تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“سِفر أعمال الرّسل – الإصحاح الثامن”
النصّ الإنجيليّ،
“وكانَ شاوُلُ راضِيًا بِقَتلِهِ. وَحَدَثَ في ذَلِكَ اليَومِ اضْطِهادٌ عظيمٌ على الكَنيسَةِ الّتي في أُورَشَلِيمَ، فَتَشَتَّتَ الـجَميعُ في كُوَرِ اليَهودِيَّةِ والسَّامِرَةِ، ما عَدا الرُّسُلَ. وَحَمَلَ رِجالُ أتْقِياءُ اسْتِفانُوسَ وعَمَلوا عَلَيْهِ مَناحَةً عَظيمَةً. وَأَمَّا شاوُلُ فَكانَ يَسْطُو عَلى الكَنيسَةِ، وهُوَ يَدْخُلُ البُيُوتَ ويَجُرُّ رِجالاً ونِساءً ويُسلِّمُهُم إلى السِّجْنِ. فالَّذينَ تَشَتَّتُوا جَالُوا مُبشِّرِينَ بالكَلِمَةِ. فانْحَدَرَ فِيلبُّسُ إلى مَدينَةٍ مِنَ السَّامِرَةِ وكانَ يَكْرِزُ لَهُم بالـمَسيحِ. وَكانَ الـجُموعُ يُصْغُونَ بِنَفسٍ واحِدَةٍ إلى ما يَقُولُهُ فِيلبُّسُ عِندَ اسْتِماعِهم ونَظَرِهِم الآياتِ الّتي صَنَعَها، لأنَّ كَثِيرينَ مِنَ الّذينَ بِهِم أَرواحٌ نَجِسَةٌ كانَتْ تَخرُجُ صارِخَةً بِصَوْتٍ عَظيمٍ. وَكَثِيرُونَ مِنَ الـمَفْلُوجينَ وَالعُرْجِ شُفُوا. فَكانَ فَرَحٌ عَظيمٌ في تِلكَ المَدينَةِ.
وَكانَ قَبْلاً في المَدينَةِ رَجُلٌ اسْمُهُ سِيمُونُ، يَستَعمِلُ السِّحْرَ ويُدهِشُ شَعْبَ السَّامِرَةِ، قائلاً إنَّه شَيءٌ عَظيمٌ! وَكانَ الـجَميعُ يَتْبَعُونَهُ مِنَ الصَّغيرِ إلى الكَبيرِ قائِلِينَ: “هذا هُوَ قُوَّةُ للهِ العَظيمَةُ” وَكانُوا يَتْبَعُونَهُ لِكَوْنِهم قَدْ انْدَهَشُوا زَمانًا طَويلاً بِسِحرِهِ. وَلَكِنْ لَمَّا صَدَّقُوا فِيلبُّسُ وَهُوَ يُبَشِّرُ بالأُمورِ الـمُختَّصَةِ بِمَلَكُوتِ اللهِ وبِاسْمِ يَسُوعَ المَسيحِ، اعْتَمَدُوا رِجالاً ونِساءً. وَسِيمُونُ أَيْضًا نَفسُهُ آمَنَ. وَلَمّا اعْتَمَدَ كانَ يُلازِمُ فِيلبُّسُ، وَإِذْ رَأى آياتٍ وقُوّاتٍ عَظيمَةَ تُجْرَى انْدَهَشَ. وَلَمّا سَمِعَ الرُّسُلُ الّذينَ في أُورشَليمَ أنَّ السَّامِرَةَ قَدْ قَبِلَتْ كَلِمَةَ اللهِ، أَرسَلُوا إلَيْهِم بُطرُسَ ويُوحَنّا، اللَّذَينِ لَمَّا نَزَلا صَلَّيا لِأَجْلِهِم لِكَي يَقبَلُوا الرُّوحَ القُدُسَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُن قَدْ حَلَّ بَعْدُ على أَحَدٍ مِنْهُم، غَير أنَّهمْ كَانُوا مُعْتَمِدِينَ بِاسْمِ الرَبِّ يَسُوعَ. حِيْنَئِذٍ وَضَعَا الأَيادِيَ عَلَيْهِم فَقَبِلُوا الرُوحَ القُدُسَ.
وَلَمّا رَأى سِيمُونُ أَنَّهُ بِوَضْعِ أَيْدِي الرُّسُلِ يُعطَى الرُّوحُ القُدُسُ، قَدَّمَ لَهُما دَراهِمَ قائلاً: “أَعْطِيَانِي أَنا أَيْضًا هَذا السُّلطَانَ، حتّى أَيُّ مَن وَضَعْتُ عَلَيْهِ يَدَيَّ يَقْبَلُ الرُّوحَ القُدُسَ”. فَقَالَ لَهُ بُطرُسُ: “لِتَكُنْ فِضَّتُكَ مَعَكَ لِلهَلاكِ، لِأَنَّكَ ظَنَنْتَ أَنْ تَقْتَنِيَ مَوْهِبَةَ اللهِ بِدَراهِمَ! لَيْسَ لَكَ نَصِيبٌ وَلا قُرْعَةٌ في هذا الأَمْرِ، لِأَنَّ قَلْبَكَ لَيْسَ مُسْتَقِيمًا أَمامَ الله. فَتُبْ مِنْ شَرِّكَ هَذَا، وَاطْلُبْ إلى اللهِ عَسَى أَنْ يُغفَرَ لَكَ فِكْرُ قَلْبِكَ، لِأَنِّي أَراكَ في مَرارَةِ الـمُرِّ وَرِباطِ الظُّلم”. فَأَجابَ سِيمُونُ وَقَالَ: “اطْلُبا أنتُما إلى الرَبِّ مِنْ أَجْلِي لِكَي لا يَأتيَ عَلَيَّ شَيءٌ مِمّا ذَكَرْتُما”. ثُمَّ إنَّهما بَعْدَ ما شَهِدا وَتَكَلَّما بِكَلِمَةِ الرَبِّ، رَجَعا إلى أُورَشليمَ وبَشَّرا قُرىً كَثيرَةً للسَّامِرِيّين.
ثُمَّ إنَّ مَلاكَ الرَبِّ كَلَّمَ فِيلبُّسَ قائلاً: “قُمْ واذْهَبْ نَحْوَ الجَنُوبِ، عَلى الطَّريقِ الـمُنحَدِرَةِ مِن أُورشَلِيمَ إلى غَزَّةَ التّي هِيَ بَرِيَّةٌ”. فَقَامَ وَذَهَبَ. وَإذَا رَجُلٌ حَبَشِيٌّ خَصِيٌّ، وَزِيرٌ لِكَنْدَاكَةَ مَلِكَةِ الحَبَشَةِ، كانَ على جَميعِ خَزَائِنِها. فَهَذَا كانَ قَدْ جَاءَ إلى أُورشلِيمَ لِيَسْجُدَ. وَكانَ راجِعًا وَجَالِسًا عَلى مَركَبَتِهِ وَهُوَ يَقرَأُ النَّبيَّ إِشِعْياءَ. فَقَالَ الرُّوحُ لِفِيلبُّسَ: “تَقَدَّمْ وَرَافِقْ هَذِه المَركَبَةَ”. فَبَادَرَ إِلَيْهِ فِيلبُّسُ، وَسَمِعَهُ يَقْرَاُ النَّبيَّ إِشِعْياءَ، فَقَالَ: “أَلَعَلَّكَ تَفهَمُ ما أَنْتَ تَقْرَأُ؟” فَقَالَ: “كَيْفَ يُمْكِنُنِي إنْ لَمْ يُرشِدْني أَحَدٌ؟” وَطَلَبَ إلى فِيلبُّسَ أَنْ يَصْعَدَ وَيَجْلِسَ مَعَهُ.
وَأَمّا فَصْلُ الكِتابِ الّذي كانَ يَقرَأُهُ فَكانَ هذا: “مِثْلَ شَاةٍ سِيقَ إلى الذَّبحِ، وَمِثْلَ خَرُوفٍ صَامِتٍ أمَامَ الّذي يَجُزُّهُ، هَكَذَا لَمْ يَفْتَحْ فاهُ. فِي تَواضُعِهِ انْتُزِعَ قَضَاؤُهُ، وَجِيلُهُ مَن يُخْبِرُ بِهِ؟ لِأَنَّ حياتَهُ تُنْتَزَعُ مِنَ الأَرضِ”. فَأَجابَ الخَصِيُّ فِيلبُّسَ وقالَ: عَنْ مَنْ يَقُولُ النَّبيُّ هَذا؟ عَنْ نَفسِهِ أَمْ عَنْ وَاحِدٍ آخَرَ؟ فَقَتَحَ فِيلبُّسُ فَاهُ وابْتَدَأَ مِنْ هَذَا الكِتابِ فَبَشَّرَهُ بِيَسُوعَ. وَفِيما هُما سَائِرانِ في الطَّريقِ، أَقْبَلا على ماءٍ، فَقَالَ الخَصِيُّ: “هُوَذَا مَاءٌ. مَاذا يَمْنَعُ أنْ أَعْتَمِدَ؟” فَقَالَ فِيلبُّسُ: “إِنْ كُنتَ تُؤمِنُ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ يَجُوزُ”. فَأَجابَ وَقَالَ: أَنا أُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ المَسيحَ هُوَ ابْنُ اللهِ. فَأَمَرَ أَنْ تَقِفَ المَرْكَبَةُ، فَنَزَلا كِلاهُما إلى الماءِ، فِيلبُّسُ وَالخَصِيُّ، فَعَمَّدَهُ. وَلَمّا صَعِدَا مِنَ الماءِ، خَطَفَ رُوحُ الرَبِّ فِيلبُّسَ، فَلَمْ يُبْصِرْهُ الخَصِيُّ أَيْضًا، وَذَهَبَ في طَريقِهِ فَرِحًا. وَأَمَّا فِيلبُّسُ فَوُجِدَ في أَشْدُودَ. وَبَيْنَما هُوَ مُجْتازٌ، كانَ يُبَشِّرُ جَميعَ المُدُنِ حتّى جاءَ إلى قَيصَرِيَّةَ.”
في الإصحاح السّابع من سِفر أعمال الرُّسل، أخبرنا الإنجيليّ لوقا عن استشهاد اسِتفانوس الرَّسول. كانت ميتَةُ الرَّسولِ مُشابهةً لِمِيتَة الربِّ يسوع: إذ غفر الرَّسول لقاتِليه، كما غفر الربُّ لصالبيه. إنَّ شاول، الّذي أصبح فيما بعد بولس الرَّسول، كان حاضِرًا في مقتل اسِتفانوس، وموافقًا على موته، على الرُّغم من عَدَم مُشارَكته في عمليّة القتل.
وهنا يُطرَح السؤال: ما سَبَبُ اختيار الربّ لشاوُل ليكون رَسولاً له؟ بالطَّبع لا يستطيع أحدٌ من البشر إدراك فِكر الله، ومعرفة سببِ اختيارِه لِشاول، ولكنْ تَكثُرُ الاجتهادات في هذا الأمر في سبيل محاولات للإجابة عن هذا السؤال. عند ظهور الربِّ له على طريق دِمشق، تمكَّن بولس الرَّسول من فَهمِ قَصدِ الله في الكتاب المقدَّس: فبولس الرَّسول كان ضليعًا في التَّوراة؛ ولذلك عند ظهور الربِّ له على طريق دِمشق، أدرَك أنَّ كلّ النُّبوءات في العهد القديم قد تحقَّقت في الربِّ يسوع.
في فترة اضطهاده للمسيحيِّين، كان بولس الرَّسول ينظر إلى الربِّ يسوع على أنَّه حالةٌ تهدِّد الإيمان اليهوديّ، لذا يجب التخلُّص منها؛ ولكنْ حِينَ ظهر له الربّ يسوع على طريق دِمشق، تمكَّن بولس من إيجاد الرَّابط الحقيقيّ بين العهد القديم وبين الربِّ يسوع، فأدرك أنَّ الربَّ يسوع هو المسيح المنتظر، وهو خاتمة العهد القديم.
لقد استنار عَقلُ شاول على طريق دِمشق، فتَمَكَّن من رؤية الحقيقة، فانطلق للبشارة في المسكونة كلِّها بالربِّ يسوع، بعد أن تَتَلْمذ على يد حنانِيَّا، فأصبح رسول الأُمَم. إذًا، لم يَختَر الربُّ يسوعُ شاولَ، لأنّه كان مُضطَهِدًا لكنيسة المسيح، بل اختارَه الربّ، بسبب قُدرَتِه على إيصال البشارة بالإنجيل إلى كلّ المسكونة. وبالتّالي لا يختار الربُّ رُسُلَه انطلاقًا مِن ماضِيهم، بل انطلاقًا من رؤيته لِقُدرة هؤلاء على تحقيق مشيئته في المستقبل، ألا وهي إيصال البشارة إلى المسكونة.
إنَّ كَلمَة الله قد كُشِفَت لجميع البشر، ولكنْ ما يُميِّزُ إنسانًا عن آخر، طريقة تفاعُله مع كلِمة الله انطلاقًا مِن مواهبه الّتي مَنَحه إيّاها الله. إذًا، ليست كلمة الله مَا يـُميِّز البشر بعضهم عن بعض، إنّما تفاعلُ هؤلاء مع البشارة، هو ما يميِّز كلَّ واحدٍ منهم، إذ يَضع الإنسان ذاته في خِدمة الآخَرين تعبيرًا عن فَرَحِه بالبشارة الّـتي تلقَّاها.
إنَّ كلَّ مؤمِن سيتعرَّض للاضطهادات مِن قِبَل المحيطين به، حين يُعلِن هذا الأخير كلمة الحقّ لهم، لأنَّ أبناء هذا العالم لا يستطيعون القبول بما لا يُشرِّع لهم أهواءهم الأرضيّة. يُكلِّمنا هذا الإصحاح عن أحد المبشِّرين بالمسيح، وهو فيلبُّس الرَّسول، الّذي وَظَّف كلّ مواهبه في خِدمة البشارة بالإنجيل.
إنَّ طريقة إيصال فيلبُّس للبشارة تختلف عن طريقة إيصال بولس أو بطرس للبشارة نفسها، إذ يتميَّز كلَّ واحدٍ منهم بمواهبَ خَصَّه الله بها دون سواه. إذًا، ليست المسألة مسألة مَن يبشِّر أكثر، فالربُّ يَعلم طاقة كلّ واحدٍ، وهو يُحاسِبه على قَدر طاقَته، وهنا نَفهم مَعنى مَثل الوَزَنات الّذي أعطاه الربُّ يسوع في الإنجيل. لذا على كلِّ إنسان أن يقوم بالعَمل المطلوب منه على أكمَل وَجهٍ، من دون تَكبُّرٍ على الآخَرين أو إدانة لهم على تقصيرهم في البشارة، وإليكم مِثالٌ توضيحيٌّ على ذلك.
في فرقَةٍ موسيقيّة مؤلَّفة من مئة عازف، لا يمكن لقائد الفِرقة أن يطلب من جميع العازِفين العَملَ نفسه، ولكن يمكنه أن يطلب من كلّ عازف، تأدية الجزء المطلوب منه بكلِّ إتقان، من أجل نجاح هذا العمل الموسيقيّ. فكما أنَّه لا توجد آلةٌ موسيقيّة أهمُّ من الأخرى في فرقة موسيقيّة، كذلك لا يوجد عملٌ تبشيريّ أفضل مِن عَملٍ آخر، فالمطلوب هو خِدمة كلمة الله، كلٌّ حَسَبَ موهبتَه. وهنا نتذكَّر كلام بولس الرَّسول إلى تلميذه طيموتاوس: “لا تدَع أحدًا يستَهِن بشبابِك” (ا تيموتاوس4: 10).
إنَّ بعض المؤمِنِين قد تمكَّنوا من جَذب الكثيرين إلى الربِّ من خلال معاملتهم اللَّطيفة للآخَرين وابتسامتهم، أكثر من بعض المؤمِنِين الّذين فُرِزوا للبشارة: إنَّ عَمل محبّةٍ واحد من مؤمِنٍ قادرٌ على أن يُغيِّر حياة الإنسان، أكثر من قضائه ساعاتٍ في التأمّل في كلمة الله.
على المؤمِن أن يُعلِن إيمانه بالربّ: أوَّلاً من خلال التزامِه بالكنيسة، الّذي يتمّ مرّةً واحدة، والّذي يُعبَّر عنه باقتباله سرّ المعموديّة، وثانيًا من خلال إِلزام ذاته بنمَط عيشٍ ينسجم مع إيمانه، فيقوم ببعض الأعمال بشكلٍ يوميّ ولو كانت في بعض الأحيان رُغمًا عنه، تعبيرًا عن التزامِه الأوّل بالربّ.
فالعامِلُ يُفضِّل مثلاً الاستراحة والنَّوم، في يومٍ عاصفٍ وممطر، على الذّهاب إلى العَمل؛ ولكنَّه التزامًا منه بِعَمَله، يُلزِم نفسه بالنُّهوض من فراشه والانطلاق نحو مركز عَمَلِه. إذًا، إنَّ إلتزام الإنسان مرتبطٌ بإرادَته لا بِمِزاجِه.
إنَّ الرُّسل قد أعلَنوا التزامَهم بالربّ، لذا ألزَموا أنفسَهم بالتَّبشير بكلمة الله، رُغم كلّ الصُّعوبات، حتّى ولو قادَهم ذلك إلى الاستشهاد. للأسف، إنَّ كنيسة اليوم، تعاني من مشكلة أساسيّة تطال الـمُنتَمِين إليها وهي حالة الرَّفاهيّة، إذ مع توقُّف الاضطهاد على المؤمِنِين، تراخى هؤلاء في إعلان كلمة الله للآخَرين.
إنّ ذهنيّة الرَّفاهية الّتي يعاني منها المؤمِنون في أيّامِنا، تؤدِّي إلى زرعِ رُوح الكسل فيهم، فيُعطِّلون مسيرة كلمة الله في الوصول إلى الآخَرين.إنّ رُوح الكسل المنتشر عند المؤمِنِين قد أدّى بالبعض منهم إلى اتِّخاذ “سيمون السّاحر”، الّذي يتكلَّم عنه هذا النَّص، مِثالاً لهم.
إنَّ سيمون السّاحر قد اشتهر بأعمالِه السِّحريّة وقد تمكَّن من جَذب الكثيرين إليه، ولكن عندما سَمِع هذا السّاحر كلمة الله، آمَن بالربِّ واعتمد. غير أنَّ هذا السّاحر أراد على الرُغم من إيمانه بالربِّ يسوع المحافظة على عَملِه في السِّحر، الّذي يتعارَض مع إيمانه. وهذا ما يقوم به بعض المؤمِنِين، إذ يتمسَّكون بعاداتهم وتقاليدهم القديمة، غير المنسجمة مع إيمانهم، على الرُّغم من قبولهم كلمة الله في حياتهم.
إنَّ سيمون السّاحر البارع في أعمال السِّحر، قد استوقفته الأعاجيب الّتي كان يقوم بها الرُّسل باسم المسيح، فقرَّر شراء تلك الموهبة من الرَّسولَين بطرس ويوحنّا، ولكنَّه فَشِل في ذلك، لأنَّ الرُّسل كانوا يعلمون أنَّ مواهب الشِّفاء وسواها من المواهب الإلهيّة، تُمنَح لهم من الله ولا يستطيع البشر بَيعَها أو شراءَها.
ويُخبرنا هذا النَّص عن رَجُلٍ أثيوبيّ، كان يعمل عند مَلِكة الحبشة مسؤولاً عن أموالها. وكانت العادة في ذلك الزَّمان تقوم على أن يتمّ خَصِي كلّ رَجلٍ يعمل في داخل قَصر الـمَلِكة. كان هذا الرَّجُل الخَصيّ جالسًا في مركَبَته يقرأ نصًّا من سِفر إشعيا (52-53)، فإذا بفيلبُّسُ يقترب من الخَصيّ ويسأله إنْ كان مُدرِكًا لِمَا يَقرأ، فأجابه الخَصيُّ: كيف عساه يَفهم إن لم يكن هناك مَن يُرشِده إلى فَهم كلمة الله؟ عندئذٍ قال فيلبُّسُ للرَّجل الأثيوبي،
إنّ هذا النَّص قد تحقَّق في يسوع المسيح، وانطلق الرَّسول في تبشير الخَصيّ بكلمة الله. إنَّ قراءة المؤمِن لكلمة الله قراءةً سطحيّة لا تساعِده على فَهم قصدِ الله منها، لذا هو يحتاج إلى آخر يُرشِده إلى فَهمها بطريقة صحيحة، انطلاقًا مِن خِبرَته الإيمانيّة، وتَعمُّقه في التأمُّل فيها. لقد اكتشف جميع الرُّسل، ما اكتشَفه بولس الرَّسول على طريق دِمشق، فأدركوا أنَّ قَصد الله في العهد القديم قد تحقَّق في المسيح يسوع.
لذا، أطلَقَ بولس الرَّسول على العهد القديم، اسم “pedagogos”، أي الـمُربِّي أو المؤدِّب. إنَّ كُتُب التّوراة هي “المؤدِّب” للشَّعب اليهوديّ، ولذا هي تقوده إلى اكتشاف قَصدِ الله في يسوع المسيح ابنه. إذًا، بما أنَّ العهد القديم يقودنا إلى المسيح يسوع، لا يمكننا بالتّالي الاستغناء عنه، كما يدَّعي بعض المؤمِنِين، فكلمة الله هي واحدة في العهدَين القديم والجديد، لذا علينا القبول بها كما هي.
إنَّ العهد القديم يُقدِّم لنا صورة مُزعجة لله، إذ تُظهرِه على أنَّه قاضٍ وديّان، لذا يَعمد البعض إلى تَرك العهد القديم جانبًا وتفضيل العهد الجديد عليه. إنّ كلمة الله في العَهدين، القديم والجديد، هي واحدة، ولكنَّ التَّعبير عنها يختلف بحسب اختلاف الشُّعوب عبر العصور، إذ إنَّ لكلّ شعبٍ لُغته الفريدة الخاصّة به. بعد تبشيره بكلمة الله، قرَّر الرَّجل الخَصيّ القبول بكلمة الله والاعتماد على يد فيلبُّس.
يُخبرنا النَّص أنَّ فيلبُّس قد اختُطِف بعد إعطائه سرّ المعموديّة للرَّجل الأثيوبيّ. إنّ اختطاف الربّ للرَّسول هو صورةٌ أدبيّة تشير إلى أنّ دَور الرَّسول يقتصر على إعلان كلمة الله والانسحاب بعد ذلك، ليتمكَّن المؤمِن الجديد من الشَّهادة لإيمانه في محيطه. لقد آمَنَتْ أثيوبيا بالمسيح، وقد كانت من أُولى البلاد الّتي أعلنَت إيمانها بالربّ يسوع في العالم. عندما يتعمَّد الإنسان، يُعلِن عن التزامه بالربّ، وبالتّالي يتوجَّب عليه إلزام ذاته بنمطِ حياةٍ يعكس إيمانه بالربّ، كي يكون شهادة صالحة للمسيح داخل مجتمعه.
إنَّ المعموديّة لا تقتصر على رشّ الماء على رأس المعمَد، إذ إنَّ المعمَّد مدعوّ إلى تعميد ذهنه، وحوّاسه لِتَكون منسجمة مع فِكر المسيح. لذا بعد حصوله على سرّ المعموديّة، تتغيَّر نظرة الإنسان إلى الأمور مِن حَوله، إذ إنّ المعموديّة تدعوه إلى النَّظر إلى الأمور مِن حوله كَنَظرة المسيح إليها.
فحين يقع المؤمِن في الخطيئة، عليه أن يُسارِع إلى طلب الرَحمة من الربّ والسَّعي إلى تغيير مسيرة حياته، لا هَدر الوَقت الـمُعطى له في هذه الحياة للبشارة في البكاء على خطاياه. مِن حِيَل الشَّيطان، أن يدفع المؤمِن إلى هَدر وَقته في البكاء على خطاياه، محاولاً إقناعه بأنَّه غير أَهْلٍ للبشارة بالمسيح.
في هذا الإطار، نتذكَّر قول بولس الرَّسول الّذي يدعونا إلى عدم الانجراف في التَّفكير في الماضي بل إلى النَّظر إلى الأمام، قائلاً لنا: “أيّها الإخوَةُ، لا أعتَبرُ أنِّي فُزتُ، ولكنْ يَهُمُّني أَمرٌ واحدٌ وهو أن أنسى ما ورائي وأُجاهد إلى الأمام” (فيلبيّ3: 13). اِلتَزَمَ بولس الرَّسول بالربّ يسوع، فأَلزَم نفسه بالبشارة به في كلّ المسكونة دون هَوادة.
أمَّا نحن اليوم، فنسعى إلى التّراجع عن دَورنا التَّبشيريّ مُتَذَرِّعين بانشغالنا بممارسة التَّقويات المزَّيفة كَتَمْضِيَة الوقت في الصّلاة والسُّجود أكثر من اللّازم، للتَّعويض عن خطايانا. إنَّ ما نقوم به هو إحدى صُوَر السِّيمونيّة الجديدة في عَصرِنا.
بعد دَفْنِ استِفانوس، تَشتَّت المؤمِنون في المسكونة كلِّها، فحوَّلوا تَشَتُّتَهم هذا إلى مَصدرِ تَبشيرٍ بالمسيح. هرب المؤمِنون من وَجه مُضطَهدِيهم، لأنّ تقديم ذواتهم لِجَلّاديهم يُعبِّر عن غباءٍ لا عن فِطنةٍ مِن قِبَلِهم، إذ أحرى بهم الهروب من الاضطهاد والتَّبشير بكلمة الله، لأنّ في ذلك إفادةً لغير المؤمِنِين الّذين قد ينالون الخلاص بواسِطَتِهم.
قَبِلَ الرُّسل الموت في سبيل المسيح، حين لَم يكن هناك مِن حلٍّ آخر سِوى نُكران إيمانهم بالربِّ يسوع. لذا كانت الكنيسة ترفض إقامة صلاة الجُنّاز المسيحيّ من أجل الـمُنتَحِر. فالإنسان الّذي يُقدِّم ذاته للّذي يرغب في قَتلِه، عِوضَ الانطلاق للبشارة، ينتحر.
إنَّ فيلبُّس هو اسمٌ يونانيّ، يعني “صديقَ الحِصان”، أي الفارس؛ وتقوم مهمَّةُ الفارس على الجِهاد في سبيل الوصول إلى الهَدف، ألا وهو الفَوز في السِّباق. عند حضور فيلبُّس، كانت الأرواح الشِّريرة تَخرج من النّاس الّذين يُعانون منها، لأنَّ الأرواح الشِّريرة ترتعب من حضور الله. وهذا ما اختبره أيضًا يسوع المسيح إذ كانت الأرواح الشِّريرة تصرخ إليه قائلة: “ما لنا ولك، يا ابن الله، هل جِئتَ لتُهلِكنا؟”. إنَّ حضور بطرس ويوحنّا إلى السّامِرة، ما هو إلّا لإعطاء شرعيّة لتبشير فِيلبُّس، ولإعطاء المؤمِنِين الرُّوح القدس.
لقد استمرّ هذا التَقليد في الكنيسة لفتراتٍ طويلة من الزَّمن، إذ كان الأُسقف يأتي إلى مدينةٍ معيّنة بعد اقتبال بعضُ أبنائها سرّ المعموديّة، فيَضَع اليَد عليهم، لِيَمْنحَهم سرَّ التَّثبيت، أو ما يُعرَفُ أيضًا بِسِرِّ الـمَيرون. إنّ وَضَع اليَد على المعمَّدين هي دليلٌ على حصولهم على مواهبِ الرُّوح القدس.
إنَّ عبارة “فَتَح فاه” الّتي استخدمها كاتب هذا النَص تُذكِّرنا بالربّ يسوع الّذي “فَتَح فاه”، ليُعلِن كلمة الله للجموع الّتي كانت تَتْبَعُه، والمتعطِّشة لكلمة الله المحيية. يختَتِم القدِّيس لوقا هذا الإصحاح، بالكلام عن حادثة اختطاف الربِّ لفيلبُّس الرَّسول، إذ لم يعد باستطاعة الحبشيّ رؤيته. عند قيامة الربِّ يسوع من الموت، ظهر لمريم المجدليّة، الّتي أرادت الإمساك به، غير أنّه مَنعها من ذلك لأنّ مَعرفتها به بعد القيامة، ستكون مختلفة عن معرفتها الجسديّة به قَبْل الموت والصّلب:
فالربُّ يسوع بعد القيامة هو الربُّ الممجَّد، لا يسوع النّاصريّ الّذي كان يسير في الطُّرقات مُعلنًا كلمة الله للبشر وشافيًا المرضى من بينهم. إنَّ صُعود الربِّ إلى السَّماء هو عَمَلٌ إلهيّ لا يستطيع المؤمِن إدراكِه بعقلِه البشريّ. بعد اعتماده على يد فيلبُّس الرّسول، تَحوَّل الخَصيّ إلى حامِلٍ لكلمة الله في مجتمعه، إذ حلّ عليه الرُّوح القدس في المعموديّة.
لقد آمَن الرُّسل بكلام الربّ، فَعَملوا على الإسراع في التَّبشير بكلمة الله، كي يتمكَّن الجميع من الحصول على الخلاص قَبل مجيئه الثّاني. إنَّ الربَّ هو الّذي يُحدِّد ساعة مجيئه الثّاني لا البشر، لذا على المؤمِنِين السَّهر على إيصال البشارة إلى كلِّ المسكونة بسرعةٍ، قبل مجيء الربّ، فتُؤمِن به وتنال الخلاص.
على المؤمِن التَّبشير بالربّ، حتّى ولو لم يكن على عِلمٍ بساعة مجيء الربِّ، لأنّه لا يعلم متى تَحينُ ساعته للانتقال من هذا العالم، وللقاء الربِّ وجهًا لوجه. على المؤمِن أن يُعطي ثِمارًا تدلُّ على قبوله الإيمان بالربّ، من خلال محبَّته للآخَرين، فتكون محبّته لهم شهادةً على حُبِّ الله له. هذا ما قام به الخَصيُّ إذ بشَّر محيطه بالربِّ يسوع، وهذا ما حَدَث مع قائد المئة الرومانيّ عند أقدام الصّليب، إذ اعترف بأنَّ المصلوب هو حقًّا ابن الله.
وهذا ما حدث مع كورنيليوس، حارسِ السِّجن (أعمال 10). إنَّ كلمة الله تَحصر الإنسان، ولكنّه لا يستطيع أن يحصُرها، لذا لا يستطيع الإنسان أن يُدرِك كيفيّة تفاعُل كلمة الله في داخل الآخَرين وتغيير حياتهم. فَعَلى المؤمن أن يكون مُخلِصًا لكلمة الله، فينشرها في قلوب الآخَرين، ويَتَرُكَ مهمَّة الاعتناء بها لله الّذي يُنمِّيها في النُّفوس.
إنَّ سِفر أعمال الرُّسل، ليسَ كتابًا تاريخيًّا ينقُل إلينا بطولات الرُّسل، بل هو كتابٌ يُخبرنا عن عمل كلمة الله في النُّفوس من خلال الرُّسل، الّذين بشَّروا بها المسكونة جمعاء. حين ينظر المؤمِن إلى سِفر أعمال الرُّسل على أنَّه كِتابٌ تاريخيّ، فإنّه يجد سهولةً للتهرُّب من البشارة بكلمة الله، لأنَّ هذا الكتاب يُخبِره في هذه الحالة عن أعمال أشخاص عاشوا منذ زمنٍ بعيد.
ولكنْ حين ينظر المؤمِن إلى سِفر أعمال الرُّسل على أنَّه ثمرَةُ عمل كلمة الله في النُّفوس، فإنَّه سينال تعزية كبرى، إذ سيتشجَّع على التَّبشير بكلمة الله، لأنَّه سيُدرك أنَّ كلمة الله قادرة أن تفعل فِعلها فيه، كما فَعلَت فِعلها في الرُّسل.
على المؤمِن أن يسعى لا إلى انتقاد الآخَرين على طريقة إيصالهم البشارة للمسكونة، بل إلى الغِيرة منهم في عملِهم التبشيريّ، والسَّعي إلى الاقتداء بهم والتَّبشير بالمسيح. إنَّ سِفر أعمال الرُّسل هو جِزءٌ من الأناجيل، أي أنَّه يملك القوّة نفسها الّتي تمتلكِها الأناجيل. إنّ كلَّ أسفار الكتاب المقدَّس تحتوي على كلمة الله، لذا على المؤمِن تعميد ذهنه، ليتمكّن من قبولها في حياته، لا انتقاء ما يناسبه منها. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف.