تفسير الكتاب المقدّس،

الأب ابراهيم سعد،

“سِفر أعمال الرّسل – الإصحاح الثالث” 

النّص الإنجيليّ:

“وَصَعِدَ بطرس ويوحنّا معًا إلى الهَيكل، في ساعةِ الصَّلاة التَّاسعة. وكان رَجُلٌ أعرَجٌ مِن بطنِ أُمِّهِ يُحمَل، كانوا يَضَعونَه كلَّ يومٍ عند بابِ الهَيكَل، الّذي يُقال له الجَميل، ليَسأل صَدقةً مِنَ الّذين يَدخُلونَ الهيكلَ. فَهَذا لمّا رأى بطرسَ ويوحنّا مُزمِعَين أن يَدخُلا الهيكلَ، سألَ ليَاخُذَ صَدَقَةً؛ فَتَفَرَّس فيه بطرس مع يوحنّا، وقال: أُنظُرْ إلَينا. فلاحَظَهما مُنتَظرًا أنْ يَأخُذَ مِنهما شَيئًا. فَقالَ بُطرسُ: لَيسَ لي فِضَّةً ولا ذَهبَ ولَكنَّ الّذي لي، فإيّاهُ أُعطِيك: بِاسمِ يسوعَ المسيحِ النَّاصِريّ، قُمْ وامْشِ، وأَمسَكَهُ بِيَدِهِ اليُمنى وأقامَه، فَفي الحالِ تَشدَّدت رِجلاهُ وكَعباهُ، فَوَثَبَ ووَقَفَ وصارَ يَمشي، وَدَخَلَ مَعهما إلى الهيكلِ وهو يَمشي ويَطفِرُ ويُسبِّحُ اللهَ. وأَبصَرَهُ جميعُ الشَّعبِ وهو يَمشي ويُسبِّحُ اللهَ، وعَرَفوه أنّه هو الّذي كان يَجلسُ لأجلِ الصَّدَقةِ على بابِ الهيكلِ الجَميلِ، فامْتَلأوا دَهشَةً وحَيْرَةً ممّا حَدَثَ له. وَبَينما كان الرَّجُلُ الأعرَجُ الّذي شُفِيَ مُتَمَسِّكًا ببطرس ويوحنّا، تَراكَضَ إليهم جميعُ الشَّعبِ إلى الرِّواق الّذي يُقالُ له رِواقُ سُليمان، وهُم مُندَهِشون. فَلَمّا رأى بُطرسُ ذَلِكَ، أجابَ الشَّعبُ: أَيُّها الرِّجالُ الإسرائيليُّونَ، ما بالُكم تَتَعجَبّون مِن هذا؟ وَلِماذا تَشخصُونَ إلينا، كأنّنا بِقُوَّتِنا أو تَقوانا قد جَعلنا هذا يَمشي. 

إنَّ إلهَ إبراهيمَ وإسحاقَ ويَعقوبَ، إلهَ أبائنا، مجَّد فَتاهُ يسوعَ، الّذي أسلَمتُموه أَنتُم، وأَنْكَرتُموه أمامَ وَجهِ بِيلاطُسَ، وهو حاكِمٌ بإطْلاقِهِ. ولَكِن أَنتم أَنكَرتُم القدُّوسَ البَّارَ، وَطَلَبتُم أنْ يُوهَبَ لَكُم رَجُلٌ قاتِلٌ؛ ورَئيسَ الحياةِ قَتَلتُموه، الّذي أقامَه اللهُ من الأمواتِ، ونَحنُ شُهودٌ لِذَلِكَ. وبالإيمانِ باسِمِه، شدَّد اسمُهُ هذا الّذي تَنظُرونَهُ وتَعرِفُونَهُ، والإيمانُ الّذي بواسطَتِه أعطاهُ هذه الصِّحةَ أمامَ جَمِيعكم. والآنَ أَيُّها الإخْوَةُ، أنا أَعلَمُ أنَّكم بِجهالةٍ عَمِلتُم، كما رؤساؤكُم أيضًا؛ وأمّا اللهُ فَما سَبَقَ وأَنبَأ به بأفواهِ جميعِ أنبيائِه، أنْ يتألَّمَ المسيحُ، قَد تمَّمَه هَكَذا. فتُوبوا وارجِعوا لتُمحَى خَطاياكُم، لِكَي تأتي أوقاتُ الفَرَجِ مِن وَجهِ الربِّ، ويُرسِلَ يسوعَ المسيحِ المبشِّر به لَكُم قَبلُ، الذي يَنبَغي أنَّ السَّماءَ تَقبَلُهُ، إلى أزمِنةٍ رد كلَّ شيءٍ، الّتي تكلَّم عنها اللهُ بِفَمِ جَميعِ أنبيائِهِ القدِّيسِين منذ الدَّهرِ. فإنَّ موسى قال للآباءِ: إنَّ نَبيًّا مِثلي سيُقيمُ لَكُم الربُّ إلهُكُم مِن إخوتِكم. لَهُ تَسمَعونَ في كلِّ ما يُكلِّمُكم به، ويكونُ أنَّ كلَّ نَفسٍ لا تَسمَعُ لِذَلِك النبيُّ، تُبادُ مِن الشَّعب. وجَميعُ الأنبياءِ أيضًا مِن صَموئيلَ فَما بَعدَهُ، جميعُ الّذينَ تَكَلَّموا، سَبَقوا وأنبأوا بهذه الأيّامِ. أَنتُم أبناءُ الأنبياءِ، والعَهدُ الّذي عاهَدَ به اللهُ آباءَنا قائلاً لإبراهيمَ: وَبِنَسلِكَ تَتَبارَكُ جَميعُ قَبائلِ الأرضِ، إليكُم أوَّلاً، إذ أقامَ اللهُ فَتاهُ يسوعَ، أرسَلَهُ يبارِكُكُم برَدِّ كلُّ واحدٍ مِنكُم عن شُرُورِهِ”.

شرح النّص الإنجيليّ:

يُخبرنا هذا الإصحاح من سِفر أعمال الرُّسل، عن حادثة شفاء رَجُلٍ أعرَجَ منذ ولادَتِه، على يد الرَّسولَين بطرس ويوحنّا. وتشكِّل هذه الحادثة تطبيقًا عملِيًّا لكلام الربِّ يسوع لتلاميذه، حين قال لهم إنّهم سيقومون بأعمال أعظم مِنَ الّتي قام بها هو نَفسه. إنَّ ما قام به الرُّسل، مِن شفاءاتٍ وأعمالٍ عظيمةٍ، يستطيع كلُّ مؤمِنٍ القيام بها، غير أنّ الإنسان يميل بطَبعِه إلى ما يثير انتباه الآخرين ويلفت نَظَرهم ويُبهِرهم. إنّ الإنسان للأسف، يتأمّل لوقتٍ قصيرٍ في أحداث الله الخلاصيّة، غير أنّه يتأمَّل لساعاتٍ في الأعاجيب الّتي يسمَع عنها في محيطه. 

إنَّ عيد الميلاد أو عيد الفِصح وسواها من الأعياد الدِّينيّة، قد لا تَلفِت نَظر المؤمِن إليها، إذ إنّها لا تُثير اندهاشه ولا تبهِره بِقَدر ما تُبهِره الأعياد المدنيّة كرأس السَّنة، على سبيل المِثال. إنّ عيد رأس السَّنة، هو “تِنِّينٌ” يريد التهام “الحَمَل” المولود في مِذود، وللأسف، يساهم المسيحيّون في مساعدة التِّنين على التِهام الحَمَل، بدليل أنَّ فَرحَتَهم بِعِيد رأس السَّنة تفوق بأضعافٍ فَرحتَهم بِعِيد ميلاد المخلِّص بينَهم. لقد تجرّأ المسيحيّون للأسف، على المزج بين هذين العيدَين بالقول: “عِيَدَي الميلاد ورأس السَّنة”، فيُخَيَّل للسَّامِعِين من خلال تردادهم لتلك العبارة أنّ هذَين العيدَين هما عِيدٌ واحدٌ، يبدأ في يوم عيد ميلاد المخلِّص وينتهي باحتفال رأس السَّنة.

إنّ المسيحيّين في عالمنا اليوم، يخافون من الفَرح، لذا يسعون إلى البحثِ عن الـمَرَح. إنّ الإنسان يخاف من الشُّعور بالفَرَح، لأنَّ الفرح يضَع الإنسان أمام مسؤوليّته، الّتي غالبًا ما يسعى للهروب منها، مُلقِيًا إيّاها على الآخَرين. إنّ لِـخَوف الإنسان عدَّة أسباب: أوّلاً، نظرة المجتمع، أي نَظرة الآخَرين له عند قيامه بما لا يتناسَب مع أهوائهم. إنّ الإنجيل يدعو المؤمِنِين إلى التحرُّر مِن هذا الخَوف حين يذكِّرهم بِقَول المسيح لأتباعِه: أنتم مِن هذا العَالم ولكنَّكم لستُم مِن هذا العالم. 

إنّ المؤمِن إذًا، مدعوّ إلى القيام بما يتوافَق مع تعاليم الإنجيل، لا بما يتافَق مع أهواء النَّاس. على المؤمِن أن ينقل ذهنيّة الإنجيل للآخرين، لا أن ينغمس في ذهنيّة هذا العالم. إنّ الإنسان المنغمس في ذهنيّة هذا العالم، هو إنسانٌ يهتمّ بمظاهر العيد ومباهجه الدُّنيويّة لا بجَوهَرِه، إذ تتمحوّر كلّ أحاديثه في عيد الميلاد مثلاً، حول الزينة الخارجيّة للعيد، لا حول الطِّفل الإله المولود في مِذود. 

إنّ المؤمِن الّذي يواظِب على قراءة كلمة الله باستمرار، لا بدَّ أن يلاحظ تغييرًا في ذاته نتيجة تفاعله مع كلمة الله، وهذا ما سيظهر للآخرين المحيطين به، فيكون إشعاعًا في عالمٍ يفتقر إلى كلمة الله. على المؤمِن أن يترك بصمةً في هذا العالم تدلّ على إيمانه بالربّ يسوع، لا على انجرافه خَلف هذا العالم، فيترك العالم فيه بصماته. ولكن هذا لا يعني امتناع الإنسان عن التعبير عن فَرَحِه، فالإنسان هو كائنٌ يُعبِّر عن مشاعره جسديًّا، فمثلاً يُعبِّر الإنسان الحزين عن حُزنه، بالبكاء وبالانعزال عن الآخرين في حين أنَّ الإنسان الفَرِح، يعبّر عن سعادته بالابتسامة للآخرين، وبالقُبلَة الأخويّة لهم، وبضمِّهم إلى صدره.

 علينا ألّا ننسى الجَوهر في تعبيرنا الخارجيّ عن فَرَحِنا بالأعياد. إنَّ المجوس قد غيَّروا مسارَهم فعادوا إلى دِيارِهم، عند زيارتهم الطِّفل المولود، فهل يُعقَل ألّا يتمكّن حَدَث ميلاد الربّ يسوع من تغيير أيّ شيءٍ في داخِلنا؟! إنّ الربّ قد تركَ سماءه وتجسَّد بيننا، لأنّه أراد أن يكون قريبًا من الإنسان لا أن يبقى مجرَّد أفكارٍ ونظريّات. ولكنَّ البشر للأسف، شابهوا اليهود، فرَفضوا ربّ المجد بينهم، إذ أعادوه إلى السَّماء ليتمكّنوا من عيشِ حياتهم على هواهم متحرِّرين من الله وتعاليمه، محاوِلين إرضاءه ببعض الممارسات الدِّينيّة من حينٍ إلى آخر. وهذا ما يجعل السَّامعين غير مقتنعين بضرورة التَّوبة وأهميّتها، على عكس ما حَدَث مع اليهود في أُورشليم الّذين سَمِعوا كلام بطرس، واعتمد منهم ما يُقارب ثلاث آلافِ رَجُلٍ.

في عظته، دعا بطرس اليهود الحاضرين إلى التوبة، والاعتماد باسم يسوع المسيح. إنَّ مفهوم الإنسان لسرّ التوبة هو مفهومٌ خاطئٌ إذ لا ينظر الإنسان إلى الخطيئة إلّا نظرة سلبيّة، فكلمة “خطيئة”، تدفعه إلى التفكير أوّلاً، في الأمور السلبيّة، كالموت والعِقاب مثلاً. إنّ الإنسان الّذي ينظر إلى خطيئته بسلبيّة لن يتمكّن من تَخَطِّيها. إنّ كلمة “خطيئة”، عبريّة الأصل، وتعني “حَطَا”، أي أَخطَأ في إصابة الهَدَف الّذي يصبو إليه. إنّ كلّ أمرٍ ننظُر إليه نظرةً سلبيّة يبقى على حاله، أمّا الّذي ننظر إليه بإيجابيّة فَيَتحسَّن. على الإنسان أن ينظر بإيجابيّة إلى خطيئته على الرُّغم من مرارتها. 

في الكتاب المقدَّس، تُستَعمل صيغة النَّهي في ذِكر الوصايا: لا تقتل، لا تسرق؛ وإذا سُؤِل أحَدُ المؤمِنِين عن خطاياه، يكون الجواب بالصِّيغة الإيجابيّة، إذ يُخبرنا هذا الإنسان عن قِيامِه بهذا الأمر المخالِف لهذه الوصيّة أو تِلك، فيقول على سبيل المِثال إنّه سَرَق أو قَتَل. إنّ البعض قد يتساءل: كيف يمكننا أن ننظر إلى الخطيئة بإيجابيّة؟ فهل يتضمَّن ارتكابي للخطيئة إيجابيّات؟ نعم، إنّ لارتِكابنا الخطايا إيجابيّات، إذ يجعلنا نُدرِك أنَّ “لا إله إلّا الله”، أي أنّ لا أحد كاملٌ سوى الله، وأنَّ جميع البشر مُعرَّضون لارتكاب الخطايا لأنّهم جَبلةٌ ضعيفة معرَّضة للسُّقوط في الخطيئة في كلِّ آنٍ؛ وبالتّالي يُدرِك الإنسان أنّه بحاجة إلى مخلِّص هو يسوع المسيح، لمساعدته على التخلُص من خطاياه. 

إذًا، إنَّ نَظرتك السَّلبية إلى الخطيئة تقودك إلى التَّفكير في جهنَّم والموت الأبديّ، أمّا نَظرَتُكَ الإيجابيّة إلى الخطيئة فتقودك إلى المسيح يسوع المخلِّص. إنَّ نظرَتك الإيجابيّة إلى خطيئتك تدفَعُك إلى الاكتشاف بأنَّك بعيدٌ عن المخلِّص وبالتّالي تُعلِن عن رَغبتك بالعودة إلى الله، وهذا هو المعنى الحقيقيّ للتَّوبة. إنّ “التَّوبة”، هي كلمة عبريّة الأصل،”شابا”، وتعني عادَ، وبالتّالي التَّوبة هي العودة أو الرُّجوع إلى الله، لا اليأس والشُّعور بالإحباط جرّاء ارتِكابِنا الخطايا. 

إنّ خَوفَ الإنسان من الخطيئة يدفعه إلى رؤية الأمور بسلبيّة، فنراه خائفًا مِن الخطيئة بسبب خَوفِه من الموت، لأنّه ينسى سريعًا أنّ الربَّ يسوع قد غَلَبَ الموت بقيامته، وبالتّالي لم يَعُد للموت على المؤمِنِين من سُلطانٍ. إنّ الخطيئة تجعل الإنسان في حالةٍ غير لائقة لملاقاة الربّ، إذ تجعل ثيابه النَّاصعة الّتي نالها بالعِماد متَّسِخة. على المؤمِن ألّا يُضيِّع وَقته في هذه الحياة في البكاء على خطاياه، بل عليه الإسراع في تغيير مسيرته الأرضيّة لتُصبح متوافقة مع تعاليم الربّ. 

إنّ الإنسان يخاف من الخطيئة لأنّها تسبِّب له بالموت الأبديّ، فهل تَعلم أيّها المؤمِن أنّه بسبب خَوفِك من الموت، تَقَع في الخطيئة؟ إنّ خَوف الإنسان من الموت هو السَّبب الأساسيّ لارتكابه الخطيئة. إنَّ الإنسان يستطيع أن يتجنَّب الموت الّذي تسبِّبه له الخطيئة حين ينظر إليها بإيجابيّة، فيرى فيها وسيلةً تقوده إلى يسوع المسيح، مخلِّصه. إنّ الإنسان يرتَكبُ الخطيئة بسبب خَوفِه من الموت، فيكذِب مثلاً، مخافةَ أن يتعرَّض للعُزلة إذا فُضِحَ أَمرُهُ، والعُزلة هي إحدى صُوَر الموت. وهذا ما يؤكِّده بولس الرَّسول إذ يقول لنا إنّه بسبب خوفِنا من الموت، نجد أنفسَنا جميعًا تحت نِير العبوديّة (عب 2: 14). 

إذًا، خَوف الإنسان من الموت يدفعه إلى الوقوع في وَهمِ حماية نفسِه مِنَ الموت بارتِكابه الخطيئة. على الإنسان ألّا يخاف من الموت بعد الموت، إن كان لا يخاف الموت في هذه الحياة، ولكنَّه عليه الخوف من الموت حين يخاف من الموت في هذه الحياة، لأنّ خَوفَه هذا سيجعله في حالةِ اضطرابٍ داخليّ، وهذا سيؤدِّي إلى خَطئِه في العُنوان، أي إلى ارتِكابه الخطايا، وبالتّالي تُصبح التوبة أي العودة إلى الله أمرًا ضروريًّا. ولكن هذا لا يعني أنَّ على الإنسان أن يحبّ الموت، فالموت يبقى عدُّوًا للإنسان وسببًا في آلامه.

هذا ما يدعونا إليه هذا النَّص الإنجيليّ الّذي نناقِشه اليوم. إنَّ هذا الرَّجل الأعرج الجالس على باب الهَيكل، كان ينظر إلى وَضعِه نظرةً سلبيّة، إذ لم تَكن لديه حسب اعتقاده وسيلةٌ للخلاص، أي الاستمرار في هذه الحياة، سِوى باستعطائه المال من النّاس، إذ إنّه إنسانٌ عليلٌ لا يَقوى على العَمل. لقد طَلَب هذا الرَّجُل العليل مالاً من الرَّسولَين بطرس ويوحنّا، حين رآهما يدخُلان الهيكل، ولكنّ بطرس الرَّسول أجابه إنّه لا يملك مالاً وهو لا يستطيع أن يُعطيه إلّا يسوع المسيح. 

إنَّ الربَّ ينتظر منّا أن نُعطيه للآخرين. لا يستطيع الإنسانُ أن يُعطي الآخرين إلّا ما يَملِكُه، وهنا السؤال يُطرَح علينا: ماذا نُعطي الآخرين المحتاجين لِعطائنا؟ إنّ العطاء لا يكون بالضرورة عطاءً ماديًّا، فالإنسان يستطيع أن يُعطي الآخرين ابتسامةً، أو خدمة، أو سلامًا، أو فَرَحًا، أو كلمةً مُحيِّيَة. وإن كان الإنسان يدَّعي عدم امتلاكه لأيّ شيءٍ صالحٍ لإعطائه للآخرين، فهذا دليلٌ على نَظرته السَّلبيّة للأمور، وهنا السؤال يُطرَح: أين هو إيمانك أيّها الإنسان؟ 

إنّ إيمان الإنسان يَظهر للآخرين من خلال أعماله، لذا نستطيع القول: “أرِني إيمانَك في أعمالك”. إنَّ الإنسان الّذي ينظر إلى الأمور بإيجابيّة هو إنسانٌ جريءٌ، لأنّه يتحمّل مسؤوليّة أعماله، أمّا الإنسان الّذي ينظر بسلبيّة إلى الأمور، فهو إنسانٌ جبانٌ يسعى إلى رَمي المسؤوليّة في أخطائه على الآخرين. إنّ آدم هو مِثالٌ للإنسان الّذي رَفَضَ تَحمُّل مسؤوليّة ارتِكابه للخطيئة، إذ ألقى المسؤوليّة على حوّاء امرأته، وعلى الله الّذي أعطاه حوّاء؛ والمرأة ألقتها على الحيّة.

 لا يجوز لنا نحن المؤمِنِين إلقاء مسؤوليّة أخطائنا على الشِرير، مُتَنكِّرين لمسؤوليّتنا، فالشِّرير يُحاوِل إغواءنا، ولكنّه لا يستطيع اتِّخاذ القرارات عنّا. هذه هي الطبيعة البشريّة، إذ يحاول الكثيرون التهرُّب من مسؤوليّة أخطائهم، وتاريخ البشريّة يقدِّم لنا أدلَّةً على ذلك لا تُحصى ولا تُعَدّ. عندما نظر بطرس الرَّسول إلى وَضعهِ بسلبيّة، حين أُلقِيَ القبضُ على يسوع، أنكر معرفته بالربّ أمام الجواري في دار المحاكمة. وكذلك يهوذا، حين نظر إلى وَضعه بسلبيّة، حين باع يسوع بِثَلاثين من الفِضَّة، قرّر قَتل نفسه، فكان الموت نصيبَه. 

بعد قيامة الربّ يسوع، تمكّن بطرس من النَّظر إلى وَضعه بإيجابيّة، فتحمّل مسؤوليّة خطَئِه، فعاد إلى الربِّ تائبًا، فغفر له طالبًا منه الاهتمام بإخوته المؤمِنِين، أي الاهتمام بالكنيسة، وتبشير المسكونة كلِّها بكلمة الله. فانطلق بطرس الرَّسول في البشارة بكلمة الله، على الرُّغم من الصّعوبات الّتي واجهته، ناقلاً البشارة إلى أقاصي المسكونة، أي إلى روما، ومات فيها مصلوبًا عَقِبًا على رأس، سنة 67 ميلاديّة. 

كذلك بعد ارتداده إلى المسيحيّة، بشَّر بولس الرَّسول المسكونة كلِّها بكلمة الإنجيل، إلى أن وَصَل إلى روما، الّتي نال فيها إكليل الشَّهادة بموته مقطوع الرأس، سنة 67 ميلاديّة. إنّ هذَين الرَّسولَين، كما سائر الرُّسل، انطلقا للبشارة بقيامة الربّ، حين نَظرا بإيجابيّة إلى المسيح، أي إلى كلمة الله. إنّ رحمة الله لنا هي أكبر من خطايانا، لذا علينا ألّا نَقتَرب من سرّ التّوبة كَمَن يقوم بتسديد فواتيره، منتظِرين من الكاهن إعطاءنا لائحة بما يتوجّب علينا القيام به من أجل التعويض عن خطايانا. 

إنّ تفكيرنا هذا، هو تفكيرٌ يهوديّ: فاليَهود يقدِّمون الذبائح الحيوانيّة لله، من أجل استرضائه، طالِبِين منه مغفرة ذنوبهم؛ أمّا نحن، فقد استبْدَلْنا تلك الذبائح الحيوانيّة بمجموعة صلواتٍ نُتَمْتِمُها، في سبيل الحصول على رِضى الله. إنَّ تَمتَمة الصّلوات لا فائدة منها للمؤمِنِين إن كانوا لا يتأمّلون في كلماتها، ويحاولون تحقيق معانيها في حياتهم اليوميّة.

إنّ كلمة “أبّا”، هي كلمةٌ عبريّة، يستخِدمها الابن الأصغر في العائلة لمناداة أبيه في الجسد فقط. لقد استخدم الربُّ يسوع هذه العبارة لمناداة أبيه السماويّ، “أبّا”، إذ إنَّ الله هو حقًّا أباه. ولكنَّ الربَّ يسوع طلب منّا استخدام صرخته إلى الآب، ومناداة الله “أبّا”، لأنّه أراد إعطاءنا هويّة جديدة، هي صيرورتنا أبناءً لله. غير أنّنا للأسف، على الرُّغم من حصولِنا على هويّة البنوّة لله، لا نزال ننظر نظرةً سلبيّة لله، إذ لا نجد فيه إلّا إلهًا ديَّانًا يريد معاقَبَتنا على أخطائِنا. إنّ كلمة “أبّا”، يُطلِقها الابن تعبيرًا منه لأبيه عن مَدى شَوقه إليه. 

إنّ الربّ ينتظر سماع هذه الصَرخة من أبنائه، لأنّه يرغب في مشاركتهم إيَّاه المائدة السماويّة. لذلك، نحن نصرخ إلى الله الآب بصوتٍ واحدٍ، قائلِين له: “أبانا”، قَبْل اقترابنا مِن مائدته المقدَّسة، إذ إنّ هذه المائدة أُعِدَّت لله ولأبنائه فقط. إنّ الإنسان يدخل إلى الكنيسة عبدًا للخطيئة للمشاركة في الذبيحة الإلهيّة، ويخرج من الكنيسة ابنًا لله، إذ إنَّه شارك الله الآب وليمته السماويّة كابنٍ له. إنّ الله لا يهتمّ لخطاياك الكثيرة، بل هو يهتمّ لشَخصِك، وينتظر بشوق عودَتَك إليه ليُقبِّلك على عُنُقِك كما قبَّل الأب ابنه في مَثل الابن الضَّال، عند عودة هذا الأخير إلى بيت أبيه. 

إنّ الله قد أحبّ البشر حبًّا عظيمًا، لذا جعلهم أبناءً له، ولكنَّ الإنسان يرفضُ تلك البنوّة لله، مُفضِّلاً أن يكون عبدًا أو أجيرًا لله. وهذا ما نراه جلِيًّا في أثناء الذبيحة الإلهيّة إذ يرفض بعض المؤمِنِين التقرّب من سرّ المناولة المقدَّسة، بحجةّ عدم استحقاقهم لذلك. إنّ سرّ التوبة لا يقوم على تعداد مخالفتنا للوصايا الّتي حَفظناها منذ صِغَرِنا، لِطلب الغفران من الربّ، لأنَّ الربّ قد غَفَر لنا قَبْلَ اقترابِنا من كرسيّ الاعتراف، بل إن سرّ التَّوبة هو تعبيرٌ من الإنسان عن شعوره بعظمة محبّة الله له على الرُّغم من خطاياه، لذا يتقدَّم المؤمِن من كرسيّ الاعتراف. إنّ نظرَتَنا السّلبيّة إلى الله تساهم في بقائنا في عبوديَّتنا للخطيئة، أمّا نظرَتنا الإيجابيّة له فتساهم في تحرُّرِنا وخلاصِنا منها.

لم يَهِب الرَّسولان بطرس ويوحنّا المال لهذا الرَّجل المريض، بل وهباه الربَّ يسوع المسيح فنال الرَّجلُ الشِّفاء التّام، وقد عبّر هذا الأخير عن فَرحَته هذه بِدُخوله إلى الهيكل، أي بمتابعة مسيرته الأرضيّة سائرًا في هَدي كلمة الله، على مِثال الرُّسُل. كان هذا الرَّجل المريض ينظر إلى وَضعه سلبيًّا، فَلَم يجد له حلّاً للاستمرار في العيش سوى استعطاء المال مِنَ الآخرين، ولكن حين نظر إلى حالته بإيجابيّة أي انطلاقًا مِن يسوع المسيح، حَصَل على الشِّفاء، فتغيَّرت مسيرته. هكذا علينا نحن أيضًا أن نقرأ الكتاب المقدَّس بإيجابيّة، لنتمكَّن من النَّظر إلى خطيئتنا بإيجابيّة، فنتوب إلى الله طالِبِين منه تحريرنا من كلّ ما يستعبِدُنا. 

إنّ الخطيئة قد يرتكبها كثيرون، ولكن نظرَتنا إلى الخطيئة هي الّتي تقودنا إلى الموت الأبديّ أو إلى الله. في المعموديّة، يمنح الله الإنسان المعمَّد عينَين لا تريان إلّا الإيجابيّة من حَوله، بدلاً من عَينَيه السلبِيَتَين. ولكنَّ الإنسان للأسف، يحنّ إلى عينَيه السَّلبِيَتَين فلا يرى في الآخَرين إلّا سيئاتهم، فيحكم عليهم ولا يقبل توبتهم، على الرُّغم من قبول الربّ توبَتهم الصّادقة. إنّ الرَّحمة هي صِفة إلهيّة لا صِفة بشريّة. ولكنَّ الإنسان يستطيع أن يحصل على هذه الصِفة الإلهيّة دون أن تتحوَّل الرَّحمة إلى صِفة بشريّة، عندما يختبر الإنسان رحمة الله فيتذوَّقها ويفرح بها، فيسعى إلى ممارستها مع الآخرين.

في زمن العيد هذا، تدعونا الكنيسة إلى عيش جوهر العيد من خلال نَظرَتنا الإيجابيّة إلى الآخرين المحتاجين لعطائنا، فنساهم في تلبيَة حاجاتهم، كلٌّ على قدرِ استطاعَتِه. إنَّ مساعدتنا للآخرين تساهم في ولادة المخلِّص في عالَمِنا الّذي يئِنُّ من الظّلم والفقر والجوع. في ميلاد الربّ، عبّرت البشريّة كلُّها عن فَرَحِها بولادة المخلِّص، فقدَّمت له الهدايا: فأعطت السَّماء نجمًا، والأرض منزلاً، والبشريّة مريم العذراء، والملائكة أنشودةً، والمجوس هدايا أرضيّة. 

إذًا، الجميع قد قدَّم هدايا للمولود الإله، والسؤال الّذي يُطرَح: ما هي هديّتك للمولود في هذا العيد المبارك، أستبقى متفرِّجًا لامباليًا أمام هذا الحدث العظيم؟ 

فلتكن إخوتي، هديّتنا للمولود في هذا العيد نظرَتنا الإيجابيّة إلى الأمور، فتنتقل هذه النَّظرة الإيجابيّة إلى المحيطين بنا. إنَّ كلّ إنسانٍ يُعطي على قَدرِ طاقته، لذا لا يحقّ لنا مراقبة عطاءات النّاس للمحتاجين، وإدانتهم على عطائهم. فلنتخَلَّ إخوتي، في هذا العيد عن رُوح الإدانة للآخرين، ولنسعَ إلى تشجيع الآخرين على تحسين نواقصهم، عامِلين في الوقت نفسه على تحسين نواقصِنا، فنكون مستعدِّين لمجيء المخلِّص وولادته في قلوبنا في هذا العيد.

ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ مِن قِبَلِنا. 

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp