تفسير الكتاب المقدّس،

الأب ابراهيم سعد،

“سِفر أعمال الرّسل – الإصحاح 4: 19-37

النّص الإنجيليّ:

“فَأَجابَهم بُطرُسُ ويُوحنَّا وقالا: “إِنْ كانَ حقًّا أمامَ اللهِ أَنْ نَسْمَعَ لَكم أَكثرَ مِنَ اللهِ، فاحْكُموا. لأنّنا نَحنُ لا يُمكِننا أَنْ لا نَتَكلَّم بِما رَأيْنا وسَمِعْنا”. وبَعْدَما هَدَّدُوهُما أيضًا أَطْلَقوهما، إِذْ لَم يَجِدُوا البَتَّةَ كَيفَ يُعاقِبونَهما بِسَبَبِ الشَّعبِ، لأنَّ الجَميعَ كانوا يُمجِّدونَ اللهَ على ما جَرَى، لأنَّ الإنسانَ الّذي صارَتْ فِيهِ آيَةُ الشِّفاءِ هذه، كانَ لَهُ أَكثَرُ مِن أربَعينَ سَنَةً. وَلَمَّا أُطلِقا أَتَيَا إلى رُفَقائِهما وَأَخبَرَاهُم بِكُلِّ ما قالَهُ لَهُما رُؤساءُ الكَهَنَةِ والشُّيُوخُ. فَلَمّا سَمِعوا، رَفَعوا بِنَفسٍ واحِدَةٍ صَوتًا إلى اللهِ وقالوا: “أَيُّها السَّيِّدُ، أنتَ هو الإِلَهُ الصَّانِعُ السَّماءَ والأرضَ والبَحرَ وَكُلَّ ما فِيها، القائِلُ بفَمِ داوُدَ فَتَاكَ: لِماذا ارْتَجَّتِ الأُمَمُ وتَفَكَّرَ الشُّعوبُ بالباطِل؟ قامَتْ مُلوكُ الأرضِ، وَاجتَمَعَ الرُّؤساءُ مَعًا على الربِّ وعلى مَسِيحِهِ. لأنَّه بالحَقيقَةِ اجْتَمَعَ على فَتَاكَ القُدُّوسِ يَسوعَ، الّذي مَسَحْتَهُ، هيرُودُسُ وبيلاطُسُ البُنطِيُّ مَعَ أُمَمٍ وشُعوبِ اسرائيلَ، ليَفعَلوا كلَّ ما سَبَقَتْ فَعَيَّنَتْ يَدُكَ ومَشُورَتُكَ أَنْ يَكُونَ. 

والآنَ يا رَبُّ، انْظُرْ إلى تَهْدِيدَاتِهم، وامْنَحْ عَبيدَكَ أَنْ يَتَكَلَّموا بِكَلامِكَ بِكُلِّ مُجاهَرَةٍ، بِمَدِّ يَدِكَ للشِّفاءِ، ولتُجْرَ آياتٌ وَعَجائِبُ بِاسمِ فَتَاكَ القُدُّوسِ يَسوعَ”. ولَمَّا صَلُّوا تَزَعزَعَ الـمَكانُ الّذي كانوا مُجتَمِعِينَ فيهِ، وامْتَلَأ الجَميعُ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ، وكانوا يَتَكَلَّمونَ بِكلامِ اللهِ بـمُجاهَرَةٍ. وكانَ لجُمهُورِ الّذينَ آمَنُوا قَلبٌ واحِدٌ ونَفسٌ واحِدَةٌ، ولَم يَكُنْ أَحَدٌ يَقولُ إنَّ شَيئًا مِن أَموالِه لَهُ، بَلْ كانَ عِندَهُم كُلُّ شيءٍ مُشتَرَكًا. وَبِقُوَّةٍ عظيمةٍ كانَ الرُّسُلُ يُؤَدُّونَ الشَّهادَةَ بِقيامَةِ الربِّ يَسوعَ، ونِعمَةٌ عظيمَةٌ كانَتْ على جَميعِهم، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِيهِم أَحَدٌ مُحتاجًا، لأنَّ كُلَّ الّذينَ كانوا أَصحابَ حُقول أو بُيوتٍ كانوا يَبيعُونَها، ويَأتُونَ بأَثمانِ الـمَبيعاتِ، ويَضَعُونَها عِنْدَ أَرجُلِ الرُّسُلِ، فكانَ يُوزَّعُ على كلِّ أحدٍ كما يَكونُ لَهُ احْتِياجٌ. ويُوسُفُ الّذي دُعِيَ مِنَ الرُّسُل بَرنابا، الّذي يُتَرجَمُ ابنَ الوَعظِ، وَهُوَ لاويٌّ قُبْرُسِيُّ الجنْسِ، إذْ كانَ لَهُ حَقلٌ باعَهُ، وأَتى بالدَّراهِمِ وَوَضَعَها عِنْدَ أَرجُلِ الرُّسُل”.

