تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“سِفر أعمال الرّسل – الإصحاح 4:1-18”
النصّ الإنجيليّ:
“وَبَينَما هُما يُخاطِبانِ الشَّعبَ، أقبَلَ عَلَيْهما الكَهَنَةُ وقائِدُ جُنْدِ الهَيْكَلِ والصَّدُّوقِيِّونَ، مُتَضَجِّرينَ مِن تَعلِيمِهِما الشَّعبَ، ونِدائِهما في يَسوعَ بالقِيامَةِ مِنَ الأمواتِ. فَأَلْقَوا عَلَيْهِما الأَيادِيَ وَوَضَعُوهُما في حَبْسٍ إلى الغَدِ، لأنَّهُ كانَ قَدْ صارَ الـمَساءُ. وَكَثيرُونَ مِنَ الّذينَ سَمِعُوا الكَلِمَةَ آمَنُوا، وصارَ عَدَدُ الرِّجالِ نَحوَ خَمسَةِ آلافٍ. وَحَدَثَ في الغَدِ أنَّ رُؤسَاءَهُم وشُيوخَهم وكَتَبَتَهُم اجْتَمَعُوا إلى أُورَشَليمَ مَعَ حَنَّانَ رَئيسِ الكَهَنَةِ وقَيافا ويُوحنَّا والإِسْكَندَرِ، وَجَميعَ الّذينَ كانوا مِن عَشيرَةِ رُؤسَاءِ الكَهَنَةِ. ولَمَّا أَقامُوهُما في الوَسْطِ، جَعَلُوا يَسأَلُونَهما: “بِأَيَّةِ قُوَّةٍ وبِأَيِّ اسْمٍ صَنَعْتُما أنتُما هذا؟”. حِينَئِذٍ امتَلَأَ بُطرُسُ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ وقالَ لَهُم: “يا رُؤساءَ الشَّعبِ وشُيوخَ إسرائيلَ، إنْ كُنَّا نُفحَصُ اليَومَ عَنْ إحْسَانٍ إلى إنسانٍ سَقِيمٍ، بِماذا شُفِيَ هذا، فَليَكُن مَعلُومًا عِنْدَ جَميعِكُم وجَميعِ شَعبِ إسرائيلَ، أَنَّهُ باسمِ يَسوعَ النَّاصِريّ، الّذي صَلَبْتُموه أَنتُم، الّذي أَقَامَهُ اللهُ مِن الأمواتِ، بِذاكَ وَقَفَ هذا أمامَكُم صَحيحًا. هذا هُوَ: الحَجَرُ الّذي احْتَقَرتُمُوهُ أيُّها البنّاؤونَ، الّذي صارَ رَأسَ الزّاوِيَةِ. وَلَيسَ بِأَحَدٍ غَيرِهِ الخلاصُ. لأنْ لَيسَ اسمٌ آخَرُ تَحتَ السَّماءِ، قَدْ أُعطِيَ بينَ النَّاسِ، بِهِ يَنبَغي أنْ نَخلُصَ”. فَلَمَّا رَأَوا مُجاهَرَةَ بُطرُسَ ويُوحنَّا، وَوَجَدوا أَنَّهما إنسانانِ عَديما العِلمِ وعامِيَّانِ، تَعَجَبّوا. فَعَرَفُوهما أنَّهما كانا مَع يسوعَ. وَلَكنْ إذْ نَظَرُوا الإنسانَ الّذي شُفِيَ واقِفًا مَعَهما، لَم يَكُنْ لَهم شَيءٌ يُناقِضونَ بِه. فَأَمَرُوهُما أن يَخْرُجا إلى خارِجِ الـمَجمَعِ، وتآمَرُوا فيما بَينَهم قائِلِينَ: “ماذا نَفعَلُ بِهَذَينِ الرَّجُلَينِ؟ لأنَّه ظاهِرٌ لِجَميعِ سُكّانِ أُورَشَليمَ أنَّ آيَةً مَعلُومَةً قَدْ جَرَتْ بِأَيدِيهِما، ولا نَقْدِرُ أن نُنْكِرَ. ولَكِنْ لِئَلّا تَشِيعَ أَكثَرَ في الشَّعبِ، لنُهَدِّدَهما تَهديدًا أَنْ لا يُكلِّما أَحَدًا مِنَ النَّاسِ فيما بَعْدُ بهَذا الاسمِ”. فَدَعُوهما وَأَوصُوهُما أَنْ لا يَنطِقا البتَّةَ، ولا يُعلِّما باسمِ يَسوعَ”.
شرح النّص الإنجيليّ:
يُخبرنا هذا الإصحاح عن حادثةَ شِفاء رَجلٍ سَقيمٍ على يدِ الرَّسولَين بطرس ويُوحنّا، وهي الحادثة الأولى مِن نوعها بعد موت يسوع وقيامته، الّتي تؤدِّي إلى مواجهة مباشرة بين رؤساء الكهنة والشيوخ والكتَبَة مع الرَّسولَين بطرس ويوحنّا. على إثر هذا الشِّفاء، تمّ إلقاء القَبض على الرَّسولَين ومحاكمَتِهما، وهنا نلاحظ تشابُهًا كبيرًا بين محاكمة هذَين الرَّسولَين ومحاكمة يسوع: فبَعد إلقاء القبض على يسوع، أُخضِع للمحاكمة على يد رؤساء اليهود، وقد وَضَعوه في وَسَط المجمع للحُكِم والتآمر عليه، في سبيل قَتلِه؛ وهذا ما حَدَثَ تمامًا مع الرُّسولَين، إذ تمَّ إلقاء القبض عليهما، ثمّ وُضِعا في وَسَط المجمَع أمام رؤساء اليهود، للحُكم والتآمُر عليهما.
من خلال هذا الإصحاح، أراد كاتب هذا السِّفر، الإنجيليّ لوقا، إلقاء الضَّوء على ما يلي: أوّلاً، لا تلميذَ أفضَل مِن معلِّمه، فكما تعرَّض يسوع للمحاكمة والموت، كذلك سيتعرَّض الرُّسل مِن بَعدِه إلى الاضطهادات على يد اليهود؛ وثانيًا، إنّ كلام يسوع الّذي قال لتلاميذه إنّهم سيقومون بأعمال أعظم من الّتي قام بها هو نفسه قد تحقَّق، وما هذه الأعجوبة إلّا دليل على ذلك.
يطرح علينا هذا النَّص إشكاليّة أساسيّة في البشارة: وهي النُّطق باسم يسوع المسيح. إنّ انزعاج اليهود مِن هَذين الرَّسولَين لم يكن بسبب الأعجوبة الّتي تمَّت بواسطتهما، إنّما بسبب ذِكِرِهما لاسم يسوع، إذ يشكِّل هذا الاسم سبَبَ عثَرةٍ لا لليهود وحسب، إنّما لكلِّ إنسانٍ وخاصّةً المسيحيِّين في يومِنا هذا.
إنّ فاعليّة اسم “يسوع” هي كـ “سُوسَة” تخرِق كيان الإنسان لتُغيِّر جوهره، فيتحوّل من حالة الخطيئة إلى حالة النِّعمة. إنَّ عالمنا اليوم، مع ما وَصَل إليه مِن حالةِ فسادٍ، هو دليلٌ واضحٌ على أنَّ يسوع هو سبب عَثَرةٍ له، ولذلك قِيل فيه إنّه “حجر الزاوية الّذي رذله البنّاؤون”. إنّ حجر الزاوية هو أساسيّ في أيِّ بُنيان، وبالتّالي لا يمكن للإنسان أن يتجاهَلَهُ، لأنّه إمّا أنْ يَقع هذا الحجر على الإنسان فيَقتُلَه، وإمّا أنْ يقع الإنسان على هذا الحجر فيتهشَّم جسده.
إذًا، لا يُمكِن للإنسان أن يتجاهَل “حجر الزاوية”، أي يسوع، وبالتّالي لا بُدَّ له من مواجهته: فإمّا أن يتَّخِذ الإنسان القرار بإلغاء هذا الحجر من حياته، فيتَّخِذ موقف رؤساء اليهود من الربّ، ويحكم عليه بالصَّلب والموت، وتكون حياته بعيدةً عن الله؛ وإمّا أنْ يَقبَل بوجود الربِّ في حياته، فيسمح للربّ بإجراء التغييرات الدّاخلية في أعماقه، وتكون حياته متوافقة مع مشيئة الربِّ.
إنّ ما يميِّز المؤمِن عن سواه من البشر هو أنّه غير مميَّزٍ عنهم، إذ إنّه يُشابهم في جبلته الضَّعيفة، فهو معرَّض على مِثالهم للوقوع في الخطيئة، ولكنّ ميزته تكمن في قبوله المسيح، الّذي جَعل جميع البشر متساوين أمام الله، ولهم جميعًا الحقّ في الخلاص، على الرُّغم من انتماءاتهم البشريّة المختلفة.
إنّ مشكلة الإنسان الأساسيّة هي سَعْيه إلى إظهار تمايزِه عن الآخرين، رافضًا مساواته معهم، لذا يحاول إلقاء مسؤولية أخطائه على الآخرين متهرِّبًا من الاعتراف بأنّه ضعيفٌ وخاطِئٌ، مُظهرًا ذاته على الدَّوام مدَّعيًا تفوّقه عليهم. ما مِن أحدٍ معصومٌ عن إلغاء يسوع من حياته، فجميعنا قد نُلغيه من حياتنا نتيجة صعوباتِ الحياة الّتي نواجهها.
إنّ تصرُّفاتنا مع الآخرين تدلّ على وجود يسوع في حياتنا أو عَدَمِه: فوجود الربِّ في حياتنا لا بدَّ له أن ينعكس تغييرًا جذريًّا في داخل كياننا، إذ نُصبح من طِينة يسوع، فنَتعامَل مع الآخرين كما تَعامَل يسوع معهم، فنرحَم الخاطئ ونساعِد المحتاج، ولا نُدينُهم. إنّ الإنسان الّذي سَمح للربّ بالدُّخول إلى أعماقه وتَغييره مِنَ الدَّاخل، لا يُوبِّخ الآخر بعباراتٍ جارحةٍ، بل بأسلوبٍ لطيف، يُعبِّر عن محبَّته له، ممّا يدفع الخاطئ إلى التَّوبة عن طريقه الضَّال والعودة إلى الله.
إنّ عدم توبة الخاطئ، على الرُّغم من إرشادِك له إلى الطَريق الصَّحيح، يعود إلى سَببَين: أوّلهما، هو أسلوبك في نَقل البشارة إليه، إذ قد يكون سببًا في نفور الخاطئ منك ورَفضِه للتَّوبة؛ أمّا ثانيهما، فقَد يكون إصرارُ الخاطئ نفسُه على البقاء في خطيئته على الرُّغم مِن تذكيرك له بكلمة الله. يكمن دَورُ المؤمِن في إعلانه كلمة الله للآخر من دون إدانته على عدم قبوله بها وبالتّالي عدم إعلان هذا الأخير توبته؛ إذ قد يتوب هذا الإنسان الخاطئ بفَضل مُبَشِّرٍ آخر، نجح من خلال أسلوبه المختلِف عنك في إيصال البشارة إلى قَلب هذا الإنسان المحتاج إليها، فتَمَكَّن هذا الأخير من إعلان توبته. إنّ امتناع المؤمِن عن إدانة الآخرين على سيِّئاتهم، هو دليلٌ قاطع على استحواذ الله على قلب هذا المؤمِن وتَفاعُلِه مع كلمة الله، فالمؤمِن الحقيقيّ يتَّخِذ مِنَ المسيح مِثالاً له.
إنّ المؤمِن الّذي قَبِل المسيح في حياته، يتحوَّل إلى إنجيلٍ متحرِّك ينقل البشارة إلى الآخرين باندفاعٍ وعَزمٍ، غيرَ آبهٍ لخطاياه الكثيرة، لأنّه يعلَم أنّ رَحمة الله هي أكبر من خطاياه.
إنّ رؤساء اليهود الحاضرين في الـمَجمَع، منعوا الرَّسولَين مِن ذِكر اسم يسوع، لأنّ إعلانهما البشارة بالمسيح، قد يؤدِّي إلى زرع الرَّغبة عند السَّامِعين لهما، باتِّباع المسيح وتَرْكِ اليهوديّة. إنَّ صراع الإنسان الدائم على مرّ العصور مبنيّ على اختيار الإنسان ما بين المسيح وآلهةٍ أخرى، إذ لا يمكن للإنسان اتِّباع المسيح واتِّباع آلهةٍ وثنيّة في الوَقت نفسه.
إنّ الشّرير لا ينفكّ يَنَصُبُ الأفخاخ للمؤمِن، ومِنها: حَثُّهم على التَّشكيك في قُدرَتِهم على نَقل البشارة للآخرين بسبب خطاياهم. عندما يختار رُسُلَه، لا ينظر الله إلى مسيرة الإنسان ما إذا كانت صالحة أم لا، لأنّ ما يهُمُّ الله هو إيصال البشارة إلى جميع المسكونة، ليتمكَّن الجميع من الحصول على الخلاص. فلو كان الله ينتظر وصول الإنسان إلى مرحلة القداسة، لما كانت البشارة قد تمكَّنت من الوصول إلينا، بدليل أنّه اختار ذاك الّذي أنكَره، أي بطرس، ليكون رَسولاً لكلمة الله، ومُبَشِّرًا بقيامة المسيح من الموت في كلّ المسكونة.
لقد آمنَّا بقيامة المسيح نتيجة تَناقُل هذا الخبر المفرح شفهيًّا عبر العصور، أي من أيّام الرُّسل، الّذين كانوا شهودًا على هذا الحدث العظيم إلى يومِنا هذا. وبالتّالي، كان من الضروريّ أن يَذكُر الرُّسل اسم “يسوع” أمام الآخرين لِتصل إليهم البشارة، ولهذا السّبب أيضًا طَلَبَ اليهودُ من الرُّسل الامتناع عن ذِكر هذا الاسم. في هذا النَّص، نلاحظ أنّ رئيسَي اليهود، حنّان وقيافا، اللَّذين كانا حاضِرَين في محاكمة يسوع، كانا حاضِرَين أيضًا في محاكمة الرَّسولَين، بطرس ويوحنّا. ولكنّنا نلاحظ وجود شخصٍ يونانيّ لم يكن موجودًا في أثناء محاكمة يسوع، وهو “الإسكَندَر”، وأراد بذلك كاتب هذا السِّفر أن يقول لنا إنّ كلَّ مَن يُعيق مسيرتك التبشيريّة بالإنجيل، هو في الحقيقة متآمِرٌ ضدَّ الربِّ يسوع، يهوديًّا كان أم يونانيّ، في حين أنّ مَن يقبل اسم الربِّ في حياته، ينال الخلاص.
قبل مجيء الربِّ يسوع إلى أرضِنا،كان اليهود يميِّزون البشر استنادًا إلى قِسمَةٍ عاموديّة يعتمدونها، فيقولون هذا يهوديّ، وهذا غير يهوديّ. أمّا يسوع، فقد غيَّر هذا التقسيم بمجيئه، إذ اعتمد قِسمَةً أفقيّة بين البشر، تقوم على جَعْلِ جميع البشر متساوين في الحصول على الخلاص، ولكنّهم يتميَّزون عن بعضهم البعض استنادًا على قرارهم الحرّ باتِّباع المسيح أم لا، وبالتّالي يُقسَم البشر بالنسبة إلى يسوع، فيُقال هذا قَد قَبِلَ الله في حياته أمّا ذاك فقَد رَفَضَه. لقد تآمَر اليهود على يسوع وقرَّروا قَتَله لأنّهم لم يَقبلوا بقِسمَته الجديدة للبشر الّتي جعلت اليهود متساوين مع الآخرين في حصولهم على الخلاص، وقد كرَّس الربُّ هذه القِسمة الجديدة بموته على الصَّليب.
إنّ لقاء الإنسان بالربّ يسوع، يؤدِّي إلى تغييراتٍ جذريّة في حياة هذا الإنسان، فإنْ لم تتغيَّر حياته، فهذا دليلٌ على أنّه لم يلتقِ فِعلاً بالربِّ يسوع، إنّما بِوَهمٍ قد نسجَه الإنسان في ذهنِه، وهو في الحقيقة صَنَمٌ “له آذانٌ ولا يسمع، له فَم ولا يتكلَّم، له عينان ولكنّه لا يرى”. إنّ ترداد الصّلوات دون التوقُّف عند معناها، لا تجعل الإنسانَ مسيحيًّا حقيقيًّا، بل يُصبح كذلك عندما يسمح للربّ بإجراء التغييرات الجذريّة في حياته، فتُصبح هذه الأخيرة منسجمة مع تعاليم الإنجيل.
إنّ المؤمِن لا يتقرَّب من سرّ التوبة ليَطلب من الربِّ أن يغفر له خطاياه، بل يتقرَّب المؤمِن من هذا السِّر اعترافًا منه برحمة الله الّتي غَفَرت له كل خطاياه قَبْل أن يَذكُرها أمام الكاهن. إنّ الموت هو قِسمٌ من حياة الإنسان، فالمؤمِن لا يموت لأنّه سيقوم مع المسيح بعد موته الجسديّ، بل هو يموت لأنّه إنسانٌ قائم، لأنَّ المسيح قد سَبَق وأعطى القيامة للمؤمِنِين به، بموته على الصَّليب.
غير أن مشكلة الإنسان تكمن في موته وعدم تمكُّنه من اختبار القيامة على الرُّغم من حدوثها. لقد أنكَر اليهود حدثَ قيامة المسيح، من خلال بثِّ إشاعة تَعَرُّض جسد المسيح للسّرقة، وهذا الأمر كان شائعًا في تلك الأيّام، وبالتّالي لا يمكننا اعتبار القبر الفارغ دليلاً على قيامة المسيح إلّا لأنّنا آمنّا بها من خلال بشارة الرُّسل الّتي وَصَلت إلينا.
إنَّ الرَّسولَين بطرس ويوحنّا قد تعرَّضا للتهديد من قِبَل رؤساء اليهود، إذ مَنعوهما من ذِكر اسم الربِّ يسوع مجدًّدا، غير أنّ الرّسولَين لم ينصاعا لهذا القرار، فتابعا عملهما التبشيريّ باسم يسوع، غير مكترِثَين للاضطهادات الّتي قد تواجههما في نَقلِهما البشارة للآخرِين.
في رسالته إلى أهل غلاطية، يحذِّرنا بولس الرَّسول من العودة إلى حياة الجسد، بعد أن نِلنا الحياة بالرُّوح، من خلال إيماننا بالمسيح. وبالتّالي، على مسيرة حياة المؤمِن أن تكون مبنيّة لا على الشرائع اليهوديّة، بل على شريعة المحبّة الّتي أعطانا إيّاها الربّ يسوع، مُتَذكِّرين على الدّوام عَمَل الرُّوح القدس في حياتنا. إنَّ اليهود لم يعترضوا على قيام الرَّسولَين بشفاء الرَّجل المريض، فالأعاجيب كانت موجودة في تلك الأيّام، ولكن ما أثار غيظ اليهود هو تبشير الرُّسل باسم يسوع وإيمان اليهود به.
إنّ الاسم يشير إلى حضور الإنسان المذكور في أذهان سامِعيه، فيتذكَّرون شكله الخارجيّ في غيابه عنهم بالجسد، كما يتذكَّرون كلّ تاريخ معرفتهم به مع ما تضمَّنه مِن سيِّئات وحسنات. ولذا حين نصلِّي صلاة الأبانا، قائِلِين “ليتقدَّس اسمك”، لا نقصد بذلك إضافةَ قداسةٍ على اسم الله القدُّوس من خلال تردادِنا لهذه الصّلاة، بل نقصِد بذلك استحضار كلّ تاريخ الله المقدَّس في حياتِنا. لقد ظنّ اليهود أنّهم استطاعوا إلغاء اسم يسوع من الوجود عندما علّقوه على الصّليب، غير أنّهم فَشِلوا في ذلك، إذ ذاع صيته بين المؤمِنِين بعد قيامته من الموت.
فحاول اليهود مرّة جديدة إلغاء المسيح من خلال مَنعِ الرَّسولَين مِن ترداد هذا الاسم على شِفاهم، ولكنّهم أيضًا لم يفلَحوا في ذلك، إذ يقول لنا النَّص أنّ الرَّسولَين استمرّا في المجاهرة بهذا الاسم. إنّ الربَّ قد تجسَّد في أرضنا، وشابهنا في كلّ شيء، ليمَنحنا الحياة الأبديّة، غير أنّنا كما اليهود، نحاول للأسف إعادة المسيح إلى سمائه، طالبِين منه ألّا يتدخلّ في شؤوننا الأرضيّة الخاصّة.
إنّ إنسانَنا اليوم، للأسف، يقوم بإصدار الفتاوى الّتي تتطابق مع مشيئته زاعمًا أنّها تتوافق مع شريعة الله المقدَّسة، فيحكُم على هذا بأنّه خاطئ، وعلى ذلك بأنّه بارّ. لدى إصداره هذه الفتاوى، يشعر الإنسان بأنّه أصبح مرجعيّة للآخرين، غير أنّه في الحقيقة قد أعاد الشَّعب إلى حياة العبوديّة الّتي حرّرهم منها الربّ يسوع بموته على الصّليب، جاعلاً من نفسه سيِّدًا على البشريّة. في إنجيل متّى، تمّ ذِكر ثماني عشرة أعجوبة قام بها يسوع، نِصْفُها مذكور في إصحاحَين فقط هما الإصحاح الثّامن، والإصحاح التّاسع، وهناك أربع أعاجيب قام بها مع اليهود، وأربع مع الوثنيّين وأعجوبة واحدة لليهود والوثنيّين معًا هي شفاء ابنة يائيرس وشفاء نازفة الدَّم.
إنّ الخُرس والبُكم الّذين شفاهم يسوع يرمزون إلى الشَّعب الوثنيّ، لأنّهم لا يستطيعون البشارة بالمسيح لأنَّهم لم يسمَعوا بها مِن قَبل، وبشفاء الربّ لهم حرّرهم، فأصبح بإمكانهم الإعلان عن اختبارهم معه. أمّا العُميان الّذي شفاهم الربُّ يسوع فيرمزون إلى اليهود، الّذين عاينوا مجد الله من خلال أقوال يسوع وأفعاله، ولكنّهم لم يتمكّنوا من معرفته.
لقد طلب اليهود من الرَّسولَين عدم التلّفظ باسم يسوع، كي لا يتمكّن الشَّعب من الإيمان بالربّ وإعلان توبته. لقد فضَّل رؤساء اليهود إعادة الشَّعب إلى حالة الوثنيّة بدلاً من قبولهم الخلاص. إنّ الحيّة الّتي كانت سببًا في وقوع آدم في الخطيئة، هي حيوانٌ أطرَش، وبالتّالي ترمز إلى كلّ إنسان يرفض سماع كلمة الله ويرفض التّوبة إلى الله.
ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.