تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“سِفر أعمال الرّسل – الإصحاح 2: 1-21”
النصّ الإنجيليّ:
“وَلَمَّا حَضَرَ يَومُ الـخَمسِينَ كانَ الـجَميعُ معًا بِنَفْسٍ واحِدَةٍ، وصارَ بَغْتَةً مِنَ السَّماءِ صَوتٌ كما مِن هُبوبِ رِيحٍ عاصِفةٍ، ومَلَأَ كُلَّ البَيتِ حَيثُ كانوا جالِسِينَ، وَظَهَرَتْ لَهم أَلسِنَةٌ مُنقَسِمَةٌ كأنَّها مِن نارٍ واسْتَقَرَّت على كُلِّ واحدٍ مِنهُم. وامْتَلَأَ الجَميعُ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ، وابْتَدَأوا يتكلَّمونَ بِأَلْسِنَةٍ أُخرى كما أَعْطاهُم الرُّوحُ أَنْ يَنطِقُوا. وكان يَهودٌ رِجالٌ أَتْقِياءُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ تَحتَ السَّماءِ ساكِنِينَ في أورشَليمَ. فَلَمَّا صارَ هذا الصَّوتُ، اجْتَمَعَ الـجُمهورُ وتَحَيَّروا، لِأَنَّ كُلَّ واحِدٍ كانَ يَسمَعُهم يَتَكَلَّمونَ بِلُغَتِهِ. فبُهِتَ الجَميعُ وتَعَجَبُّوا قائِلِينَ بَعضُهم لِبَعضٍ: “أَتُرى ليسَ جَميعُ هؤلاءِ الـمُتَكَلِّمينَ جَلِيليِّين؟ فَكَيفَ نَسمَعُ نَحنُ كُلُّ واحدٍ مِنَّا لُغَتَهُ الّتي وُلِدَ فيها؟ فَرْتِيُّونَ وَمَادِيُّونَ وَعِيلامِيُّونَ، والسَّاكِنُونَ ما بَينَ النَّهرَينِ، واليَهُودِيَّةَ وَكَبَّدُوكِيَّةَ وبُنْتُسَ وأَسِيَّا، وفَرِيجِيَّةَ وبَمْفِيليَّةَ وَمِصرَ، وَنَواحي لِيبِيَّةَ الّتي نَحوَ القَيرَوانِ، والرُّومانِيُّونَ الـمُستَوطِنُونَ يَهودٌ ودُخلاءُ،كِرِيتِيُّونَ وَعَربٌ، نَسمَعُهم يَتَكَلَّمُونَ بأَلْسِنَتِنا بِعظائِمِ الله!” فَتَحَيَّرَ الجَميعُ وارْتَابوا قائِلِينَ بعضُهم لِبَعضٍ:
“ما عسى أنْ يَكونَ هَذا؟” وَكانَ آخَرُونَ يَسْتَهزِئونَ قائِلِينَ: “إنَّهُم قَدْ امْتَلَأُوا سُلافَةً”. فَوَقَفَ بُطرُسُ مَعَ الأَحَدَ عَشَرَ وَرَفَعَ صَوتَهُ وقالَ لَهُم: “أيُّها الرِّجالُ اليَهُودُ والسَّاكِنونَ في أُورَشَليمَ أَجْمَعُونَ، لِيَكُنْ هذا مَعلُومًا عِنْدَكُم وأَصْغُوا إلى كَلامي، لأنَّ هَؤلاءِ لَيْسُوا سُكارَى كما أنتُم تَظِنُّونَ، لأنَّها السّاعة الثَّالِثةُ مِنَ النَّهارِ. بَل هذا ما قِيلَ بِيُوئيلَ النبيِّ. يقولُ اللهُ: وَيَكُونُ في الأيّامِ الأَخيرَةِ أَنّي أَسْكُبُ مِن رُوحي على كُلِّ بشرٍ، فَيَتَنَبَّأ بَنُوكُم وبَناتُكم، ويَرى شَبابُكُم رُؤىً ويَحلُمُ شُيُوخُكُم أَحلامًا. وَعَلى عَبيدِي أيضًا وإمائِي أَسْكُبُ مِنْ رُوحي في تِلكَ الأيَّامِ فَيَتَنَبَّأُونَ. وأُعْطِي عَجَائِبَ في السَّماءِ مِنْ فَوقُ وآياتٍ على الأرضِ مِن أَسْفَلُ: دَمًا ونارًا وبُخارَ دُخانٍ. تَتَحَوَّلُ الشَّمسُ إلى ظُلمَةٍ والقَمَرُ إلى دَمٍ، قَبْلَ أن يَجِيءَ يَومُ الربِّ العَظيمُ الشَّهيرُ.” (أعمال2: 1-20).
شرح النصّ الإنجيليّ:
في هذا الإصحاح، يُكلِّمنا الإنجيليّ لوقا عن حَدَثِ العنصرة الّذي تمّ في اليوم الخمسِين. كان اليهود مِن كلّ أُمَّةٍ يجتمعون في أورشليم للاحتفال بـ “اليوم الخمسين” بعد الفِصح اليهوديّ. في هذا اليوم الاحتفاليّ، حقّق الربّ ما وَعد به رُسُلَه إذ أرسَل لهم الرّوح القُدس ليُعزِّيهم ويشجِّعهم على نَقلِ البشارة، فتعمَّدوا معموديّة الرّوح القدس، أي معموديّة النّار، لا معموديّة الماء على مِثال معموديّة يوحنّا المعمدان.
إنّ هذا الحَدَث، حَدَث العنصرة، يُذكِّرنا بقصّة برج بابل في العهد القديم، تلك المدينة الّتي أراد أَهلُها تحدِّيَ الله بإقامة بُرجٍ لهم في وَسَطِ مدينَتِهم. كان أبناءُ هذه المدينة يتكلَّمون لُغةً واحدة، ولكنَّ الربّ بَلبَلَ أَلسِنَتَهم فعجِزوا عن التفاهم حول بنائهم لهذا البُرج، فتوقَّفوا عن العمل به. في العهد القديم، كان الشَّعبُ يضَع تمثالاً لإلهه في وَسَط المدينة، وبالتّالي تَحَوَّلَ هذا البُرجُ إلى إلهٍ جديدٍ لسُكَّان مدينة بابل، فعبَّروا من خلاله عن استغنائهم عن الله وعبادتهم لآلهةٍ أخرى، وهذا السبَّب الّذي أدّى إلى تَبَلبُلِ أَلسِنَتِهم.
أمّا في العنصرة، فقد كان الرُّسل مُجتَمِعِين في العِليَّة يواظبون على الصّلاة بنَفْسٍ واحدة، وعند حلول الرُّوح القدُس عليهم، انطلقوا لإعلان البشارة لليهود الحاضرين في أورشليم، فسَمِع الحاضرون كلمةَ الله، كلٌّ بحسب لغته الّتي وُلِدَ فيها، على الرُّغم من أنّ الرُّسل كانوا يتكلَّمون لُغةً واحدةً.
إذًا، هذان الحَدَثان متُعارِضَان: ففي برج بابل تخلّى الشَّعب عن الله من أجل عباداتٍ أخرى، أمّا الرُّسل فقد قرّروا التمسُّك باللّه، على الرّغم من وجود آلهةٍ أخرى، لأنّهم أدرَكوا أنّ لا خلاصَ لهم خارج الله. كما أنّ في بابل، كان الجميع يتكلَّمون لغةً واحدة فَتَبلبلت ألسِنَتُهم؛ ولكنْ في أورشليم، وَحَّدت كلمة الله لغة جميع الحاضرين، فتمكّن الجميع من إدراك كلمة الله على الرّغم من اختلاف اللّغات.
في الكتاب المقدَّس، تُستَعمل الصُّور الأدبيّة كالرّعد والبَرق والغمام والرِّياح والنّار وسواها، للتعبير عن حضور الله أو عن غيابه. وفي هذا النَّصّ، يَرمزُ هُبوبُ الرِّيح في أرجاء العِلِّيَة، إلى حضور الربّ. وهذا الحضور الإلهيّ في العليّة يُشبه حضور الربّ في الهيكل حين ظهر للنبيّ إشعيا، مُرسِلاً إيّاه في رسالة النبوءة للشَّعب. لقد أدرَك النبيّ إشعيا حضور الربِّ من خلال رؤيته لأذيال الله منتشرةً في الهيكل، ومن خلال سماعه نشيد التَّقدِيسات على لسان جمهور الملائكة الّذي رافق حضور الربّ.
أمام دعوة الربّ للانطلاق في النُّبوءة للشَّعب، رفَضَ النبيُّ هذه الـمَهمَّة الإلهيّة متحجِّجًا بخطاياه الكثيرة قائلاً للربّ إنّه “نَجِسُ الشَّفتين”. إنَّ خطايا البشر لا تستطيع أن تكون حاجزًا أمام وصول كلمة الله للآخرين، ولكنّ الإنسان يستطيع أن يُعطِّل مشروع الله حين يرفِض هذا الأخير القبول بكلمة الله. لقد طهرّ الربّ شَفتَّي النبيّ إشعيا من خلال جمرةٍ أرسلَها الله له بواسطة ملاكٍ حَملَها من المذبح بواسِطة مِلقَطٍ. وهذا ما تُعيد اختباره الكنيسة الأرثوذكسيّة، إذ تُعطي المؤمِنين الجمرة الإلهيّة، أي القربان المقدَّس، مستخدمةً مِلقَطًا، أو مِلعقةً، لتطهير شِفاه المؤمِنِين مِن خطاياهم وتقديسهم.
إنَّ الربّ لا يستند على قداسة الإنسان لاختياره رسولاً له، فالربّ يختار من بين شعبه رُسُلاً، خطأة وأبرارًا، لأنّه يستطيع أن يَمحو زلّات البشر ويُطهِّرَهم منها، فيكونوا أهلاً لإعلان كلمته المقدَّسة للمسكونة جميعًا. بعد تطهير الربّ لشفتيّ إشعيا، انطلق هذا الأخير في النبوءة أمام شعب الله، داعيًا إيّاهم للتّوبة.كذلك، بعد حلول الرّوح القدس على الرُّسل في العليّة، انطلق بطرس ومعه الرُّسل الأحَدَ عشر في إعلان كلمة الله لليهود الحاضرين في أورشليم في عيد “يوم الخمسين”.
لقد حلّ الرّوح القدس على المجتَمِعِين في العليّة بشكلٍ أَلسِنَةٍ من نار. إنَّ النَّار تَحرُقُ كلّ ما تَجِدُه أمامها، وهي تُنير الطريق أمام السّالكين في الظلمة. بعد حلول الرّوح القدُس على الرّسل، انطلق هؤلاء للبشارة بالمسيح القائم، ولذلك كانت الحاجة إلى هذه الألسِنةِ النّاريّة، ليتمكّنوا من إعلان كلمة الله بكلّ جرأةٍ وقوّةٍ، فيُحرِقوا كلّ تعليمٍ مُعاكِسٍ لكلمة الله، ويُضيئوا بها طريقَ السّالكِين في ظُلمة هذا العالم، فتَستنير أذهانهم وينالوا الخلاص بالمسيح يسوع.
عند إعلان الرّسول لكلمة الله أمام الآخرين، فإنّه لا بُدَّ لتِلكَ الكلمة الإلهيّة أن تَخلِقَ شقاقًا في صفوف السّامِعين لها، لأنّها لن تتوافق مع أهواءِ ورغبات مُحبّي الباطل فيرفضونها، ولكنّها ستَلقى تجاوُبًا عند مُحبّي الحقّ، فيقبلونها. لذلك لم يتردّد بولس في إحدى رسائله عن وَصف كلمة الله بـ”سَيْفِ الرُّوح”، لأنّها قادرة كالسَّيف أن تفصل بين الحقّ والباطِل، كما أنّها تتمتّع بقوّةٍ عظيمةٍ في تغيير قلوب المؤمِنِين.
في روايته لِحَدَث العنصرة في هذا الإصحاح، استخدم الإنجيليّ لوقا فِعْلَ “استَقرّ”، ليتكلَّم عن حلول الرُّوح القدس على الرّسل، وهو الفِعل نفسه الّذي استُعِمل في رواية حَدَث معموديّة يسوع على نهر الأردّن، إذ قيل: “استقَرّت” حمامةٌ فوق رأس يسوع. لقد استخدم الإنجيليّ صِيغة الـمُضارع لأنّها تدلّ على استمراريّة الحَدَث حتّى بعد انتهائه، على عكس صيغة الماضي الّتي تشير إلى انتهاء الحدَث عند إنجازه. إنّ حلول الرّوح القُدس على الرُّسل في العِليّة لم ينتهِ مع انتهاء اليوم الخَمسين، بل رافق الرّسل طيلة حياتهم، وها هو يرافق كلّ المؤمِنِين عبر العصور، ليتمكّن هؤلاء من تأدية الشَّهادة الحقّة للربّ يسوع من خلال حياتهم اليوميّة.
بعد حلول الرّوح القدس على الرُّسل، انطلق هؤلاء للبشارة بالمسيح في كافة المسكونة، مُبتَدِئين أوّلاً بالتّبشير بكلمة الله في أورشليم، ثمّ في السّامرة واليهوديّة، إلى أن وَصلوا إلى “أقصى الأرض”، أي إلى روما، حيث ماتَ قِسْمٌ مِن الرُّسل. لم يكن هَدَف الإنجيليّ من ذِكر حادثة التكلُّم بالألسِنة إظهار الطابع العجائبيّ لها، إنّما كان هدَفُه إخبارَنا أنّ رسالة الإنجيل قد وَصَلت إلى كافة أقطار العالم. وهذا هو بالتَحديد ما تُعبِّر عنه الكنيسة الأرثوذكسيّة في عيد الفِصح، إذ تخرج إلى باحة الكنيسة، ويتمّ قراءة الإنجيل على مسامِع المؤمِنِين بكافّة اللّغات البشريّة المتعارَف عليها إلى يومِنا هذا.
في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس (1كور 12 و 14)، يشدِّد بولس على ضرورة انطلاق الرُّسل للبشارة بكلمة الله، ولكنّه يلفِت انتباهَهم إلى ضرورة استعمالِ لُغةٍ مفهومةٍ من السّامِعين لهم، لكي يتمكّن هؤلاء من التفاعل مع كلمة الله والإيمان بالربّ يسوع، صارخين “آمين”، تعبيرًا عن قبولهم بالربّ إلهًا ومخلِّصًا. إنّ ظاهرَة التَّكلُّم بالأَلسِنة الّتي تطرّق لها الإنجيليّ لوقا، هي آيةٌ لا أعجوبة، إذ تهدِف إلى توجيه تفكير المؤمِنِين إلى ما هو أعمق من الحَدَث الخارجيّ. غير أنّ المؤمِنِين يبحثون دائمًا عمّا يُبهِر أنظارهم مُتَناسِين أنَّ الأعجوبة الأعظم الّـتي قام بها الربّ في حياتهم هي خَلْقُه لهم على صورتِه ومثاله؛ كما أنّ أعاجيبه في حياتهم لا تتوقّف، إذ يصنع في داخلهم تغييراتٍ جذريّة وعميقة نتيجة تفاعُلِهم مع كلمة الله. وما وجودنا اليوم في هذه القاعة إلّا دليلٌ على رغبتنا في التقدُّم الروحيّ على الرّغم مِن أنّ مُعلِن كلمة الله لنا هو إنسانٌ خاطِئٌ على مِثالِنا.
إنّ مسؤوليّة المؤمِنين في البشارة عظيمةٌ جدًّا، إذ يتوجّب على كلّ واحدٍ منهم أن يُعلِن كلمةَ الله في حياته لا بالقول وحسب، بل بالفعل أيضًا، لتكونَ حياتُه مُنسجِمَةً مع تعاليم الربّ. وهنا نتذكّر قول الربّ لرُسُلِه:”أُعطيكَ مفاتيحَ السّماء فما ربطتَه في الأرض، رُبِطَ في السّماء، وما حلَلتَهُ في الأرض، حُلَّ في السَماء” (متى 16: 19). لم يُعطِ الربُّ رُسُلَه بهذا القول امتيازًا يتفاخَرون به على بقيّة المؤمِنين، بل أعطاهم مسؤوليّة هي كالسَّيفِ الـمُسلَط على أعناقهم، إذ تفرِض عليهم هذه المسؤوليّة الشَّهادة للربّ أمام الآخرين: فإنْ كانت شهادتهم صالحة، آمن الكثيرون بالربّ ونالوا الخلاص، وتابوا إلى الله؛ أمّا إذا كانت شهادة الرُّسل خاطئة،
فإنّ الكثيرين سيرفضون الإيمان بالربّ والعودة إليه، وبالتّالي سيستمّرون في العيش في حالة الخطيئة. إنّ وَعيَ بولس الرَّسول لعظمة هذه المسؤوليّة، الـمُلقاة على عاتِقه وعاتِقِ الرُّسل، دفَعَتْه للقول في إحدى رسائلِه: “الويل لي إن لم أُبشِر”(1كور 9: 16). إنَّ سُلطان المغفرة الّذي أعطاه الربّ لرُسُلِه ليس مُلكًا خاصًّا بهم، لأنّ الربّ هو مَن يمنَح المؤمِنين الغفران لا الرُّسل، وبالتّالي ما الرُّسل إلّا وسيلةً تَنقُل محبّة الله للبشر من خلال هذا السِّر. في يوم رسامَته، لا ينال الكاهن سُلطان مغفرة الخطايا كأنّه سُلطانٌ خاصٌّ به، بل ينال سلطان الرَّسوليّة، من خلال سُلطةٍ كنسيّة هي الأُسقُف. وتُعلِنُ الكنيسةُ الكاهِنَ الجديد رسولاً للمسيح، على مِثال الرُّسل، أي أنّه يتوجّب عليه الشَّهادة للمسيح أمام الآخرين وخِدمة إخوته المؤمِنين ومساعدتهم على التقرُّب أكثر من الله.
إذًا، إنَّ سُلطانَ مغفرة الخطايا الممنوح للكاهن بواسطة سرّ الكهنوت، هو سُلطانٌ أُعطِيَ له ليُعبّر من خلاله لأخيه التّائب عن فرحَة الكنيسة بعودة هذا الأخير إلى الله الآب، وبالتّالي يُشكِّل هذا السُّلطان مصدَر تعزيّة ودَعمٍ للتائب ليتشجّع على متابعة مسيرته مع الربّ صوب الملكوت.
إنّ الله يغفِر للمؤمِن خطاياه، حين يَعقِد هذا الأخير العزَم في أعماقه على التوبة عن طريقه الضّال. وبالتّالي حين يتقرَّب المؤمِنُ مِن سرّ التوبة، فإنّه لا يتقرّب منه سائلاً الله أن يغفر له خطاياه، أي منتظِرًا ردّ الربِّ على طَلَبِه هذا، إنّما يتقرَّب المؤمِن من هذا السِّر ليُعلِن اكتشافه لعظمة الربِّ الّتي غَفَرت له خطاياه قَبل أن يسألَ المؤمِنُ ذلك من الله. وهنا نطرح السؤال: إنْ كان الله يغفِر لنا في اللّحظة الّتي نُعلِن فيها تَوبَتَنا الدّاخليّة، ما فائدة إذًا، التقدُّم من سرّ التوبة والاعتراف بخطايانا؟ إنّ المؤمِن يتقرَّب من سرّ التوبة ليُعلِن اكتشافه لمحبّة الله له الّتي غَفَرَت له كلّ خطاياه، حين كانت الخطيئة لا تزال متجذِّرة فيه.
إنّ تَقَدُّم المؤمِن مِن سرّ التوبة، يهِدف إلى إعلان هذا الأخير انتهاء مرحلةِ عبادته وعبوديّته لآلهةٍ أخرى، لأنّه قرّر العودة إلى الله الحقّ، الوحيد القادِر على مَنحِه الخلاص. إذًا، في سرّ التوبة، يعترف المؤمِن بربوبيّة يسوع عليه من جديد، لذا هو يذرف الدُّموع في سرّ التوبة إعلانًا عن ندامته عن المرحلة السّابقة الّتي عاشها بعيدًا عن الله، وهذه الدّموع تشكِّل معموديّته الجديدة. وما يعيشُه المؤمِن اليوم في سرّ التوبة هو في الحقيقة اختبار كلُّ إنسانٍ أراد اتّباع المسيح وتَرَك وثنيّته، إذ كان يُطلَب من طالب العِماد إنكار معتقداته القديمة، وإعلان إيمانه بأنّ الربّ هو مخلِّصه الوحيد من كلّ عبوديّة.
إنَّ المعموديّة لا تُعطى للمؤمِن إلّا مرّةً واحدة، حين يَقبل هذا الأخير المسيح إلهًا له، ولكن حين يُخطئ المؤمِنُ الطريق، ثمّ يقرِّر العودة إلى حالة النِّعمة الّـتي عاشها في المعموديّة، فإنّ الربّ يَمنحه هذه الفُرصَة من خلال سرّ التوبة الّتي تشكِّل للمؤمِن معموديّته الجديدة، إذ يذرِف هذا الأخير الدُّموع مُعلِنًا توبته، فتسمّى معموديّته “معموديّة الدُّموع”. إنَّ سِّر التوبة لا يُمنَح مرّةً واحدةً للمؤمِن كما هي حال سرّ المعموديّة، بل يستطيع المؤمِن ممارسة هذا السِّر كلّما شعر بالحاجة إلى ذلك، فيكون على مِثال الأبرص الّذي عاد، من بين البُرص العشرة الّذين شفاهم يسوع، ليشكر الربّ على شِفائه له.
إنّ الله يُحِبّ البشر بِشَكلٍ جنونيّ إذ لا يتردّد في مغفرة الخطايا لأبنائه البشر، على الرُّغم من عِلمه أنّهم لن يتأخَّروا في الابتعاد عنه مِن جديد، عند أوّل فرصَةٍ. إنّ الله مستعِّدٌ أن يغفر الخطايا لأبنائه البشر في كلِّ مرَّةٍ يتقدَّم هؤلاء منه في سرّ التوبة ذارِفين الدُّموع. إنّ الربّ يمنح التائبين رَحمته الإلهيّة، في سرّ التوبة، لأنّه يعلم أنّ المؤمِنِين يريدون التقدُّم نحوه، ولكنّهم يفشلون في الكثير من المرّات بسبب التشويهات البشريّة الّتي يُعانون منها.
إنَّ رحمة الربِّ لنا هي أعظَم من خطايانا، مهما عَظُمَت هذه الأخيرة، لذا لا يجوز لنا التغاضي عن خطايانا والانغماس فيها بارتكاب المزيد منها، دون إعلان توبتِنا مُتَحجِّجين أنّ الربّ رحيمٌ، كما أنّه لا يجوز لنا الرُّزوح تحت أثقال خطيئتنا، وكأنّنا لا نعلم بعظمة مراحم الله لنا. إنّ خطايانا قد تُغرِقنا في حالةٍ من اليأس، ولكن علينا التمسُّك بالرَّجاء النّابع من ثِقتنا برحمة الله لنا، لنتمكّن من التخلُّص من خطايانا والانتصار عليها. إنَّ الربّ لا ينتظر وصول المؤمِنيِن به إلى مرحلة القداسة ليُرسِلهم للبشارة به، فَهُوَ يعتمد على الخطأة أكثر من اعتماده على الأبرار والصِّديقين. حين يَقبَل المؤمِنون مشروع الله في حياتهم، يُصبحون قدِّيسين، على الرُّغم من الخطايا الّتي اقترفوها في حياتهم، إذ ينالون بتحقيقهم مشيئة الله في حياتهم الملكوت السماويّ.
في العنصرة، شَهِد الرُّسل لعظائم الربِّ في حياتهم، فأعلنوا كلمة الله للحاضِرين الّذين انقسموا إلى قِسمَين: منهم مَن سَخِر مِنَ الرُّسل فقال فيهم إنّهم سكارى، ومِنهم مَن أصابهم الذهول والعجب فقالوا: “ما عسى أن يكون هذا؟” لقد أعلن بطرس الرّسول إيمان الكنيسة من خلال خِطبَته أمام الحاضرين، ورَدَّ على السّاخِرين قائلاً لهم إنّ لا أحد يسكر في السّاعة الثّالثة من النّهار أي عند التّاسعة صباحًا. في الكتاب المقدَّس، عندما نحذف عبارةً مِن نصٍّ إنجيليّ من دون أن نلاحظ أيَّ تغييرٍ في المعنى، فهذا يشير إلى أنّ هذه العبارة هي أهمّ كلمة في النَّص، لأنّه لو لم تكن في غاية الأهميّة لما دوَّنها الإنجيليّ.
لقد أراد الإنجيليّ لوقا التركيز على عبارة “الأحَدَ عشر”، لأنّ بطرس لا يُعلِن في كلامه على الجموع رأيه الخاصّ بل إيمانه وإيمان “الأحَد عشر”، أي إيمان الكنيسة جمعاء. بحلول الرّوح القُدس على الرُّسل، تحقّق ما قيل بلسانِ النبيّ يوئيل، إذ انطلق الرُّسل في النبوءة للمسكونة بكلمة الله، لذا طلب بطرس من اليهود الحاضرين الإصغاء لكلمة الله، الّتي يُعلِنها لهم.
إنَّ اليوم الأخير هو يوم القيامة المجيدة، وقد تحقّق بقيامة المسيح من الموت، وبالتّالي نحن نعيش في الأيّام الأخيرة. إنّ الأيّام الأخيرة بدأت مع قيامة المسيح، وتنتهي بمجيئه الثّاني بالمجد. إنّ الرؤى والأحلام هي إحدى الصُّوَر الأدبيّة الّتي تعبِّر عن حضور الله. فالكتاب المقدَّس أخبرنا على سبيل المِثال، عن ظهور الله في الحلم لابراهيم حين زاره ثلاثة رجالٍ في الحلم، لينقلوا إليه البشارة بأنّ وَعد الله له سيتحقّق في السَّنة المقبلة؛ كما أخبرنا عن ظهور الله ليوسف البتول في الحلم كاشفًا له أمرَ مريم العذراء. وبالتّالي، حين يقول لنا النبيّ يوئيل إنّه في الأيّام الأخيرة سيتنّبأ الأبناء، ويرى الشيوخ أحلامًا ورؤىً، فهذا يعني، أنّه في الأيّام الأخيرة، ستُعلَن كلمة الله للجميع، وهذا ما تحقّق في الرُّسل إذ أعلنوا حقيقة ابن الله لجميع الحاضِرين في أورشليم، فَتَاب بعض الحاضرين وأعلنوا إيمانهم بالربّ وقَبِلوا العِماد.
في الكتاب المقدَّس، النبيُّ هو مَن يُعلِن إرادة الله عليه وعلى الآخرين في هذا الزّمان وهذا المكان، لا ذلك الّذي يدّعي عِلْمَه بالمستقبل، فيُضلِّل المؤمِنِين بأكاذيبه الّتي ينسجُها حول المستقبل. فالنبيّ هو مَن يُخبر الآخرين بالشَّر الذي سيُعانون منه نتيجة رَفضِهم لكلمة الله في حياتهم، داعيًا إيّاهم للتوبة عن طريقهم الضّالة وتصحيح مسار حياتهم الأرضيّة. فحين تمنع ابنك من الاقتراب من النّار، على سبيل المِثال، كي لا يتعرّضَ لأذى، فإنّك لا تكون قد تنَّبأت بالمستقبل له، إنّما تكون قد أنذرته من إقدامه على أمرٍ يؤذيه. إذًا، إنّ الأهل هم أنبياء لأبنائهم في هذه الحالة، لا حسب مفهوم العالم للنبوءة، إنّما أنبياء حسب مفهوم الكتاب المقدَّس.
إنّ بعض الجماعات المؤمِنَة قد تختبر صحّة أقوال نَبيٍّ مُعيَّن عاش قبل وجودها، فتَتبنّى أقواله وتُعلِن إيمانها بالله الّذي بشَّر به هذا النبيّ. هذا ما تختبره الكنيسة في كلّ ذبيحةٍ إلهيّةٍ، إذ يتلو الكاهن على مسامِع المؤمِنِين، إنجيلاً يُخبرنا عن أحداثٍ جَرت في الماضي، مع جماعة الرُّسل، مُستخدِمًا عبارة: “في ذلك الزّمان”. ولكنّ الكنيسة الحاضرة في الذبيحة الإلهيّة، تُعلِن أنَّ ما تُلِيَ على مسامِعها يُشكِّل انعكاسًا لاختبارها مع الربّ، فتَعترف به إلهًا ومُخَلِّصًا لها، ولذا تتلو الكنيسة، بعد الإنجيل، جماعيًّا، قانون الإيمان. حين رَفضَ آدم طاعة الله، وَقع في الخطيئة.
إنّ الربّ لم يُعاقِب آدم بالموت، نتيجة مخالَفةِ هذا الأخير لأوامِر الربّ بِتَناوُلِه مِن ثمار شجرة الخير والشَّر؛ بل إنّ الربّ أراد من خلال كلامه مع آدم، تحذيره من الهلاك الّذي سيناله نتيجة أَكلِه مِن ثمار تلك الشَّجرة، ألا وهو الموت الأبديّ. إنّ كلمة “معرِفة” في الكتاب المقدَّس، تُشير إلى إقامة علاقة حميمة، وحَرِف العطف”و” في اللّغة العِبريّة، يعني “مع”، وبالتّالي حين يأكل الإنسان من شجرة معرفة الخير والشَّر، فإنّه يقيم علاقة بين الخير والشَّر، وهذا ما سيؤدِّي إلى هلاك هذا الأخير أي بموته.
إذًا، كان الربُّ يحذِّر آدم من الموت، فالله كان يريد استمرار آدم في الحياة، غير أنّ هذا الأخير فضّل الموت على الحياة. إنّ الإنسان يبحث دائمًا عن آخر ليُلقي عليه مسؤوليّة أخطائه، فصار الله في نظر الإنسان، هو المسؤول عن موت آدم، حين اعتبر أنّ كلام الله لآدم هو عِقاب لا تحذير أو تنبيه له. لقد أعطى الإنسان نفسه الحقّ في لوم الله، كون الله هو الّذي خَلَق تلك الشَّجرة. إنّ الله قد خَلَق الإنسان حرًّا، لذا فإنّ الإنسان هو المسؤول عن أخطائه، لا الله، وبالتّالي لا يحقّ للإنسان لوم الله، على أيِّ خطأٍ يرتكبه الإنسان.
إنّ عيد العنصرة، الّذي تكلَّم عنه الإنجيليّ لوقا في هذا الإصحاح، هو عيدٌ مُهمٌّ في الحياة المسيحيّة، وهو يتمتّع بالأهميّة ذاتها الّتي لعيد القيامة أو عيد الميلاد من النّاحية الإيمانيّة. غير أنّ هذا العيد لا يحظى بالأهميّة نفسها شعبيًّا نِسبةً لبقيّة الأعياد المسيحيّة كونَه لا يترافق مع رمزٍ تجاريّ، يحثُّ النّاس على الشُّعور بهذا العيد. فعلى سبيل المِثال، في عيد الميلاد، ينهمك النّاس في شراء أشجار العيد وزِينَتِها من الكُرات الملوّنة وتحضير المغائر في منازلهم، وشراء الهدايا للأطفال بِنَوعٍ خاصّ، وتحضير عشاء العيد وكعكة العيد، والمشروبات الخاصّة بهذا العيد، كالنَبيذ. وكذلك الأمر في عيد الفِصح المجيد، إذ تنهمك العائلات بتحضير المأكولات كبيض العيد والمعمول، وعشاء العيد.
للأسف، لقد أصبحت بهجة الأعياد المسيحيّة عند المؤمِن مرتبطةً بالمباهج الدُّنيويّة، فما إن تزول تلك المباهج الأرضيّة، كأيّام العُطَل الرَّسميّة والمأكولات الخاصّة بالعيد حتّى يختفي فرح العيد من قلوب المؤمِنين. أمّا عيد العنصرة، فلم يحظَ إلى يومِنا هذا، برمزٍ تجاريّ، يوقِظ في نفوس المؤمِنين الشُّعور بهذا العيد الكنسيّ الـمُهمّ، ولذا هو يبقَ عيدًا مهمَّشًا في حياة المؤمِنين. لقد فقدت الأعياد جَوهرها في حياة المؤمِنين، إذ لم تَعُد مُناسَبةً تُذكِّرهم بعمل الله الخلاصيّ في حياتهم، بل اقتصرت على كونِها مَصدَر رِزقٍ لبعض التِّجار.
لقد تحوّلت أعيادنا المسيحيّة إلى ممارساتٍ وثنيّة، أي أنّ المعموديّة الّتي نِلناها في يوم قبولنا بالمسيح مخلِّصًا وسيِّدًا على حياتنا، لم تدَخل مياهها إلى أذهانها، بل توقّفت عند الخارج.
ولهذا السَّبب، تقوم الكنيسة، في كلّ ذبيحةٍ إلهيّة، بتلاوة نصٍّ إنجيليّ على مسامِعنا، علَّ كلمة الله تنجح في خرق حُصُوننا الداخليّة، فتدخل إلى قلوبنا وتُغيِّر لنا ذهنيّاتِنا فنتخلَّص من كلّ ما لا يُرضي الله، لأنّ كلمة الله تبقى عاجزة عن تحقيق أيّ تغيير في عقولِنا إن لم نسمح لها بالدّخول إلى أعماق كيانِنا. إنّ رشّ المياه على جباه المؤمِنين لا يجعلهم مُعمَّدين، بل إنّ انسجام حياتهم مع تعاليم المسيح الّتي أعلنوا قبولهم بها من خلال سرّ المعموديّة، هي الّتي تجعلهم مسيحيّين حقيقيّين. على المعمَّدين أن يُجاهِدوا للوصول إلى الملكوت السماويّ، ساعِين إلى التخلُّص من خطاياهم، لا إلى التذرّع بها للتوقّف عن متابعة مسيرتهم الإيمانيّة. لا كمالَ في هذه الأرض، فالكمال هو للّه وحده، لذا لا نسمحنّ لخطايانا بإدخالنا في حالةٍ من اليأس، بل فلنتمسَّك بإيماننا ورجائنا بالربّ للتخلُّص منها، فنصل إلى الله، ملء الكمال.
إنّ الوصول إلى الكمال، لا يتمّ إلّا من خلال التأمّل المستمرّ بكلمة الله، فكلَّما ازددنا تعمُّقًا بها، كلّما أصبح من السَّهل علينا التخلُّص من الخطايا، لأنّنا سنكتشِف يومًا بعد يومٍ عظمة حبّ الله لنا، لذا لن نسمح بعد الآن لسيِّئات الآخرين بعرقلة مسيرتِنا نحو الربّ، وشهادَتِنا له. إنّ الربّ يسوع، وكذلك الرُّسل، عانوا من اضطهادات الآخرين لهم، ولكنّهم تمكّنوا من تخطّي كلّ تلك الصُّعوبات بسبب تعمُّقهم بكلمة الله وتمسُّكهم بها. فلو قرّر بولس على سبيل الـمِثال، التوقّف عن متابعة مسيرته التبشيريّة بالإنجيل بسبب مضايقاتِ أهل كورنثوس مثلاً، لما كان الإنجيل قد تمكّن من الوصول إلينا، ولما تمكّنا من الحصول على الخلاص بيسوع المسيح؛ ولو قرّر المسيح يسوع التوقّف عن متابعة مسيرته التبشيريّة بكلام الله، لما تمّ الخلاص، لَكُّنا غارقين إلى اليوم في خطايانا.
إنّ تراجُع المؤمِنين عن الشَّهادة للمسيح في حياتهم، بسبب اضطهادات الآخرين لهم، هو أحد أفخاخ الشِّرير الّتي ينصِبها لِمُحبِّي الله، بهَدف تعطيل الإنجيل. إنّ إساءات الآخرين لنا قد تدفعنا إلى الشُّعور بالانزعاج، ولكن علينا عدم التوقّف عندها، بل متابعة المسيرة التبشيريّة بكلمة الله، متسلِّحين باكتشافنا لحبّ الله لنا الّذي لم يتراجع عن خلاصِنا على الرّغم من الأذيّة الجسديّة والبشريّة اللَّتين نالهما، بل بَقيَ مصِّرًا على مَنحِنا الخلاص رغم كلّ الصُّعوبات. أمام حبّ الله العظيم لنا، علينا المشاركة في الذبيحة الإلهيّة والتَقدُّم من سرّ المناولة المقدَّسة، من دون السّماح لخطيئتنا بِإبعادِنا أكثر عن الربّ، لأنّه حين نرفض تَناوُل القربان الأقدس، فإنّنا نسمح بذلك لخطيئتنا بالانتصار على نِعمة الربِّ في حياتنا. لذا علينا التقرُّب من المناولة المقدَّسة، عازِمين على التوبة عن كلّ خطايانا، متسلِّحين بالقوّة الإلهيّة أي القربان المقدَّس الّذي نتناوله لتغيير مسيرة حياتنا وتحسينها. ليس القربان شيئًا خاصًّا بكلٍّ منّا بل هو غذاء عائلة الآب مُجتمعة، لذا لا يجوز لنا الامتناع عن مشاركةِ إخوتِنا البشر في هذه الوليمة السماويّة، بحجّة أنّنا خطأة، لأنّنا بذلك نميِّز ذواتنا عن إخوتنا البشر، الّذي هم أيضًا إخوتنا في عائلة الآب. في إحدى رسائله، يقول لنا بولس الرّسول إنّه علينا السّلوك في هذه الحياة وِفقَ إلهامات الرُّوح القدُس. إنّ كلمة “السّلوك” في اللّغة اليونانيّة تعني السَّير على الطريقة العسكريّة، وهذا يعني أنّه على المؤمِنِين الانصياع للأوامِر الّتي يُلهِمهم بها الرُّوح القدس. ففي الذبيحة الإلهيّة، تجتمع كلّ عائلة الآب لتُصلِّي بشكل جماعيّ، وبالتّالي إنّ كلّ عملٍ تُقَويّ أثناء القدَّاس كصلاة المسبحة وسواها، هو غير مقبول لأنّنا بتلك الطريقة نكون قد انفصلنا عن عائلة الآب المجتمعة في الكنيسة للصّلاة إلى الله أبيها. في الذبيحة الإلهيّة، نحن مدعوّون إلى تجديد عهودنا مع الله، الّذي قام بالآيات منذ بدء البشريّة إلى يومِنا هذا، إذ خلَّصنا من كلّ عبوديّة ومنَحنا الخلاص، وهو لا يزال يُحقِّق فينا معجزاته الّتي تصنع فينا تغييراتٍ جذريّة وعميقة، لنتمكّن من الوصول إلى الملكوت. إنّ تجديد العهود، يتمّ عبر صلواتنا إلى الله بصوتٍ واحد، وهذا هو في الحقيقة، معنى كلمة ليتورجيّا. إنّ كلمة “ليتورجيّا”، هي كلمة يونانيّة تعني عمل الشَّعب، ولهذا السّبب، نستخدم في الذبيحة المقدَّسة في كلّ الصّلوات الّـتي نتلوها صيغة الجمع، قائلين: نؤمِن بإله واحدٍ، لنُحبَّ بعضنا بعضًا. انطلاقًا من هذه الذهنيّة، نستطيع قراءة أعمال الرُّسل وفَهمِه بكلِّ أبعادِه.
ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.