شرح النّص الإنجيليّ:

في هذا الإصحاح، يعرِض علينا لوقا الرَّسول، كاتب هذا السِّفر، رؤيته الخاصّة للكنيسة الأولى، فيَصِفُها بأنَّها كنيسةٌ كامِلةٌ لا وجود فيها للمحتاجين لأنَّ المؤمِنِين فيها يتعاضَدون على سدِّ احتياجات بعضهم البعض، من خلال بَيْع ممتلكاتهم الأرضيّة وتقديم أثمانِها للرُّسل لتوزيعها على الأكثر حاجة فيهم. 

لم تكن الكنيسة الأولى، تعيش على هذا النَّمط الّذي ذَكَرَه لوقا الرَّسول، بدليل عدم استمراره عبر التّاريخ، وبالتّالي فإنَّ كلامه هذا، هو كلامٌ نَبويّ، أي أنّه يعكس كلمة الله للمؤمِنِين في ذلك الزّمان، وفي ذلك المكان.كما يُخبرنا الرَّسول لوقا، في هذا الإصحاح، عن الاضطهادات الّتي تعرَّض لها الرَّسولان، والّتي فشِلَت في إيقافهما عن متابعة مسيرتهما التبشيريّة بكلمة الله.

إنّ الكنيسة قد فَقَدت مِن قوّة تأثيرها على الآخَرين في مجتمعاتِنا، عندما كرَّست ذاتها لاستلطاف الآخَرين ومديحهم، عِوَض إعلان كلمة الله لهم بكلّ جُرأةٍ. على المؤمِن أن ينطلِق للبشارة، فيُعلِن كلمة الله بكلِّ أمانةٍ ومن دون إدانةٍ للآخَرين، فكلمة الله قادرة على توبيخ الخاطئ وحثِّه على التَّوبة، إذ إنّها تزعجُ كلَّ محبٍّ للباطل. 

وإليكم مِثالٌ على ذلك: إنَّ كلمة الله القائلة: “أحبُّوا بعضكم بعضًا”، هي مَصدرُ إزعاجٍ لكلِّ إنسانٍ يعيش في خصومةٍ مع الآخَر من دون سَعيِه لحلّ هذا الخِصام. إنَّ كلمة الله تُزعزع كلّ باطلٍ، لذلك أخبرنا لوقا الرَّسول، في هذا الإصحاح، أنَّ المكان قد تزعزع عندما صلّى الرُّسلُ مجتَمعِين بصوتٍ واحدٍ إلى الله. 

إنَّ زعزعة المكان ترمز إلى حضور الرُّوح القدس فيه، فكلمة الله قادرةٌ على تغيير وَضْعِ المؤمِن ودَفعِه إلى التغيير في مواقفه القديمة لتُصبح تلك الأخيرة متوافقة مع كلمة الله. إنّ الإنسان الّذي يسمَع كلمة الله ويقبل بها، يتغيّر من الدَّاخل؛ أمّا الّذي لا يتغيَّر داخليًّا، فَهوَ إنسانٌ قد سَمِع كلمة الله، ولكنّه لم يقبَل بها. فمثلاً، في الذبيحة الإلهيّة، عندما تبقى نبرة صوت الكاهن على حالِها، أثناء إعلانه كلمة الله في العِظة، بوجود كِبار القَوم كما في غيابهم، فهذا دليلٌ قاطِعٌ على أنّ هذا الكاهن قد قَبِل حقًّا كلمة الله، وبالتَّالي يكون كلامُه كلامًا نَبَوِّيًا، حسب مفهوم الكتاب المقدَّس للنبوءة. 

أمّا إذا تغيَّرَتْ نَبرَةُ صوتِ الكاهن بحضور عظماء الشَّعب، في محاولةٍ منه لاستلطافِهم من أجل حصوله على عطاءاتهم الماديّة، فهذا دليلٌ على أنّه لم يَقبَل بكلمة الله الّتي يُعلِنها، لذا لن تساهم كلمة الله في تغييره داخِليًّا ولا في تغيير حياة الآخَرين. إذًا، على الكاهن إعلان كلمة الله بكلّ جُرأةٍ من دون خوف من الاضطهادات الّتي سيتعرَّض لها، في حال لم تَكُن كلمة الله متجاوِبة مع أهواء البشر.

إنّ بطرس ويوحنّا هما مِثالٌ لنا في المجاهرة بكلمة الله: فبطرس ويوحنّا لم يكترثا للاضطهادات الّتي تعرَّضا لها، بل انكبّا على إعلان البشارة من دون خوف، ممّا أدّى إلى ازدياد عدد المؤمِنِين بكلمة الله؛ أمّا اليهود الّذين خافوا خُسران سُلطَتِهم وقرّروا محاكمة الرَّسولَين ومَنَعوهما من ذِكر اسم الربّ، فتضاءلت قوّة سيطرتهم عن الآخَرين وتُرِكوا وحدهم. 

فَعندما يسعى المؤمِن إلى استلطاف الآخَرين والحصول على الـمَديح منهم، يخسر هويّته كَرَسول، لأنَّ مديح النّاس يؤدِّي إلى تعطيل مسيرة كلمة الله للآخرَين؛ أمّا حين ينطلق المؤمِن للبشارة، فإنَّ كلمة الله تنتشر بين النّاس ويؤمِن بها الكثيرون وينالون الخلاص، على الرُّغم من معاناة الرَّسول من الاضطهاد الّذي يقوده إلى الموت. 

حاول اليهود إلقاء القبض على يسوع مرّات عديدة، ولكنّهم فَشِلوا في ذلك بسبب ازدحام الجموع المتعطشة لكلمة الله حوله، ولكنَّهم تمكّنوا من القَبضِ عليه حين كان وحيدًا في بستان الزَّيتون. إنَّ مشكلة المسيحيِّين في الشرق تَنبَع مِن شعورهم بالخوف كَونُهم أصبحوا أقليّات في هذا المجتمع، لذا يحاولون استلطاف الآخَرين، فيَتراجعون عن مَهمَّتهم في نشر كلمة الله، خوفًا من التعرُّض لمزيد من الاضطهادات، وبالتّالي اندثار المسيحيِّين في الشَّرق. 

إنَّ عِلم النَّفس يعرِّف الخوف بأنّه حالةٌ وَهميّة يعيشها الإنسان على أنّها حقيقة. إنَّ خوفَ الإنسانِ يُفقِده قوَّتَه: فَلو خاف بطرس ويوحنّا وبقيّة الرُّسل، مِن نشر البشارة بسبب عددهم الضئيل، لما كانت وَصَلَت إلينا البشارة، ولما كنّا نِلنا الخلاص. إنّ قوَّة بطرس ظَهرَت في اندِفاعه لإعلانه كلمة الله، فآمَن الكثيرون عن يده، ونالوا الخلاص بيسوع المسيح. 

يُمتَحَن إيمان الإنسان في أوقات الشِّدة والصُّعوبة لا في أوقات الرّاحة والبحبوحة: فإنْ تزعزع إيمانه ورجاؤه بالمسيح يسوع عند مواجهته صعوبات الحياة كالمرض والموت، فهذا دليلٌ على أنّ إيمان الإنسان كان في الماضي مجرَّدُ كلامٍ أدبيٍّ ونظريّاتٍ فلسفيّة؛ أمّا إذ تمكَّن الإنسان من الثَّبات في إيمانه على الرُّغم من الشَّدائد الّتي تواجهه في هذه الحياة، فهذا دليلٌ على أنَّ إيمانه مبنيٌّ على صخرة يسوع المسيح. 

إنَّ سِفر الرؤيا يدعونا إلى التَسلُّح بالصَّبر لتخطِّي صعوبات الحياة، وهذا ما يُسمَّى “صَبرُ القدِّيسِين”. إنَّ المؤمِن لا يُمدَح بسبب إعلانه كلمة الله، بل يُضطَهد بسببها: إنّ الإنسان حُرٌّ في إعلان البشارة أو رَفضِ ذلك، إذ قد يتراجع البعض عن إعلانها عند مواجهتهم للاضطهادات، بينما آخَرون قد يندِفعون في إعلانها على الرُّغم مِن معرفتهم بالصُّعوبات الّتي ستواجههم من جرّاء ذلك.

إنّ الإنسان يميل إلى رَمِي مسؤوليّة المصائب الّتي يتعرَّض لها في حياته على الله، كما أنّه يَلوم الله على عدم تَدَخُّله في أحداث حياته وتغييرها لإبعاد الشرِّ عنه، وهذا ما يؤدِّي إلى زعزعة العلاقة بين الإنسان والله؛ ويعود سبب ذلك إلى نظرة الإنسان الخاطِئة إلى الله. إنّ الإنسان يؤِمن أنّ الله هو خالقُ المسكونة، لذا يعتقد أنّ الله هو المسؤول عن مصير البشر. إنّ الله هو إلَه الحياة لا الموت، وبالتّالي ليس الله مسؤولاً عن موت الإنسان على الرُّغم من معرفته بِدُنوِّ ساعة انتقال هذا الأخير مِن هذا العالم. 

إنَّ سبب موتِ الإنسان هو الإنسان نفسه، إمّا بطريقة مباشرة من خلال إهماله لِصحَّتِه وللقوانين، وإمّا بطريقة غير مباشرة أي من خلال الأمراض المنتشرة بسبب إهمال الإنسان للطبيعة. إنَّ الكتاب المقدَّس يقدِّم لنا صورة الله الحقيقيّة، وهي مختلفة كلّ الاختلاف عن نظرَتِنا له: إنَّ الله خلَق الإنسانَ حُرًّا، أي أنّ الإنسان هو الذي يُقرِّر مصيره من خلال اختياراته في هذه الأرض، وبالتّالي ليس الله مسؤولاً عن مصائر البشر، فالله يرفُض أن يحرِّك البشر ويُحدِّد مصائرهم وكأنّهَم أجهزةٌ إلكترونيّة. إنّ الله يتألَّم جرّاء حريّة البشر، إذ من خلال تلك الحريّة يستطيع الإنسان أن يرفُضَ حبَّ الله له. من شروط الحبّ الأساسيّة أن يكون المحبوب حُرًّا، فيتمكَّن هذا الأخير مِن رَفضِ الحبّ أو القبول به.

إنَّ الحبّ في مفهوم الله، مختلفٌ عن مفهومنا الأرضيّ للحبّ: إنَّ الإنسان الّذي يُحِبّ، يدافِع عن محبوبه، عندما يراه في خطرٍ، حتّى وَلو اضطَّر إلى التعامل معه بقساوةٍ لِـمَنعه من ارتكاب الشُّرور والأخطاء؛ أمّا الله، فيُنَبِّه الإنسان إلى المخاطِر الّتي تواجِهُهُ، ويُعبِّر له عن استعداده لِبَذل حياته في سبيله، ولكن الله يحترم حريّة الإنسان، ولا يتدخَّل في شؤونه إنْ قرّر هذا الأخير متابعة مسيرته الأرضيّة لامُباليًا بكلام الله. إنّ الله خَلَقنا أحرارًا؛ ولكن حين نلومُه على المصائب الّتي نواجِهها، نُعبِّر له عن رَفضِنا لتلك الحريّة وعن رَغبتنا في العودة إلى حياة العبوديّة، رافضِين بذلك تَحَمُّل مسؤوليّة أخطائِنا. 

إنَّ الله لا يطلب منّا أن نحبَّه أو أن نعبُدَه، بل يطلب منّا فقط أن نَقبَل بحبِّه لنا، أن نقبَل بأن يكون لنا عبدًا، كما فَعَل تمامًا حين مات ميتة العبيد على الصّليب، وذلك تعبيرًا عن حبِّه لنا. في أغلب الأحيان، يرفُضُ الإنسان تَحمُّل مسؤوليّة أخطائه ويرمي بها على الآخَرين، ولكنَّ قبول هذا الأخير بحبّ الربّ يَضَعُه أمام مسؤوليّته تجاه هذا الحبّ، ولذا يجد الإنسان نفسه في صراعٍ داخليّ ما بين القبول بهذا الحبّ أو رَفضِه له. 

إنَّ هذا الصِّراع الداخليّ الّذي يواجهه الإنسان يصل إلى ذُروَته في أيّام الشِّدة لا في أوقات البحبوحة، أي عندما يواجه الإنسان سرّ الموت أو سرّ الألم، فيسأل الله عن سبب تعرُّضه لهذا الألم على الرُّغم مِن طاعته لله، وعن عدم تدخُّل الله لإيقاف هذا الألم. ليس الله مسؤولاً عن موت الإنسان، وليس المسؤول عن تحديد تلك السَّاعة، على الرُّغم من معرِفته بها. إنّ الله هو إله الحياة، أي أنَّ عَمله يبدأ بعد انتقال الإنسان من هذا العالم، فيساعد المنتقل في الوصول إلى الملكوت،ركما يَمنح تعزيَة سماويّة لأهل الفقيد ليتمكَّنوا مِن تَحمُّل ألم الفراق.

إنّ جميع الأديان على وِفاقٍ مع الفِكر البشريّ، ما عدا المسيحيّة، إذ إنّها تَنقُل إلى المجتمع فِكر المسيح وكلمته المقدَّستَين، وهما يتعارضان مع أهواء البشر ونزواتهم الأرضيّة، لذا يتعرَّض كلّ حاملٍ لفِكر المسيح إلى الاضطهاد، وما حَدَث مع الرَّسولَين بطرس ويوحنّا هو خيرُ دليلٍ على ذَلك. 

لم يتجسَّد المسيح في أرضِنا بِهَدَفِ تأسيس مجتمعٍ مُغلَقٍ يُدعى “الكنيسة”، بل تجسَّد من أجل حثِّنا على اتِّباع نهجٍ جديدٍ في حياتِنا يوصِلنا إلى الملكوت، فعرَّفنا بذاته قائلاً: “أنا هو الطريق والحقّ والحياة، لا يأتي أحدٌ إلى الآب إلّا بي” (يو 14: 6). نحن كمسيحيِّين لسنا أتباع طائفةٍ معيَّنة، بل نحن أتباع المسيح، وهذا يعني أنّنا اختَرْنا الإصغاء لكلمة الله والسَّعي للعمل بها وتطبيقها في حياتِنا اليوميّة. 

في القرون الأولى للمسيحيّة وخاصّة في عهدِ الرُّسل، كانت كلمة “مسيحيِّين”، الّتي أُطلِقت عليهم لأوّل مرّة في أنطاكيّة، تشكِّل تُهمَةً لهم، إذ كانت تُستَعمَل تلك الكلمة للإشارة أنّ هؤلاء هُم خارج عن القانون اليهوديّ، وبالتّالي يتحتَّم القبض عليهم وقتلُهم. أمّا اليوم، فَقَد أصبحنا نستعمل هذه العبارة كامتيازٍ لنا عن باقي الشُّعوب، فنُصَنِّف البشر كما كان اليهود يفعَلون، فنتفاخَر بكوِننا مسيحيِّين ونزدري غير المسيحيِّين إذ نجد ذواتَنا أفضل منهم. 

إنَّنا، نحن المسيحيِّين متساوون مع بقيّة الشُّعوب من حيث الطبيعة البشريّة، ولكن ما يميِّزنا عنهم هو قبولنا المسيح في حياتنا، الّذي لم يميِّز بين البشر، بل مَنح خلاصه للجميع من دون أيّ تمييز. لا يحقّ للمسيحيِّين اختلاسَ حقّ الآخَرين في الخلاص، ناسِبِين ذلك الحقّ لجماعتهم فقط، إذ إنَّهم بتلك الطريقة يكونون قد أفْقَدْوا الخلاص قيمته الحقيقيّة بأن يشمل جميع البشر.


إنّ المسيحيّين في عالِمنا اليوم، يُسيئون استعمال الإنجيل، فيَضَعونه في أماكنٍ مرتَفعة لا لإظهار قيمته بل كي يجعلوه بعيدًا عن عالـمِهم، إذ يعتَقِد البعض منهم، أنّ الإنجيل هو كتابُ الملكوت، وبالتّالي لا فائدة منه لِعالمِنا اليوم، لأنَّ الملكوت حَسَب نَظَرِهم لا يتحقَقّ في أرض البشر بل في السَّماء فقط، وهذا اعتقادٌ خاطِئٌ تمامًا. 

إنّ الإنجيل قد أُعطِي للبشر، لقراءته، فيتناقَلون البشرى السّارة الـمُخبَّأة في داخله. كذلك في تلاوتِنا صلاة الأبانا، إذ يعتقد بعض المؤمِنِين أنَّ الله هو قادِرٌ وجبّار، وأنّ مشيئته هي الّتي تتحقَقّ على الدّوام في أرضِنا، لذا هم يَعتبرون أنّ لا دَورَ للإنسان في كلّ ما يجري على الأرض، وبالتّالي فإنَّ الله هو المسؤول الوحيد عن كلّ ما يُصيبُنا من أزماتٍ ومصاعبَ في هذه الحياة، بالنسبة لهؤلاء. على المؤمِن أن يقرأ الإنجيل بطريقة واعية ومسؤولة، مليئة بالرَّجاء، لا بطريقة يائسة، استسلاميّة تُعتِق الإنسان من كلّ مسؤوليّة. 

على المؤمِن أن يتعلَّم من المسيح كيفيّة مواجهته الصُّعوبات في هذه الحياة: فيواجه المؤمِن كلّ شِدَّة تعترضه كما واجه المسيح الصّليب، فلا يسعى إلى البحث عن الصُّعوبات، ولكنّه يواجهها إنْ لم يتمكّن من إلغائها والتخلُّص منها. على المؤمِن أن يثِق بالله كما وَثِق الربّ يسوع بأبيه، فيُدرِك أنّه مع الله يستطيع مواجهة كلّ الصُّعوبات والتغلُّب عليها، وبِدُونِه لا يستطيع شيئًا. 

إنّ ثِقةَ الإنسان بالله أمرٌ في غاية الصُّعوبة إذ تُدخِلُه في صراعٍ داخليّ بين الواقع الّذي يعيشه وبين رجائه الّذي يراه صَعب التحقيق. لا يدعونا الربّ إلى الفَصلِ ما بين واقِعنا المرير وبين رجائنا به، بل يدعونا إلى عيش الرَّجاء في عالمنا الّذي يُعاني من نَقصٍ في عيشِه لكلمة الله، ويدعونا الربّ إلى الوثوق به بأنّه سيُحقِّق لنا كلّ ما وَعَدنا به، عاجلاً أم آجلاً. 

على المؤمِن أن ينظر إلى كلِّ خسارةٍ يتعرَّض لها في حياته، أكانَتْ ماديّة أم صحيّة أم فقدان عزيزٍ، انطلاقًا من إيمانه بالربّ يسوع، فيتمكّن من رؤية حَجم الخسارة على حقيقتها طالبًا من الربّ المساعدة لتَخَطِّي هذه المحنة، فلا تتمكّن الصُّعوبة من تغيير الإنسان بل يدفَعُها إلى تغيير مسيرتها فَتَرحل عنه وتزول. 

فكما أنّ صعوبات الحياة لا تُضعِف الحبّ الموجود بين شَخصين بل تزيده متانةً وقوّةً، كذلك على صعوبات الحياة أن تزيد المؤمن ثِقَةً بالله لا أن تُزَعزِعها. على المؤِمن أن يتشبَّه بالمسيح فيُحافِظ على إيمانه بالله، قبل تعرُّضِه للمحنة وفي المِحنة وبعدها، كما فَعلَ المسيح الّذي بقيَ على ثِقةٍ بأبيه قبل خضوعه للمحاكمة، خلال المحاكمة وبعدها، فيتمكّن المؤمِن من المجاهرة بإيمانه كما فَعل الرَّسولان في هذا النَّص.

إنّ كلّ حاملٍ للواء المسيح، أي لكلمة الحقّ، مُعرَّضٌ في كلِّ آنٍ، لمواجهة الاضطهادات على أشكالها، من جوع وعزل وقتل. كما تعرَّضَ الرُّسل للاضطهادات خلال إعلانهم كلمة الله، كذلك يتعرَّض المسيحيّون للاضطهادات خلال إعلانهم بشارة الإنجيل للآخَرين. فالمسيح سيبقى حجرَ عثرةٍ عبر العصور، لكلِّ محبٍّ للباطل، لذا لن يتوقّف أهل الباطل عن محاولة قتل يسوع بشتّى الطُرُق، أي أنّ الاضطهاداتٍ سَتُرافق كلَّ مُعلنٍ للحقّ.

في ختام هذا الإصحاح، أعطانا لوقا الإنجيل علامةَ أملٍ ورَجاء، إذ قال لنا إنَّ كلَّ شيءٍ كان مُشتركًا بين المؤمِنِين، وإنّهم كانوا يتقاسَمون الخيرات الأرضيّة فيما بينهم فَلم يكن هناك مِن محتاجٍ بينهم. حين تتحقَّق رؤية الإنجيليّ لوقا في الكنيسة، يكون المؤمِنون قد تفاعلوا مع حلول الرُّوح القدس، وبالتّالي تكون العنصرة الحقيقيّة قد تحققَّت فِعلاً، ولا تزول أبدًا. على قراءَتنا لكلمة الله في الإنجيل، أن تساعِدنا في تخطِّي صعوباتنا، فنتمكَّن عندها من مساعدة الآخَرين لِتَخطِّي صعوباتهم بواسطة كلمة الله. 

على المؤمِن عدم انتظار وصوله إلى مرحلة القداسة لإعلان كلمة الله، بل عليه إعلان البشارة على الرُّغم من خطاياه، فيتمكّن السَّامِعون لكلمة الله من القبول بها، والحصول على الخلاص. على المؤمِن الانطلاق للبشارة بكلمة الله، وهو على قناعةٍ تامَّةٍ بأنّ كلمة الله قادِرة على أنْ تُطهِّره من كلّ خطيئة، وأنّها قادرة على مَنح الخلاص للجميع إذ تَدفَعُهم للتَّوبة عن طريقهم الملتوية. إخوتي، لا نُضيِّعن الوقت في التَّفكير في كيفيّة التخلُّص من خطايانا، بل لِنَستفِد من الوَقت الـمُعطى لنا، لإيصال البشارة إلى العالم أجمع، غير آبهِين للاضطهادات، فكلمة الله قد وَصلت إلينا من خلال دِماء الشُّهداء الّذين نالوا إكليل الشَّهادة نتيجة تَمسُّكهم بالإيمان الحقيقيّ.

ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp