تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“سِفر أعمال الرّسل – الإصحاح 1: 1-8”
هذه السّنة، سنتعمَّق في قراءة سِفر أعمال الرُّسل، لذا أتمنّى على الجميع إحضار إنجيلهم الخاصّ معهم، إذ سنقوم بمقارنةٍ ما بين إنجيل لوقا وسِفر أعمال الرّسل،كونهما للكاتب نفسه، وهو الإنجيليّ لوقا. إنّه في غاية الأهميّة أن يمتلك كلّ منّا إنجيلاً خاصًّا به يدوِّن عليه تأمّلاته، فيتحوّل هذا الكتاب إلى علامةٍ تدلّ على علاقة المؤمِن الخاصّة بالربّ، كما يتحوّل هذا الكتاب أيضًا إلى رفيقٍ له في كلّ ظروفه. وأنا أدعوكم اليوم إلى اختبار ذلك، وإلى مشاركتي في اختباراتكم في اللّقاءات المقبلة، وإن رَحلتُ عن هذه الدّنيا، تذكّروني في صلاتكم، كلّما تأمّلتم في كلمة الله في كتابكم المقدَّس.
لقد أَرسَل الإنجيليّ لوقا كتابه الأوّل، أي الإنجيل، إلى شخصٍ يُدعى “ثاوفيلس”، كما أرسَل إليه أيضًا في وقتٍ لاحقٍ، سِفر أعمال الرُّسل، وهذا ما نكتشفه في مطلع هذين الكتابين. إنَّ اسم “ثاوفيلس” يونانيّ، وهو وثنيّ لا يهوديّ. ويتألّف هذا الاسم “ثاوفيلس” مِن كلمتين: “ثاوُ” وتعني الله، و”فِيلُسْ” وتعني حبيب أو صديق، وبالتّالي يُصبح معنى اسم “ثاوفيلس” حبيب الله أو صديق الله، وهنا يمكننا الاستنتاج أنّ هذين الكتابيَن يوجِّههما الإنجيليّ لوقا إلى كلّ مَن يعتبر نفسه صديق الله وحبيبَه.
إنَّ إنجيل لوقا يختلف عن سِفر أعمال الرُّسل، في أنَّ الإنجيليّ لوقا قد أعطى لقبَ “العزيز” لـ”ثاوفيلس” في إنجيله، وهو يُعَدُّ لقبًا تكريميًّا، غير أنَّ هذا اللّقب قد اختفى في سِفر أعمال الرّسل، ممّا قد يشير إلى أنّ “ثاوفيلس” كان ذا منصبٍ مُهِمٍّ في الإمبراطوريّة، ولكنّه خسِر وظيفته حين كُشِف أمره بأنّه أصبح مسيحيًّا.
إذًا، في بداية سِفر أعمال الرُّسل، يُخبرنا الإنجيليّ لوقا عن مصير كلّ مؤمِنٍ بالمسيح، إذ سيتعرَّض للاضطهادات وللمضايقات من قِبَل المحيطين به، بسبب حبِّه للربّ. إنّ عالَمَنا اليوم، يجد صعوبةً في قبول كلمة الحقّ، لذا هو يعمل على الإطاحة بكلّ مَن يحمل لواء الحقّ، محاولاً إسكاته وإِبعاد خَطَرِه عن مصالحِهِ الأرضيّة، وما حياة يسوع الأرضيّة سوى دليلٍ حقيقيٍّ على ذلك: فهو قد قُتِلَ على يد اليهود لإبعاد خَطَرِه عنهم بشكلٍ نهائي. وهذا ما يُوضِحه لنا أيضًا سِفر الرؤيا إذ يُخبرنا أنّ الرُّسلَ والّذين قبلوا، فيما بعد، الإنجيل على يد الرُّسل، قد تعرَّضوا للقتَل بسبب حُبِّهم للمسيح، في محاولةٍ لإبعاد خَطرهم نهائيًّا عن الّذين يحبّون هذا العالم وأهواءه ويرفضون الحقّ.
إنّ حَمْلَنا لبشارة الإنجيل لا يُعطينا الحقّ في إدانة الآخرين، وتقسيمهم إلى مجموعاتٍ انطلاقًا من تصرّفاتهم الصّالحة أو السَّيئة، كما أنّه لا يُعطينا الحقّ أبدًا في التسلُّط عليهم، ولذا علينا التمييز ما بين إضطهاد الآخرين لنا بسبب كبريائنا وقلّة محبّتنا للآخرين، وما بين اضطهاد الآخرين لنا بسبب حَمْلِنا للإنجيل بكلِّ أمانةٍ.
ولذا، يمكننا الاعتماد على ردّة فعلِ النّاس على تبشِيرنا بالإنجيل، لمعرفة سبب اضطهادهم لنا: إنّ مديح النّاس لنا بسبب إعلاننا للإنجيل هو دليلٌ قاطعٌ على وجودِ خللٍ في مسيرتِنا التبشيريّة؛ أمّا إنْ أدّى إعلانُنا لكلمة الحقّ إلى عَزلِهم لنا، فهذا قد يكون مؤشِّرًا على صحّة مسيرتِنا التبشيريّة، ولكنّه قد يكون أيضًا مؤشِّرًا على عدم سلوكِنا وِفق تعاليم المسيح الّتي نكرز بها. من خلال مَطلع أعمال الرّسل، نكتشف أنّ لوقا الإنجيليّ أرسل كتابَيه إلى “ثاوفيلس”، وبالتّالي نكتشفُ رغبة الإنجيليّ في إيصال كلمة الله إلى كلّ محبٍّ لله، غير آبهٍ إن كان هذا الإنسان يونانيًا وثنيًا أو يهوديًّا، إذ بالنسبة إليه، جميعُ البشر متساوون في محبّتهم لكلمة الله.
إنّ الخبرة الإنسانيّة أظهرت لنا عبر العصور، رغبةَ الإنسان العميقة في إظهار تَفوقِّه، في كلّ المجالات، على سائر البشر إخوته، وما جريمة قايين وهابيل الّتي يُخبرنا عنها العهد القديم سوى دليلٍ على ذلك. هذا هو جوهر الذهنيّة اليهوديّة المتجذّرة في الطبيعة الإنسانيّة، والموجودة في داخل الإنسان قبل ظهور الدِّين اليهوديّ. ما مِن إنسانٍ على هذه الأرض، غير يهوديّ الذِّهنيّة، إلّا يسوع المسيح، على الرّغم مِن أنّه يهوديّ في انتمائه الدِّيني. إنّ الرّسل جميعًا كانوا ذوي ذهنيّات يهوديّة، ولكنّهم تمكّنوا مِن التحرُّر منها، حين اختبروا الربّ، وعانقوا الصّليب، أي حين قَبِلوا الموتَ في سبيل البشارة.كان بولس الرّسول يهوديًا أصيلاً، إذ إنّه يهوديّ ابن يهوديّ، وينتمي إلى جماعة الفريسيّين، وقد تَعمَّق في الشريعة اليهوديّة وكان مدافعًا شَرِسًا عنها، ولكنّ الربّ حرّره منها، حين كشف له ذاته، فأعلن بولس إيمانه بالربّ مبشِّرًا به في المسكونة كلِّها، فكان إكليلُ الشَّهادة نَصيبَهُ.
إذًا، لا يمكن للإنسان أن يتحرّر مِنَ الذهنيّة اليهوديّة المتجذّرة فيه إلّا بمعانقته للصّليب، أي باختباره الألم والاضطهادات حبًّا بالمسيح. إنّ عدم مواجهَتِك للصّليب، في إعلانك البشارة للآخرين، هو دليلٌ على ابتعادِك عن الشَّهادة الحقّة للمسيح، لذا عليك إعادة النَّظر في مسيرتِك التبشيريّة، لأنّك في الحقيقة قد وَقعت في أفخاخ الذهنيّة اليهوديّة المبنيّة على “الأنا” المتعاظِمة في قلبِ الإنسان.
لقد قَتَل اليهودُ يسوعَ المسيح لأنّه هَدَمَ لهم كلّ أفكارهم حول أفضليّتهم على بقيّة شعوب المسكونة، إذ كانوا يعتقدون أنّهم “شعب الله المختار” دون سواهم، وأنّ الله هو إلههم حصرًا، دون الآخرين؛ وهذا ما يبرِّر عدم فَهمهم لبعض الآيات الكتابيّة، غير المنسجمة مع هذه الذهنيّة. أمّا الذهنيّة المسيحيّة الّتي يدعونا المسيح إلى اعتمادها، فَهِيَ تقوم على الإيمان بأنّ جميع البشر متساوون أمام الله، فَهُم جميعًا خطأة. ولكن الله أراد من خلال ابنه، يسوع المسيح، أن يَمنَحَ البشر عن غير استحقاقٍ منهم، نِعمَةَ مشاركتهم له في الملكوت السماويّ، وبالتّالي، فإنّ مشاركة المؤمِنِين في الملكوت هي رَهنٌ بقبولهم لِنِعمةِ الله الممنوحة لهم أو بِرَفضِهم لها.
إنّ قبولَنا تلك النِّعمة الإلهيّة، أي الملكوت، يتجسَّد من خلال محافظتِنا عليها من خلال تَصرُّفاتِنا وأعمالِنا اليوميّة المنسجمة مع كلمة الله، فإن كانت حياتنا غير منسجمة مع كلمة الله، فهذا دليلٌ يؤكِّدُ عدم قبولِنا نعمة الله المعطاة لنا بمجانيّة، لأنّ الملكوت بالنسبة إلينا، يُنال بعد موتِنا الأرضيّ، وبالتّالي لا ضرورة له في حياتنا الأرضيّة. إنّ الملكوت في الحقيقة موجودٌ في داخلنا، ونكمِلُ عيشَنا له في الملكوت السماويّ، أي بعد انتقالِنا الجسديّ من هذه الحياة.
وما تصرّفات الإنسان مع البشر سوى انعكاسٍ لتصرّفاته مع الله: فالإنسان يرفض عطية الله المجانيّة له، ألا وهي الملكوت على الرّغم مِن تظاهُرِه بقبولها، وذلك لأنَّه يطمح إلى الحصول على الملذّات الأرضيّة لا السماويّة فحَسب. إنّ الشَّعب اليهوديّ، من خلال اختباره، هو مِثالٌ حيٌّ على ذلك: فهو قد أعلَن ظاهريًّا قبوله بالله، إلهًا وحيدًا له، ولكنْ ما إن غاب موسى عن أنظاره، حتّى سارَع الشّعب إلى صُنعِ منحوتاتٍ وثنيّة، أُسوةً ببقيّة الحضارات المحيطة به، لعبادتها وطَلَبِ الأمور الأرضيّة منها.
إنّ هذا الشَّعب قد مزج بين عبادته لله وبين عباداته الوثنيّة: معتقدًا أنّه قد تمّم واجباته الدِّينيّة مع الله في الهيكل، ولذا يحقّ له التوجّه إلى عباداتٍ أخرى لتحقيق مصالحه الأرضيّة الزائلة. هذا أيضًا ما نعيشه ونختبره كلّ يومٍ في حياتنا اليوميّة كمسيحيّين: إذ نقوم بأعمال تقوية ونشارك في كافّة الطّقوس الدِّينيّة، الّتي يطلبها الله منّا في الكنيسة، ومن ثمّ نَتَفرّغ لتحقيق نزواتنا الأرضيّة ومصالحنا الدّنيويّة البعيدة كلّ البُعد عن الله وتعاليمه. إنّ هذه الحياة الّتي نعيشها على هذا النّحو تشكِّل انعكاسًا للذهنيّة اليهوديّة المتجذّرة فينا على الرّغم من قبولِنا للعماد وبالتّالي اتِّباعنا للمسيح.
إنّ المعموديّة ليست حَدثًا يتمّ مرّةً واحدة وينتهي مفعولها بعد انتهاء الرُّتبة الكنيسة، بل هي حدثٌ يتمّ مرّةً واحدة ولا ينتهي مفعولها إلّا بموتنا الجسديّ، أي بقيامتنا في الملكوت السماويّ. لذلك، فإنّ المعمَّد يموت مع المسيح عن الأمور الدّنيويّة ويقوم معه للحياة كابنٍ لله، ولا يتحقّقُ مفعول المعموديّة النِّهائي، إلّا بموت الإنسان الجسديّ، وبقيامته الحقّة في الملكوت مع المسيح.
إذًا، بين موتك الأوّل وقيامتك الأولى في المعموديّة، وموتك الجسديّ وقيامتِك الأخيرة في الملكوت، يمنَحُك الله حياةً أرضيّة تعبِّر فيها عن قبولك بعطيّة الله المجانيّة لك من خلال أعمالك وتصرّفاتك، فتشهد للآخرين أنّك “ثاوفيلس”، أي أنّك حقًّا حبيب الله وصديقه. وعندها سيتمكّن الإنجيليّ لوقا من تقديم وديعة الإيمان لك كما فَعل مع “ثاوفيلس” لتُحافِظ عليها، فتَشهد للمسيح في حياتك اليوميّة.
“الكَلامُ الأوَّلُ أَنشَأْتُهُ يا ثَاوُفِيلُسُ، عن جميعِ ما ابتَدَأَ يسوعُ يَفعَلُهُ ويُعلِّمُ به، إلى اليومِ الّذي ارتفَعَ فيهِ، بعدما أَوصى بالرُّوحِ القدسِ الرُّسُلَ الّذينَ اختَارَهُم. الَّذينَ أَراهُم أيضًا نَفسَهُ حيًّا ببرَاهينَ كَثيرةٍ، بَعْدَ ما تألَّمَ، وهو يَظهَرُ لهم أربعينَ يَومًا، ويتكلَّمُ عن الأُمورِ المختصَةِ بملكوتِ اللهِ. وفيما هو مُجتَمِعٌ معهم أَوصاهُم أنْ لا يَبرَحوا مِن أُورَشليمَ، بل يَنتَظِرِوا “مَوعِدَ الآبِ الّذي سَمِعتُموه منّي، لأنَّ يُوحنَّا عَمَّدَ بالماءِ، وأَمّا أَنْتُم فَسَتَتَعَمَّدُونَ بالرُّوحِ القُدُسِ، لَيسَ بَعدَ هذه الأيّامِ بِكَثيرٍ”. أمّا هُمُ الـمُجتَمِعونَ فَسَأَلوهُ قائلينَ: “يا رَبُّ، هَل في هذا الوَقتِ تَرُدُّ الـمُلكَ إلى اسرائيلَ؟ فقال لهم:”لَيسَ لَكم أن تَعرِفوا الأزمِنَةَ والأوقاتَ الّتي جَعَلَها الآبُ في سُلطانِهِ، لَكِنَّكُم سَتَنالُونَ قُوَّةً مَتى حَلَّ الرُّوحُ القُدُسُ عَليكُم، وتَكونونَ لي شُهودًا في أُورَشليمَ وفي كلّ اليَهوديَّةِ والسَّامِرَةِ وإلى أقصى الأَرضِ”. (أعمال 1: 1-8)
في مطلع سِفر أعمال الرُّسل، يُذكِّر الإنجيليّ لوقا “ثاوفيلس”، بالإنجيل الّذي كان قد أرسلَه إليه، مُخبرًا إيّاه فيه عن أعمال يسوع وتعاليمه الّتي أعطاها لتلاميذه، من بداية حياته العلنيّة حتّى يوم صعوده إلى السّماء. ثمّ يتابع الإنجيليّ لوقا، فيُخبرُ “ثاوفيلسَ” أنّ الربَّ بعد قيامته قد ظهر لتلاميذه، مدّة أربعين يومًا مُعطيًا إيّاهم البراهين على قيامته من الموت. وقَبل صعوده إلى السّماء وَعد الربُّ تلاميذه بإرسال الرّوح القدس إليهم بعد أيّام قليلةٍ على صعوده إلى السّماء، ليكون لهم المعزّي والسَّند لهم في رسالتهم التبشيريّة. لقد ربط الإنجيليّ لوقا، “موعِد الآب” للرّسل، ألا وهو الرّوح القدس، بالمعموديّة، ليقول لنا إنّ المعموديّة الحقّة لا تتمّ من دون الرّوح القدس.
حين كان الربُّ يكلِّمهم عن الملكوت السماويّ، كان تفكيرُ الرّسلِ موجّهًا إلى الملكوت الأرضيّ، بدليل سؤالهم له عمّا إذا سيشهدون في حياتهم الأرضيّة على استرجاع اسرائيل الـمُلك الدنيويّ. إنّ حديث الرّسل هذا مع يسوع، ما هو سوى دليلٍ حقيقيّ على تَجَذُّر الذهنيّة اليهوديّة في حياتهم، على الرّغم من اتِّباعهم للمسيح.كان هَمُّ الرُّسل في ذلك الوقت استرجاع اسرائيل الـمُلك، ليتمكّنوا من إدانة العالم والـحُكم عليه.
أمام هذا التفكير الأرضيّ، كان جواب الربِّ لتلاميذه إنّ وقتَ استرجاع اسرائيل الـمُلكَ هو مِن صلاحيّات الآب وحده، فهو الوحيد العالِمُ بالأوقاتِ والأزمان. إنّ الوقتَ هو جزءٌ مِنَ الزّمن. وبذلك، أراد الربّ أن يُخبرَ تلاميذه أنّ لا سُلطان لهم لا على الجزء وهو الوقت، ولا على الكامل وهو الزّمن. إنّ الربّ سيُعطي تلاميذه كلّ ما يحتاجون إليه في رسالتهم التبشيريّة، لذا لا داعي لقَلَقِهم بشأن الأوقات والأزمان.
إنّ الربّ قد طلب من تلاميذه أن يبشِّروا أوّلاً في أورشليم أي في محيطهم الضَّيق، ومتى نَجوا من الاضطهادات فيه، انطلقوا إلى أماكن أبعَد كاليهوديّة والسّامرة، وإن تمكّنوا هنا أيضًا من النَّجاة من الموت، فلينطلقوا حينها إلى أقصى الأرض، الّتي كانت تشير في أيّامهم إلى روما، أي مركز الإمبراطوريّة الرومانيّة الوثنيّة. إنّ الربّ طلب من تلاميذه الذّهاب إلى روما، لتفكيك الأصنام المتجذّرة في عقول النّاس، والشَّهادة للربّ. إنّ سِفر أعمال الرُّسل يُخبرنا عن موت القدِّيسَين بطرس وبولس في روما، وما هذا سوى دليلٍ على أنّ كلام الربّ قد تحقّق، إذ نجح التّلاميذ، أكان بعضهم أو جميعهم، في إيصال الإنجيل إلى كلّ المسكونة.
يُخبرنا سِفر أعمال الرُّسل عن المشقّات الّتي عانى منها الرّسل، والاضطهادات الّتي تعرَّضوا لها، في سبيل إعلان البشارة، وبالتّالي هو يشكِّل حافزًا لنا للاقتداء بهم، فنُعلن الإنجيل بكلّ بسالةٍ ودون خوف. كما يُخبرنا هذا السِّفر أيضًا عن سيمون السّاحر الّذي أراد شراء مواهب الله المجانيّة للرّسل من بطرس وبولس، بهدف جذب المزيد من النّاس حوله وتحصيل الأموال منهم. لقد عانى بولس الرّسول من هذه الذهنيّة مع أهل كورنثوس الّذين شكِّوا في هدَفه النبيل في إيصال الإنجيل إليهم، فاعتقدوا أنّه يبشِّرهم مقابل حصوله على القوت الأرضيّ منهم.
عندما هُدم الهيكل سنة سَبعين ميلاديّة، اعتبروا أنّهم خسروا كلّ شيء، لأنّ ثرواتهم قد تعرَّضت للسرقة مِن قِبل الرّومان، وهم أشخاصٌ وثنيّون، لا يهود. في إنجيل لعازر والغنيّ، نقرأ أنّ الغنيّ كان لديه خمسة أخوة، والرّقم خمسة في الكتاب المقدَّس يرمز إلى الكُتب الموسويّة، أي إلى الشريعة اليهوديّة. أمّا لعازر، والّذي يعني اسمه، أنّ “الله هو عَونَه الوحيد”، فقد كانت الكلاب تلحسُ قروحه، والكلاب عند اليهود هي مِن الحيوانات النَّجسة. بعد انتقاله مِن هذا العالم، جلس لعازر في حِضن ابراهيم، إنّ الغنيّ، في هذا النصّ الإنجيليّ، هو إنسانٌ يهوديّ إذ كان يهتمّ بثرواته وأمواله غير آبهٍ للعازر الفقير الـمَرمي عند عَتبَةِ قصره.
إنّ الفقير والمحتاج هو سيِّدُ الكنيسة، وبالتّالي هي مدعوّةٌ لإنقاذه من حاجته تلك، مدعوّة اليوم إلى التخلّي عن الذهنيّة اليهوديّة، فتصُبُّ كلّ اهتمامها في خدمة الفقراء، لا في التفكير بمستقبلها لأنّ الله سيعتني به. إنّ الله قد حرّر الشَعب من العبوديّة في مَصر، ووَعدَهم بإعطاهم أرضيّة ليعبدوه عليها، لا أرضًا خاصَّةً بهم كشعب. غير أنّ كلام الله هذا، كان غير مفهومٍ بالنسبة للكثيرين من اليهود، لذا سعوا إلى إنشاء دولةٍ خاصَّةٍ بهم، على أراضي الشُّعوب الأخرى. إنّ الله لم يحرّر شعبه، من العبوديّة في مَصر، ليقوم هذا الأخير بالسيطرة على شعوبٍ أخرى واستعبادها.
إنّ الرّسل هم مجموعةٌ من المؤمِنِين الّذي نجحوا في التحرُّر مِنَ الذهنيّة اليهوديّة، فقرّروا الاستبسال في نشر كلمة الله، ولو كلّفهم ذلك الموت في سبيل البشارة. لقد فضّلوا الموت بذهنيّة المسيح، على الحياة بذهنيّة يهوديّة، لذا سجدوا للربّ وحده رافضين الخضوع لسواه. إنّ لوقا الإنجيليّ يُعلِن في سِفر أعمال الرُّسل استعداده لتسليم أمانة الإنجيل، لكلِّ مُـحبٍّ لله، الّذي يتوجّب عليه إكمال مسيرة البشارة في المسكونة كلّها، والشَّهادة لكلمة الحقّ حتّى ولو قاده ذلك إلى الاستشهاد في سبيلها.
هذا هو دَورنا اليوم، كمسيحيّين، إكمال مسيرة الشَّهادة لكلمة الحقّ على مِثال الرُّسل. وبالتّالي علينا الاحتفال بالأعياد المسيحيّة كالميلاد والفصح والعنصرة، لا كأنّها أحداث تاريخيّة حقّقها الربُّ يسوع وانتهى مفعولها، بل علينا عيش روحانيّـتها كي يظهر مفعولها في حياتنا للآخرين فيؤمِنوا بالربّ، ويحصلوا على الخلاص. ليست الزّينة التّي نراها في المتاجر، هي المسؤولة عن إدخال الفرح إلى قلوبنا لنتمكّن من الاحتفال بالعيد، بل على وجود المسيح في حياتنا أن ينعكس فَرحًا وابتهاجًا للآخرين، فنحتفل بالعيد مع الآخرين.
من هنا، تظهر ضرورة العمل على تعميد الذهنيّات اليهوديّة فتُصبح منسجمة مع كلمة الله. وهنا يُطرَح السؤال: ما الهدَف مِن معموديّتنا إن كُنّا لا نزال متمسِّكين بالذهنيّة اليهوديّة؟ ليست المعموديّة عمليّة دَهنٍ بالزيت وتغطيس بالمياه، بل هي عمليّة تظهر قبولك لكلمة الله، واعتلان الرّوح القدس لك. إنّ البعض قد يقول إنّه بما أنّنا قد آمنا بالمسيح واقتبلنا العِماد، فما الفائدة في المشاركة في الذبيحة الإلهيّة؟
إنّ المعموديّة تجعلك ابنًا لله، وهي تَمنَحُك الفرصة لمشاركة أبيك السماويّ في مائدته، لذا تذهب إلى القدّاس. ولكن لا يمكننا الاشتراك في المائدة الإلهيّة إلّا إن كنّا مستعدِّين لها، لذا نقوم في بداية القدّاس باستغفار الله قائلين له “يا ربّ ارحم”، ونتأمّل في الكلمة المقدَّسة، ويذكِّرنا الكاهن بضرورة العيش بسلامٍ مع الآخرين ومحبّة بعضنا البعض، كما أوصانا الربّ، وحين نتمكّن من تحقيق كلّ ذلك، نتقدَّم مِنَ المناولة المقدَّسة الّتي تتمّ في ختام الذبيحة. ولكنَّ الإنسان لا يتصرّف بعد انتهاء الذبيحة كابنٍ لله، في حياته اليوميّة، لذا تظهر ضرورة إعادة الاحتفال بالذبيحة الإلهيّة كلّ يومٍ، لنتمكّن يومًا بعد يومٍ من تحقيق صورة ابن الله فينا.
إذًا، في كلّ ذبيحةٍ إلهيّة، يُعلِن المؤمِن من جديد، قبولَه من جديد، لعطيّة الله له، وهي الملكوت، ويسعى إلى عيشها من خلال محاولاته المتكرِّرة لِعَيش كلام الله والمشاركة في المائدة الإلهيّة مع الله أبيه، وبهذه الطريقة يتخلّى رويدًا رويدًا عن ذهنيّته اليهوديّة ليقبل ذهنيّة المسيح فيه. آمين.
ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.