تفسير الكتاب المقدّس،

الأب ابراهيم سعد،

“سِفر أعمال الرّسل – الإصحاح السّادس” 

النّص الإنجيليّ:

“وَفِي تِلكَ الأيّامِ إذْ تَكاثَرَ التَّلاميذُ، حَدَثَ تَذَمُّرٌ مِنَ اليُونانيِّينَ على العِبرانيِّينَ أنَّ أرامِلَهم كُنَّ يُغفَلُ عَنهنَّ في الخِدمَةِ اليوميَّة. فَدَعا الاثنا عَشَرَ جُمهورَ التَّلاميذِ وقالوا: “لا يُرضِي أنْ نَتْرُكَ نحنُ كلمةُ الله ونَخدُمَ موائِدَ. فانْتَخِبوا أيُّها الإخْوَةُ سَبْعَةَ رِجال مِنكُم، مَشهودًا لَهُم ومَملُؤينَ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ وَحِكمَةٍ، فَنُقيمُهُم على هذه الحاجةِ. وأمَّا نَحنُ فَنُواظِبُ على الصَّلاةِ وخِدمةِ الكلمةِ.” فَحَسُنَ هذا القَولُ أمامَ كلِّ الجُمهورِ، فاخْتاروا اسْتِفانُوسَ، رَجُلاً مَـمْلوءًا مِنَ الإيمانِ والرُّوحِ القُدُسِ، وفِيلُبُّسَ، وَبُرُوخُورُسَ ونِيكانُورَ، وتِيمُونَ، وبَرمِيناسَ، ونيقُولاوُسَ دَخِيلاً أَنْطَاكِيًّا؛ الّذينَ أَقامُوهُم أمامَ الرُّسُلِ، فَصَلُّوا وَوَضَعُوا عَلَيْهِم الأيادِيَ. وكانَتْ كَلِمَةُ اللهِ تَنمُو، وعَدَدُ التَّلاميذِ يَتكاثَرُ جِدًّا في أُورَشَليمَ، وَجُمهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ الكَهَنَةِ يُطيعُونَ الإيمانَ. 

وأَمَّا اسْتِفانُوسُ، فَإذْ كانَ مَمْلُوءًا إيمانًا وقُوَّةً، كانَ يَصنَعُ عَجائِبَ وآياتٍ عَظيمَةً في الشَّعبِ. فَنَهَضَ قَومٌ مِنَ المَجمَعِ الّذي يُقالُ لَهُ مَجمَعُ اللِّيبرَتْينِيِّينَ والقَيرَاوَنِيِّينَ والإِسْكَنْدَرِيِّينَ، وِمنَ الّذينَ مِنْ كِيليكيَّا وأَسِيَّا، يُحاوِرُونَ اسْتِفانُوسَ. ولَم يَقدِرُوا أَنْ يُقاوِمُوا الحِكمَةَ والرُّوحَ الّذي كانَ يَتَكَلَّمُ بِهِ. حِينَئِذٍ دَسُّوا لِرِجال يَقُولُونَ: “إنَّنَا سَمِعْنَاهُ يَتَكلَّمُ بِكَلامِ تَجْدِيفٍ على مُوسَى وعلى الله.” وَهَيَّجُوا الشَّعبَ والشُّيوخَ والكَتَبَةَ، فَقَامُوا وَخَطَفُوهُ وأَتُوا بهِ إلى المَجمَعِ، وَأَقامُوا شُهودًا كَذَبَةً يَقُولُونَ: “هذا الرَّجُلُ لا يَفتُرُ عَنْ أَنْ يَتَكلَّمَ كَلامًا تَجديفًا ضِدَّ هذا الـمَوضِعِ المُقَدَّسِ والنَّامُوسِ، لأنّنا سَمِعناهُ يَقُول: إنَّ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ هذا، سَيَنْقُضُ هذا الـمَوضِعَ، ويُغيِّرَ العَوائِدَ الّتي سَلَّمَنا إيَّاها مُوسى.” فَشَخَصَ إلَيهِ جَميعُ الجالِسِينَ في الـمَجمَعِ، وَرَأَوا وَجهَهُ كأنَّهُ وَجهُ مَلاكٍ.”

شرح النّص الإنجيليّ:

يُخبرنا سِفر أعمال الرُّسل عن انتقال “الوديعة الحيّة” أي الإنجيل، من جيلٍ إلى جيلٍ: فيَبدأ بالكلام أوّلا عن الربّ يسوع الّذي ظهر لتلاميذه، بعد قيامته من بين الأموات، وأوصاهم بالبشارة به في كلّ المسكونة، وقد وَعَدَهم بإرسال الرُّوح القدس إليهم. وبعد حلول الرُّوح القدس، انطلق الرُّسل للكرازة باسم يسوع في المسكونة كلِّها، كاشِفين للآخَرين عن السِّر الإلهيّ الّذي سَبَق الربُّ وكشَفَه للرُّسل في حياته الأرضيّة، فآمَن الكثيرون بالربّ وانضمَّوا إلى جماعة المؤمِنِين واضِعين كلّ مواهبِهم في خدمة تلك الجماعة. 

وإِثرَ تطوُّر مسيرة كلمة الله في المسكونة، ازداد عدد المؤمِنِين بالربّ، فظهرت الحاجة إلى تنظيم أمور الجماعة المؤمِنة، إذ لم يتمكَّن الرُّسل من خدمة الكلمة الإلهيّة وخِدمة الموائد في آنٍ. ففي هذا الإصحاح، نقرأ عن تَذمُّر بعض الأرامل مِن تقصير الرُّسل في خدمتهنَّ، ممّا دَفع بالرُّسل إلى طَرح المشكلة على جميع المؤمِنِين في سبيل إيجاد حلّ لها، إذ إنَّ مَهمَّة التبشير بالربّ تَتطلَّبُ تَفرُّغًا كاملاً لذلك.

قبل البدء بشرح هذا النَّص، نتوقّف عند بعض العبارات الّتي تحتاج إلى بعض التوضيحات: أوّلاً، ذَكَرَ لنا هذا النَّص أنّ نيقولاوس كان دخيلاً أَنطاكيًّا، وهذا يعني أنّه كان رَجُلاً وثَنيًّا مِن مدينة إنطاكيّة، دَخل إلى الدِّين اليهوديّ، قَبلَ أن يُصبِحَ مسيحيًّا. 

ثانيًا، إنَّ عبارة “وَضْع الأيادي”، تشير إلى اختيار الرُّسل للمؤمِن كي يكون مكرَّسًا لخدمة الربّ من خلال خِدمة المائدة. إنّ رُتبة “وَضْعِ الأيادي”، لا زالت إلى يومِنا هذا، إذ يقوم الأسقف بِوَضع اليَد على كلّ طالبٍ للكهنوت، فيُعلِن بذلك اختيار الكنيسة لهذا المؤمِن كي يكون مكرَّسًا للربّ. 

ثالثًا، إنّ عبارة “الكهنة”، الّتي تَرِدُ في هذا النَّص، لا تُشير إلى الكهنة في الجماعة المسيحيّة، بل إلى الكهنة اليهود الّذين آمنوا بالربّ، فانضمّوا إلى الجماعة المؤمِنَة بالربِّ يسوع. ففي الكنيسة الأولى، لم يكن هناك “كهنة”، بل “شيوخٌ”، مَهمَّتهم مراقبة عيش التَّعليم الرَّسوليّ في الجماعة المسيحيّة. 

ونلاحظ في هذا النَّص أيضًا، أنَّ مشكلة رؤساء اليهود مع اسْتِفانوس الرَّسول، لم تكن بسبب قيامِه بالآيات والشِّفاءات، بل بسبب ذِكرِه لاسم الربّ يسوع، وإيمانُ عددٍ كبيرٍ من اليَهود بالربّ، لذلك قام رؤساء اليهود بحياكة المؤامرات لِقَتلِه، من خلال شهادات الزّور والإشاعات الكاذِبة. في الشِّفاءات الّتي قام بها اسْتِفانوس، نجد تطبيقًا حِسيًّا لِقَول المسيح لتلاميذه، إنّهم سيقومون بأعمال أعظم مِن الّتي قام بها هو نفسه، حين كان في هذه الأرض. إنَّ عبارة “رأوا وَجهَه كأنَّه وَجه ملاك”، تُشير إلى مقتل استِفانوس، وسنقرأ في الإصحاح السّابع، عن موت هذا الرَّسول رَجمًا، هو الّذي ردَّد في لحظة موتِه الأخيرة، كلامَ الربِّ يسوع على الصّليب: “اغفر لهم لأنّهم لا يَدرون ماذا يَفعلون”.

في القسم الأوّل من هذا النَّص، نقرأ عن تَذمُّر بعض الأرامل بسبب تقصير الرُّسل في خِدمتهنَّ، وبالتّالي بُروز الحاجة إلى تنظيم حياة الجماعة اليوميّة، خاصّة بعد ازدياد عدد المؤمِنِين، وانشغال الرُّسل في خدمة الكلمة الإلهيّة أي التبشير باسم الربّ. طَرح الرُّسل هذه المشكلة على المؤمِنِين، فكان الحلّ في اختيار سبعةَ مؤمِنِين لخدمة الموائد. ولكنَّ اختيار هؤلاء السَّبعة لا يتمّ عشوائيًّا، بل استنادًا إلى بعض الشروط الأساسيّة، وهي أن يكون هؤلاء مملوئين من الرّوح والحِكمة، إضافة إلى أن يكون مشهودًا لهم في الجماعة، أي أن يكونوا ذوي صيتٍ حسنٍ. 

هذه المواصفات المطلوبة هي ميزة الإنسان الملتزم بالربّ يسوع، وتحديدًا خدَّام الموائد، فكم بالحريِّ توافُرها في خدَّام الكلمة الإلهيّة. إنّ خدَّام الموائد قد تمكَّنوا بِدَورهم مِنَ التَّبشير بيسوع المسيح لا من خلال الكرازة به كما فَعل الرُّسل، إنّما من خلال خِدمتهم للمؤمِنِين، وَصِيْتِهم الحسن في المجتمع، ممّا أدَّى إلى ازدياد عدد المؤمِنِين بالربّ يسوع، وَوُصول كلمة الله إلينا بكلّ أمانةٍ. 

لقد قُتِل استفانوس رَجمًا بالحِجارة لأنّه كان يبشِّر بيسوع المسيح الّذي دَعا اليهود إلى التخلِّي عن العادات القديمة، وَتَبنيّ مفاهيم جديدة مبنيّة على كلمة الله. إنَّ فيلبُّس الرَّسول الّذي تمّ اختياره لخدمة الموائد، قد تمكَّن مِن تبشير خادم الملِكة في الحبشة، إذ شرح له الكتب المقدَّسة، فآمَن بها هذا الأخير، واعتمد مع عائلته كلِّها على يد فيلبُّس.

لقد اختار المؤمِنون سبعة من بينهم من أجل خدمة الموائد، ووضَع الرُّسل الأيادي عليهم، فكانت بداية الرُّتَب الكهنوتيّة في الكنيسة. في الكنيسة الأولى، كان هناك شمامسة وشيوخٌ: إنّ دَور الشَّماس يقوم على خِدمَة المائدة، أمّا الشَّيخ فكان دَوره تَرَؤّس الصّلاة، وهذا هو دَور “الكاهن”، في كنيستنا اليوم. لم تكن كلمة “كاهن” مألوفة في الكنيسة الأولى، إذ إنَّ هذه الكلمة وثنيّة الأصل وتُطلَق على خدَّام الأوثان، أمّا اليهود فقد أطلقوها على خُدَّام الهيكل. 

إنّ كلمة “الخوري” هي يونانيّة الأصل، وهي مشتَّقة من كلمة “خُورا”، وتعني القريَة، وبالتّالي يُصبح “الخوري” هو خادم القرية؛ ومن هذه الكلمة اليونانيّة، اتَّخذت بعض القُرى في لبنان أسمائها، على سبيل الـمِثال “الكورة”. في الكنيسة الأولى، كان هناك أيضًا ما يُسمّى بالأُسقف، فَحَصل اِلْتِباسٌ عند المؤمِنِين في مفهوم دَور “الشَّيخ” ودَور “الأُسقف”. في مُعظم الأحيان، كان “الشيخ” هو نفسه “الأُسقف”، في الكنيسة الأولى. 

إنّ “الأُسقف” هي كلمة يونانيّة الأصل، episcopos، وتُشير إلى “الّذي يراقب من فَوق”، وهذا تمامًا ما كان مطلوبًا من الأُسقف، أن يراقب عَيْش المؤمِنين للتَّعليم الرَّسولي، واكتشاف المواهب عند المؤمِنين، والسَّهر على نموِّ الكلمة، فيتدخَّل حين يجد ضرورةً لتصحيح مسار المؤمِنِين في عَيْشِهم للكلمة الإلهيّة. 

في الكنيسة الأولى، كانت هناك حاجةٌ إلى الشَّماس لخدمة المائدة، وإلى الشَّيخ أو الأسقف، لترؤّس الصّلاة ومراقبة التَّعليم؛ ولكن مع ازدياد المؤمِنِين، ظهرت الحاجة إلى رُتبةٍ ثالثة هي الأُسقفيّة، فأصبحت الرُّتب الكهنوتيّة في كنيستنا اليوم، على الشَّكل التَّالي: الشمامسيّة، الكهنوتيّة والأسقفيّة، وأمّا الألقاب الأخرى الَّتي يتمّ استخدامها في كنيستنا، كـ”الخُورأُسقف” أو “الارشمندريت”، فما هي إلّا تسميَات إداريّة تندرج ضمن إحدى الرُّتب الثلاث المذكورة سابقًا.

إنّ ازدياد عدد المؤمِنين بالربّ، قد أثَّر سلبًا على انتشار كلمة الله في المسكونة، إذ حاولَ الرُّسل الـجَمْعَ بين خِدمة الكلمة الإلهيّة أي التبشير بها، وبين خِدمة المائدة، فكانت النتيجة تقصيرهم في خدمة الموائد، وهذا ما أدّى إلى تَذمُّر بعض الأرامل. إذًا، هناك حاجةٌ ضروريّة إلى اختيار سبعة شمامسة لخِدمة الموائد، كي يتمكَّن الرُّسل من متابعة مسيرتهم التبشيريّة بالمسيح في كافة أنحاء المسكونة. إنّ القانون هو وَليدُ الحاجة، لا وَليدُ تَرَفٍ فِكريّ عند بعض أعضاء هذه الجماعة أو تلك. فمثلاً، 

إنّ رغبة الأهل في تربية أولادهم تربية صالحة، تدفعهم إلى وَضْعِ قوانين لأولادهم من أجل الحدِّ من إدمانهم على بعض الأمور كمشاهدة التِّلفاز إلى ساعاتٍ متأخِّرة من اللَّيل، والإفراط في استعمال وسائل التواصل الاجتماعيّ. إنّ القانون لا ينطوي على أبعادٍ لاهوتيّة إنّما على أبعاد تنظيميّة إداريّة بَحتة، وبالتّالي ليس القانون أمرًا مقدّسًا، لذا يجوز لنا تغييره عندما تدعو الحاجة إلى ذلك، لِتُلائم حاجات المجتمع الّذي وَضَعه. 

إنّ هَدف القانون هو بُنيان المجتمع لا هَدمه، لذا هو يضمّ لائحةً بالأمور غير المرغوب القيام بها لما فيها من تأثير على هَدم المجتمع، ولائحةً أخرى بالأمور المطلوب القيام بها، لما فيها من فائدةٍ للمجتمع كلِّه. غير أنّ بعض العادات في المجتمع قد تحوَّلت نتيجة ممارستها لفتراتٍ زمنيّة طويلة، إلى قوانين وعقائد، يَصعُب علينا تغييرها في سبيل تطوير المجتمع. وهذا ما يظهر جلِيًّا في الأمور الدِّينيّة، إذ يرفض المؤمِنون التخلِّي عن بعض الممارسات التقويّة، مثل النُّذورات، إذ يَعتبرون ذلك إخلالًا في العقيدة الإيمانيّة. 

فمثلًا، قد تدعو الحاجة في إحدى القرى، بسبب ازدياد عدد المؤمِنِين فيها، إلى إنشاء كنائس أكبر من تلك الموجودة، لِتَكون قادرة على استقبال جميع المؤمِنِين للصّلاة. غير أنّ البعض قد ينهمكون في دَفع الأموال الباهظة من أجل بنيان كنيستهم، من دُون أن يتمكَّنوا من إكمالها إلّا بعد مرور سنين طويلة، عِوضَ البحث عن مكانٍ يكون أَهلاً لاستقبال جميع المؤمِنِين. 

إذًا، لقد تحوَّل بِناء الكنائس في أيّامِنا هذه، من مكانٍ يضمّ جميع المؤمِنين للصّلاة، إلى مكانٍ ذي عظمة عمرانيّة، وسبب تفاخُر المؤمِنِين بعضهم على بعض، بسبب التَّقاليد الكنسيّة القديمة. للأسف، لقد تجاهل المؤمِنون ما هو جوهريّ في عمليّة بناء كنيستهم ألّا وهو الصّلاة، ليتعلَّقوا بالقشور، ألّا وهي ضخامة العمران وفخامته. 

على المؤمِنِين عيش روحانيّة الإيمان، لا حرفيّته، لأنَّ “الرُّوح يُحيي، أمّا الحَرف فيقتل”. لقد أدرَك الرُّسل هذا الأمر، لذا سَعوا إلى اختيار قدِّيسين من بينهم، مشهودًا لهم، وممتلئين بالرُّوح والحِكمة، لخِدمة الموائد، كي يتمكّن الرُّسل من التفرُّغ الكامل لإعلان البشارة. 

إنَّ استِفانوس، الّذي كلَّمنا عنه هذا الإصحاح، هو أحد الشَّمامسة السّبعة الّذين تمّ وَضع اليَد عليهم، لأنّه كان مشهودًا له، وممتلئًا من الرُّوح القدس، بعبارةٍ أخرى، كان قدِّيسًا، إذ نَقلَ للآخرين كلمة الله بكلِّ أمانةٍ، مِن خلال سلوكه الّذي يعكس إيمانه بالربّ. 

إنَّ تَعلُّق المؤمِن بالعادات القديمة ورَفضَه التخلِّي عنها، يعكس خوفه من الله ومِن القدِّيسِين، إذ يعتقد المؤمِن أنّ ما يُعاني منه في حياته اليوميّة من صعوبات يعود إلى إخلاله في ممارسته إحدى الشَّعائر الدِّينيّة، ولكنّ هذا الاعتقاد خاطئٌ تمامًا، إذ إنَّ عدم تلاوتنا المسبحة بشكلٍ روتينيّ، على سبيل الـمِثال، ليس السَّبب الرئيسيّ “لغضب الله”، وتَعرُّضنا للصُّعوبات الحياتيّة. 

خلال الحرب اللبنانيّة، قام أحد المحاربين، الّذي يَدِّعي إيمانه بالله الواحد، بتشويه أيقونة للقدِّيس أنطونيوس الكبير حين رأى قَولاً مدوَّنًا على تلك الأيقونة، يقول: “أنا لا أخاف الله لأنّي أحبُّه”، إذ إنَّ هذا المحارب يعتقد أنَّ محبّة المؤمِنِين لله تقضي الخوف منه. إنّ المحبّة تطرد الخوف خارجًا، والخوف يطرد المحبَّة خارجًا، كما يقول بولس الرَّسول في إحدى رسائله، إذ لا يمكننا محبّة إلهٍ نخاف منه. على خدَّام الكنيسة أن يكونوا ممتلئين من الرُّوح القدس والحِكمة، كي لا تتحوَّل الجماعة المسيحيّة إلى مؤسَّساتٍ خاليةٍ من الرُّوح ومتعلِّقة بالـحَرف الّذي يقتل.

إنّ استِفانوس هو اسم يونانيّ الأصل، يعني “الإكليل”.كان استِفانوس رَجُلاً مملوءًا إيمانًا وقوَّةً، بدليل قيامه بالأعاجيب والشِّفاءات باسم يسوع المسيح. إنّ الأعاجيب هي ثمرة الإيمان الثابت بالله، لا العكس، أي أنَّ الأولويّة في حياة المؤمِن يجب أن تكون للإيمان بالله لا للأعاجيب. لقد تعرَّض استفانوس الرَّسول، إلى الحَسَد والغِيرة مِن قِبَل رؤساء اليهود، فتآمَروا عليه، بحجَّة دِفاعهم عن الله وتمسُّكِهم بالشريعة اليهوديّة، فاتَّهموا زورًا الشَّماس استِفانوس بالتَّجديف على الله وعلى موسى. 

لقد أعلن الرَّسول استِفانوس كلمة الله لليهود، قائلاً لهم: إنّ الربّ يسوع قد جاء إلى أرضِنا وأبطل كلّ العادات القديمة، وبالتّالي عليهم التخلِّي عنها، وهذا ما لم يَقبل به رؤساء اليهود، إذ اعتبروا هذا الكلام مُـخالِفًا للشَّريعة اليهوديّة. إنَّ رؤساء اليهود، قد شعروا بفقدان سُلطتِهم على الشَّعب، نتيجة إيمان البعض بكلام استِفانوس وارتدادهم إلى المسيحيّة؛ لذا قرَّروا قَتل استِفانوس وإلغاءه من الوجود لأنّه كما قال قيافا، رئيس المجمع، يومَ محاكمة يسوع: “خيرٌ أن يموت واحدٌ عن الأمّة مِن أن تهلك الأمّة كلِّها” (يو 11: 50). 

لم يَدعُ استِفانوس الشَّعب اليهوديّ إلى تَرْك الدِّيانة اليهوديّة، بل إلى التخلِّي عن الذِّهنيّات اليهوديّة المتجحرّة، كما دعاهم إلى اعتمادِ طريقة سلوكٍ جديدة في حياتهم تُعبِّر عن إيمانهم الحقيقيّ بالله. إنّ يسوع كان وسيبقى “حجرَ عثرةٍ”، أمّام كلّ الذهنيّات المتحجِّرة، في وجه رؤساء اليهود الّذين يَسعُون إلى استِعباد الشَّعب والسَّيطرة عليه، من خلال تسلُّحهم بالدِّين. إنَّ انغلاق الذِّهن مرتبطٌ بقوَّة الدِّين؛ أمّا انفتاح الذِّهن، فمرتبطٌ بقوّة الإيمان. 

إنَّ اسِتـفانوس تمَّ رَجمُه بسبب إعلانه اسم يسوع. إنَّ مشكلة اليهود، لا تكمن في قبولهم الإيمان بيسوع المسيح، بل تكمن في أنَّ إيمانهم بالربّ يسوع سيؤدِّي إلى زعزعة عروشهم، وهذا ما يرفُضونه رَفضًا قاطعًا.

إنَّ الانتقاد نوعان: الأوّل هو انتقادٌ يهِدف إلى هَدِم الآخَرين، ويمارِسه المؤمِن الّذي يشعر أنَّه بارٌّ، فلا ينتبه إلى خطاياه، بل ينتبه فقط إلى خطايا الآخَرين؛ أمّا الثّاني، فَهو انتقادٌ يَهِدف إلى بُنيان الآخَر، إذ يشعر المؤمِن أنّه كالآخَرين، مجبولٌ بالخطايا، ولكنَّه يَبذُل كلَّ جُهودِه في تصحيح مسار الآخَرين، من خلال السَّعي الدائم إلى تصحيح مسيرته أوّلاً. 

إنَّ الكنيسة هي عبارة عن مجموعةٍ من المؤمِنِين متراصِفِين جنبًا إلى جَنبٍ، لمساعدة بعضهم البعض للوصول إلى هَدَفهم الوحيد، ألا وهو الملكوت، أي العيش مع الربّ، بفرحٍ دائم؛ وهم يرتبطون ببعضهم البعض برباط السّلام والمحبَّة. إنّ الله سلَّمنا مسؤوليّة كبرى، وهي بناء الآخرين، وسيُحاسِبنا على تلك العَطيّة في اليوم الأخير؛ لذا فلنسعَ أوّلاً إلى التفكير بعظمة محبّة الله لنا الّتي قادته إلى الموت على الصّليب من أجلنا، لنتمكَّن من محبّة الآخَرين وانتقادهم بطريقة بنّاءة، فنحثَّهم على العَمل على تصحيحِ مسارهم ليتمكَّنوا من الوصول إلى الملكوت، إلى الله. 

إنَّ هذه الحياة هي فُرصَةٌ قد أُعطِيت لنا، لا لإدانة الآخرين وهَدمهم بانتقاداتِنا خطاياهم، بل لنزرع الرَّجاء والتعزيَة في القلوب المنكسرة، نتيجة صعوبات الحياة المتعدِّدة. إنَّ الحياة مليئة بالأثقال والهموم الحياتيّة اليوميّة، ولن نتمكَّن مِنَ التَّخفيف من حِملِها على الآخَرين، إلّا إذا كُنَّا ممتلئِين بالرُّوح القدس والحِكمة.

إنَّ الحِكمة هي إحدى ثِمار الرُّوح القدس، وهي إحدى صِفات الله، لذا لا يمكننا تحديدها بكلمة واحدة، إنَّما يمكننا شرحها من خلال قصّة أو عبرةٍ. إنَّ الحِكمة هي المحافظة على الحياة والسَّعي إلى حياةٍ أفضل. وغالبًا ما تكون الحِكمة مرتبطة بعدد السِّنين الّتي يعيشها الإنسان، لذا غالبًا ما يكون العجوز حكيمًا والشّاب متهوِّرًا. 

إنّ الحِكمة مرتبطة بخبرة الإنسان في هذه الحياة، وقد قام العديد من الحُكماء بتلخيص خبراتهم الحياتيّة بأمثالٍ، أصبحت مشهورةً في مجتمعاتنا: “مَن جدَّ وَجد، ومَن زرع حَصَد”. إنَّ ميزة هذه الحِكَم أو الأمثال هي أنّها تأتي نتيجة خبرة الإنسان الطويلة في هذه الحياة، وبالتّالي هي صالحة في كلّ الأزمنة، وفي مختلف البيئات الاجتماعيّة. 

فمثلاً، إنَّ الأمثال الصِّينيّة هي حِكَمٌ صالحةٌ لمجتمعاتِنا، لأنّها تُعبِّر عن خبرة الإنسان في هذه الحياة، حتّى ولو كانت ثمرة خبرة الشَّعب الصِّيني المختلف عنّا في التّقاليد والعادات. إنَّ الحِكمة صالحةٌ لكلّ الأزمنة والأوقات وفي مختلف الحضارات، ولا يمكنها أن تكون استنسابيّة، وهذه الصِّفات تنطبق على الله وحده، فهو يبقى كما هو، “الأمس واليوم وإلى الأبد”، على الرُّغم من اختلاف الأزمنة و الأوقات والحَضارات الإنسانيّة. 

قال بولس الرَّسول في المسيح إنّه حِكمة الله الأزليّة، إذ إنَّ الربّ هو الوحيد القادر على إعطائنا الحياة والحياة الأفضل، ألّا وهي: الحياة الأبديّة. إذًا، حين يكون المؤمِن ممتلئًا من الحِكمة، فهو قادرٌ على الحصول على الحياة الأفضل، مهما كانت وَظيفته في الحياة، أكان خادمًا للمائدة، أو خادمًا للكلمة الإلهيّة. 

نقرأ في سِفر الِحكمة، العهد القديم، أنَّ الحِكمة الأزليّة قد نزلت من السّماء وتمشَّت في الأزِقَّة بين البشر، وهذا ما نراه مجسَّدًا في المسيح يسوع، الحِكمة الأزليّة، إذ تَرَكَ سماءه وتجسَّد في أرضِنا ليمنحنا الحياة الأفضل، أي الحياة الأبديّة. إنَّ الإنسان الحَكيم هو ذاك الإنسان الّذي يسعى إلى عَيْش هذه الحياة وِفق الحِكمة الأزليّة، يسوع المسيح، الّذي أرشَدنا إلى الطريق الأفضل، طريق الملكوت. 

إنَّ الحِكمة هي ثمرةُ خبراتِ الإنسان المتكرِّرة، والّتي تدعوها إلى استخلاص العِبَر الّتي لا يمكنها أن تكون أبدًا خاطئة، بل تكون صالحةً لكافة الأزمنة والأمكنة، وفي مختلف الحَضارات. إنَّ الحِكمة مُطلَقةٌ أكثر من العِلم؛ إذ بعد مرور فترةٍ من الزَّمن، قد تتغيّر بعض النَظريّات العِلميّة نتيجة كثرة الاختبارات اليوميّة ونتيجة تطوُّر الاكتشافات العِلميّة، أمّا الحِكمة فتبقى مُطلقة وثابتةً لأنّها نتيجة خبرة الإنسان الّذي لا يتغيَّر على الرُّغم من اختلاف الحَضارات والأزمنة والأمكنة.

إذًا، على الإنسان أن يختار ما بين الحياة في هذه الأرض، والحياة الأفضل الّتي يُعطيها له يسوع: فإن اختار الحياة الأفضل، فهذا يتطلَّب منه التمسُّك بالّذي يُعطيه الحياة الأفضل، ألا وهو يسوع المسيح. إنَّ مشكلة رؤساء اليهود مع استِفانوس، تكمن في أنَّهم لم يقبلوا بما كان يبشِّرهم به الرّسول، وهو أنّ يسوع المسيح هو الوحيد القادر على أن يُعطيهم الحياة الأفضل. فضَّل رؤساء اليهود التَمسُّك بالـحَرف الّذي يَقتل، على الرُّوح الّذي يُحْيِيهم، فرَفَضوا شريعة المحبّة الّتي يمنحهم إيّاها يسوع، وتعلَّقوا بشريعة النّاموس. 

للأسف، بعد مرور أَكثر من أَلفَي سنةٍ من التبشير الرَّسوليّ، لا زال بعض المؤمِنِين بالربّ يسوع، متمسِّكين بشريعة الـحَرف، بالعادات والتَّقاليد والتقويّات غير القادرة على مَنحِهم الحياة الأفضل، قاتِلين الرُّوح فيهم، بدليل مراقبتهم لبعضهم البعض في زمن الصَّوم، فيُميِّزون بين الصّائم وغير الصّائم، سامِحين لأنفسِهم بإدانة بعضهم البعض انطلاقًا من شريعة الصّوم المفروضة على المؤمِنين كإحدى وصايا الكنيسة. 

على المؤمِن أن يقدِّم طعامه، الّذي يمتنع عنه في زمن الصَوم، لأخيه المحتاج، فيكون عطاؤه هذا “مناولةً مقدَّسةً يوميّة” له في هذا الزّمن، إذ إنَّ عملَه هذا هو عَمَلٌ يُرضي الله. في زمن الصَّوم، تدعونا الكنيسة لا إلى الانقطاع عن الطَّعام من أجل الطَّعام بحدٍّ ذاته، بل إلى التعبير عن محبّتنا لله من خلال محبّتنا للآخَرين والابتسامة لهم، وتقديم الأطعمة الّتي ننقطِع عنها في هذا الزَّمن، لِمَن هُم بحاجة للطَّعام. آمين.

ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ مِن قِبَلِنا. 

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp