تفسير الكتاب المقدّس،

الأب ابراهيم سعد،

“سِفر أعمال الرّسل – الإصحاح 1: 9-26”

في الصّلاة الافتتاحيّة لاجتماعنا اليوم، طَلَبْنا مِنَ الربّ أن يُسكِن إخوتِنا الرّاقدين في “مساكن النّور”. هذه العبارة تدعونا إلى الاعتقاد بأنّ هناك مساكنَ ظُلمَةٍ ومساكنَ نورٍ عِندَ الله، غير أنّ هذا الاعتقاد خاطِئٌ تمامًا، لأنّ الربّ هو النّور الحقيقيّ الّذي لا يزول، وهو الشَّمس الّتي لا تغيب، وبالتّالي لا توجد عنده إلّا مساكن نورٍ. 

إنّ الإنسان هو الّذي يقرِّر إن كان يريد مساكن النّور في الحياة الأبديّة أم لا: فإنْ كان المؤمِنُ اختار القُرب مِنَ الربّ في حياته الأرضيّة، فعاشها في نور الله، فإنّه عندَ انتقاله من هذا العالم، سيُعاين نورَ الله؛ أمّا إنْ كان المؤمِن قد اختار العَيْشَ في هذه الأرض، بعيدًا عن الربّ، فإنّه في اليوم الأخير، سَيُزعجه نور الربّ، ولن يتمكّن من العيش بقربه. لذا، يُعطي اللهُ الإنسانَ هذه الحياة الأرضيّة ليختار فيها بكلّ حريّة، ما بين العَيْشِ في النّور أو في الظّلمة. 

حين يَنتقل المؤمِن من هذه الحياة، لا يعود باستطاعته تصحيح أيّ قرارٍ خاطِئٍ قد اتَّخذه في حياته الأرضيّة، وبالتّالي إنْ كانت قراراته مبنيّة على العَيْشِ في بُعدٍ عن الربّ، فإنّه سيَتَحرّق ألـمًا ووجعًا في الحياة الثانية، إذ سيَندم نَدمًا مَريرًا حين يكتشف أنّ الله هو النّور الحقيقيّ، وأنّه لن يتمكّن مِن مُعاينَتِه بسبب قرارته الخاطئة في حياته الأرضيّة، وهذه هي جهنّم فِعْلِيًّا. إذًا، في الحياة الثانية بعد الموت، لا تُوجد نارٌ حقيقيّة دائمة الاشتعال كما يعتقد البعض، بل إنّ النّار ستَشتَعِلُ في داخل كلّ إنسانٍ قد رَفضَ الله في حياته، وسيَتَحسَّر على أخطائه الّتي ارتكبها في حياته الأرضيّة.

لا يمكن للإنسان أن يبني علاقةَ حُبٍّ مع الربّ، إن كان الإنسان لا يرى في الله إلّا إلهًا دَيَّانًا، لا يهتمّ إلّا في مراقبة النّاس ومعاقبتهم على أخطائهم؛ ففي ذلك الحين، لن يقوم الإنسان بأيِّ عَملٍ تَفرِضه عليه الشريعة، إلّا للهرب مِنَ العقاب الأبديّ، باحثًا عن المكافآت الإلهيّة لأعماله الأرضيّة. فكما أنّ الحبيب لا يتعامل مع حبيبِه استنادًا إلى قوانينَ أرضيّة بشريّة بل انطلاقًا من حبِّه له، كذلك على علاقتنا بالربّ ألّا تستند على القوانين الدِّينيّة بل على الحبّ، مَصدر الفرح لكلِّ إنسانٍ. 

في رسالته الأولى، يقول لنا يوحنّا الرّسول، إنّ الحبّ يطرد الخوف خارجًا، والخوف يطرد الحبّ خارجًا. في هذا الصباح، أدعوكم إخوتي، إلى التخلّي عن كلّ صلاةٍ غير منسجمة مع قراراتكم وقناعاتكم، وإلى تَبَنّي كلَّ صلاةٍ تنسجم مع نَظرتِكم إلى الربّ، وإلى تَردادِها بشكلٍ مستمِرّ كأنَّكم أنتم مؤلِّفوها. يمكنكم إخوتي، تأليف صلواتٍ خاصّةٍ، نابعة من محبّتكم لله وتَردادها، فهذه الصّلوات ستمنحكم الفرح والسَّلام أكثر من سواها، لأنّها تُعبِّر عن صِدق محبّتكم لله. 

إنّ أحد أهمّ أسباب التَّشتُت في الصّلاة، هو تحَوُّل صلواتنا إلى تَمتَمَةِ كلماتٍ فارغةٍ من معناها، غير نابعة مِنَ القلب. إنّ الصّلاة هي في الحقيقة، صِلَةٌ تَجمع المؤمِن بالله، مَبنيّةٌ على حبِّ الإنسان لله، لا على خوفه منه. إنّ بعض المؤمِنِين لا يُدرِكون حقيقة بعض العبارات الّتي يقرؤونها على أوراق الوفاة الخاصّة بالمنتقلين من بيننا، فحين نقرأ عبارة “متمِّمًا واجباته الدِّينيّة”، فهذا لا يعني أنّ المنتقل من بيننا كان يُمارِسُ الصّلاة كواجبٍ أساسيّ في حياته، بل تعني أنّ المنتقل هو مِن أبناء الكنيسة، أي أنّه قَبِل بالمسيح إلهًا ومخلِّصًا له، فَعَبَّر عن ذلك باقتباله الأسرار الكنسيّة وخاصّةً المعموديّة.

إنّ سِفر أعمال الرُّسل يُخبرنا عن أهمّ ما قام به الرّسل في مسيرتِهم التبشيريّة بالإنجيل. ويشكِّل هذا السِّفر معموديّةً جديدةً للمؤمِنِين الّذين تراخوا في نَقلِ الإنجيل، إذ يُحفِّزهم على التشبُّه بالرُّسل الّذين عانوا من الاضطهادات، فَتَشدَّدوا بالرّوح القدس، وتمكّنوا من إيصال كلمة الله إلى المسكونة كلِّها. إنَّ سِفر أعمال الرُّسل يدعونا إذًا إلى التخلّي عن الذهنيّات القديمة الـمَبنيّة على خوفِنا من الله، وإلى تَبَنيّ ذِهنيّات روحيّة كنسيّة جديدة مبنيّة على محبّتنا لله، فنعيش بفرحٍ معه.

“وَلَمّا قالَ هذا ارتَفَعَ وَهُم يَنظُرونَ. وَأَخَذَتهُ سَحابَةٌ عن أَعْيُنِهم. وَفيما كانوا يَشخَصُونَ إلى السَّماءِ وَهُوَ مُنطَلِقٌ إذَا رَجُلانِ قَدْ وَقَفا بِهِم بلباسٍ أبيضَ، وقالا: “أَيُّها الرِّجالُ الجَلِيليُّونَ، ما بالُكُم واقِفِينَ تَنظرونَ إلى السّماءِ؟ إنَّ يَسوعَ هذا الّذي ارتَفَعَ عنكُم إلى السَّماءِ سيأتي هكذا كَما رأيتُموهُ مُنطَلِقًا إلى السَّماء”. حِينئذٍ رَجِعوا إلى أورَشَليمَ مِنَ الجبل الّذي يُدعى جبلَ الزَّيتونِ، الّذي هُوَ بالقُربِ مِن أورَشَليمَ على سَفرِ سَبْتٍ. ولَمّا دَخلوا، صَعِدُوا إلى العِلِّيَّةِ الّتي كانوا يُقيمونَ فيها: بُطرُسُ ويَعقوبُ ويوحنّا وأَندراوسُ وَفِيلِبُّسُ وتُوما وبَرْثُولَمَاوُسُ ومتَّى ويَعقوبُ بْنُ حَلفَى وسِمعانُ الغَيُورُ ويَهُوذا أَخو يَعقوبَ. هؤلاءِ كُلُّهُم كانوا يُواظِبونَ بِنَفسٍ واحِدَةٍ على الصَّلاةِ والطِّلْبَةِ، مَعَ النِّساءِ، ومَريَمَ أُمِّ يَسوعَ، ومَعَ إِخوَتِهِ. وفي تِلكَ الأيَّامِ، قامَ بُطرُسُ في وَسطِ التَّلاميذِ، وكانَ عِدَّةُ أَسْماءٍ مَعًا نَحوَ مِئةٍ وعِشْرينَ. فقالَ: 

“أَيُّها الرِّجالُ الإخوَةُ، كان يَنبَغي أَنْ يَتِّمَ هذا الـمَكتُوبُ الّذي سَبَقَ الرُّوحُ القُدُسُ فقالَهُ بِفَمِ داوُدَ، عَنْ يَهُوذا الّذي صارَ دَليلاً للّذينَ قَبَضُوا على يَسوعَ، إذْ كان مَعدُودًا بَيْنَنا وصارَ لَهُ نَصيبٌ في هذه الخِدمَةِ. فإنَّ هذا اقْتَنى حَقلاً مِن أُجرَةِ الظُّلمِ، وإذْ سَقَطَ على وَجهِهِ انْشَقَّ مِنَ الوَسَط، فانْسَكَبَتْ أَحشاؤُهُ كُلُّها. وصارَ ذَلِكَ مَعلُومًا عِندَ جَميعِ سُكَّانِ أُورَشَليمَ، حتَّى دُعِيَ ذَلِكَ الـحَقلُ في لُغَتِهم “حَقَلْ دَمَا”، أيْ: حَقْلَ دَمٍ. لأنَّهُ مَكتُوبٌ في سِفرِ المَزاميرِ: لِتَصِرْ دارُهُ خَرابًا ولا يَكُنْ فِيها ساكِنٌ. وَليَأْخُذْ وَظيفَتَهُ آخرُ. فَيَنبَغي أنَّ الرِّجالَ الّذينَ اجْتَمَعوا مَعَنا كُلَّ الزَّمانِ الّذي فيهِ دَخَلَ إليْنا الربُّ يَسوعُ وَخَرَجَ، منذُ مَعمُودِيَّةِ يُوحَنَّا إلى اليَومِ الّذي فيه ارتَفَعَ فيهِ عَنَّا، يَصيرُ وَاحِدٌ مِنهُم شاهِدًا مَعَنا بِقِيامَتِه”. فأَقامُوا اثْنَينِ: يُوسُفَ الّذي يُدعى بارْسَابا الـمُلَقَّبَ يُوسْتُسَ، ومَتِّياسَ. وَصَلُّوا قائِلِينَ: “أَيُّها الرَبُّ العَارِفُ قُلوبَ الـجَميعِ، عَيَّنْ أَنْتَ مِن هَذَينِ الاثْنَينِ أَيًّا اخْتَرتَهُ، ليأَخُذَ قُرعَةَ هَذِهِ الخِدمَةِ والرِّسالةِ الّتي تَعدَّاها يَهُوذا ليَذهَبَ إلى مَكانِهِ”. ثُمَّ أَلقَوا قُرعَتَهُم، فَوَقَعَتْ القُرعَةُ على مَتِّياسَ، فَحُسِبَ مَعَ الأَحَدَ عَشَرَ رَسُولاً”. (1: 9-26)

إنّ الغمامة هي إحدى الرّموز المستعملة في الأدب الرؤيويّ للدلالة على حضور الله أو غيابه. في حَدث الصُّعود، كان الرُّسل يُحدِّقون إلى السّماء لرؤية العمل الخارق الّذي يقوم به الربّ، لكنَّ الرَّجُلَين اللّذين ظهرا للرُّسل أخبراهم أنّ الوَقت قد حان للانطلاق في إعلان كلمة الإنجيل في كافة المسكونة، فالربّ الّذي صَعِدَ ممجَّدًا إلى السّماء، سيعود مجدّدًا إلى الأرض ممجَّدًا. يُخبرنا سِفر أعمال الرُّسل أنّ هذين الرَّجُلَين كانا يرتديان لِباسًا أبيضَ. 

كانت الشريعة اليهوديّة تَقضي لتصديق أيّة شهادةٍ، أن يتمّ إعلانها على لِسان شاهِدَين، وهذا ما حَصل مع الرُّسل إذ ظهر لهم الرَّجُلان ليُعلنا لهم مِصداقيّة ما اختبروه أمام أعينهم. بعد قيامة الربّ يسوع من الموت، كان المعمَّدون، في الكنيسة الأولى، يرتدون اللِّباس الأبيض، وبالتّالي أراد الإنجيليّ لوقا أن يقول للمؤمِنين إنّ رسالة يسوع الأرضيّة قد انتهت، وقد أكَّدها لنا هذَان الرّجُلان، وقد حان الوَقت الآن للمُعمَّدين، للانطلاق في إعلان قيامة الربِّ في حياتهم، ومن خلال تبشير الآخرين بها. لقد نادى هَذان الرَّجُلان الرُّسُلَ بـ”الجَليليّين”، نسبةً إلى المدينة الّتي مِنها أتوا، لمشاهدة هذا الحَدَث. 

إنّ الجليل، بالنِّسبة إلى اليهود، هي منطقةٌ منبوذةٌ، إذ لا يَخرُج منها إلّا السَّيئات في نَظَرِهم، كَونَ أهلِها قد خالطوا الوثنيّين. ولكن بمناداتهما الرُّسل بـ”الجَليليّين”، أراد هذان الرَّجُلان التأكيد لهم أنّ رسالة الربّ ستَنطلِق من هذه المدينة المنبوذة، لتصل إلى أقاصي الأرض، من خلال هؤلاء الرُّسل، فَخَلاصُ الربِّ هو للوثنيّين ولليهود على حدٍّ سواء.

إنّ الذهنيّة الوثنيّة لا تزال متجذّرة في عقول المؤمِنِين، وما تصرُّف الرُّسل سوى تأكيدٍ على ذلك: فالرُّسل كانوا ينظرون إلى الأعجوبة لا إلى المعنى الروحيّ لحدَثِ الصُّعود. ونحن اليوم أيضًا، للأسف، لا نزال متمسِّكِين بهذه الذهنيّة، إذ نهتمّ لزيارة الأماكن المقدَّسة حيث تَمَّ الحَدَث، أكثر مِن اهتمامنا بالمعنى الروحيّ والإيمانيّ للحَدَث، ولذا على سبيل الـمِثال نُطلق أسماء المناطق على مزارات القدِّيسين وخاصّةً مزارات العذراء مريم، فنقول سيِّدة حريصا، أو سيِّدة بشوات، أو سيِّدة صيدنايا. 

إنّ الحَدث هو أهمُّ من المكان الّذي تَمَّ فيه الحدَث، غير أنّ قلوبَنا لا تزال مشدودة إلى الوثنيّة، إذ نسعى على الدّوام إلى النَّظر إلى الله، الّذي نؤمِن به، على أنّه إلهُ مكانٍ لا إلهُ حَدَثٍ. في الكتاب المقدَّس، لم يعرِّف الربُّ يومًا عن نفسه على أنّه إلهُ هذه المدينة أو تلك، بل كان دائمًا يعرِّف عن نفسه، أنّه الإله الّذي أخرج الآباء من الصَّحراء، وأنّه الإلهُ الّذي خلَّص شعبه، فماتَ من أجلهم وقام من الموت ومَنحهم الحياة الأبديّة. 

إذًا، إنّ الله يعرِّف عن ذاته للمؤمِنِين به، من خلال الأفعال الّتي أنجزَها في حياتهم. إنّ قبول أكثريّة النّاس بمعتقداتي الإيمانيّة لا يعني صِّحة إيماني، فالإيمان لم يكن يومًا مرتبطًا بموافقة الآخرين على قناعاتي، والدّليل أنَّ عددًا مِن القدِّيسِين قد تعرَّضوا للاستشهاد في سبيل الدِفاع عَمّن يؤمِنون به، والّذي لم يكن مقبولاً من الآخرين المحيطين بهم. إنّ الإيمان بالله مرتبطٌ بقناعات المؤمِن الّتي يتبنّاها، فيُعلِن هذا الأخير أنّ إلهَه هو الإله الحقيقيّ ولا إله سواه، حتّى ولو لم تتمكّن الدِّراسات العِلميّة من إثبات معتقداته الإيمانيّة. 

إنّ إيمان المؤمِن مرتبطٌ بما يُعلِنه له الإنجيل فقط، فيُعلِن أنّ ربَّه وإلـهَه هو يسوع المسيح دون سواه. إنَّ الأعجوبة قد تحصل في أيّ مكانٍ نتواجد فيه، لذا لا داعي للانتقال إلى أماكن بعيدة للتأكُّد من صِحَّة الظهورات، فإيماننا ليسَ مرتبطًا لا بظهورٍ خارقٍ ولا بمكانٍ معيَّن، بل بشخصٍ حقَّق وما يزال يحقِّق الأعاجيب في حياتنا اليوميّة، وإن لم نكن مُدرِكين لها. 

إنّ إلهَنا هو إلهٌ حَيٌّ، وهذا يعني أنّه يُصغي إلينا ويكلِّمنا، ويطلب منّا أمورًا غير متوقَّعة مِن قِبَلِنا، ممّا يخلقُ فينا تحدِّيًا لمواجهته، ولكن عندما نشعر بعجزِنا لمواجهته، فإنّنا نسعى لإعادته إلى حالة الصَّنميّة القديمة، فلا نعود نُصغي له، بل نَنهال عليه بالطلبات الَّتي نعتقد أنّه عليه تحقيقها لنا، دون أن نمنحه فرصةً لمناقشتنا في ما نطلب منه. هذا التصرُّف الإنسانيّ هو وثنيٌّ تمامًا إذ يعيدُ الإنسان إلى حالة التَّدَين الّتي كان فيها قَبْل مجيء المسيح، ويُفقِده كلّ إيمانه بالربّ، الإله الحَيّ. على علاقتنا بالله أن تكون مربوطةً بالمسيح يسوع، فنحن لا نعرف إلهًا آخر، سوى الله، الّذي أخبرنا عنه يسوع المسيح.

يتوجَّب على الكهنة تعليمَ المؤمِنِين كلمة الله، فتتمكّن هذه الأخيرة من تَغييرهم مِنَ الدّاخل وتحويلهم إلى أناجيل حيّة مفتوحة، فيصيروا مستعدِّين لمساعدة إخوتهم المحتاجين كتعبيرٍ منهم على محبّتهم لله، وتَوقِهم إلى الملكوت. إنّ الذبيحة الإلهيّة لَيْسَت مجرَّدَ مكانٍ يجتمع فيه المؤمِنون لتقديم الذبيحة للّه، بل هي وسيلةٌ لتنشيط ذاكِرَة المؤمِنين في ما يختصّ بأعمال الله معهم عبر التّاريخ: إذ إنّهم في هذه الذبيحة يتذكَّرون أعمال الله معهم ومع آبائهم، فيُعَبِّرون عن قبولِهم بهذا الإله، سيِّدًا ومخلِّصًا إلَـهِيًا لهم، لذا يتقدَّمون مِن المناولة الإلهيّة، مُعلِنِين قبولهم دعوة الله لهم ليكونوا أبناءه، وبالتّالي مشارَكَته في الوليمة الإلهيّة. 

إنّ المؤمِنين يتناولون جسد الربَّ يسوع ودَمَه، هو الّذي وُلِد في أرضِنا، وتألَّم من أجل خلاصِنا، ومات وقام ليمنحنا الحياة الأبديّة، وبالتّالي هو إله الأحداث، لا إلهَ الأمكنة. إنّ الله لم يمت ويَقُم بدلاً عن البشر، بل مات وقام لأجلهم، وهذا يعني أنّ الله لم يَمُت ويَقُم بدلاً عن الإنسان تكفيرًا عن عجزِ هذا الأخير في القيام بما هو مطلوبٌ منه، بل إنّ الله مات وقام حبًّا بالإنسان ليمنَحَه الحياة الأبديّة الّتي خَسِرها بخطيئتِه. 

إنّ الله كان مستعدًّا للقيام بما قام به حتّى ولو كان المؤمِن وحيدًا في هذه المسكونة، ومن هذا المنطلق نستطيع فَهمَ عظمةِ حُبِّ الربّ لنا. لقد قام الربّ بكلّ عَمَلِه الخلاصيّ من أجل كلّ مؤمِنٍ بمفردِه. إنَّ كلمة “مؤمِنٌ” في اللّغة اليونانيّة، تشير إلى الإنسان الأمين، أي الثّابت في إيمانه، كما تشير إلى الإنسان الّذي ينقل الرِّسالة بكلِّ أمانة، وهي تدلّ أيضًا على الأمان الّذي يناله الإنسان نتيجة أمانَتِه لكلمة الله. وبالتّالي، إنَّ المؤمِن هو ذاك الإنسان الّذي يحافظ على كلمة الله دون تشويه، وينقلها للآخرين بشهادته الصّادقة من خلال عيشه للكلمة الإلهيّة، فينال الأمان بخلاصه الأبديّ.

إنّ العِليّة هي مكانُ اجتماعِ الرُّسلِ الاثني عشر. إنّ إخوةَ يسوعَ هم أقرباؤه إذ لم يكن له من إخوةٍ بشريّين. يخبرنا الإنجيليّ لوقا، عن يهوذا الّذي اشترى حقلاً، بالمال الّذي ناله جرّاء خيانته للربّ، فَقَتَل نفسه فيه، وبالتّالي أصبح عدد الرّسل أحد عشر رسولاً. إنّ الرَّقم “اثني عشر”، كما الرّقم “عشرة”، له أهميّة كبرى في الكتاب المقدَّس فَهُما يرمزان إلى الكمال، لذلك قرّر الرّسل اختيارَ رسولٍ آخر، بدلاً مِن يهوذا. إنّ الرقمّ “مئة وأربعة وأربعين ألفًا” الّذي يورِده سِفر الرؤيا، لا يدلّ كما يدّعي البعض على رقمٍ محدَّد من البشر الّذين سوفَ يخلُصون بل على الشّموليّة التّامة، أي أنّ عدد البشر الّذين سيَخلُصون لا محدود. 

إنّ الرّقم “مئة وأربعة وأربعين ألفًا”، هو نتيجة عمليّة حسابيّة، تقوم على ضرب الرّقم “اثني عشر” بِنَفسِه، ومن ثمَّ ضَربِ مجموع العمليّة الحسابيّة هذه بألفٍ، الّذي هو حصيلة ضَرب الرّقم “عشرة” بَنَفْسِه ثلاث مرّات متتالية. إنَّ الرّقم “اثني عشر” له مدلولاتٌ كثيرة، في الكتاب المقدَّس: ففي العهد القديم يشير إلى عدد قبائل اسرائيل الاثنتي عشرة، أي الأسباط؛ أمّا في العهد الجديد، فيُشير إلى عدد الرّسل الاثني عشر، أي إلى الكنيسة. لقد قام الرُّسل باختيار شخصَين من الجماعة المؤمِنة، مَشهُودٌ لهما بإيمانِهما الصَّحيح ومعرفَتِهما للربّ؛ ولكنَّ الاختيار النِّهائي للرّسول الّذي سينضمّ إلى جماعة الرُّسل، كان مبنيًّا على صلاةِ الرُّسل للربّ لاختيار الأفضل من بين هذَين الرَّجُلَين لمتابعة المسيرة التبشيريّة معهم، فأُلقِيَت القرعة على مَتِّياس. إ

نّ قرار الرّسل الأحدَ عشر اختيارَ رسولٍ جديدٍ بدلاً من يهوذا، كان يهدِف إلى إعادة الكنيسة إلى حالتها الأولى أي حالة الشموليّة الـمُطلقة، بعد انتزاع الخيانة منها، لكي تتمكّن من الانطلاق من جديد في إعلان البشارة إلى أقصى الأرض. على الرّسول الـمُختار أن يكون أوّلاً أمينًا لكلمة الله، شاهِدًا ليسوع منذ بدء رسالته العلنيّة إلى يوم قيامته وصعوده إلى السّماء، فتكون شهادته أمام الآخرين صادقة، نابعة من معرفته بالربّ، ومبنيّةً على اختبارٍ شخصيٍ. 

إذًا، الإصحاح الأوّل من سِفر أعمال الرّسل، يُقدِّم لنا خريطة عمل الرُّسل، المبنيّة على “مواظبة الاثني عشر على الصّلاة بنفسٍ واحدة”، للانطلاق في البشارة وإيصالها إلى العالم كلِّه، كما طلب الربُّ منهم. لقد أشار الإنجيليّ لوقا، إلى وجود مريم بين النِّساء اللّواتي رافَقْنَ الرُّسل في مسيرة الصّلاة هذه، فمريم لم تترك الكنيسة يومًا حتّى بعد موت ابنها وقيامته من بين الأموات، وبذلك، حقّقت مريم الرِّسالة الّتي أعطاها إيّاها ابنها على الصّليب، أن تكون أمًّا ليوحنّا الحبيب، وبالتّالي أمًّا لجميع المؤمِنِين بابنها يسوع. إنّ عبارة “إخوة يسوع” تشير إلى أقرباء يسوع الدّمويّين، ولكنّها تشير أيضًا إلى كلّ شخصٍ أَحَبّ الربّ، أو شَعَر بأنّه محبوبٌ من الربّ، فكان على مِثال يوحنّا الرّسول، الّذي تسَلَّمَ مسؤوليّة الاهتمام بأمّ يسوع، مريم، حين قال له الربّ على الصّليب: “هذه أمُّك”. لقد عدَّد الإنجيليّ لوقا أسماء الرّسل في هذا السِّفر بطريقة مغايرة لطريقة تعداده لهم في إنجيله. 

ففي هذا السِّفر، اجتهد الإنجيليّ في ذِكر أسماء الرّسل بطريقة مزدوجة، فذَكَر اسم رسولٍ باللّغة اليونانيّة مُرفقًا باسم رسولٍ آخر باللّغة اليهوديّة، ليقول لنا إنّ البشارة الّـتي سيُعلِنُها الرُّسل هي بشارةٌ لكلّ الأُمَم: يهودًا وَوَثنييّن على حدٍّ سواء، أمّا في إنجيل لوقا (لو 6: 14-16)، فقد ذَكر أسماء الرّسل بطريقة عشوائية دون اعتماد المعيار نفسه الّذي اعتمده في سِفر أعمال الرُّسل. لم يتمكّن الشَّعب اليهوديّ، وكلّ الّذين ما زالوا متمسِّكين بالذهنيّة اليهوديّة، مِنَ القبول بأنّ الخلاص قد مَنَحَه الربّ للجميع، دون مفاضلته لشخصٍ على آخر، وذلك لأنّ هذه الحقيقة تقضي على عروشهم المزيّفة الّتي بَنوها في نفوسهم، أي أنّها تقضي على “الأنا” المتعاظمة في داخلهم، وتُحقِّق المساواة بينهم وبين سائر البشر، وهذا ما يرفضه الكثيرون. 

إنّ الربّ قد مَنَحنا الخلاص لا بفضل قداسَتِنا ومجهودِنا، إنّما بفضل حبِّه العظيم لنا، الّذي قاده إلى الموت على الصّليب من أجلنا. إنَّ الحبّ يجعل الحبيب عبدًا ذليلاً أمام محبوبه، والحبّ يدفع الحبيب إلى التخلّي عن كرامتِه لصالح محبوبه. هذا ما نختبره بشكلٍ يوميٍّ في حياتنا، وهذا ما اختبره أيضًا الأقدَمون، فيسوعُ نَفسُه قد اختبر ذلك مع أحبّائه، الّذين تخلّوا عنه، بعد ثلاث سنواتٍ مِنَ التَّلمذة على يدَيه.
يخبرنا سِفر أعمال الرُّسل عن مصائر الرُّسل الّذين أوَصلوا بشارة الإنجيل إلى أقصى الأرض، موضِحًا لنا ذلك المصير الّذي سيلقاه كلُّ من يريد اتِّباع المسيح، والتبشير به بأمانةٍ في كافة المسكونة. إنَّ بطرس وبولس، هما شخصيّتان بارزَتان في سِفر أعمال الرُّسل، لذا يمكننا تسميَة هذا السِّفر بسفر أعمال الرَّسولَين بطرس وبولس. 

كان هدَف هذَين الرَّسولَين إيصال البشارة إلى المسكونة جمعاء، لذا بشَّر كلّ منهما في بيئة مختلفة عن الأخرى: فبطرس بشَّر بكلمة الله، الشُّعوب اليهوديّة، أمّا بولس فقد انطلق لتبشير الأُمَمَ، أي الوثنيّين. لقد نجح هذان الرَّسولَان من إيصال كلمة الله إلى “أقصى الأرض”، والّتي تشير إلى رُوما، مركز الإمبراطوريّة الرومانيّة الوثنيّة، وقد استُشهدا فيها في السَّنة نفسها، أي سنة 67 ميلاديّة: فمات بطرس مصلوبًا عقِبًا على رأس، إذ وَجَد نفسه غير مستحِقٍّ للتشبّه بالمسيح؛ أمّا بولس فمات مقطوع الرأس. إنّ القدِّيس بطرس مات مصلوبًا لأنّه يهوديّ، أي تَمَّ تنفيذ حُكم الشَّريعة فيه، الّتي تقضي بموته، ميتَةَ العبيد، فهي ترمز إلى العار. أمّا القدِّيس بولس الرّسول، فقد كان يملك الجنسيّة الرومانيّة إضافةً إلى جنسيّته اليهوديّة، لذا لم تُنَفَّذ فيه الشريعة اليهوديّة، بل الحُكم الرومانيّ، القاضي بموته مقطوع الرأس.

بعد موت الرَّسولَين بطرس وبولس، لم يبقَ للكنيسة سِوى أعمالهما الّـتي قاما بها في حياتهما، للتأمُّل بها، ومثالاً للتشبُّه بهما. إذًا، أهميّة الرَّسولَين لا تكمن في الأماكن الّتي عاشوا فيها بل في أعمالهما، ولذا لا ضرورة بعد الآن لزيارة تلك الأماكن، للتَبَّرُك من ذخائر هَذَين القدِّيسَين، إنّما هناك هناك ضرورة قُصوى للتشبُّه بمحبّتهما للمسيح، والتبشير به في كلّ مكانٍ. 

إنّ الفاتيكان لا يَضَع أمامنا قبر القدِّيس بطرس، للبكاء والنّواح على المِيتَةِ الّتي لَقيَها، إنّما للـتأمّل بحبّه للمسيح الّذي قاده للاستشهاد في سبيل إيصال رسالة الخلاص إلى إخوتِه البشر. وبالتّالي عند زيارتنا لهذا المكان المقدَّس، علينا أن ننقل معنا البشارة بالإنجيل الّتي أراد القدِّيس بطرس إيصالها إلى “أقصى الأرض”، في زَمَنِه، إلى “أقصى الأرض” في زَمنِنا، أي إلى أرضٍ جديدةٍ، أي إلى مجتمعِنا. بعد انتهاء بطرس وبولس، من كتابة إنجيلهما، من خلال إعلانهما للبشارة، حان دَورُنا الآن لننقل البشارة إلى أقصى الأرض، وإلى كتابة إنجيلنا الخاصّ من خلال سلوكِنا في هذه الحياة بطريقةٍ منسجمة مع كلمة الله. آمين.

ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانة مِن قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp