تفسير الكتاب المقدّس،

الأب ابراهيم سعد،

“سِفر أعمال الرّسل – الإصحاح الخامس” 

النصّ الإنجيليّ:

“وَرَجُلٌ اسْمُهُ حَنانِيَّا، وامْرَأَتُهُ سَفِّيرَةُ، باعَ مُلْكًا واخْتَلَسَ مِنَ الثَّمَنِ، وَامْرَأَتُهُ لَـهَا خَبَرُ ذَلِكَ، وَأَتى بِجُزءٍ وَوَضَعَهُ عِندَ أَرجُلِ الرُّسُلِ. فقَالَ بُطرُسُ: “يا حَنَانِيَّا، لِـمَاذا مَلَأَ الشَّيطانُ قَلبَكَ لِتَكذِبَ على الرُّوحِ القُدُسِ وتَختَلِسَ مِن ثَمَنِ الحَقْلِ؟ أَلَيْسَ وَهوَ باقٍ كان يَبقى لَكَ؟ وَلَمَّا بِيْعَ، أَلَم يَكُنْ في سُلطانِكَ؟ فَما بَالُكَ وَضَعْتَ في قَلبِكَ هذا الأَمْرَ؟ أَنْتَ لَمْ تَكذِبْ على النَّاسِ بَلْ على اللهِ”. فَلَمَّا سَمِعَ حَنانِيَّا هذا الكَلامَ وَقَعَ وماتَ. وَصارَ خَوفٌ عَظيمٌ على جَميعِ الَّذينَ سَمِعُوا بِذَلِكَ. فَنَهَضَ الأحْداثُ وَلَفُّوهُ وَحَمَلُوهُ خارِجًا وَدَفَنُوهُ. ثُمَّ حَدَثَ بَعْدَ مُدَّةِ نَحْوِ ثَلاثِ ساعاتٍ، أنَّ امْرَأَتَهُ دَخَلَتْ، وَلَيْسَ لَـهَا خَبَرُ ما جَرَى. فَأَجابَها بُطرُسُ: “قُولِـي لي: أَبِهَذَا الـمِقْدارِ بِعْتُما الحَقْلَ؟ فَقَالَتْ: “نَعَمْ، بِهَذا المِقْدارِ”. فَقالَ لَـها بُطرُسُ: “ما بَالُكُما اتَّفَقْتُما على تَجرِبَةِ رُوحِ الربِّ؟ هُوَذا أَرْجُلُ الّذِينَ دَفَنُوا رَجُلَكِ على البابِ، وَسَيَحمِلُونَكِ خارِجًا”. فَوَقَعَتْ في الحالِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَمَاتَتْ. فَدَخَل الشَّبابُ وَوَجَدُوها مَيْتَةً، فَحَمَلُوها خارِجًا وَدَفَنُوها بِجانِبِ رَجُلِها. فَصَارَ خَوفٌ عَظيمٌ على جَميعِ الكَنيسَةِ وعلى جَميعِ الّذينَ سَمِعُوا بِذَلِكَ. وَجَرَتْ على أَيدِي الرُّسُلِ آياتٌ وعَجائِبُ كَثيرَةٌ في الشَّعبِ. وكانَ الجَميعُ بِنَفسٍ واحِدَةٍ في رِواقِ سُلَيْمانَ. وأَمَّا الآخَرُونَ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُم يَجْسُرُ أَنْ يَلتَصِقَ بِهِمْ، لَكِنْ كانَ الشَّعْبُ يُعَظِّمُهُم. 

وكانَ مُؤمِنُونَ يَنضَمُّونَ للرَبِّ أَكْثَرَ، جَماهِيرُ مِنْ رِجال ونِسَاءٍ، حَتَّى إنَّهُم كانوا يَحمِلُونَ الـمَرضَى خارِجًا في الشَّوارِعِ وَيَضَعُونَهم على فُرُشٍ، حتّى إذا جاءَ بُطرُسُ يُخيِّمُ وَلَوْ ظِلُّهُ على أَحَدٍ مِنْهُم. واجْتَمَعَ جُمهُورُ الـمُدُنِ الـمُحيطَةِ إلى أُورَشَليمَ حامِلِينَ مَرضَى ومُعَذَّبينَ مِن أرواحٍ نَجِسَةٍ، وكانوا يُبْرَأُونَ جَميعُهم. فَقَامَ رَئيسُ الكَهَنَةِ وَجَميعُ الّذِينَ مَعَهُ، الّذينَ هُمْ شِيعَةُ الصَّدُّوقِيِّين، وامْتَلَأوا غَيْرَةً فَأَلقَوا أَيْدِيَهُم على الرُّسُلِ وَوَضَعُوهُم في حَبْسِ العَامَّةِ. وَلَكِنَّ مَلاكَ الربِّ في اللَّيلِ فَتَحَ أبوابَ السِّجْنِ وَأَخْرَجَهُمْ وقَالَ: “اذْهَبُوا قِفُوا وَكَلِّمُوا الشَّعْبَ في الهَيْكَلِ بِجَميعِ كَلامِ هذه الحياةِ”. فَلَمَّا سَمِعُوا دَخَلُوا الهَيكَلَ نَحْوَ الصُّبحِ وَجَعَلُوا يُعلِّمُونَ. ثُمَّ جاءَ رَئيسُ الكَهَنَةِ والَّذينَ مَعَهُ، ودَعَوُا الـمَجمَعْ وَكُلَّ مَشْيَخَةِ بَنِي إسرائِيلَ، فأَرْسَلُوا إلى الحَبْسِ ليُؤتَى بِهم. 

وَلَكِنَّ الخُدَّامَ لَمَّا جاءُوا لَمْ يَجِدُوهُم في السِّجْنِ، فَرَجِعُوا وَأَخْبَرُوا قائِلِينَ: “إنَّنا وَجَدْنا الحَبْسَ مُغلَقًا بِكُلِّ حِرْصٍ، والحُرَّاسَ واقِفِينَ خارِجًا أمامَ الأَبوابِ، ولَكِنْ لَمَّا فَتَحْنا لَمْ نَجِدْ في الدَّاخِلِ أَحَدًا”. فَلَمّا سَمِعَ الكاهِنُ وقائِدُ جُندِ الهَيْكَلِ وَرُؤساءُ الكَهَنَةِ هَذِه الأَقوالَ، ارْتابُوا مِنْ جِهَتِهِم: ما عَسَى أَن يَصيرَ هَذَا؟ ثُمَّ جاءَ واحِدٌ وَأَخْبَرَهُم قائِلاً: “هُوَذَا الرِّجالُ الّذينَ وَضَعْتُموهُم في السِّجنِ هُم في الهَيكَلِ واقِفِينَ يُعَلِّمُونَ الشَّعبَ!”. حِيْنَئِذٍ مَضَى قائِدُ الجُندِ مع الخُدَّامِ، فَأَحْضَرَهُم لا بِعُنفٍ، لأنَّهُم كانوا يَخافُونَ الشَّعبَ لِئَلّا يُرجَموا. فَلَمَّا أَحضَرُوهُم أَوقَفُوهُم في الـمَجمَعِ. فَسَأَلَهم رَئيسُ الكَهَنَةِ قائِلاً: “أَمَا أَوصَيْناكُم وَصِيَّةً أَنْ لا تُعلِّمُوا بِهذا الاسْمِ؟ وها أَنْتُم قَدْ مَلَأتُم أُورَشَليمَ بِتَعلِيمِكُم، وتُريدُونَ أَنْ تَجْلِبُوا عَليْنا دَمَ هَذا الإِنسانِ”. 

فَأَجابَ بُطرُسُ وَالرُّسُلُ وَقالُوا: “يَنْبَغي أَنْ يُطاعَ اللهُ أَكثَرَ مِنَ النَّاسِ. إلَهُ آبائِنا أَقامَ يَسُوعَ الّذي أَنْتُم قَتَلْتُموه مُعَلِّقِينَ إيَّاهُ على خَشَبَةٍ. هذا رَفَّعَهُ اللهُ بِيَمِينِهِ رَئيسًا ومُخلِّصًا، ليُعطِيَ إسرائِيلَ التَّوبَةَ وغُفرانَ الخَطايا. وَنَحنُ شُهودٌ لَهُ بِهذِهِ الأُمورِ، والرُّوحُ القُدُسُ أَيضًا، الّذي أَعطاهُ اللهُ للَّذينَ يُطِيعُونَهُ”. فَلَمّا سَمِعوا حَنِقوا، وَجَعَلُوا يَتَشاوَرُونَ أَنْ يَقتِلُوهُم. فَقَامَ في الـمَجمَعِ رَجُلٌ فَرِّيسِيٌّ اسْمُهُ غَمَالائِيلُ، مُعَلِّمٌ للنَّاموسِ، مُكَرَّمٌ عِنْدَ جَميعِ الشَّعْبِ، وَأَمَرَ أَنْ يُخْرَجَ الرُّسُلُ قَليلاً. ثُمَّ قَالَ لَهم: “أَيُّها الرِّجالُ الإسْرائِيليُّونَ، احْتَرِزوا لأَنفُسِكُم مِن جِهَةِ هَؤلاءِ النَّاسِ في ما أَنتُم مُزمِعُونَ أَنْ تَفعَلُوا. لأنَّهُ قَبْلَ هذه الأيَّامِ قامَ تُوداسُ قائلاً عَن نَفْسِهِ إنَّهُ شَيءٌ، الّذي الْتَصَقَ بِهِ عَدَدٌ مِنَ الرِجالِ نَحْوُ أَرْبَعِمِئَةٍ، الّذي قُتِلَ، وَجَميعُ الّذينَ انْقادُوا إليهِ تَبَدَّدوا وصارُوا لا شيءَ. بَعْدَ هذا قامَ يَهُوذا الـجَلِيلِيُّ في أَيَّامِ الاكْتِتَابِ، وأَزَاغَ وَراءَهُ شَعبًا غَفيرًا. فَذَاكَ أَيْضًا هَلَكَ، وَجَميعُ الَّذينَ انْقادُوا إليهِ تَشَتَّتُوا. والآنَ أَقولُ لَكُم: تَنَحُّوا عَن هؤلاءِ النَّاسِ واتْرُكُوهُم! لأنَّهُ إِنْ كانَ هذا الرَّأيُ أو هَذَا العَمَلُ مِنَ النَّاسِ فَسَوفَ يَنْتَقِضُ، وإنْ كانَ مِنَ اللهِ فلا تَقدِرُونَ أَنْ تَنْقُضُوهُ، لِئَلّا تُوجَدُوا مُحارِبينَ للهِ أَيْضًا”. فانْقادُوا إِلَيْهِ. وَدَعُوا الرُّسُلَ وَجَلَدُوهُم، وَأَوْصُوهُم أَنْ لا يَتَكَلَّموا بِاسمِ يَسوعَ، ثُمَّ أَطلَقُوهم. وأمَّا هُم فَذَهَبُوا فَرِحِينَ مِن أمامِ الـمَجمَعِ، لأنَّهم حُسِبُوا مُسْتَأْهِلِينَ أَنْ يُهانُوا مِن أَجلِ اسْمِهِ. وكانوا لا يَزالُونَ كُلَّ يَومٍ في الهَيكَلِ وفي البُيوتِ مُعلِّمِينَ وَمُبَشِّرِينَ بِيَسُوعَ المسيحِ”.

شرح النّص الإنجيليّ:

يؤكِّد لنا هذا النَّص أنَّ تُهمَة الرُسل كانت ذِكرهم اسم المسيح أي التبشير به، لا قِيامهم بالأعاجيب والشِّفاءات. 

إنَّ قيام الرُّسل بالأعاجيب والشِّفاءات، كان كفيلاً بأن يَجعلهم زعماء للشَّعب اليهوديّ لولا ذِكرهم لاسم الربِّ يسوع. وكما تعرَّضَ الربُّ يسوع مِن قِبل اليهود للمؤامرات في سبيل قَتلِه، كذلك حصل للتَّلاميذ، إذ لا تلميذَ أفضَل من معلِّمه. لا يستطيع الإنسان أن يكون لامُباليًا تجاه كلمة الله الّتي يتمُّ إعلانها على مسامِعه، فإمّا أن يقبل بها ويُعلِنها بدَوره، وإمّا أن يرفضها محاوِلاً القضاء على مَن يُعلِنها لأنّ كلمة مزعجةٌ لأهل الباطل. 

إنَّ المسيح هو المحارب الأوّل والوحيد لكلِّ مجتمعٍ منغلقٍ على ذاتِه، ويدَّعي احتكار الله؛ بعبارةٍ أخرى، إنّه المحارب الوحيد لجميع الأديان. إنّ سماع الشَّعب لكلمة الله يدفعهم إلى التغيير وتَرْكِ عاداتهم القديمة الأرضيّة، وهذا ما يؤثِّر سلبًا على سُلطة رؤساء الأديان، الّذين يبحثون عن إخضاع الشَّعب لعبوديّتهم.

في هذا الإصحاح، نقرأ عن زَوجَين هما حنانيَّا وسفِّيرة، قرَّرا الانضمام إلى جماعة الرُّسل، تعبيرًا عن إيمانهما بالربِّ يسوع.كانت جماعة الرُّسل تضمّ جميع المؤمِنِين بالمسيح، وكانوا يهتمّون بحاجات بعضهم البعض، لذا كان يقوم البعض بِبَيع ممتلكاته الأرضيّة ووَضْعِ أثمانها عند أقدام الرُّسل لتوزيعها على الأكثر حاجة مِن بَيْنِهم. إذًا، لقد عاهد هذان الزَّوجان الله على عيش تعاليمه، وِفق هذه الجماعة، فقرَّرا بَيْعَ حقلٍ كانا يمتلكانه، ووَضْعَ ثمنه عند أقدام الرُّسل، كما كان يفعل سائر المؤمِنِين. بعد بَيعِهما هذا الحَقل، قرّرا اختلاس قِسمًا من ثَمنه، ووَضْع القسم الآخَر من المال على أقدام الرُّسل. 

إنَّ هَذين الزّوجين، قد كذبا على الله لا على جماعة الرُّسل، فالحقل هو مِن ممتلكاتهما، ولا يحقُّ لأحدٍ مشاركتهما به، وبالتَّالي كان بإمكانهما الاحتفاظ به إذ لا أحد يستطيع إجبارهما على التخلِّي عنه. ولكن حين قرَّرا بَيعه ومقاسمة ثَمنه مع الآخَرين، كان يتوجَّب عليهما وَضْعُ ثمنه كاملاً على أقدام الرُّسل، وبالتّالي عند اختلاسِهما مِن ثمن هذا الحقل، أخلّا بالتزامهما أمام الربّ. 

ولكن ما يثير الغرابة في هذه القصّة، هو أنَّ هذين الزَّوجَيْن قد ماتا بعدما وجّه إليهما بطرس كلامًا سألهما فيه عن الـمُحرِّض الأساسيّ على اتِّباع الرّوح الشِّريرة وتجربة الله، فيُخيَّل للسّامِع أنَّ الموت هو السَّبب المباشر لخطيئتهما. ولكن لو كان الأمر كذلك، لكانت البشريّة بأَسْرِها قد فَنِيَت لأنَّها خاطئة. 

إنّ الرَّجل يُدعى “حنانيَّا” ومعنى اسمه في العبريّة، “حنان الله”، وزوجته تُدعى “سَفِّيرة”، ومعنى اسمها في العبريّة “الباب”، وغالبًا ما كان يُطلق هذا الاسم على باب الهيكل الجميل، وبالتّالي أراد الإنجيليّ لوقا، كاتب هذا السِّفر، القول إنّ الموت سيكون مصير كلُّ إنسانٍ يقرِّر إغلاق باب حنان الله، أي من خلال تجديفه على الرُّوح القدس، فَمَن يُجدِّف على الرُّوح القدس، يَعزِل نفسه عن حنان الله. 

هذا ما فعله تمامًا آدم وحوّاء إذ رَفضَا عطيّة الله لهما، وهي الفردوس، وقرَّرا البحث عن الفِردوس والحصول عليه من خلال مجهودهما الخاصّ، فكانت النتيجة فشَلِهما في مخطَّطهما، فكان الموت مصيرهما، على مِثال مَصير حنانيَّا وسفِّيرة.

عندما انطلق بطرس والرُّسل في إعلان البشارة، آمَن الكثيرون بالربّ واعتمدوا وانضمّوا إلى جماعة المؤمِنِين بالمسيح. غير أنّ بعضًا منهم، قرَّروا المحافظة على الذِّهنيّة اليهوديّة القديمة على الرّغم من قبولهم بذهنيّة المسيح، وهذا ما حدث مع حنانيّا وسفِّيرة، فكان الموت مصيرهما. إنّ الإيمان بالربِّ وحده لا يكفي، كي ينال المؤمِن الحياة الأبديّة، إذ على المؤمِن أن يتفاعل مع كلمة الله، فيتغيَّر من الدَّاخل، لِيَنال الملكوت. 

إنَّ موت حنانيَّا وسفِّيرة، لم يدفع بالسَّامِعين لكلمة الله إلى التّراجع عن قبولها، بل عل العكس، فالنَّص يقول لنا إنَّ عدد المؤمِنِين كان في ازيادٍ على الرُّغم مِن موت هذين الزَّوجَين. فالكنيسة إذًا، هي عبارة عن “نفقٍ” مفتوحٍ من الجِهَتين، لا عن مجتمعٍ منغلقٍ على ذاته، فالإنسان يستطيع الدُّخول إلى الإيمان أو الخروج عنه في أيّ وقتٍ كان، وما تصرُّفات الإنسان إلّا دليل على قراره: فإذا كانت تصرّفات الإنسان منسجمة مع كلمة الله، عَبَّرت عن قرار الإنسان بالبقاء داخل “النَّفق”، أمّا إذا كانت غير منسجمة مع كلمة الله، فهذا يدلّ على خروجه تلقائيًّا من هذا “النَّفق”. 

إنَّ الكنيسة مدعوَّة إلى استقبال أيّ إنسان يُعلِن قبوله كلمة الله، أي أنَّها لا تُشبه المجتمعات اليهوديّة المنغلقة على ذاتها، فَرِسالة الكنيسة هي إيصال البشارة إلى كلِّ المسكونة لِيَنال الجميع الخلاص باسم يسوع. ما مِن إنسانٍ يستطيع البقاء على الدَّوام في هذا “النَّفق” إلّا بنِعمةٍ من الله، فذلك يتطلَّب ثبات الإنسان في إيمانه بكلمة الله.

يُخبرنا هذا النَّص عن الشِّفاءات الّتي قام بها الرُّسل، فيَقول لنا إنَّ ظِلَّ بطرس كان كافيًا لشفاء المرضى، وهذا ما يدعونا إلى تَذَكُّر قول المسيح لتلاميذه إنّهم سيقومون بأعمال أعظمَ من الّتي قام بها هو نفسه، حين كان في وَسَطِهم. لقد أثارت تلك الشِّفاءات الكثيرة الّتي قام بها الرُّسل حَسَدَ رؤساء اليهود وغِيرتَهم وخوفَهم على سُلطَتهم على الشَّعب، لذا قرّروا التآمُر عليهم محاولِين قَتلَهم، فاضطهدوهم بوسائل عديدة منها السَّجن والمحاكمات الظالمة، وإطلاق الإشاعات لِرَدع النّاس عن سماع كلمة الله الّتي يُعلِنها الرُّسل. 

إنّ محاكمات رؤساء اليهود للرُّسل، تدفعنا إلى تَذكُّر محاكمتهم ليسوع. لقد قام رؤساء اليهود بسَجن الرُّسل، ولكنَّ ملاك الربّ أطلق سراحهم، لأنّ الربّ يريد إيصال الخلاص لجميع المسكونة من خلال إعلان الرُّسل لكلمة الله. لم يكن هدف الإنجيليّ لوقا من خلال ذِكره أعجوبة إطلاق سراح الرُّسل من السِّجن، إلقاء الضوء على الأعجوبة بحدِّ ذاتها، إنّما أراد القول إنّ لا أحد يستطيع إيقاف مسيرة كلمة الله نحو الآخَرين، فإنْ رَفضَ الإنسان إعلان البشارة، يحترم الربُّ حرّيتَهُ فيختار آخرَ لإعلان كلمته للشَّعب، فما يهمُّ الربّ هو إيصال كلمته إلى كلّ المسكونة، كي تنال الخلاص. 

على كلمة الله أن تكون في الشَّوارع تُعلَن على ألسنَةِ الرُّسل، لا في السِّجن كما يرغب رؤساء اليهود، لذا خلَّص الربّ رُسلَه من السِّجن مُطلِقًا سراحهم. إنّ ما حَدَث مع الرُّسل، يذكِّرنا بأشعيا النبيّ الّذي رَفضَ في البدء، المهمَّة الّتي اختاره الله لها، وهي إعلان البشارة للشَّعب، بحجَّة أنّه “نَجِسُ الشَّفتين”، فقام الربّ بإرسال ملاكه إلى النبيّ ليُطهِّر له شفتيه، بجمرةٍ مِنَ المذبح، فأعلن حينها استعداده للانطلاق في البشارة.

إنّ الربّ لا يضع شروطًا محدَّدة لاختياره الرّسول، أو توقيتًا محدَّدًا لإعلان هذا الأخير كلمة الله، ولا يحتاج الله إلى سببٍ معيَنٍ لتحديد وقت البشارة، فكلّ وقتٍ هو وقتٌ مناسبٌ لإعلان كلمة الله، وكلّ إنسانٍ هو إنسانٌ صالحٌ لإعلان كلمة الله، بدليل أنّ كلمة الله قد تلمس قلبك في بعض الأحيان حين يُعلِنها شخصٌ لا تتوقَّعه. 

وإليكم مِثالٌ على ذلك، إنّ الأمّ تريزيا دو كالكوتا الّتي عاشت حياتها في الخفاء بين الفقراء والمحتاجين، قد تمكَّنت من إيصال كلمة الله إلى العالم أجمع، لا من خلال الكرازة بكلمة الله إنّما مِن خلال أعمالها المتواضعة مع المحتاجين لخدمتها وحبِّها. 

لم تكن تلك القدِّيسة ذات شُهرةٍ واسعة في البدء، إذ كانت تسكن في الأحياء الفقيرة الّتي لا يرغب أحد في زيارتها أو العيش فيها. لقد بشَّرت تلك القدِّيسة الآخَرين بالمسيح من خلال “عطائها الموجع” للفقراء والمرضى، الّذي يَنبَعُ مِنَ القلب. إنَّ هذه القدِّيسة قد تمكَّنت بِصَمتها وأعمالها مِن جَذب الكثيرين إلى المسيح، في حين أنّ رؤساء مسيحيِّين كُثُرًا في العالم قد ساهموا في ابتعاد عددٍ كبيرٍ مِنَ المؤمِنِين عن الربّ بسبب فسادهم ومسيرتهم الّتي لا تعكس إيمانهم بالربّ يسوع.

إنَّ كلمة “مسؤول”، لا تعني الزّعيم أو الرئيس، بل تعني وجود شَخصٍ قد طَرَح سؤالاً على شخصٍ آخر، فأصبح هذا الأخير مسؤولاً، ويتوجَّب بالتّالي عليه الإجابة عن السؤال المطروح عليه. عندما ارتكب آدم الخطيئة، سأله الله: ماذا فعلت؟ فلم يتمكَّن آدم من الإجابة عليه، فألقى مسؤوليّة خطئه على حوَّاء إمرأته، الّتي كان يعتبرها قبل الخطيئة، عَظمًا من عظامِه ولحمًا من لَـحْمه (تك 2: 23). لقد نجحت الحيّة في غشِّ آدم وحوّاء، فأكلا من ثمرة الشَّجرة الّتي مَنعَهما اللهُ عنها، مخالِفَين بذلك وصيَّةَ الله لهما. 

إنَّ الله قد أعطى الإنسانَ الفِردوس، ولكنَّ هذا الأخير قد قرَّر التخلِّي عن تلك العطيّة بوقوعه في أفخاخ إبليس. إنّ كلَّ إنسانٍ يَدفعُك إلى الابتعاد عن الله، هو “إبليس”، مهما تعاظَم شأنه في المجتمع أو في الكنيسة. لقد تعرَّض الرُّسل للاضطهاد مِن قِبَل رؤساء الكهنة، أي مِن قِبَل كبار المسؤولِين في الدِّين اليهوديّ، الموكلة إليهم مَهمَّة إيصال كلمة الله للشَّعب. وهنا يُطرَح السؤال: لماذا قام رؤساء اليهود، المسؤولِين عن إعلان كلمة الله، باضطهاد الرُّسل الّذين يقومون بتلك الـمَهمَّة عنهم؟ 

وهُنا نتذكَّر قول أحد رؤساء اليهود: “خيرٌ لكم أن يموت رَجُلٌ واحدٌ عن الشَّعب ولا تهلك الأمَّة بأسْرِها” (يو 11: 50). إنَّ ذِكر اسم “يسوع” سيؤدِّي إلى إيمان الشَّعب به وقبولِهم بكلمة الله، وبالتّالي إلى تلاشي سُلطة الرُّؤساء في المجتمع اليهوديّ، لذلك، قام اليهود باضطهاد الرُّسل، ولهذا السَّبب عَينِه تمَّ قَتلُ يسوع.

إنَّ مشكلة الإنسان الأساسيّة، تكمن في عدم قبوله الآخَر المختلف عنه، وهذا ما أدّى إلى انقسام الكنيسة، على سبيل المِثال، إذ تسلَّح كلّ مسؤولٍ فيها بِنَظرته الخاصّة إلى الله رافِضًا الإصغاء إلى نظرة الآخَر المختلفة عن نظرته إلى الله. إنّ الله لم يخلق حوّاء من رأس الرُّجل، كي لا تتسلَّط عليه؛ ولم يخلقها من رِجْل آدم، كي لا يسيطر عليها ويستعبِدها، بل خلقَها من ضِلعِه، أي من جِوار قلبه، كي يهتمَّ كلّ واحدٍ منهما بالآخر ويحبَّه. 

عندما يَفتُر الحبّ بين الزَّوجين، تُسيطر على أحاديثهما لغة الحقوق والواجبات، كما يسيطر الضمير “أنا” على حوارهما، ما يؤدِّي إلى التباعد بينهما، ويؤشِّر إلى وجود الخلافات في علاقتهما. هذه هي مشكلة اليهود أيضًا، إذ يرفضون قبول ارتداد غير اليهود إلى الإيمان بالله، فَهُم يَنظُرون إلى الآخَرين نظرةً فَوقيّةً، إذ يعتقدون أنَّهم مستحقِّون الخلاص والملكوت أكثر من سِواهم من البشر. هذه كانت مشكلة حنانيَّا وسفِّيرة أيضًا، إذ اعتقدا أنّهما أفضل من سواهم، فباعا الحقل مُنجَرِفَين وراء الرّوح الشِّريرة، الّتي سمّاها بطرس تجربة روح الله والتآمر عليه، في حديثه معهما.

في البريّة، أَخضع الشِّريرُ الربَّ يسوع لثلاث تجارب: أوّلها، تحويل الحجارة إلى خبز. لقد طلب إبليس من الربّ المحافظة على حياته الجسديّة بقوّته الذاتيّة من دون اللُّجوء إلى الله، من خلال تحويل الحجارة إلى خبز، كي يتحاشى الموت الأرضيّ. إنّ هذه التجربة الأولى الّتي تعرَّض لها يسوع في البريّة، هي تجربة آدم نفسُها، إذ طلبَتْ الحيّة من آدم المحافظة على حياته بمعزلٍ عن الله. أمّا التجربة الثانية، فهي تجربة رَمي الربِّ نفسه من أعلى الجبل، وطَلَبِ النَّجدة مِنَ الملائكة. 

من خلال هذه التجربة، يطرح الشِّرير على الربّ مسألة خوف الإنسان من الموت الأرضيّ، ورغبة الإنسان في المحافظة على حياته الأرضيّة. أمّا التجربة الثَّالثة والأخيرة، فهي تجربة الشُّعور بالعَظَمة. لقد طَلَبَ الشِّرير من الربّ يسوع، السُّجود له، من أجل منحِه السُّلطة على جميع ممالِك الأرض. في هذه التّجارب الثلاث، حاول الشِّريرُ إقناع الربِّ يسوع بالابتعاد عن الله كونه يملك القدرة والقوّة لذلك، ولكنَّ محاولاته باءت بالفشل. 

في التَّجربة الأولى، تجربة تحويل الحجارة إلى خبز، أجاب الربّ يسوع على الشِّرير بكلمة الله حين قال له: “ليسَ بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلّ كلمةٍ تَخرج من فَم الله” (متّى 4: 4). في التجربة الثَّانية، جرَّب الشيطانُ الربَّ يسوع مُستخدمًا كلامًا مُجتَزئًا من المزامير إذ قال له: “يُوصي ملائكته بِكَ، فَعَلى أيدِيهم يَحمِلونَك، لئلّا تَصدِمَ بِحجرٍ رِجْلَكَ”(متى 4: 6). 

ولكنّ الربّ يسوع لم يقع في هذه التجربة أيضًا لأنّه عالم بالكتاب المقدَّس، فأدرك أنّ الشيطان قد انتقَصَ عبارةَ “في كلّ طُرُقِك” مِن كلام المزامير. إنَّ الربّ يسوع واثقٌ بأنَّ الله الآب يهتمّ به ويدافع عنه، وبالتّالي لا داعي لتجربة ما هو أكيدٌ منه. 

إنَّ آدم قد وَقع في الخطيئة لأنّه شَكَّ بكلام الله الآب الّذي منَحَه الفردوس، وسلَّطه على كلّ الخليقة. للأسف، إنَّ الإنسان يَثِق بالشِّرير الّذي يُغويه بأكاذيبه، ولا يُصدِّق الله الّذي يُعَبِّر له باستمرار عن استعداده للموت مِنْ أجله، تعبيرًا عن حبِّه له. إنَّ الشَّك يهدِم كلّ علاقة بين البشر، كذلك بين الله والبشر. فهل يحقُّ للإنسان التساؤل حول عيش طاعته لله الّذي لا يتردّد في التعبير له عن مدى حبِّه، مُعلِنًا استعداده للموت من أجله؟ إنّ الإنسان يُسيء فَهْم الطاعة لله، إذ يعتبرها عبوديّةً له، وهو يريد أن يكون سيِّدًا لا عبدًا.

إنّ هذا الصِّراع الّذي يعيشه الإنسان مع خالقه، يُسمِّيه الكتاب المقدَّس حماقةً أو غباوة، فَيُخبرنا الإنجيليّ لوقا (لو12: 13-21) عن غنيّ جاهل، أراد تأسيس حياته بعيدًا عن الله، فقام بتوسيع أهراءاته لتُصبح أهلاً لاستقبال غلّاته الأرضية، ولكنَّ الله كلَّمه في ساعةٍ لا ينتظرها قائلاً: “يا غبيّ، في هذه اللّيلة تُستَرَدُّ نفسُكَ منكَ، فَلِمن يكون ما أعددته؟ (لو 12: 20). 

إنّ المجتمعات الدِّينيّة وبخاصّة المسيحيّة في هذا الشَّرق، تشكو من تضاؤل عدد الملتزِمين بها، فتسعى إلى ملاطفة الآخَرين وكَسب وِدِّهم، في محاولةٍ منهم لِدَرء خطر تعرُّضِها للاضطهاد مِن قِبَلِهم، عِوَضَ إعلان كلمة الله للآخَرين بكلّ جرأة. هذا ما عانى منه اليهود أيضًا، إذ خافوا مِن تضاؤل عددهم جرّاء إيمان الشَّعب بالربّ، وارتدادهم للمسيحيّة، فقرَروا قَتل الربّ والرُّسل فيما بعد، طالِبِين الدَّعم والحماية من الرُّومان الوثنيِّين. 

إنّ حنانيَّا وسَفيِّرة، هما آدم وحوّاء في العهد الجديد، إذ ارتكبا الخطيئة، وقرَّرا رَفض عطيّة الله لهما. لقد هدَم حنانيَّا وسفِّيرة، الملكوت الّذي مَنَحه الربُّ لهما، بِكَذِبهما على الربّ، وبالتّالي إنْ لم يتمَّ استئصال الشَّر من الجماعة، فإنّه سينتقل إلى الأجيال القادمة، الّتي ستختار هَدم ملكوت الربّ. 

إذًا، في العُصور الأولى، سَعَتِ الكنيسة إلى عَيْشِ رؤية الإنجيليّ لوقا، حين قال فيها، إنّها قد جعَلَتْ كلَّ شيءٍ مشتركًا بين أعضائها (أعمال 2)، ولكنّ واقع الحياة في الكنيسة لم يكن على هذا النَّحو، بدليل أنَّ بولس الرُّسول على سبيل الـمِثال قد أرسل رسائل عديدة إلى الكنائس الّتي بشَّرها بسبب المشاكل الموجودة فيها، وبسبب سوء فَهْمِهم للبشارة الّتي أعلنها لهم، وبالتّالي بسبب سُوء عَيْشِهم لها. إنَّ جَمْعَ الصّواني في الكنيسة، نشأ نتيجة إرادة المؤمِنِين عيش إيمانهم الصَّحيح، كما تكلَّم عنها لوقا الإنجيليّ، من خلال جمعِ المال أثناء الذبيحة الإلهيّة لتقديمها للأكثر حاجة بين المؤمِنِين، ولكنَّ هذا المفهوم قد تعرَّض للتشويه عبر العصور، خاصّة بعد فقدان المؤمِنِين الثِّقة في رُعاتهم الكنسيِّين، نتيجة تحويل البعض منهم هذه الأموال لأهدافٍ أخرى، مُغايرة لِهَدفها الأساسيّ. 

إنَّ إحدى أَهَم أفخاخ الشيطان، الّتي ينصبها للمؤمِنِين هي الرَّشوة والغِشّ. لذا، على سبيل المِثال، يجد الإنسان صعوبةً في الاعتراف بخطئِه أمام الآخَرين، ويفضِّل الاعتراف به سرًّا بينه وبين الله، لا أمام الكاهن. إنّ المؤمن يتهرَّب على الدّوام مِن تحمُّل مسؤوليّة أخطائه، راميًا المسؤوليّة في ذلك على الآخَرين. 

إنّ هذه الرُّوح نابعة من ثقافة “الأنا” عند الإنسان. إنّ ذهنيّة حنانيّا وسفِّيرة قد تغلغت في أذهان المؤمِنِين، إذ يسعى الكثير إلى اعتماد الغشّ، والكَذِب على الله. يتمّ القضاء على هذه الذهنيّة في العالم، “بخروج الرّسل من السِّجن”، أي من خلال تحرير كلمة الله وتبشير الآخَرين بها. إنَّ مَهمَّة المؤمِن تقوم على إيصال كلمة الله للآخَرين، على الرُّغم من خطاياه، فَسَماعُ الآخَرين لها، يُثمر فيهم توبةً، أي عودةً إلى الله، أي حصولاً على الخلاص، بعبارةٍ أخرى على الملكوت السَّماويّ. آمين.

ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp