تفسير الكتاب المقدّس،

الأب ابراهيم سعد،

“سِفر أعمال الرّسل – الإصحاح 2: 22-47” 

النصّ الإنجيليّ:

“وَلَمَّا حَضَرَ يَومُ الـخَمسِينَ كانَ الـجَميعُ معًا بِنَفْسٍ واحِدَةٍ، وصارَ بَغْتَةً مِنَ السَّماءِ صَوتٌ كما مِن هُبوبِ رِيحٍ عاصِفةٍ، ومَلَأَ كُلَّ البَيتِ حَيثُ كانوا جالِسِينَ، وَظَهَرَتْ لَهم أَلسِنَةٌ مُنقَسِمَةٌ كأنَّها مِن نارٍ واسْتَقَرَّت على كُلِّ واحدٍ مِنهُم. وامْتَلَأَ الجَميعُ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ، وابْتَدَأوا يتكلَّمونَ بِأَلْسِنَةٍ أُخرى كما أَعْطاهُم الرُّوحُ أَنْ يَنطِقُوا. وكان يَهودٌ رِجالٌ أَتْقِياءُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ تَحتَ السَّماءِ ساكِنِينَ في أورشَليمَ. فَلَمَّا صارَ هذا الصَّوتُ، اجْتَمَعَ الـجُمهورُ وتَحَيَّروا، لِأَنَّ كُلَّ واحِدٍ كانَ يَسمَعُهم يَتَكَلَّمونَ بِلُغَتِهِ. فبُهِتَ الجَميعُ وتَعَجَبُّوا قائِلِينَ بَعضُهم لِبَعضٍ: “أَتُرى ليسَ جَميعُ هؤلاءِ الـمُتَكَلِّمينَ جَلِيليِّين؟ فَكَيفَ نَسمَعُ نَحنُ كُلُّ واحدٍ مِنَّا لُغَتَهُ الّتي وُلِدَ فيها؟ فَرْتِيُّونَ وَمَادِيُّونَ وَعِيلامِيُّونَ، والسَّاكِنُونَ ما بَينَ النَّهرَينِ، واليَهُودِيَّةَ وَكَبَّدُوكِيَّةَ وبُنْتُسَ وأَسِيَّا، وفَرِيجِيَّةَ وبَمْفِيليَّةَ وَمِصرَ، وَنَواحي لِيبِيَّةَ الّتي نَحوَ القَيرَوانِ، والرُّومانِيُّونَ الـمُستَوطِنُونَ يَهودٌ ودُخلاءُ،كِرِيتِيُّونَ وَعَربٌ، نَسمَعُهم يَتَكَلَّمُونَ بأَلْسِنَتِنا بِعظائِمِ الله!” فَتَحَيَّرَ الجَميعُ وارْتَابوا قائِلِينَ بعضُهم لِبَعضٍ: 

“ما عسى أنْ يَكونَ هَذا؟” وَكانَ آخَرُونَ يَسْتَهزِئونَ قائِلِينَ: “إنَّهُم قَدْ امْتَلَأُوا سُلافَةً”. فَوَقَفَ بُطرُسُ مَعَ الأَحَدَ عَشَرَ وَرَفَعَ صَوتَهُ وقالَ لَهُم: “أيُّها الرِّجالُ اليَهُودُ والسَّاكِنونَ في أُورَشَليمَ أَجْمَعُونَ، لِيَكُنْ هذا مَعلُومًا عِنْدَكُم وأَصْغُوا إلى كَلامي، لأنَّ هَؤلاءِ لَيْسُوا سُكارَى كما أنتُم تَظِنُّونَ، لأنَّها السّاعة الثَّالِثةُ مِنَ النَّهارِ. بَل هذا ما قِيلَ بِيُوئيلَ النبيِّ. يقولُ اللهُ: وَيَكُونُ في الأيّامِ الأَخيرَةِ أَنّي أَسْكُبُ مِن رُوحي على كُلِّ بشرٍ، فَيَتَنَبَّأ بَنُوكُم وبَناتُكم، ويَرى شَبابُكُم رُؤىً ويَحلُمُ شُيُوخُكُم أَحلامًا. وَعَلى عَبيدِي أيضًا وإمائِي أَسْكُبُ مِنْ رُوحي في تِلكَ الأيَّامِ فَيَتَنَبَّأُونَ. وأُعْطِي عَجَائِبَ في السَّماءِ مِنْ فَوقُ وآياتٍ على الأرضِ مِن أَسْفَلُ: دَمًا ونارًا وبُخارَ دُخانٍ. تَتَحَوَّلُ الشَّمسُ إلى ظُلمَةٍ والقَمَرُ إلى دَمٍ، قَبْلَ أن يَجِيءَ يَومُ الربِّ العَظيمُ الشَّهيرُ.” (أعمال2: 1-20).

شرح النّص الإنجيليّ:

بعد حلول الرّوح القدس على التّلاميذ في العليّة، ألقى بطرسُ عظةً على اليهود المجتمِعِين في أورشليم، حول يسوع المسيح الّذي صَلبَه اليهود والّذي انتصر على الموت بالقيامة. بعد حلول الرّوح القدس، انطلق الرّسلُ من العليّة نحو الآخرين، للتبشير بكلمة الله الّتي أصبحَتْ لُغةً تَجمَعُ بين الشُّعوب المتعدِّدة اللّغات.

في العظة الّتي ألقاها على اليهود الحاضرين، لخَّصَ بطرسُ كلَّ عملِ الله الخلاصيّ عبر التّاريخ، وبالتّالي شكَّلَت عظتُه قراءةً ليتورجيّة لِعَمَلِ الله في حياة شعبه. إنَّ كلمة “ليتورجيّا”، هي كلمةٌ يونانيّة الأصل، تَعني عَملَ الشَّعب، أي أنَّ كلَّ الشَّعبَ يجتمع، كوِحدةٍ واحدة، ليُعلِن عن الطريقة الّتي يريد اعتمادها في مواجهة الصّعوبات المستقبليّة، استنادًا إلى ماضيه وحاضره. في زمن الامبراطوريّة الرومانيّة، كان الامبراطور يجتمع مع مجلس الشيوخ، الّذي يمثِّل الشَّعب كلّه، لاتِّخاذ القرارات المصيريّة. وعند التئام الحضور، كان يتمّ سَرد تاريخ الامبراطوريّة على الحاضرين، ليتمكّن هؤلاء من اتِّخاذ القرارات المستقبليّة الخاصّة بالامبراطوريّة، المنسجمةِ مع تاريخها العظيم. 

هذا ما نقوم به في كلّ ذبيحةٍ إلهيّة، إذ نجتمع، نحن المؤمِنِين في الكنيسة، كوِحدةٍ واحدة، فيُعلِن الكاهن على مسامِعنا من خلال الصّلوات تاريخَ الله معنا، نحن شعبه، فنُعلنُ انتماءَنا إلى هذا الشَّعب، عندها نُصبح كنيسةً واحدة. في الذبيحة الإلهيّة، لا تَذكُر الكنيسةُ تاريخَ الشَّعب مع الله، لأنّه مليءٌ بالخطايا والقبائح، بل تَذكُر تاريخَ اللهِ مع شعبه، إذ بِفَضلِه نالَ الشَعبُ الخلاصَ. إنّنا نَدخلُ إلى الكنيسة كأفرادٍ لبُّوا نداءَ الله للاجتماع في الذبيحة الإلهيّة، ونخرج منها أبناءً لله بَعد قُبُولِنا مشاركة الله في وليمَتِه، مِن خلال تَناوُلِنا جسد الربِّ ودَمِه.

إنَّ الله لم يَختَر شعبًا محدًّدا ليكون شعبَه الخاصّ، لذا لا الشَّعب اليهوديّ يملك الحقّ في اعتبار ذاته شعب الله المختار ولا الشَّعب المسيحيّ أيضًا. إنَّ المؤمِن، بشهادته الصَّالحة للمسيح، يَدفع اللهَ إلى الاعتراف به ابنًا له، أي أنّه أصبح مِن شعب الله. يدخل المؤمِنون وَثنيِّين إلى الكنيسة، للمشاركة في الذبيحة الإلهيّة، ويخرجون منها أبناءً لله، إذ يُعلِنون قبولهم بكلمة الله هاتِفين: “آمين”، كما يُعلِنون قبولَهم بأبوّة الله لهم، من خلال مشاركتهم الله الآب وليمتَه السماويّة. إنّ المؤمِن الحقيقيّ يدخل إلى الكنيسة مُطأطأ الرأس لِعِلمِه أنّ خطاياه كثيرةٌ. 

ولكنَّ الربّ عندما يراه عائدًا إليه، يَهرعُ إليه، فيَرفَع رأس ابنه التائب، ويقبِّله كما فَعل الأب في مَثَل الابن الضّال، ويُلبسُه الحلَّة الجديدة، واضعًا الحذاء في رجلَيه، وذابحًا له العِجل المسَمَّن أي يسوع المسيح. في الكتاب المقدَّس، اللِّباس هو علامةٌ على عودة الإنسان إلى حالة النِّعمة، نعمة البنوّة لله. إنّ الله هو الّذي يمنَح نعمة البنوّة للإنسان، فالإنسان لا ينال تلك النِّعمة نتيجة أعماله الصّالحة إنّما نتيجة قرار الله بِمنْحِ البنوّة من جديد لكلِّ إنسانٍ يعود إليه تائبًا. 

إنَّ جميع البشر متساوون أمام الله، فاللهُ لا ينظر إليهم انطلاقًا مِن قداستهم أو خطاياهم، بل انطلاقًا من أنَّهم جميعًا أبناؤه، أكانوا يهودًا أم لا؛ غير أنَّ الإنسان يرفض مساواته بالآخرين، لذا هو يبحث عن سببٍ للتَّفاخر على الآخرين. إنَّ المؤمِن الحقيقيّ يسعى إلى عيش حياته في هذه الأرض، انطلاقًا من نظرة المساواة بينه وبين جميع البشر، وبذلك يتميَّز المسيحيّ مِن سواه من البشر. 

إنّ عظة بُطرس أمام اليهود الحاضرين في أورشليم، هي احتفالٌ ليتورجيّ بامتياز، إذ أعلن بطرس أمام الحاضرين، عَمَل الله الخلاصيّ الّذي تمَّ في يسوع المسيح، ووَضع السَّامعين له أمام خيارَين لا ثالث لهما: إمّا القبول بخلاص الربِّ لهم، وإمّا رَفضِهم لهذا الخلاص. إنَّ بطرس طَلَبَ مِن السّامعين له، التوبة والاعتماد كعلامةٍ على قبولهم خلاص الربِّ لهم. إنّ طَلَبَ بطرس هذا، مِن شعبٍ يهوديّ يترقّب مجيء المخلِّص، هو دليلٌ على أنّ مسيرتهم الحياتيّة لم تكن منسجمة مع كلمة الربِّ. 

إنّ عدم توبة السّامِعِين واعتمادهم هو دليلٌ على رغبة هؤلاء في البقاء في حالة الوثنيّة على الرُّغم من سماعهم كلمة الله، أي دليلٌ على عدم قبولهم بخلاص الربِّ لهم. على مرّ العصور، اعتقد اليهود أنّهم أفضل من الآخرين لأنّهم يملكون كلمة الله، لكنَّ بطرس أعلن لهم مساواتهم ببقيّة الشَّعوب. إنَّ اليهود قتلوا كلَّ مَن تجرّأ على إعلان تلك الحقيقة لهم، وما موت يسوع المسيح والرُّسل إلّا دليل على ذلك.

في عظتِه أمام اليهود، وَصف بطرس الرَّسول يسوع المسيح بأنّه “رَجُلٌ” لا “الرَّجُل”، أي أنّ المسيح يسوع لم يكن متمايزًا عن سائر البشر بل كان مُشابهًا لهم. ثمّ أضاف بطرس قائلاً إنّ الربَّ يسوع قد قُتِل “بِيَد أثَمَةٍ”، قاصدًا بذلك الرومانيّن الّذين لا شريعةَ لهم. إنّ اليهود هم المسؤولون عن موت المسيح لا الرومانيّن، بالنسبة إلى بطرس، إذ قال لهم: “بأيدي أَثَمَةٍ صلبتموه وقتلتموه”. لم يقصد بطرس بهذا الكلام تَبرِئَة بيلاطس مِن دَم يسوع، إنّما أراد التأكيد لليهود، أنّ المخلِّص قد جاء إليهم ولكنَّهم رَفَضوه فقتلوه على يد بيلاطس، الحاكم الرومانيّ. لقد حاول اليهود التّظاهر أمام الله بأنّهم لم يعرفوا المسيح، وهنا نتذكَّر قول المسيح في الإنجيل: “كلُّ خطيئةٍ وتجديف يُغفر للنّاس، وأمّا التَّجديف على الرُّوح القدس فلن يُغفَر للنّاس”(متّى 12: 31). 

إنّ التَّجديف على الرُّوح القدس هو رَفضُ الإنسان لِعَمل يسوع المسيح الخلاصيّ. اعترف بطرس الرَّسول أمام الحاضرين بقيامة المسيح إذ قال: “إنّ الله أقامه ناقضًا أوجاع الموت”. إنَّ بعض المؤمِنِين قد أساؤوا فَهْمَ هذا الكلام، فاعتبروا أنّ المسيح غير مساوٍ لله في الجوهر، أي أنّهم اعتقدوا أنّه أدنى مرتبةً من الله، وهذا الاعتقادُ خاطِئٌ تمامًا. إنَّ الله قد أظهر ذاته من خلال عَمَلِه في المسيح يسوع، فكان حاضرًا منذ ولادته إلى يوم قيامته من الموت، فكان ذلك دليلاً على أنَّ يسوع المسيح هو رَجُلٌ مِن عِندِ الله. لم يتمكّن الموت من الإمساك بيسوع المسيح، لأنّ الربَّ قد تمكَّن من الإفلات منه والقضاء عليه من خلال قيامته المجيدة. 

لذلك، بالنسبة للمؤمِنِين بالربّ يسوع، لم يَعُد للموت مِن وجود، لأنّهم تمكّنوا مِن غَلَبته والانتصار عليه بالقيامة، على مِثال الربِّ يسوع المسيح، الّذي غَلَب الموت بقيامته. إنَّ الموت هو تِنِينٌ يريد الانكباب على فريسته لابتلاعها، غير أنّ الربَّ يسوع قد بدَّد كلّ آماله، من خلال صليبه المقدَّس، الّذي حوّل الموت إلى جسرِ عبورٍ يجتازه المؤمِنون للوصول إلى القيامة. لقد أباد الربُّ يسوع الموت بقيامته، أي أنَّ الموت قد فَقَدَ كلّ سُلطانٍ له على البشر، لذا فَقَد تحوّل الموتُ إلى دليلٍ ثابتٍ على وجود القيامة، عند الّذين قَبلِوا عَمل الله الخلاصيّ. 

إنّ الموت هو فُقدان أحد الأعزّاء على قلوبنا، أي أنّه أمرٌ مؤلِّـمٌ، وبالتّالي سببٌ للحزن والبكاء. على الإنسان أن يُعبِّر عن حزنه بالبكاء، ولكن على بُكائه أن يكون ممزوجًا بالرَّجاء، رجاء القيامة. لم يَكن هَدَف المسيح مِن قيامته من الموت، الحصول على المجد الأرضيّ من النّاس، بل كان هدفه من القيامة إعطاءنا البُرهان الأكيد بقيامته على زوال الموت. 

إنّ عظة بطرس الرَّسول هي ذبيحةٌ إلهيّة بامتياز، إذ نقرأ في ختام هذا الإصحاح أنّ جميع الّذين تابوا واعتمدوا باسم الربّ، واظبوا مع الرُّسل على كسر الخبز في الهيكل، وعلى سماع تعليم الكتاب المقدَّس وتعليم الرُّسل، إضافةً إلى الصّلاة معًا وتَناوُلِهم الطّعام معًا. هذا ما تتضمَّنه ذبيحتُنا الإلهيّة الّتي نشارِك فيها مع إخوتنا في الإيمان: القراءات المقدَّسة، أي الإنجيل والمزامير والرَّسائل، والمشاركة في الوليمة السماويّة، وليمة الآب، أي المشاركة في جسد المسيح ودَمِه، كما نشترك مع الجماعة الحاضرة في الصَّلاة. 

إنَّ عبارة “الشَرِكة”، الّتي ورَدت في هذا النّص، تشير إلى مساندة المؤمِنِين بعضهم بعضًا في الأرضيّات، ويُعبَّر عنها اليوم بالصّواني الّتي تُجمَع في أثناء الذبيحة، من أجل مساعدة الأكثر حاجة في الرعيّة. إنَّ المؤمِن يُعبِّر عن إيمانه بالربّ من خلال محبّته لإخوته المحتاجين، فيتصدَّق عليهم بأمواله من خلال الصّواني، فيكون المؤمِن صادقًا في صلاته الأبانا في الذبيحة الإلهيّة.

على الإنجيل أن يكون المعيار الأساسيّ الّذي يرتكز عليه المؤمِنِون في حياتهم وتصرّفاتهم، إذ على المؤمِنِين السُّلوك حسب تعاليم الإنجيل، لا اختيار ما يُناسبهم منه لخدمة نزواتهم وأهوائهم الأرضيّة.كُثُرٌ هم المؤمِنون الّذين أرادوا تحقيق تغييراتٍ جذريّة في حياتهم نتيجة تفاعلهم مع كلمة الله، ولكنَّهم تراجعوا عن ذلك لأنّ تلك التغييرات لا تتناسب مع أهوائهم الأرضيّة.

إنَّ بعض المؤمِنِين يقولون إنَّهم يُفضِّلون قراءة العهد الجديد على العهد القديم، لأنّ العهد القديم يُظهر صورة الله الدَّيان، أمّا العهد القديم فيُظهر صورة الله المحبّة. إنَّ هذا الاعتقادَ خاطئٌ تمامًا لأنّ كلام يسوع في بعض المواقف كان أقسى من كلام العهد القديم. وإليكم مِثالٌ على ذلك، في عظة يسوع على الجبل، قال لليهود الحاضرين: “سَمِعتم أنّه قيلَ للأوَّلين: “لا تقتل، فإنَّ مَن يقتل يستوجِبُ حُكمَ القضاء”. أمّا أنا فأقولُ لكم: مَن غَضِبَ على أخيه استَوجَبَ حُكم القضاء، ومَن قال لأخيه :”يا أحمَق”، استوجَبَ حُكمَ المجلس، ومَن قال له: “يا جاهل”، استَوجَب نارَ جُهنَّم”(متّى 5: 21-22). 

إنَّ هذه الكلمات الّـتي نستعمِلها في كلامنا مع الآخرين، تشير إلى أنّنا أفقَدنا الآخر كلّ قيمته الإنسانيّة بمعنى آخر، قتَلناه في فِكرنا، فهو لم يَعُد له وجود في حياتنا. إنّ القتل الجسديّ أفضل بكثير من القَتل المعنويّ والنفسيّ بالنسبة للآخر. إنَّ القتل الجسديّ أسهل من القتل النفسيّ، لأنّ الموت الأوَّل، الموت الجسديّ، مرتبطٌ بحيازتك على أداةٍ قاتلة كالمسدَّس مثلاً، ولكنّ الموت الثاني، أي النفسيّ والمعنويّ، فهو مرتبطٌ بقدرتك على السيطرة على كلماتِك الّتي تخرُج من فمِكَ. 

إنَّ كلام يسوع هذا هو أقسى من كلام الله في العهد القديم، إذ يقول لنا إنّ مَن يستحقّ جهنّم ليس فقط مَن يخالف وصيّة القتل الّتي أوصانا بها الربّ في العهد القديم، بل أيضًا مَن أساء إلى أخيه الإنسان وقَتَله في فِكرِه. إذًا، العهد الجديد هو أكثر قساوةً من العهد القديم، ولكنَّ المؤمِنِين يعتقدون أنَّ العهد القديم هو أكثر قساوةً، لأنَّ الله كلَّم شعبه في العهد القديم، من خلال الشريعة، أي بالقانون، لقساوة قلب الشَّعب. إنَّ يسوع المسيح، قد جاء إلى أرضنا، وأعطانا شريعة المحبّة، ولكنَّ المؤمِنِين أساؤوا فَهمَ هذه الشريعة، فعاشوا حياةً بعيدة عن كلِّ شريعة. 

إنّ شريعة المحبّة تقوم على تلبية حاجات الآخرين لا على تلبية رغباتهم: فتَلبيَتُنا لرغبات الآخرين تُدخلِنا في حالةٍ من العبوديّة لأهوائهم، أمّا تلبيَتُنا لحاجاتهم فتُدفَعنا إلى عيش المحبّة تجاه الآخرين. إنَّ عيش المحبّة هو أمرٌ في غاية الصُّعوبة لأنّها تؤدِّي إلى تَعب الإنسان الّذي يُمارسها: فالإنسان الّذي يسعى إلى عيش المحبّة تجاه الآخرين، لا يتوقّف عن التفكير لإيجاد طُرقٍ تساعده على خِدمة الآخرين بشكلٍ أفضل. إذًا، إنّ عيش شريعة المحبّة أصعب من عيش الشريعة اليهوديّة القديمة المحدودة بعددٍ من الوصايا، لأنّ شريعة المحبّة لا حدود لها، وهي شاملة.

في عظته أمام اليهود الحاضرين في أُورشليم، أعلن بطرس للجموع الحاضرة، أنَّ يسوع النّاصريّ الّذي صلبوه، هو رَجُلٌ مِن عند الله، إذ قام بالأعاجيب والشفاءات، لذا على اليهود أن يتوبوا إلى الله ويعتمدوا باسم يسوع، كما طلَبَ منهم بطرس الرَّسول. إنّ اليهود الحاضرين في أورشليم قد تفاعلوا مع كلمة الله الّتي سَمِعوها على لِسان بطرس، بدليل أنّ هذا النصّ يُخبرنا عن توبة ثلاثة آلافِ نسمةٍ منهم. إنَّ كلمة الله الّتي تصدُر عن فمِ شاهدٍ حقيقيّ للمسيح، لا بدَّ لها أن تُحقِّق ما أُرسِلَت لأجله، أي تغييرًا جذريًّا في نفوس سامِعيها. 

إنّ العدد “ثلاثة” في الكتاب المقدَّسة يرمز إلى الكمال، وبالتّالي فالرَّقم “ثلاثة آلافٍ”، يرمز إلى الكنيسة الأولى. يؤكِّد لنا هذا النصّ الإنجيليّ أنّ هؤلاء التائبِين قد انتموا إلى الكنيسة إذ يُخبرنا أنّهم كانوا يعيشون على مِثال الكنيسة الأولى، أي أنّهم كانوا يبيعون ممتلكاتهم ويتقاسمونها فيما بينهم، كي لا يبقى محتاجٌ فيما بينهم. هذه هي المحبّة الّتي يريدها يسوع: أن نضع كلّ طاقاتنا وإمكانيّاتنا ومواهِبنا، في خدمة الآخرين في سبيل سدِّ حاجاتهم.

 إنَّ الربَّ يسوع لم يرغب يومًا في عَيْشِ الألم والعَوز والفَقر بدليل أنّه كان يشفي المرضى، كما أطعم الجياع. إنَّ الربَّ حاول تَجَنُّب عيش الآلام، لذا صلّى لأبيه السماويّ أن يُبعِدَ عنه تلك الكأس، ولكن حين اختار له البشر هذه الميتة، واجهها وقَبِلَها. عندما يواجه الإنسان الآلام، يصرخ إلى الله كي يُخلِّصه منها: فإذا نال الشِّفاء، شعر بالفرح؛ ولكن إن لم يحصل الإنسان على نعمة الشِّفاء، فَلِكَي تظهر قوّة الله في ضُعف الإنسان. أن تظهر قوّة الله في ضُعفك، لا يعني أبدًا أنّ الله سَيَشْفِيكَ مِن مَرَضِك مثلاً، بل تعني أنَّ الله سيُظهر قوَّته للآخرين من خلال مَرَضِك، عندما تتحمَّل آلامَك بصبرٍ ورجاءٍ، فتتحوَّل تلك الآلام إلى مَصدَرِ تبشير لهم بكلمة الله.

نتيجة تبشيرهم بكلمة الله، تعرَّض الرُّسل إلى الاضطهادات، فحاوَل هؤلاء الهرب من الموت قَدرَ الإمكان، فذهبوا إلى مناطِق أخرى للتبشير بكلمة الله، ولكن حين كانوا يُعتَقلون، كانوا يواجهون الموت من دُونَ خوفٍ من الأباطرة، ومن دون تراجُعٍ عن إيمانهم بالربّ، إذ رَفضوا السُّجود إلّا لله. إنَّ بقاء الرُّسل في الحياة هو نِعمةٌ لنا، إذ إنّهم لم يتوقَّفوا عن تبشيرنا بكلمة الله الّتي هي مَصدَر خلاصٍ لنا، إذ قَبِلناها، ولكنَّ الرُّسل كانوا مستعدِّين في كلِّ لحظةٍ لمغادرة هذا العالم وللقاء الربِّ في الملكوت. 

لا تلميذَ أفضلُ مِن معلِّمه، لذا علينا، نحن رُسُل هذا الزَّمان، التمثُّل بالمسيح أوّلاً، وبالرُّسل ثانيًا، في مواجهتهم صعوبة الموت، فلا نخافه، بل نواجهه لأنّنا نجده جسرًا يساعدنا للوصول إلى الملكوت. إنّ الموت لا يقتصر على البُعد الجسديّ، إذ إنّنا نواجه الموت في مواقفَ متعدِّدةٍ في حياتنا: فمثلاً حين يُطلَب منّا السُّكوت عن الحقّ في وظائفنا والانصياع للباطل، مقابل رشاوى ماديّة، وإلّا نُصبح عاطِلين عن العَمل، نواجه وجهًا من أوجه الموت. إنَّ ثباتَنا في الحقّ، يضعنا في مواجهة مع الصّليب، الّذي يتوجّب علينا حَملَه، على مِثال مُعلِّمنا يسوع المسيح في سبيل الوصول إلى الملكوت.

في عظته، يدعونا بطرس الرَّسول إلى تلبية نداء الربِّ لنا، فنكون جسد المسيح السريّ. إنّ عبارة “الّذين يخلُصون”، الّتي استخدمها لوقا الإنجيليّ كاتب هذا السِّفر، تشير إلى الأشخاص الّذين قَبِلوا كلمة الله في حياتهم، إذ وَجدوا فيها بابًا يقودهم إلى الملكوت السماويّ. إنّ كلمة الله هي بطاقة الدّخول الّتي علينا المحافظة عليها للوصول إلى الملكوت. وبالتّالي فإنَّ استغناءَك عن هذه البطاقة، سيجعلك غيرَ قادرٍ على المشاركة في وليمة الله الآب في السّماء، الّتي أعدَها لأحبّائه. 

إذًا، ليس الله مسؤولاً عن بقائك خارج الملكوت، بل قرارك الحرُّ بالاستغناء عن الله هو الّذي يمنَعُك من مشاركة الله وليمَتَه السماويّة. وبالتّالي، مَن يَرغب في الدُّخول إلى الملكوت، عليه المحافظة على كلمة الله في حياته. إنَّ الله لا يطلب منك تعداد أعمالك الصّالحة، بل يطلب منك المحافظة على حالة النِّعمة الّتي نِلتَها بالعِماد. إنّ بطاقة الدُّخول إلى الملكوت قد أعطانا إيّاها الله الرُّوح القدس في يومِ عمادِنا، وعلينا المحافظة عليها إلى اليوم الّذي ننتقل من هذا العالم إلى الملكوت السماويّ.

إنَّ عبارة “وكان الربُّ كلَّ يومٍ يضمُّ إلى الكنيسة الّذين يخلُصُون”، كُتبَت منذ أكثر مِن ألفي سنة، ولكنّها لا تزال فاعلة إلى يومِنا هذا، فهي تتحقّق في كلّ يومٍ حين نُدرِك أنّ بعض الّذين يسكنون في مناطق تعاني من اضطهادٍ لكلمة الله، يتقرّبون من سرّ العِماد، على الرُّغم من التحدِّيات الّتي يعيشونها في مجتمعاتهم، وما المؤمِنون الّذين يعيشون في الجزائر، أو في الشرق الأقصى لآسيا على سبيل المِثال، إلّا دليلٌ على استمراريّة فعاليّة كلمة الله في قلوب البشر. إخوتي، هناك قدِّيسون في الكنيسة غير معروفين، وغير مرفوعين على مذابح الكنيسة، ولكنّهم معروفون مِن قِبَل الله.

إنّ الكنيسة لن تتزعزع، ما دام هناك مؤمنٌ واحدٌ يشهد لكلمة الله الحيّة من خلال تصرّفاته مع الآخرين. آمين.

ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ من قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp