تفسير الكتاب المقدّس،

الأب ابراهيم سعد،

“سِفر رؤيا القدّيس يوحنّا – الإصحاح التاسع عشر” 

النّص الإنجيليّ:

“ورأيتُ ملاكًا نازلًا مِن السَّماء معه مِفتاحُ الهاوية، وسِلسِلةٌ عظيمةٌ على يده. فقَبضَ على التِّنِّين، الحيَّةِ القديمةِ، الَّذي هو إبليسُ والشَّيطانُ، وقَيَّده ألفَ سَنةٍ، وطرَحَه في الهاوية وأغلق عليه، وخَتَم عليه لكي لا يُضِلَّ الأُمَم في ما بَعد، حتَّى تَتِمَّ الألفُ السَّنَةِ. وبَعد ذلك لا بُدَّ من أن يُحَلَّ زمانًا يَسِيرًا. ورأيتُ عروشًا فَجَلسوا عليها، وأُعطوا حُكمًا. ورأيتُ نفوسَ الّذِين قُتِلوا مِن أجل شهادة يسوع ومِن أجل كَلِمة الله، والّذِين لَم يَسجُدوا للوَحشِ ولا لِصورته، ولَم يَقبلوا السِّمَة على جباهِهم وعلى أيدِيهم، فعاشوا ومَلكوا مع المسيح ألفَ سَنةٍ. وأمّا بَقيَّة الأموات فلَمْ تَعِشْ حتَّى تَتِمَّ الألفُ السَّنَة. هذه هي القيامة الأولى. مبارَكٌ ومُقدَّسٌ مَن له نَصيبٌ في القيامة الأولى. 

هؤلاء لَيسَ للموت الثَّاني سُلطانٌ عليهم، بل سَيَكونون كَهَنةً لله والمسيح، وَسَيَملِكون معه ألفَ سَنَةٍ. ثُمَّ متى تَمَّتِ الألفُ السَّنَةِ يُحَلُّ الشَّيطانُ مِن سِجنِه، ويَخرج لِيُضِلَّ الأُمم الّذِين في أربعِ زوايا الأرضِ: جوجَ وماجوج، لِيَجمعَهم للحرب، الَّذِين عددُهم مِثلُ رَملِ البَحر. فصَعِدوا على عَرضِ الأرضِ، وأحاطوا بِمُعسكرِ القدِّيسِين وبالمدينة المحبوبة، فنَزلَتْ نارٌ مِن عند الله مِن السَّماء وأكَلَتهم. وإبليسُ الّذي كان يُضِلُّهم طُرِحَ في بُحَيرة النّار والكِبريت، حيثُ الوَحشُ والنَّبيُّ الكذَّابُ. وسَيُعَذَّبون نهارًا وليلًا إلى أبد الآبدِين.

 ثُمَّ رأيتُ عَرشًا عظيمًا أبيَضَ، والجالِسَ عليه، الّذي مِن وَجهِه هربَتِ الأرضُ والسَّماءُ، ولَم يُوجَد لهما مَوضِعٌ! ورأيتُ الأمواتَ صِغارًا وكِبارًا واقفِين أمام الله، وانفتَحَتْ أسفارٌ، وانفتَح سِفرٌ آخَرُ هو سِفرُ الحياة، وَدِينَ الأمواتُ مِمَّا هو مكتوبٌ في الأسفار بِحَسبِ أعمالهم. وسَلَّمَ البَحرُ الأمواتَ الّذِين فيه، وسَلَّمَ الموتُ والهاويةُ الأمواتَ الّذِين فيهما. ودِينَ كلُّ واحدٍ بِحَسب أعماله. وطُرِحَ الموت والهاوية في بُحَيرة النَّار. هذا هو الموت الثَّاني. وكلُّ مَن لَم يُوجَد مكتوبًا في سِفر الحياة طُرِحَ في بُحَيرة النَّار”.

شرح النّص الإنجيليّ:

في هذا الإصحاح من سِفر الرّؤيا، سَنَبدأ بتَذوُّق الفرح ونَغمَة الانتصار أكثر فأكثر. إنَّ كلَّ مَسيرة سِفر الرُّؤيا تكلَّمت على الصَّبر والاضطهاد والإيمان والإخلاص، وعلى الأشرار وعلى الوحش والتِّنين؛ وفي هذا الإصحاح، سنَقطِف ثمار هذا التَّعب، ثمار هذا الجِهاد، من خلال عمل الله، بإعلانه انتصار يسوع المسيح، الخروف المذبوح؛ وبالتّالي، الّذين يتبعون الخروف سيتذوَّقون هذا الفرح.

إذًا، نحن اليوم نُعلِن الانتصار، ولا يزال أمامنا الـمَشهد الأخير، الّذي هو نتيجة هذا الانتصار، والّذي سَنَراه في الإصحاحات القادمة والمتبقيّة من سِفر الرُّؤيا. كما ونلاحظ في هذا الإصحاح، أنَّ كُلَّ التَرانيم الموجودة فيه تُعلِن انتصار مجد الله في السّماء، حيث يجلس الله على العرش، ويسجد له كُلّ الّذين سَبَق وذَكرَهم سِفر الرُّؤيا، أي الأربعةَ والعِشرين شيخًا، والحيوانات الأربعة، مُقدِّمين له كُلَّ الـمَجد اللّائق. والصَّوت الّذي خَرَج من العَرش، قائلاً: «سَبِّحُوا لإِلهِنَا يا جَميعَ عَبيدِهِ، لخائِفيهِ، الصِّغارِ والكِبارِ!»، يُشير إلى أنَّ المؤمِنِين بالربّ سَيُسبِّحون الله. إنّ جميع الّذين كانوا مع الوحش سيُدانون، فالبشر، في اليوم الأخير، لا يُدانون بحسب هويّاتهم وانتماءاتهم الـمُجتَمَعيّة، إنّما بحسب مواقفهم من كلمة الله، فمواقفَهم هي الّتي تُحدِّد مَصيرهم.

«هَلِّلُويا! فإنَّهُ قَدْ مَلَكَ الرَّبُّ الإِلهُ القادِرُ على كُلِّ شَيْءٍ. لِنَفْرَحْ وَنَتَهَلَّلْ وَنُعْطِهِ المَجْدَ! لأَنَّ عُرْسَ الخَروفِ قَدْ جاءَ، وَامرَأَتُهُ هَيَّأَتْ نَفْسَها. وَأُعْطِيَتْ أَنْ تَلْبَسَ بَزًّا نَقِيًّا بَهِيًّا، لأنَّ البَزَّ هُو تَبَرُّراتُ القِدِّيسِينَ».

يُخبرنا سِفر الرُّؤيا عن عُرس الخروف المذبوح، وبهذا أراد أن يُذكِّرنا كاتب هذا السِّفر بالفِداء، أي بِعَمل الله الخلاصيّ على الصّليب، بكلامٍ آخَر، يُذكِّرنا الكاتب بموت الربّ من أجلنا، ووَطئِه الموت بالموت. حين يتكلَّم الكاتب على الخروف المذبوح، فإنّه يريد بذلك الإشارة إلى آثار الموت، أي آثار الصَّليب. إنَّ المنتصر هو الخروف المذبوح، واليوم الأخير هو يوم عُرسِه، وقد أخبرنا الكاتب بِعِرس الخروف ليُذكِّرنا أنَّ الّذين اضطُهِدوا واستُشهِدوا، هُم في هذا العرس الإلهيّ مشارِكين. إنّ امرأة الخروف المذبوح ترمز إلى المؤمِنِين، أي الكنيسة، لا بالمعنى المؤسَّساتي للكلمة، فالكنيسة تتألَّف مِنَ الّذين يَعبدون الله، ويُخْلصون له، ويتحمَّلون كلّ الاضطهادات والضِّيقات بِصَبرِ القدِّيسِين. إنّ هذه المرأة، أي الكنيسة، قد أُعطِيَت أن تلبس لباس الكَتَّان الصَّافي الأبيض.

إنَّ المؤمِنِين يَلبسون التَّبَرُرات، أي أنَّهم يلبسون فضائِلَهم، الَّتي ستَظهر في السّماء، في عرس الخروف المذبوح. هنا نتذكَّر مَثَل الوليمة العظيمة، الّذي يُخبرنا فيه الإنجيليَّان متى ولوقا، أنّ الـمَلِكَ قد طرَد أحد المدعوِّين إلى العرس لأنّه لم يكن يرتَدي لِباس العرس. إنّ لباس العرس هي الفضائل الّتي يتحلَّى بها الإنسان، أي تَبرُّراته، وبالتّالي ليس المهمّ أن يدخل الإنسان إلى العرس، إنَّما المهمّ بأيِّ لباسٍ يدخل إليه. لذلك، الحديث هنا هو حديثٌ يبعث التَّعزية والفرح والسُّرور في نفوس المؤمِنِين، الّذين تحمَّلوا كُلِّ الضُّغوطات، والّذين كانوا يشاهدون الاضطهاد، أمّا الآن فَهُم يشاهدون الفرح الآتي. إذًا، “الزَّمن والزَّمَنان والنِّصف الزَّمن”، و”ثلاث سنواتٍ ونصف السَّنة”، اللّتان تكلَّم عنهما سِفر الرُّؤيا، قد انتهتا، وهذا يعني أنّ زمن الاضطهاد قد انتهى، لأنّ الفارس قد أتى على الفرس الأبيض ليَسحق الوحش والنبيّ الكذَّاب والتِّنين، وكُلّ قوى الشَّر.

“وقالَ لي: «اكْتُبْ: طوبى لِلمَدْعُوِّينَ إلى عَشاءِ عُرْسِ الخَروفِ!». وقالَ: «هذه هِيَ أَقْوالُ اللهِ الصّادِقَةُ». طوبى تعني “هنيئًا”.

وبالتّالي المقصود من خلال هذه الآية هو: مغبوطٌ هو الّذي يُدعى إلى عشاء العُرس. إنّ المدعوّ إلى العرس لَيسَ من نال دعوةً لحضور هذا العرس، إنّما مَن لبّى هذه الدَّعوة. في هذا الإصحاح، يريد الكاتب أن يُبشِّر المؤمِنِين أنّ النِّهاية قد اقتَربت، وأنّ الله صادقٌ في أقواله وهو سيُحقِّق ما وَعَدنا به.

“فَخَرَرْتُ أمام رِجْلَيْهِ لأسْجُدَ لَهُ، فَقالَ لي: انْظُر! لاَ تَفْعَل! أنا عَبْدٌ معك وَمع إِخوَتِكَ الَّذينَ عِنْدَهُمْ شَهادَةُ يَسُوعَ. اسْجُدْ للهِ! فإنَّ شَهادَةَ يَسوعَ هِيَ رُوحُ النُّبُوَّة”.

إنّ يوحنّا الرَّسول أراد السُّجود للملاك الّذي ظَهر له، ولكنَّ هذا الأخير رفض ذلك لأنّ السُّجود هو لله وحده، فالملاك هو عبدٌ على مِثال يوحنّا الرَّسول. إنّ “شهادة يسوع”، قد تؤدِّي بالمؤمِنِين الـمُخلِصين لها إلى الاستشهاد. إنّ كلمة الله الّتي يُعلنها المؤمن تُصبح نبوءة للسّامِعين لها، وهي تتحوَّل إلى دينونة لهم. وبالتّالي، إذا نطقْتَ بشهادة يسوع، وكُنتَ مُخلِصًا لها، فهذا يعني بالتَّأكيد، أنّ روح الله هو الـمُتَكلِّم فيك. وهنا، نتذكَّر قَول بولس الرَّسول بأنّ لا أحد يستطيع الاعتراف بأنَّ يسوع هو الربّ، إلّا إذا كان الرُّوح القدس هو المتكلّم فيه. في خطابه الوداعيّ، قال يسوع لتلاميذه: لا تخافوا، لأنّ الرُّوح القدس هو سيُشَدِّدكم ويرشِدكم في كلِّ ما تفعلونه أو تَقولونه.

“ثُمَّ رأيْتُ السَّماءَ مَفتُوحَةً، وإذا فَرَسٌ أَبْيَضُ والجالِسُ عَلَيْهِ يُدعَى أَمينًا وَصادِقًا، وبالعَدلِ يَحْكُمُ وَيُحارِبُ. وَعَيْناهُ كَلَهِيبِ نارٍ، وعلى رأسِهِ تِيجانٌ كَثيرَةٌ، وَلَهُ اسْمٌ مَكْتُوبٌ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُهُ إلاَّ هُوَ. وَهُوَ مُتَسَربِلٌ بِثَوبٍ مَغمُوسٍ بِدَمٍ، وَيُدعَى اسمُهُ «كَلِمَةَ اللهِ». وَالأَجنادُ الَّذينَ فِي السَّماءِ كانوا يَتبَعُونَهُ على خَيْلٍ بِيضٍ، لابِسِينَ بَزًّا أَبْيَضَ وَنَقِيًّا. وَمِنْ فَمِهِ يَخْرُجُ سَيْفٌ ماضٍ لِكَي يَضْرِبَ به الأُمَمَ. وَهُوَ سَيَرعاهُم بِعَصًا مِن حَدِيدٍ، وَهُوَ يَدوسُ مَعصَرَةَ خَمْرِ سَخَطِ وَغَضَبِ اللهِ القادِرِ على كُلِّ شَيْءٍ. وَلَهُ على ثوبِهِ وعلى فَخْذِهِ اسْمٌ مَكتُوبٌ: «مَلِكُ المُلوكِ وَرَبُّ الأربابِ».

لقد كلّمنا يوحنّا، كاتب هذا السِّفر، في الإصحاحات الماضية عن فرسٍ أبيض، وها هو في هذا الإصحاح يُعيد ذِكره، ويقول لنا إنّ الجالس عليه هو “أمينٌ وصادقٌ، وبالعَدل يَحكم ويُحارب”، وهذه الصِّفات هي صِفات المسيح يسوع. ثمّ يُضيف ويقول لنا: “عيناه كلَهيب نار”، وهذه العبارة تعني أنّ الجالس على الفرس هو فاحِصُ الكِلى والقلوب، أي أنّه يعرِفُ الخفايا، إضافةً إلى أنّ النَّار تحرِقُ. وبالتّالي، فإنَّ المقصود من خلال هذه العِبارة أنَّ الربَّ يسوع يَعرِف خفايا قلوب الـمُخلِصين له، وهو يَحرِقُ كلَّ شيءٍ عتيقٍ فيهم، مهما كان، بِفَضل شهادتهم له. إنّ عبارة “على رأسه تيجان كثيرة”، تعني أنّ الربَّ يسوع ليس له تاجٌ واحد على رأسه إنَّما عدَّة تيجان، وهذا يعني أنّ الربَّ يسوع غَلبَ وسيَغلُب في كلِّ معركةٍ يقودها، فَهو الغالب دائمًا. إذًا، إنَّ التِّيجان الكثيرة ترمز إلى غَلبة يسوع. وإنَّ عبارة “له اسمٌ مكتوبٌ ليس أحدٌ يعرفه إلّا هو”، تعني أنّه على الرُّغم من معرفتنا العميقة بالربّ، لا نستطيع أن نَعرفَه معرفةً كاملةً فَهو سيبقى سِرًّا. 

إنّ حضور الربّ يسوع أمام أبيه، أي مَركزه وقيمته ووجوده أمام أبيه، يبقى حضور الخروف المذبوح. إنّ الدَّم يُشير إلى الخروف المذبوح، وقد أصبح هذا الدَّم علامةً لانتصار الربّ. وبالتّالي فإنَّ موتَ المؤمن، من أجل يسوع المسيح، لم يَعد مدعاةً للعار أو الخوف، أو علامة ضُعفٍ، إنّما هو علامة انتصار، إذ تتحوَّل الضِّيقات والصّعوبات إلى علامات تدلُّ على انتصاره عليها. ولذلك، حين نُصلِّي إلى الله من أجل الأموات، فإنّنا نسأل الله من أجلهم أن يُعلِن انتصارهم وتخطِّيهم لِكُلِّ إنكسار، وأن يجعلهم معه في الفرح، لابِسِين لباسًا أبيضَ، وعلى أحصنة بيضاء، بِمعنى آخر، نحن نسأل الله أن يجعلهم على مِثال الربِ يسوع معه في الملكوت. إنّ السَّيفَ الماضي هو الكلمة الإلهيّة الّتي تخرق الأعماق، وتَفصُل وتُحرِّر. 

إنّ الكلام عن “معصرة سَخَطَ وغضَب الله”، تُذكِّرنا بكلام إشعيا النبيّ عن المعصرة الّتي سُلِّمت إلى وُكلاء لَم يُحسِنوا الاهتمام بها، فَعَصروا عِنبًا فاسِدًا بدل العِنب الصّالح، فَعرقل هؤلاء الوكلاء مشروع الله. إنَّ الله لن يسمح لأحد بعرقلة مشروعه، إذ إنّه سيسكب غضبه على كُلِّ مَن يسعى إلى ذلك، وسيَدوس مَعصرتهم. إنّ الفَخذ يرمز إلى القدرة. والثّوب يرمز إلى المجد. إنّ عُري الإنسان هو عارٌ عليه، ولذلك فإنّ ارتداء الإنسان للثّوب هو دليلُ مَجدٍ له.

في هذا الإصحاح، يَصِف لنا يوحنّا الرَّسول، كاتب هذا السِفر، حالة الانتظار الّتي يعيشها المؤمِنِين ليوم الربِّ الأخير.

“وَرأَيْتُ مَلاكًا واحِدًا واقِفًا في الشَّمْسِ، فَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قائِلًا لِجَميعِ الطُّيُورِ الطّائِرَةِ في وَسَطِ السَّمَاءِ: «هَلُمَّ اجْتَمِعِي إلى عَشاءِ الإِلهِ العَظيمِ، لِكَي تَأكُلِي لُحومَ مُلوكٍ، وَلُحومَ قُوَّادٍ، وَلُحومَ أَقوِياءَ، وَلُحومَ خَيْلٍ وَالجالِسِينَ عَلَيها، وَلُحومَ الكُلِّ: حُرًّا وَعَبْدًا، صَغِيرًا وَكَبِيرًا».

إنّ الوقوف في الشَّمس تعني الوقوف في الوضوح، أي إعلان الحقيقة، وبالتّالي ما مِن شيءٍ سَيبقى مَخفيًا. إنّ الّذين دُعوا إلى هذا العشاء هُم اثنان: أوَّلاً، القدِّيسون الأبرار الّذين حَفِظوا شهادة يسوع، كائنًا مَن كانوا، فَهُم قد دُعوا كي يأكلوا على مائدة العَريس؛ ثانيًا: طيور السّماء، وهذه قد دُعِيَت لا لتأكل من المائدة، إنّما كي تأكل لحوم الملوك الّذين اضطهِدوا المؤمنِين، الّذين حاربوا المسيح وتبعوا الوحش والتِّنين والنبيّ الكذَّاب. وكأنّ بيوحنّا، في هذا الإصحاح، يُعلِن لنا نهاية هؤلاء.

إنّ إعلان الانتصار هو إعلان نهاية العدو، وخسارته. لذلك تأتي الطُّيور، لتأكلَ جثث كُلّ أعداء الربّ، وهنا نتذكَّر قول الربّ في الإنجيل: “حيث تجتمع الطّيور، فَهناك تكون الجُثَّة”. إنّ الجثّة تشير إلى وجود إنسانٍ مَيْت، أي وجود نهاية هذا الإنسان. إنَّ الطُّيور قد دُعيَت إلى هذا العشاء لتأكل لَحم جميع الّذين حاربوا الربّ من خلال اضطهادهم المؤمنِين، مهما كان وَضعهم: أحرارًا أم عبيدًا، صِغارًا أم كبارًا. في الإصحاحات الماضية، كان يلجأ الكاتب إلى تعزية المؤمنِين وحثِّهم على الصَّبر على الاضطهادات؛ أمّا في هذا الإصحاح، فهو يُعلِن لهم نهاية كلّ هذا الزَّمان، وبالتّالي هو يدعوهم إلى الفرح. ولذلك، يمكننا قراءة هذا الإصحاح في موسم الفِصح.

“ورَأَيتُ الوَحشَ وَمُلوكَ الأرضِ وَأَجنادَهُم مُجْتَمِعِينَ لِيَصْنَعُوا حَربًا مع الجالِسِ على الفَرَسِ وَمَعَ جُنْدِهِ. فَقُبِضَ على الوَحْشِ وَالنَّبِيِّ الْكَذَّابِ مَعَهُ، الصّانِعِ قُدَّامَهُ الآياتِ الَّتي بِها أَضَلَّ الَّذينَ قَبِلُوا سِمَةَ الوَحشِ والَّذينَ سَجَدُوا لِصُورَتِهِ. وَطُرِحَ الاثنانِ حَيَّيْنِ إلى بُحَيْرَةِ النّارِ المُتَّقِدَةِ بِالكِبرِيتِ. والباقونَ قُتِلُوا بِسَيْفِ الجالِسِ على الفَرَسِ الخارِجِ مِنْ فَمِهِ، وَجَميعُ الطُّيُورِ شَبِعَتْ مِنْ لُحُومِهِم”.

إنّ الملوك، الّذين حاربوا المسيح، على الرَّغم من انكسارهم وانهزامهم أمام الربّ، لا زالوا يفكِّرون في القيام بمحاولةٍ أخيرة لِشَنّ حرب من جديد على الربّ من خلال المؤمِنين به. إنّ “بحيرة النّار والكبريت” تدلّ على الموت النِّهائي لِكلِّ الّذين اضطَهَدوا المؤمِنين بالربّ، وحاربوهم، وقَتَلوهم. وبالتّالي، هناك الكثير من النَّاس سيُدانون في اليوم الأخير، وسيَنكسرون.

في هذا الإصحاح، هناك إعلانُ ربحٍ نهائي للربّ على أعدائه، ولكن نتيجة هذا الرِّبح وثماره سنكتشفها في الإصحاحات القادمة.
هذا الإصحاح، يُشدِّد على تحديد المدعوين. فالجميع مدعوون إلى عشاء الربّ، ولا زال الوقت متاحًا لنا لِتلبيةِ هذه الدَّعوة، ولكنَّ هذا الوقت لم يعد طويلاً، إذ لا أحد يعلم متى يحين موعد مجيء الربِّ الثّاني، أو مَتى تكون نهايته الأرضيّة أي موته. يمكننا الانضمام إلى الّذين لبُّوا دعوة الربِّ إلى عشائه من خلال المثابرة على الإخلاص والتمسُّك بشهادة يسوع، طيلة العُمر المتبقي لنا في هذه الحياة. إنّ الّذي سيأتي هو الخروف المذبوح، وعندها سيكون قد حان الوقت للاحتفال بِعرسِه، ممّا يعني أنّه لا يستطيع الإنسان عندها تغييبه أو نكران حضوره، لأنّه سيتحدَّاه. عند قراءتهم لهذا الإصحاح، سيتعزَّى المسيحيّون الأوائل الّذين عانوا من الاضطهاد، وستتعزَّى قلوبهم ويَنالون القوّة للدِّفاع عن إيمانهم.

نحن الآن، في هذا الإصحاح، ننطلق نحو فرحٍ جديد، نحو عرسٍ جديد. إنّ القدَّاس الإلهيّ الّذي نشارك فيه، هو صورةٌ مُسْبَقةٌ عن عرس الخروف، إذ إنّنا في القدَّاس الإلهيّ نأكل الخبز السّماوي النّازل من فوق، جسد الربّ ودمه، أي جسد ودم الخروف المذبوح. إنَّ الخروف المذبوح هو الخروف المنتصر. إذًا، نحن الآن نتذوَّق الملكوت، ولكنّنا لم نتذوَّقه بعد كاملاً، لأنّ اليوم الأخير لم يأتِ بعد. لذلك، علينا بالصَّبر واحتمال الاضطهاد بَفَرح. إنَّ عروس الخروف المذبوح، قد تهيّأت للعرس، وما مِن عروس تتهيّأ للعرس وهي حزينة. وبالتّالي، عندما يصوم المؤمن، عليه ألّا يعيش صيامه وهو حزينٌ بل فَرِحٌ؛ وعندما يُصلِّي أو يتعب أو يخدم الآخَرين، عليه أن يفعل ذلك بفرح لا بِحُزنٍ. 

إنّ المسيحيِّة ليست عبارةً عن تقويّات زائفة، تُعاش بُحزنٍ مِن قِبَل المؤمِنِين، بل هي إعلان المؤمِنِين لقيامة الربّ من خلال قيامهم بأعمالهم وهم في حالة فرحٍ. إنّ المسيحيِّين لا يمكنهم نَقل بشارة القيامة بالمسيح للآخَرين بوجوه عابسة وكئيبة، لأنّه عندها لن يتمكَّن الآخَرون من تصديق تلك القيامة. إذًا، على المؤمِنِين بالربّ أن يُجاهدوا في هذه الحياة ويَتعبوا فيها بفرح، إذ إنّ عينَيّ المؤمن يجب أن تكونا موجَّهتَين نحو الخروف المذبوح الآتي في عرسِه النِّهائي، في عرسِه الملكوتيّ. قد يعترض البعض قائلين: ولكن ما نعيشه صَعبٌ ومختلف عمّا نقرأه اليوم.

إخوتي، هذا ما يؤكِّده لنا سِفر الرُّؤيا، إذ يقول لنا إنّه إن جاهدنا وصَبَرنا على المِحن في زمن الاضطهاد، سننال في اليوم الأخير الملكوت حيث الفرح أبديّ. وبالتّالي، على المؤمنِين أن يكون نظرهم موّجهًا صوب المِحن في هذا العالم لاجتيازها، ولكن على نظرهم أن يكون موَّجهًا أيضًا نحو الخروف المذبوح الآتي في العرس النّهائي. لا يمكن للمسيحيّة أن تُعاش من دون فرح، “فـالمسيحيّة بلا فرح هي ديانةٌ مائتة”. ولا يجوز لنا أن نؤكِّد من خلال عيشنا لمسيحيّتنا على كلام الفيلسوف الإلماني “نيتشِه”: إنّ المسيح لم يقم لأنّ المسيحيِّين لا يُظهِرون سعادتهم وفرحِهم بهذه القيامة. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بِتَصرُّف.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp