال حبّ المسيح لكنيسته؛ فَبُولس الرّسول في رسالته إلى أهل أفسس يقول: “أيتّها النِّساء، اِخضَعْنَ لِأَزواجِكنَّ” (أفسس 5: 22)، و”أيّها الرِّجال أحبّوا نساءَكم كما أحبّ المسيح الكنيسة وجاد بنفسه مِن أجلها” (أفسس 5: 25). 

لم يكن هدف بولس أن يحافظ على طابع الذكوريّة الموجود في مجتمعنا، وأن يقوم بإصلاحٍ إجتماعيّ للنِّساء والرِّجال، بل كان هدَفه أن يعطي توجيهًا لاهوتيًّا للمؤمِنِين من خلال سرّ الزّواج، مفادُه أنّه على الحبّ البشريّ أن يشكِّل انعكاسًا لحبّ المسيح لكنيسته. لن تتردّد المرأة في طاعة زوجِها، عندما تجد فيه حبًّا عظيمًا لها يقوده للموت من أجلها على مِثال المسيح الّذي بَذَل نفسَه من أجل خلاص كنيسته. ولكن حين تشكّك المرأة في حبّ زَوجِها لها، ستطرَح السؤال على ذاتها حول إلزاميّة الطاعة لزَوجها، وعندئذٍ ستضطرب علاقتهما. كذلك هي حالة المؤمِن مع ربِّه: فحين يشعر المؤمِنُ بحبّ الله له، فإنّه لن يتردّد في طاعته وفي حِفظ كلامه وسيتعامل معه كابنٍ مع أبيه أو كحبيب مع حبيبه، وسيكون قانون الحبّ هو الّذي يحكم تلك العلاقة. أمّا إن لم يشعر المؤمِن بحبّ الله، فهو سيرفض طاعته، وسيتعامل معه كالعبد مع سيِّده أو كأجيرٍ مع ربّ عَمَلِه، وهنا تظهر ضرورةُ وجود قانون يحكم تلك العلاقة، غير قانون الحبّ. إنّ الوصايا قد أُعطِيَت للشَّعب، لأنّ الشَّعب لم يعد يشعر بحبّ الله له، ممّا أوجَب ضرورة وجود قانون آخر غير قانون الحبّ ليحكم علاقة الله بشعبه، فكانت الوصايا وسيلةً تساعدهم على اكتشاف حبّ الله لهم من جديد. إنّ المؤمِن يشعر براحة الضَّمير حين يطبِّق الوصايا، لأنّه يرى فيها تطبيقًا لمشيئة الله.

إنَّ عالمنا اليوم يدعو المؤمِنِين بالمسيح إلى التخلّي عن طاعتهم له والتمردّ عليه، من خلال القبول بما يُقدِّمه لهم هذا العالم من أفكارٍ وذهنيّات جديدة، وبِدَعٍ مناهضة للإنجيل ولتعاليم الربّ. على رعاة الكنيسة، في ظلّ هذا الصِّراع الّذي يعيشه المؤمِنون، أن يسهروا على تثبيت هؤلاء في الإيمان الصّحيح، وأن يطلبوا من الربّ مَنحَهُم نعمةَ التّمييز ليُرشِدوا المؤمِنِين إلى أفكار الله لا إلى أفكار العالم. إنّ هذا الأمر يفرِض على الكهنة أن يتخلّوا عن حبّهم لإظهار ذواتهم أمام الشَّعب للحصول على الـمَديح منهم. على الكهنة أن يسهروا على ذواتهم كي لا يتحوّلوا إلى أداةٍ في يد الشِّرير تهدِف إلى تقسيم جسد المسيح. وفي هذا الصَّدد، نتذكّر صلاة بولس الرّسول إلى أهل فيلبيّ: “وما أطلبُ في الصّلاة هو أن تزدادَ محبّتُكم معرِفةً وكلُّ بَصيرَةٍ زيادةً مُضاعفة، لتميِّزوا الأَفضل فتُصبحوا سالمين لا لومَ عليكم في يوم المسيح، ممتلئِين من ثَمَرِ البِرِّ الَّذي هو مِن فضلِ يسوعَ المسيح تمجيدًا وتسبيحًا.” (فيلبي 1: 9-11).

كانت كورنثوس مدينة وثنيّة، وقد قَبِلَت البشارة بالإنجيل على يد بولس الرّسول، فعَبَّر بعضُ أبنائها عن قبولهم للمسيح، فاقتبلوا سرّ العماد وأصبحوا مسيحيّين. عندما اقتبل أهل كورنثوس البشارة، أصبحوا في حيرةٍ مِن أمرِهم ما بين تطبيق العادات الوثنيّة ونَقلِها إلى المسيحيّة وما بين رَفضِها، وإحدى تلك العادات الّـتي أثارت بلبلةً بين المؤمِنِين، هي تغطية الرأس. ففي الوثنيّة، كانت المرأة تضع منديلاً على رأسها ولا تخلعه إلّا من أجل إغراء إلهها واسترضائه. أراد بعض المؤمِنِين في كورنثوس المحافظة على تلك العادات، بينما رَفَضَ البعض الآخر المحافظة عليها في تعبيرٍ منهم على تخلِّيهم عن الوثنيّة وعن عاداتها. وعندما وَجد بولس أنّ هذه المسألة قد تفاقمت وكادت تؤدِّي إلى انشقاقٍ في الكنيسة، أي إلى انقسام جسد المسيح، تَدَخّل بولس محاوِلاً إيجاد حلٍّ لها، فطلبَ مِن النِّساء المحافظة على تلك العادة، كي لا يشكِّكنَ بتصرّفاتهنَّ ضُعفاء النّفوس في الإيمان. في معالجته لهذه المسألة، أظهر بولس دوره الرِّعائي لأهل كورنثوس، إذ لم يتدخَّل في حلّ تلك المسألة للتركيز على موضوع أخلاقيّ وهو الحِشمة، أو لإظهار نوعٍ من العنصريّة تجاه المرأة، بل تَدخَّل ليحمي ضُعفاء النّفوس من الانزلاق من جديد نحو الوثنيّة، عاملاً على تشديدهم في الإيمان.

إنَّ عالمنا اليوم، يُعاني من خطر العودة إلى الوثنيّة. ففي حين لم يعد الكشف عن الرأس يشير إلى عبادتنا لآلهةٍ غريبةٍ، نجد أنّ بعض النِّساء لا يزَلْن محافظات على هذه العادة خاصّة أثناء الصّلاة. والـلّافِت للنَّظر أنّ النِّساء المكشوفات الرأس يَسْمَحْنَ لأنفسهنَّ بانتقاد النِّساء المحافظات، في حين أنّه في الماضي كان الأمر معكوسًا. هنا يظهر دور رعاة الكنيسة في توضيح هذه المسألة للمؤمِنِين، فيخبرون هؤلاء أنّ الهدف مِن المحافظة على هذه العادة الوثنية هو التزام الحِشمة، وبالتّالي على النِّساء المكشوفات الرأس احترام النِّساء اللّواتي غطَّيْنَ رؤوسهنَّ، كما أنَّه على النِّساء المكشوفات الرأس الالتزام بأبسط قواعد الحِشمة، إذ ليست الكنيسة مكانًا لإظهار مجدنا الشخصيّ بل هي مكانٌ كي يظهر مجد الله من خلالنا.

على الرّعاة أيضًا أن يشدِّدوا على أنّ الحِشمة ضروريّة في الكنيسة لأنّه كما أنّ الربّ قد سَتَر عيوبَنا بموتِه وخلَّصَنا، علينا نحن أيضًا أن نستُرَ أجسادنا كي لا تُسبِّب قلّة حِشمتنا سببًا لعثرة ضُعفاء النّفوس في الإيمان. قبل توجيه الملاحظات للمؤمِنِين، على الرّعاة أوّلاً أن يُعلِّموا الشَّعب ويشرحوا له معنى الحِشمة. على الرّعاة أن يوجّهوا ملاحظاتهم للمؤمِنِين من دون أذيّةِ مشاعرهم، كي لا تتحوّل تلك الملاحظات إلى سببٍ لابتعاد المؤمِنِين عن الله وعن كنيسته. إنّ جسد الإنسان كلّه يتألّم حين يعاني أحد أعضائه من الألم؛ كذلك نحن أيضًا، إذ إنّ الكنيسة بأسرها تتألّم حين يبتعد أحد أبنائها عنها، لأنّ المؤمِنِين يشكِّلون جسد المسيح السريّ، وبالتّالي على كلّ مؤمِنٍ أن يَنتَبِهَ لتصرّفاته خاصّة في الكنيسة فلا يكون سببَ عثرةٍ لأخيه، ضعيف الإيمان. 

على الرّعاة، أن يوجّهوا الملاحظات إلى المؤمِنِين لِبُنيانِهم لا لهَدمهم، فتكون تلك الملاحظات سببًا في خلاص إخوتهم المؤمِنِين لا في هلاكهم. على المؤمِنِين طاعة رؤسائهم الروحيّين والإصغاء إلى إرشاداتهم لِـما للمسؤولين من إلمامٍ روحيّ وتعمّق في كلمة الله، ولكن على الرّعاة عدم استخدام هذا الحقّ في طاعة المؤمِنِين لهم، لِتَحويل هؤلاء إلى عبيدٍ لهم، وأن يُعطوا أنفسَهم الحقّ في السيادة عليهم، لأنّ الرِّعاية هي أمانةٌ من الربّ أُعطِيَت للرّعاة من أجل إيصال المؤمِنِين إلى طريق الخلاص. على الرُّعاة أن يوجِّهوا الشَّعب إلى تحقيق مجد الله من خلال تحقيقهم لمشيئته القدّوسة في حياتهم، لا إلى تحقيق رغبات الرُّعاة وأهوائهم. على الرّعاة أن يسهروا على توعية المؤمِنِين وتنشئتهم، من خلال نَقلِ المعرفة اللّاهوتيّة الّتي يتمتّعون بها إلى المؤمِنِين، قبل أن يتصرّف الرّعاة بما قد يثير الشَّكّ في النّفوس الضَّعيفة إيمانيًّا. على الرّعاة احترام النّفوس الضَّعيفة ومساعدتها لا تَجاهُلَها وتشكيكَها.

لم تكن العادة الوثنيّة القائمة على تغطية الرأس، العادة الوحيدة الّتي كادَتْ تَتَسبَّب بانقسامِ الكنيسة في كورنثوس، بل إنّ مشاركة المؤمِنِين في الاحتفالات الوثنيّة قد تحوّلت إلى إشكاليّة تَطلّبت تَدخُّل بولس الرّسول لِـحلِّها. إنّ الوثنيّين في كورنثوس، كانوا يَذبحون تقدماتهم الحيوانيّة للآلهة، ويتشاركون في أكلِها مع ضيوفهم. إنّ مشاركة بعض المؤمِنِين لإخوتهم الوثنيّين في كورنثوس في مأدُبة الطّعام المؤلّفة مِنَ الذبائح الّتي كانت تُقدَّم للأوثان، شكلّت سببَ عثرة لِضُعفاء النّفوس في الإيمان، إذ اعتبر هؤلاء أنّ في اشتراك المؤمِنِين بالطّعام مع إخوتهم الوثنيّين اشتراكٌ أيضًا في العبادة، في حين أنّ مؤمِنِين آخَرين اعتبروا أنَّ تلك الذبائح هي مجرَّد طعام لإسناد الجوع البشريّ. أمام هذه المعضلة، تَدخَّل بولس فقال إنّه لا مشكلة، على الـمستوى اللّاهوتيّ، في مشاركة المؤمِنِين للوثنيّين في الطّعام، ولكنّ بما أنّ ذلك قد يُسبِّب عثرةً لضعفاء النّفوس، فالأفضل للمؤمِنِين الامتناع عن تناول اللّحم طوال أيّام حياتهم إن كان في ذلك خلاصُ نفوس إخوتهم في الإيمان. إخوتي، على المؤمِنين طلب نعمة التمييز والحكمة من الله، لِيُدرِكوا كيفيّة التصرّف في بعض الحالات: فمثلاً، عند ذهابك إلى أحد البيوت الفقيرة لتقديم عطائك لها في زمن الصّوم، عليك أن تشارك العائلة بما تقدِّمه لك من طعام كتعبيرٍ منها عن حبّها لك وامتنانها لعطائك، حتّى وإن كان ذلك الطّعام لا يتناسب مع نظامِك الغذائي في الصّوم. 

إنّ امتناعك عن مشاركتها الطّعام سيؤدِّي إلى خلق جُرحٍ في نفوس أفراد هذه العائلة لأنّهم سيشعرون أكثر فأكثر بعَوَزهم، وسيشعرون باليأس من حالتهم كَونهم لم يتمكّنوا من الاشتراك كسائر المؤمِنِين في الصّوم الكبير. في هذا الصدّد، نتذكّر نشيد مار بولس فنقول: إنّ المحبّة هي أقوى من صومِنا وكبريائنا وتكبُّرنا على المحتاجين. وما هذه الأمثلة إلّا تأكيدٌ على أنّ حربَنا الروحيّة ليْسَت مع بشرٍ، إنّما مع أفكارٍ وذِهنيّات.

لم تنتهِ مشاكل أهل كورنثوس عند العادات الوثنيّة وحَسْب، بل تَوسّعت لتشمل شكواهم لبولس على تلميذه تيموثاوس. إنّ مشكلة تيموثاوس، بالنسبة إلى أهل كورنثوس، تكمن في كونِه مولودًا من أمٍّ يهوديّة وأبٍ غير يهوديّ، أي أنّ عليه الاختتان كما تفرِض الشريعة اليهوديّة، قبل انتمائه إلى المسيحيّة. لقد جاءَت هذه الشَّكوى على تيموثاوس مِن قِبَل مثقفين وعالِمين في الدِّين، لا مِن ضعيفي النّفوس في الإيمان، لذا كان على بولس أن يردّ على تلك الشَّكوى استنادًا إلى تعاليم الإنجيل حتّى وإن كان ذلك سيؤدِّي إلى انقسامٍ في الكنيسة. فرَفَضَ بولس هذه الشَّكوى واعترض على هؤلاء قائلاً: إنّ المسيح قد جاء ليُحرِّرنا ويُخلِّصنا مِن عبوديّتنا للشريعة، أَفَنَعود بعد انتمائنا للمسيح إلى ما هو قديم؟ بالطبع لا، إنّ المسيح بموته أعطانا حياةً جديدةً، وبالتّالي لا ضرورةَ للختانة اليهوديّة، لأنّ الشريعة قد أُبطِلت، ليُصبِح الحبّ شريعَتَنا الوحيدة. إنّ ممارسة بعض العادات الإيمانيّة غير المألوفة عند الكثيرين منهم، لا تؤدّي إلى تشويهٍ في الإيمان،كما أنّها لا تؤدِّي إلى إصلاحٍ في الكنيسة. ولكنّه يتوجّب على الرّاعي توضيح تلك العادات الإيمانيّة، الغريبة بالنسبة لبعض المؤمِنِين، قبل المباشرة بممارستها في الرعيّة، كما أنّه من المفضَّل أن يَطلُب مِنَ المسؤولِين في الكنيسة الإذن للبدء بممارستها، كي يحفظ نفسه من تشويهٍ لسُمعَتِه، ويحافظ على إيمان النّفوس الضَّعيفة في الإيمان. 

فمثلاً: في القرون الأولى للمسيحيّة، كان المؤمِنون يتقرّبون من سرّ القربان الأقدس، ويتناولونه بأيديهم، من دون أن يشكِّل ذلك عثرةً لضُعفاء النّفوس. أمّا اليوم، فالعودة إلى هذه العادة المسيحيّة قد تشكّل عثرةً للبعض، إذ إنّ هؤلاء يعتبرون أنّه من غير الجائز للمؤمِنِين العلمانيّين لمس القربان المقدَّس بأيديهم، وأنّ هذا العمل هو مِن صلاحيّات الكاهن الّذي أُعطَي له هذا الحقّ من خلال سرّ الكهنوت. هنا تبرز ضرورة حصول الكاهن على موافقة خطيّة مِنَ الأُسقف، ونشرها في الرعيّة، قبل مباشرةِ الكاهن بإعادة إحياء تلك العادة الإيمانيّة القديمة. في أثناء الاحتفال بالذبيحة الإلهيّة، تُوضَعُ جانبًا كلّ العلاقات الّـتي تجمع الرِّجال بالنِّساء: ففي الكنيسة، يُصبح جميعُ المؤمِنين متساويين في الإيمان، وإخوةً في المسيح يسوع، فيكون هو الرّابط الوحيد بين جميع المؤمِنين، فلا يجوز للزّوج أن يناول زوجته القربان المقدَّس، والعكس صحيح. في الذبيحة الإلهيّة، يتوحَّد جميع المؤمِنِين بواسطة جسد المسيح ودَمِه، فيُصبحون إخوةً للمسيح، وأعضاءً في جَسَدِه السريّ،

 وبالتّالي على كلّ مؤمِنٍ أن يسعى إلى المحافظة على إيمان أخيه في الإيمان بتصرّفاته غير المشكِّكة له. إنّ قانون المحبّة هو الّذي يُطبَّق بين الإخوة، ولكن حين تَفتُر المحبّة بينهم، يُصبح اللّجوء إلى القوانين ضرورة لتفادي أيّ نزاع فيما بينهم. فمثلاً: إنْ كان إشعال المكيِّف يزعج بعض الحاضرين، فإنّ قانون المحبّة يقضي بإطفائه تعبيرًا عن محبّة الحاضرين لإخوتهم الّذين يشعرون بالانزعاج منه؛ أمّا القانون البشريّ، فيَقضي إلى ممارسة الديمقراطيّة والسَّير في القرار الّذي يتمّ اتِّخاذه بالأكثريّة. إنّ القانون الّذي يُطبَّق في الكنيسة، هو قانون يسوع المسيح، قانون كلمة الله، أي الإنجيل، وبالتّالي لا وجود لديمقراطيّة في الكنيسة، بل هناك وجود فقط للـ”يَسوعقراطيّة”.

في هذا الإصحاح من الرّسالة الثّانية إلى أهل كورنثوس، يطرَح بولس نَظرته إلى الرِّعاية حسب كلمة الله، الّتي لا تتوافق مع النّظرة البشريّة للرّعاية الّتي تعتمد على المساواة بين البشر. إنّ قانون المساواة هو ضدّ قانون المحبّة. فمثلاً، عند تَناوُلِ مجموعة معيّنة مِنَ المؤمِنِين الطّعام معًا، ينالُ كلّ مؤمِنٍ حصّةً غذائيّة واحدة، استنادًا إلى قانون المساواة بين البشر؛ أمّا استنادًا إلى قانون المحبّة، فعلى كلّ فردٍ أن ينال حاجته الضّروريّة من الطّعام، بتعبير آخر، قد يحصل أحد الأفراد على أكثر من حصّة غذائية إذ كان هناك أسبابٍ صحيّة لذلك. إنّ قانون المحبّة يتخطّى قانون المساواة البشريّة. إنّ المحبّة غير الـمَبنيّة على تَفهُّم الآخر لا تسمّى محبّة، بل هي عمليّة استلطاف للآخرين وبحثًا عن مجدٍ شخصيّ عالميّ يكمن في إظهار ذواتِنا للآخرين، 

من أجل الحصول على مَديحٍ منهم. على الكاهن أن يُحضِّر عظته قبل تلاوتها على المؤمِنِين، فتكونَ ذات فائدةٍ روحيّة للسّامعين وسببًا مباشرًا لتَوبتهم وعودتهم إلى الله، لا مجرّد كلمات متراصفة ومُنَمَّقة تهدف إلى إرضاء السّامعين واستلطاف مسامعهم من أجل الحصول على التبجيل والمديح منهم. في الـجَنَّازات، على الكاهن أن يعزِّي النّاس لا بكلماته الخاصّة إنّما بكلمات الإنجيل، لأنّها الوحيدة القادرة على تخفيف ألم فراق الأحبّة على المحزونين. لا يحقّ للكاهن أن يردِّد على المؤمِنِين كلامَ المسيح بهدَف إظهار ذاته ومن أجل الحصول على مديحٍ أرضيّ، بل عليه أن يردّدها بهَدَف تذكير المؤمِنِين بمواعيد المسيح لهم، ليمجِّدوا الله من خلال ما سمعوه من الكاهن وتَتَغيّر حياتهم، عندها يكون الكاهن أهلاً للمديح السماويّ لا لِلـمَديح الأرضيّ. لا أحد يعرف ساعة انتقاله من هذا العالم، لذا على الكاهن أن يُحضِّر عظته كي يكون أهلاً للوقوف أمام عرش الربّ الديّان، إن دعاه الربّ بعد انتهائه من إلقاء عظته على المؤمِنِين للقائه الأبديّ، كما أنّ على الكاهن أن يزرع من خلال عظته الرّغبة في نفوس سامعيه في التوبة والعودة إلى الله، فينال هؤلاء الخلاص إن انتقلوا إلى بيت الآب بعد سماعهم لهذه العظة. على الكاهن مساعدة النّفوس على الحصول على الخلاص من خلال عِظته. 

وفي هذا الصّدد، يقول بولس الرّسول في إحدى رسائله إلى أهل كورنثس إنّ هدَفه مِن تبشيرهم بالإنجيل أن يُخلِّص “بعضًا” منهم. إنّ عبارة “بعضًا” تدلّ على عددٍ يتراوح بين الثلاثة والتسعة أشخاصٍ كحدٍّ أقصى، لذا لم يتهاوَن بولس مع الّذين سَعوا إلى تشويه سُمعتِه، لأنّ في تصديق المؤمِنِين لتلك الإشاعات تعطيلاً للإنجيل. لقد اجتهد بولس من أجل إيصال البشارة لأهل كورنثوس، غير أنّه لم يقبل بتقدماتهم الماديّة، لأنّهم اتَّهموه بأنّه يبشِّرهم من أجل الحصول على القوت الأرضيّ، لذا قرّر العمل في صناعة الخيام، من أجل تأمين قوتِه الأرضيّ، كي لا يتعطّل الإنجيل في كورنثوس. حين كان بولس في السِّجن، أرسَل إليه أهل فيلبيّ المساعدات الماديّة، وقد قَبِلَها منهم لأنّه يعرِف مدى محبّة أهل هذه المدينة له، ولأنّه يعلم أنّ قبوله بهذه العطايا لن يؤثِّر على مسيرة الإنجيل فيها. إنّ قبول بولس بعطايا أهل فيلبيّ يُعبِّر عن تقديره لمحبّتهم له، الّتي تجسِّد إيمانهم بالربّ يسوع، فالمحبّة لا يُعبَّر عنها إلّا بالعطاء كما تقول الأم تريزيا.

لقد بادل بولس الرّسول محبّة أهل فيلبيّ له الّتي تُرجِمَت بالعطايا المقدَّمة له، بالصّلاة من أجلهم كي يتحلّوا بنعمة التمييز بين ما هو صالحٌ ونافع، وبين ما هو شريرٌ وغير مفيدٍ لخلاصهم. إنَّ صلاة مار بولس لأهل فيلبيّ تشكِّل دعوةً لنا نحن المؤمِنِين، للتمييز في أمور هذه الأرض، فلا نبدي أراءنا على الفَور في الأمور الّتي نشاهِدها في عالمنا، بل نُخضِعها للاختبار كي نتأكَّد إن كانت من الله، أم مِن الشِّرير. فمثلاً، عندما نَسمع أخبار الأعاجيب الّتي تحصل هنا أو هناك، علينا أن نسعى إلى توظيف تلك الأخبار لما فيها البُنيان الروحيّ للمؤمِنِين بها، ساعين إلى تحويل أنظارهم إلى الربّ يسوع الّذي يَهِب المقدرة لقدِّيسيه للقيام بتلك الأعمال الخارقة، كما أنّه يتوجّب علينا بُنيان الّذين لا يؤمِنون بتلك الأعاجيب روحيًّا، من خلال تركيزنا معهم على أهميّة بناء العلاقة الشخصيّة مع الربّ يسوع. على المؤمِنِين إذًا، السَّعي الدائم لبُنيان بعضهم البعض روحيًّا من خلال زرع المحبّة في قلوب بعضهم البعض، إذ لا يمكن للخاطِئ أن يصطلح إن لم يشعر بأنّه محبوبٌ من إخوته المؤمِنِين على الرُّغم من أخطائه. 

وبالتّالي فإنّ الخاطئ يحتاج إلى جهودٍ مضاعفة من المؤمِنين كي يتوب عن طريقه الّـتي يسلك فيها، أكبر من الجهد الّذي يتطلّبه البارّ للثبات في إيمانه. إنّ الحبّ وحده كفيلٌ بمعالجة كلّ مشاكل الإنسان: فالإنسان يلجأ إلى الإجرام والمشاغبة حين لا يشعر أنّه محبوب من الآخرين؛ ولكنّه يعود عن طريقه السيئة هذه، عندما يشعر بأنّه محبوب، فيُطيع القوانين تعبيرًا منه عن عدم رغبته بالقيام مجدّدًا بما يؤذي مَن شَعر بمحبّتهم له.

لم يبحث بولس يومًا في بشارته، وخاصّةً إلى أهل كورنثوس عن المجد الأرضيّ، بل عن مجد الله؛ لذا خاطبهم بقساوة في رسائله، لأنّ هَدَفه هو بُنيانهم الروحيّ لا إسماعهم ما يستعذبون سماعه من أجل الحصول على مَديحهم. على الإنسان أن يقارِن تصرّفاته وأعماله بما يرتضيه الله لا بما يرتضيه البشر، غير أنّ بعضًا مِن أهل كورنثوس لم يَفهموا هذا الأمر، فسعَوا إلى مقارنة أنفسِهم بأنفسِهم. إنّ أساسَ حياتِنا الروحيّة هو العمل على إرضاء الله؛ ولا يمكننا التعرُّف إلى مشيئة الله في حياتنا إلّا من خلال تأمُّلِنا في كلمته المقدَّسة. إنّنا نستطيع أيضًا معرفة مدى تَطابُق أعمالِنا مع مشيئة الله، من خلال ثمارِها: فإنْ تَمَكَّنا من خلال أعمالِنا زرعَ الحبّ في الآخرين، فهذا دليلٌ على أنَّ ما قُمنا به يُرضي الله. لا ينال المؤمِن الغفران على خطاياه إلّا من خلال محاولته زرع الحبّ في قلوب الآخرين، لا من خلال القيام بما يستعطف الله كالبكاء على الخطايا والصّلاة له طالبين منه الرَّحمة. عندما نزرع الحبّ في قلوب الآخرين، 

فإنّنا نسير في طريقنا صوب الله، أي في مسيرة القداسة. ليس علينا الذّهاب إلى أقاصي الأرض للتبشير بالمسيح، إذ نستطيع التبشير به في مجتمعاتنا، من خلال زرع الحبّ في قلوب الآخرين. إنّ الله هو محبّة، وعندما نزرع الحبّ في قلوب الآخرين، نكون بهذا الفعل، قد أدخلنا إلى قلوبهم الله، وهذا يسمّى عملاً تبشيريًّا. لقد أوصانا الربّ أن نُحبّ بعضُنا بعضًا كما أحبَّنا هو، وبالتّالي عندما نُعبِّر للآخرين عن محبّتنا لهم، فإنّنا ندفعهم إلى اكتشاف محبّة الله العظيمة لهم، والتعبير عن قبولهم بتلك المحبّة الّتي تسكن في قلوبهم من خلال محبّتهم بِدَورِهم لآخرين، وهكذا تعمّ المحبّة كلّ المسكونة.
في الذبيحة الإلهيّة، حسب التقويم الشرقيّ، يُذكِّر الكاهن المؤمِنِين بكلام المسيح قائلاً: “ليُحبّ بعضُنا بعضًا”، وبعدها يتمّ إعلان الإيمان بالله، وما هذا إلّا دلالة على أنّ الحبّ أقوى من الإيمان. في رسالته الأولى إلى أهل قورنتس، يتكلّم بولس الرّسول عن الفضائل الإلهيّة الثّلاث: الإيمان والرّجاء والمحبّة. ثمّ يُضيف قائلاً إنّ أعظم تلك الفضائل هي المحبّة: فالإيمان ينتهي عند رؤيتنا لله وجهًا لوجه في الملكوت، والرَّجاء ينتهي عندما نصل إلى ما نصبو إليه ونتمنّاه، أمّا المحبّة فإنّها تنتقل معنا من هذه الحياة الفانية إلى الحياة الأخرى. لا يستطيع المؤمِن الوصول إلى القداسة دُفعةً واحدةً،كما أنّه لن يتمكّن من النَّجاح في ممارسة هذه الفضائل من المرّة الأولى، فهذه كلّها تتطلّب تمرُّسًا واجتهادًا روحيًّا كبيرًا. 

على المؤمِن ألّا يُقارِن نفسه بالآخرين فيسعى إلى حَمل ما لا يستطيع حَملَه تشبُّهًا بالآخرين، لأنّ الله أعطى كلّاً منّا طاقة معيّنة لا يستطيع تجاوُزَها وإلّا أُصيب بالإحباط واليأس والكآبة. إنّ الله يدعونا كي نكون أُمناء على القليل الّذي يَمنحنا إيّاه، فيَجعلنا أُمناء على الكثير. على المؤمِن أن يسهر على المواهب الّتي أعطاه إيّاها الله ويُفعِّلها في حياته فتنمو فيه، فيكون أمينًا للقليل الّذي أعطاه إيّاه الله، محقِّقًا بأمانته هذه، ما يُرضي الله. إنّ القانون الّذي أراده الله للكنيسة هو الحبّ، ولكن حين وَجَدَت الكنيسة أنّ تلك المحبّة قد فَتُرَت بين المؤمِنِين، رُعاةً ومؤمِنِين، لجأت إلى القوانين لتُذكِّر هؤلاء بمحبّة الربّ لهم. نطلب من الله، أن يُشعِل بحبِّه كنيسته، فتعمّ المحبّة جميع البشر، فلا يعود هناك حاجةٌ للقوانين الأرضيّة. آمين.

ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ منْ قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp