تفسير الكتاب المقدّس،

الأب ابراهيم سعد،

“سِفر رؤيا القدّيس يوحنّا – الإصحاح الثامن عشر” 

النّص الإنجيليّ:

 “ثُمَّ بَعْدَ هذا رَأَيْتُ مَلاكًا آخَرَ نَازلًا مِنَ السَّماءِ، لَهُ سُلْطانٌ عَظيمٌ. وَاسْتَنَارَتِ الأرْضُ مِنْ بَهائِهِ. وَصَرَخَ بِشِدَّةٍ بِصَوْتٍ عَظيمٍ قَائِلًا: «سَقَطَتْ! سَقَطَتْ بابِلُ الْعَظيمَةُ! وَصَارَتْ مَسْكَنًا لِشَيَاطِينَ، وَمَحْرَسًا لِكُلِّ رُوحٍ نَجِسٍ، وَمَحْرَسًا لِكُلِّ طائِرٍ نَجسٍ وَمَمْقُوتٍ، لأَنَّهُ مِنْ خَمْرِ غَضَبِ زِناها قَدْ شَرِبَ جميعُ الأُمَمِ، وَمُلوكُ الأرْضِ زَنَوْا مَعَها، وَتُجَّارُ الأَرْضِ اسْتَغْنَوْا مِنْ وَفْرَةِ نَعِيمِهَا». ثُمَّ سَمعْتُ صَوتًا آخَرَ مِنَ السَّمَاءِ قائِلًا: «اخْرُجُوا مِنْها يا شَعْبِي لِئَلاَّ تَشْتَرِكوا فِي خَطاياها، وَلِئَلاَّ تَأخُذوا مِنْ ضَرَباتِها. لأَنَّ خَطاياها لَحِقَتِ السَّماءَ، وَتَذَكَّرَ اللهُ آثامَها. جازُوها كَما هِيَ أَيْضًا جازَتكُمْ، وَضَاعِفوا لها ضِعْفًا نَظيرَ أَعْمالِها. فِي الْكَأْسِ الَّتي مَزَجَتْ فِيها امْزُجُوا لَها ضِعْفًا. بِقَدْرِ مَا مَجَّدَتْ نَفْسَها وَتَنَعَّمَتْ، بِقَدْرِ ذلِكَ أَعْطوها عَذابًا وَحُزْنًا. لأَنَّها تَقولُ في قَلْبِها: أَنَا جالِسَةٌ مَلِكَةً، وَلَسْتُ أَرْمَلَةً، وَلَنْ أَرى حزنًا. 

مِنْ أَجْلِ ذلِكَ في يَوْمٍ واحِدٍ سَتَأتِي ضَرَباتُها: مَوْتٌ وَحُزْنٌ وَجُوعٌ، وَتَحْتَرِقُ بِالنَّارِ، لأنَّ الرَّبَّ الإِلهَ الَّذِي يَدِينُها قَوِيٌّ. «وَسَيَبْكي وَيَنُوحُ عَلَيْها مُلوكُ الأرضِ، الَّذِينَ زَنَوْا وَتَنَعَّمُوا مَعَها، حِينَما يَنْظُرونَ دُخانَ حَريقِها، وَاقِفِينَ مِن بَعِيدٍ لأجلِ خَوْفِ عَذابِها، قائِلِينَ: وَيْلٌ! وَيْلٌ! المَدينَةُ العَظيمَةُ بَابِلُ! المَدينَةُ القَوِيَّةُ! لأَنَّهُ فِي ساعَةٍ واحِدَةٍ جَاءَتْ دَيْنُونَتُكِ. وَيَبْكي تُجَّارُ الأرضِ وَيَنُوحونَ عَلَيها، لأنَّ بَضائِعَهُم لا يَشتَرِيها أَحَدٌ في ما بَعْدُ، بَضائِعَ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ والحَجَرِ الكَريمِ وَاللُّؤلُؤِ وَالبَزِّ وَالأُرْجوانِ والحَريرِ والقِرْمزِ، وَكُلَّ عُودٍ ثِينِيٍّ، وَكُلَّ إِناءٍ مِنَ العاجِ، وَكُلَّ إِناءٍ مِنْ أَثْمَنِ الخَشَبِ وَالنُّحاسِ وَالحَديدِ وَالمَرْمَرِ، وَقِرفَةً وَبَخُورًا وَطِيبًا وَلُبانًا وَخَمرًا وَزَيتًا وَسَمِيذًا وَحِنْطَةً وَبَهائِمَ وَغَنَمًا وَخَيْلًا، وَمَرْكَباتٍ، وَأَجْسادًا، وَنُفوسَ النَّاسِ. وَذَهَبَ عَنكِ جَنَى شَهْوَةِ نَفْسِكِ، وَذَهَبَ عَنكِ كُلُّ مَا هُوَ مُشْحِمٌ وَبَهِيٌّ، وَلَنْ تَجِدِيهِ في ما بَعدُ. تُجَّارُ هذه الأشيَاءِ الَّذِينَ اسْتَغنَوا مِنْها، سَيَقِفُونَ مِنْ بَعِيدٍ، مِن أَجْلِ خَوفِ عَذابِها، 

يَبْكُونَ وَيَنُوحونَ، وَيَقولونَ: وَيْلٌ! وَيْلٌ! المَدينَةُ العَظيمَةُ المُتَسَربِلَةُ بِبَزّ وَأُرجُوانٍ وَقِرْمزٍ، وَالمُتَحَلِّيَةُ بِذَهَبٍ وَحَجَرٍ كَرِيمٍ وَلُؤلُؤٍ! لأَنَّهُ فِي ساعَةٍ وَاحِدَةٍ خَرِبَ غِنىً مِثْلُ هذا. وَكُلُّ رُبَّانٍ، وَكُلُّ الجماعَةِ في السُّفُنِ، وَالمَلاَّحُونَ وَجميعُ عُمَّالِ البَحرِ، وَقَفُوا مِنْ بَعِيدٍ، وَصَرَخُوا إِذْ نَظَروا دُخَانَ حَريقِها، قَائِلِينَ: أَيَّةُ مَدينَةٍ مِثْلُ المَدينَةِ العَظيمَةِ؟ وَأَلقَوْا تُرابًا على رُؤُوسِهِم، وَصَرَخوا باكِينَ وَنائِحِينَ قَائِلِينَ: وَيْلٌ! وَيْلٌ! المَدينَةُ العَظيمَةُ، الَّتي فِيهَا اسْتَغْنَى جميعُ الَّذِينَ لَهُمْ سُفُنٌ في البَحرِ مِنْ نَفائِسِها! لأَنَّهَا فِي ساعَةٍ واحِدَةٍ خَرِبَتْ! اِفْرَحي لَها أَيَّتُها السَّماءُ وَالرُّسُلُ القِدِّيسُونَ والأنبِياءُ، لأنَّ الرَّبَّ قَدْ دانَهَا دَيْنُونَتَكُم».

 وَرَفَعَ مَلاكٌ واحِدٌ قَوِيٌّ حَجَرًا كَرَحىً عَظيمَةٍ، وَرَماهُ في البَحرِ قائِلًا: «هكذا بِدَفعٍ سَتُرمَى بابِلُ المَدينَةُ العَظيمَةُ، وَلَن تُوجَدَ في ما بَعدُ. وَصَوتُ الضَّارِبِينَ بِالقيثارَةِ وَالمُغَنِّينَ وَالمُزَمِّرِينَ وَالنَّافِخِينَ بِالبُوقِ، لَنْ يُسمَعَ فِيكِ فِي ما بَعدُ. وَكُلُّ صانِعٍ صِناعَةً لَن يُوجَدَ فِيكِ فِي ما بَعدُ. وَصَوتُ رَحىً لَنْ يُسمَعَ فِيكِ في ما بَعدُ. وَنُورُ سِرَاجٍ لَنْ يُضِيءَ فِيكِ في ما بَعدُ. وَصَوتُ عَرِيسٍ وَعَرُوسٍ لَنْ يُسمَعَ فِيكِ فِي ما بَعدُ. لأَنَّ تُجَّارَكِ كانوا عُظَماءَ الأرْضِ. إِذْ بِسِحْرِكِ ضَلَّتْ جميعُ الأُمَمِ. وَفِيها وُجِدَ دَمُ أَنبِياءَ وَقِدِّيسِينَ، وَجميعِ مَنْ قُتِلَ على الأَرضِ».

شرح النّص الإنجيليّ:

في هذا الإصحاح الثّامن عشر من سِفر الرُّؤيا، نُنهي مَشهدًا، لنَبدَأ في الإصحاح القادم مَشهدًا جديدًا، مَشهدًا فَرِحًا، يَبعث التَعزية في نفوس المؤمِنِين. في هذا الإصحاح، يَصِف لنا الكاتب مَشهدًا واحدًا هو مَشهدُ نهايةِ مدينةِ بابل العظيمة، الّتي ترمز إلى امبراطوريّة روما، بِكُلّ ما فيها من عباداتٍ وثَنيَّة.

“ثُمَّ بَعْدَ هذا رأَيْتُ مَلاكًا آخَرَ نازلًا مِنَ السَّماءِ، لَهُ سُلْطانٌ عَظيمٌ. وَاسْتَنارَتِ الأرْضُ مِنْ بَهائِهِ. وَصَرَخَ بِشِدَّةٍ بِصَوتٍ عَظيمٍ قائِلًا: «سَقَطَتْ! سَقَطَتْ بابِلُ العَظيمَةُ! وَصَارَتْ مَسْكَنًا لِشَياطينَ، وَمَحْرَسًا لِكُلِّ رُوحٍ نَجِسٍ، وَمَحْرَسًا لِكُلِّ طائِرٍ نَجِسٍ وَمَمْقُوتٍ، لأنَّهُ مِنْ خَمْرِ غَضَبِ زِناها قَدْ شَرِبَ جميعُ الأُمَمِ، وَمُلوكُ الأرضِ زَنَوْا مَعَها، وَتُجَّارُ الأرضِ اسْتَغنَوْا مِنْ وَفرَةِ نَعِيمِها».

في هذا الإصحاح، يُخبرنا الكاتب عن ملاكٍ آتٍ من السَّماء ليُعلِن انكسار الشَّرير، قَبْل أن يُعلِن انتصار الله. إنّ كُلَّ كَلامٍ عن مَلِك يَفترض بالضَّرورة وجودَ عدوٍّ له، ممّا يعني ضرورة خَوضِ الـمَلِك معَركةً ضدَّ عَدوِّه والانتصار عليه. إنّ الـمَلك هو الله، والعدوّ هو بابل العظيمة أي العبادات الوثَنيّة، والحربُ سَيَخوضُها الله ضدَّ كلِّ قوى الشَّر وسَيَنتَصِر عليها، وسيُعلِن مَلكِيَّته الأبديّة. في الإصحاحات القادمة، سيُخبرنا الكاتب عن أورشليم السَّماويّة النَّازلة من السَّماء، أي عن ملكوت الله، حيث تُرفَع التَّسابيح والتَّرانيم، إذ سينالُ المؤمنِون تعزيةً بحصولهم على وعود الله، كَمُكأفاة لهم على صَبرهم وثباتهم في إيمانهم وإخلاصِهم للربّ، على الرَّغم من كلِّ الضِّيقات الّتي تَعرَّضوا لها في حياتهم الأرضيّة. في هذا الإصحاح، يُخبرنا الكاتب أنَّ بابل العَظيمة قد سَقطَتْ، وما تَكرار عبارة “سَقَطَتْ”، إلّا لِتأكيد سقوطها.

إنّ بابل قد أصبَحت “مسكَنًا لِشَياطين”، أي أنَّها تَجمَعُ في داخِلِها كُلّ قوّة الشِّرير الَّتي ستُقهَر وسَتُباد نهائيًا، بواسطة الخروف الـمَذبوح، أي يسوع المسيح. إنّ الزِّنى في الكِتاب المقدَّس، هو تَركُ الإنسانِ لله، لاتِّباع عباداتٍ وَثَنيّة. إنّ تُجَّار الأرض قد استفادوا مِن وفرة نعيمِ بابل؛ ولكنَّ هذا النَّعيم سَيتلاشى عند انتصار الربِّ على الشَّرير في المعركة الأخيرة. إنّ يوحنّا الرَّسول، كاتب هذا السِّفر، يوجِّه كلامه إلى المؤمنِين الّذين يعانون من الشِّدة والاضطهاد، وَهُم يعيشون في خوفٍ وقلقٍ من المستَقبل. لذلك، يدعوهم الرَّسول إلى الصَّبر قليلاً بَعد، كي يتمكَّنوا من رؤية انتصار الربِّ العظيم، الّذي طالما انتظروه.

إنَّ هذا السِّفر يُتلى على المؤمنِين الحاضِرين في القدَّاس، يوم الأحد، يوم الربّ.

“ثُمَّ سَمِعْتُ صَوْتًا آخَرَ مِنَ السَّماءِ قائِلًا: «اخْرُجوا مِنْها يا شَعبي لِئَلاَّ تَشْتَرِكوا في خَطاياهَا، وَلِئَلاَّ تَأخُذوا مِنْ ضَرَباتِها. لأنَّ خَطاياها لَحِقَتِ السَّماءَ، وَتَذَكَّرَ اللهُ آثامَهَا. جازُوها كَما هِيَ أَيْضًا جازَتْكُم، وَضاعِفُوا لها ضِعْفًا نَظيرَ أَعْمالِها. في الكأسِ الَّتي مَزَجَتْ فيها امْزُجُوا لها ضِعفًا. بِقَدْرِ مَا مَجَّدَتْ نَفْسَها وَتَنَعَّمَتْ، بِقَدْرِ ذلِكَ أَعطُوها عَذابًا وَحُزْنًا. لأنَّها تَقولُ في قَلْبِها: أنا جالِسَةٌ مَلِكَةً، وَلَسْتُ أَرْمَلَةً، وَلَنْ أَرَى حزنًا. مِنْ أَجْلِ ذلك فِي يَوْمٍ واحِدٍ سَتَأتِي ضَرَباتُها: مَوْتٌ وَحُزْنٌ وَجُوعٌ، وَتَحتَرِقُ بِالنَّارِ، لأنَّ الرَّبَّ الإِلهَ الَّذِي يَدينُها قَوِيٌّ”.

يُحذِّر يوحنّا الرَّسول، كاتب هذا السِّفر، المؤمِنِين مِن الاشتراك في خطايا الوثنيِّين وذبائحهم، كي لا ينالوا على غرار هؤلاء، الضَّرباتِ من الله. وهنا، نتذكَّر طَلَبَ بولس الرَّسول إلى أهل كورنثوس، عدم الاشتراك في ذبائح الوثنيِّين، لا من حَيْث الشَّكل ولا مِن حَيْث الجوهر، لأنَّ في ذلك مساومةً منهم بين الحقّ والباطل، مِن خلال المزج ما بين عبادتهم الحقَّة لله والعبادات الوثنيّة. وهذا ما يُنبّهنا إليه الكِتاب المقدَّس بأكمَلِه، من بدايته حتّى نهايته، فالله كان قد حذَّر آدم من خطورة المزج بين الخير والشَّر، ولكنَّ هذا الأخير لم ينصاع لأوامر الربّ، فوقَع في الخطيئة.

إنّ الربَّ لا يَذكر آثامَ المؤمنِين مَتى تابوا إليه، ولكنّه يتذكَّر آثام الّذين قرَّروا البقاء في خطاياهم وعدم التَّوبة، أي الّذين قررَّوا الخضوع للآلهة الوثنيّة، ولِكُلِّ إلهٍ غير الله. وهذا ما قاله الربُّ لِشعبه في العهد القديم، على لسان النبيّ إرميا: “سأقطَعُ معكم عَهدًا جديدًا، ليس كالعَهد الّذي قَطَعتُه مع آبائكم،….، لأنِّي سأغفر خطيئتكم، ولَن أذكُرها مِن بَعد” (إرميا 31: 31-34). إنَّ الإله الوثنيّ ليس بالضَّرورة أن يكون تِمثالاً حجريًّا، فَهو قد يكون أيضًا مال الإنسان، أو قوَّته، أو كُرْهه للآخَر، أو أيَّة شهوةٍ أرضيّة أُخرى. إنَّ الضَّرر الّذي تلقَّاه المؤمِنون من بابل، سَيَرتدُّ عليها أضعافًا. وفي هذا الكلام، يَجِدُ المؤمِنون تعزيةً لهم وتقويةً، إذ يحثُّهم على الصَّبر على شدائدهم، لإدراكهم أنَّ الأفضل آتٍ، بانْتِصار الربّ على الشِّرير. إنّ بابل العظيمة لا تزال مُتكبِّرة على الرَّغم من الضَّربات الّتي تَلحَق بها، فهي تُصِرُّ على اعتبار نفسِها مَلِكةً مع أنَّها أرملة. في الكِتاب المقدَّس، المرأة الأرملة هي امراةٌ لا سَنَدَ لها في هذه الحياة، وبالتّالي لا استمراريَّة لها؛ لذلك يُشدِّد الربُّ في العهد القديم على ضرورة الاهتمام بالبائس والـمِسكين والأرملة. 

إنّ عبارة “يوم واحد”، تعني لَحظةٌ واحدة. إنّ المؤمنِين يُعانون من الضِّيق منذ زَمنٍ طويل، لذا يناشدون الله قائلِين: إلى مَتى، يا ربّ، علينا احتمال الضِّيقات؟ فَيُجيبهم الله من خلال كاتب سِفر الرّؤيا إنَّه عليهم الاحتمال “ثلاث سنوات ونِصف”، أو “زمن وزمَنَين ونِصف الزَّمن”، أو “ألفًا وثلاثَ مئةٍ وأربعين يومًا”، قَبْل أن يأتي الخلاص؛ غير أنّهم، حتّى هذه الأزمنة القصيرة الّتي ترمز إليها هذه الأرقام، يَجدونها طويلةً. وهنا يُجيبُهم الكاتب في هذا الإصحاح، إنَّ هذا الضِّيق الّذي يُعانون منه سيَنتهي في يومٍ واحدٍ، أي في لحظةٍ واحدة من الزَّمن. في القديم، كان الأقدمون يحاولون تحقيق الانتصار في الحرب في اليوم الأوّل منها، لأنّه إذا استمرَّت الحرب إلى أكثرَ من يومٍ، يُصبح بإمكان العَدوّ جَمعَ قِواه في اليوم الثَّاني للقتال من جديد والانتصار. 

في سِفر يشوع، يخبرنا النبيّ أنّ الله قد “أوقَف الشَّمس” عند خوضِهم معركةً ضِدَّ الأعداء، وهذا كلامٌ مَجازيّ يُشير إلى أنَّه على الشَّعب اليهوديّ جَمع كُلِّ قِواه لإنهاء الحرب في يومٍ واحدٍ، أي قَبْلَ مَغيبِ الشَّمس. إنَّ معركة “هرمجَّدون”، الّتي ترمز إلى الحرب الأخيرة، ستنتهي في يومٍ واحد. إنّ الموت والجوع والحزن هي الضَّربات الّتي تَعرَّض لها القدِّيسون مِن قِبَل الـمُضطَهِدين لهم، فالوثنيِّون لجاؤوا إلى تجويع المؤمنِين وقَتلهم أو إحزانهم لِحثِّهم على التخلِّي عن إيمانهم بالله. إنّ الربَّ هو القدير، ولا إله إلّا هو، أمَّا آلهة الوثَنِيّين فهي مجرَّدُ أصنامٍ، تماثيلُ حجريّةٌ لا فائدةَ منها. إنَّ ملوك الأرض قد اتَّبعوا امبراطوريّة روما وخضعوا لآلهتها، لأنّهم كانوا يَغتَنون مِن غِناها، فَهُم كانوا يتعاملون بِعُملَتها؛ أمّا المسيحيِّون فَقَدْ استخدموا عُملة روما، ولكنَّهم رَفضوا الخضوع لآلهتها، لذا نالوا الاضطهادات.

“وَسَيَبْكي وَيَنُوحُ عَلَيها مُلوكُ الأرضِ، الَّذِينَ زَنَوْا وَتَنَعَّموا مَعَها، حِينَما يَنْظُرونَ دُخانَ حَريقِها، وَاقِفِينَ مِن بَعِيدٍ لأجلِ خَوفِ عَذابِهَا، قَائِلِينَ: وَيْلٌ! وَيْلٌ! المَدينَةُ العَظيمَةُ بَابِلُ! المَدينَةُ القَوِيَّةُ! لأنَّهُ في ساعَةٍ واحِدَةٍ جَاءَتْ دَيْنُونَتُكِ. وَيَبْكي تُجَّارُ الأرضِ وَيَنُوحونَ عَلَيها، لأنَّ بَضائِعَهُم لا يَشتَرِيها أَحَدٌ في ما بَعدُ، بَضائِعَ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ والحَجَرِ الكَرِيمِ وَاللُّؤلُؤِ والبَزِّ والأُرجُوانِ والحَريرِ والقِرْمِزِ، وكُلَّ عُودٍ ثِينِيٍّ، وكُلَّ إِناءٍ مِنَ العاجِ، وَكُلَّ إِناءٍ مِنْ أَثْمَنِ الخَشَبِ والنُّحاسِ والحَديدِ والمَرْمَرِ، وَقِرْفَةً وَبَخُورًا وَطِيبًا وَلُبانًا وَخَمْرًا وَزَيْتًا وَسَميذًا وَحِنْطَةً وَبَهائِمَ وَغَنَمًا وَخَيْلًا، وَمَرْكَباتٍ، وَأَجْسادًا، وَنُفُوسَ النَّاسِ. وَذَهَبَ عَنكِ جَنَى شَهْوَةِ نَفْسِكِ، وَذَهَبَ عَنكِ كُلُّ ما هُوَ مُشْحِمٌ وَبَهِيٌّ، وَلَنْ تَجِديهِ في ما بَعدُ. تُجَّارُ هذه الأشيَاءِ الَّذِينَ اسْتَغْنَوا مِنْها، سَيَقِفُونَ مِنْ بَعِيدٍ، مِنْ أَجلِ خَوْفِ عَذابِها، يَبْكونَ وَيَنُوحونَ، وَيَقولونَ: وَيْلٌ! وَيْلٌ! المَدينَةُ العَظيمَةُ المُتَسَرْبِلَةُ بِبَزّ وَأُرجُوانٍ وَقِرْمِزٍ، وَالمُتَحَلِّيَةُ بِذَهَبٍ وَحَجَرٍ كَرِيمٍ وَلُؤلُؤٍ! لأنَّهُ في ساعَةٍ واحِدَةٍ خَرِبَ غِنىً مِثْلُ هذا. وَكُلُّ رُبَّانٍ، وَكُلُّ الجماعَةِ في السُّفُنِ، والمَلاَّحُونَ وَجميعُ عُمَّالِ البَحرِ، وَقَفُوا مِنْ بَعِيدٍ، وَصَرَخوا إِذْ نَظَروا دُخَانَ حَريقِها، قَائِلِينَ: أَيَّةُ مَدينَةٍ مِثْلُ المَدينَةِ العَظيمَةِ؟ وَأَلْقَوْا تُرابًا عَلَى رُؤُوسِهِم، وَصَرَخوا بَاكِينَ وَنائِحِينَ قَائِلِينَ: وَيْلٌ! وَيْلٌ! المَدينَةُ العَظيمَةُ، الَّتي فيهَا اسْتَغْنَى جميعُ الَّذِينَ لَهُم سُفُنٌ فِي البَحرِ مِنْ نَفائِسِها! لأنَّها في ساعَةٍ واحِدَةٍ خَرِبَتْ! اِفْرَحِي لها أَيَّتُها السَّماءُ وَالرُّسُلُ القِدِّيسُونَ وَالأنبِيَاءُ، لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ دَانَها دَيْنُونَتَكُم».

إنّ وقوف ملوك الأرض مِن بَعيد، عند رؤيتهم دخان الحريق يَصعدُ من بابل، يُشير إلى خوفهم. إنَّ عبارةَ “ويلٌ وَيلٌ”، تُذكِّرنا بالوَيلات في العهد القديم الّتي قِيلَت لِفرعَون، وقِيلَت أيضًا لِشَعب إسرائيل حين كان هذا الأخير في موقفٍ مُعادٍ لله؛ كما قالها الربُّ يسوع عن الفرِّيسِيِّين، في العهد الجديد. إنّ الوَيلات تُشير إلى الحُكم الأخير، وهذا يعني أنّه لم يَعد للوثنيِّين فرصةً للتَّوبة في اليوم الأخير؛ فالضَّربات الّتي تكلَّم عليها الكاتب في الإصحاحات الماضية، كانت فُرصَتَهم الأخيرة للتوبة ولَـم يتوبوا. إنّ عبارة “ساعة واحدة” تُشير إلى السُّرعة في القَضاء على بابل. إنّ عمليّة الشِّراء والبيع تُشيران إلى استمراريّة الحياة. في لبنان، تعاني المحال التِّجاريّة من عدم قدرة الشَّعب على الشِّراء، ممّا يعني عدم قُدرة أصحاب المحالّ التِّجاريّة على بَيعِ بضائعهم، لذلك نَسمعُ أنَّ بعض المحّال التِّجاريّة قد “أقفلَتْ أبوابها”، لأنّ النَّاس “أفلسوا”، وهذه التَّعابير تُشير إلى فقدان الشَّعب وأصحاب الـمَحالِّ التِّجاريّة كُلَّ أَمَلٍ لهم في الغَد، كُلّ أملٍ لهم في استمراريّة الحياة في هذا الوَطَن. 

إنَّ كلَّ النَّعيم الّذي حصل عليه ملوك الأرض من خلال اضطهادهم للمسيحيِّين الّذين أصبحوا شهداءَ الربّ، سينتهي سريعًا إذ سيَفقد الوثنيِّون كُلَّ قدرةٍ لهم على الاستمرار في هذه الحياة. إنَّ الثِنِّي هو خشَب اللَّيمون، الموجود في أفريقيا، وهو من أغلى أنواع الخشب. إنّ الإناء مِن العاج يدلُّ على الغِنى. إنّ نعيمَ ملوك الأرض سينتهي سريعًا لأنّ الله سيتكلَّم، وقد أصبَحَتْ دينونَتَه لهم جاهزةً. في هذا الإصحاح أيضًا، يَذكُر لنا الكاتب أَثمَنَ وأجود أنواع الخشب والحديد والنُّحاس والـمَرمر، وذلك للدَّلالة على الـمُلوكيّة. إنّ الـمُرّ واللُّبان والقِرفة والبَخور هي عُطورٌ تُقدَّمُ للآلهة. في المعابد الوثنيّة، كانت النِّساء يَرقُصنَ للآلهة، ثمَّ يُسدِلن شعرهنَّ، لِما في ذلك من إغراءٍ للآلهة. 

في هذا الإطار، طَلب بولس الرَّسول إلى نساء مدينةِ كورنتوس تَغطية رؤوسهنَّ في أثناء مشاركتهنَّ في الصَّلوات مع المؤمنِين، لا انطلاقًا من موضوع الحشمة، إنّما لِحثِّهنَّ كي تكون تصرُّفاتهن في الشَّكل والمضمون مغايرةً لِتَصّرُّفات النِّساء الوثَّنيّات في المعابد. أمّا اليوم، في كنائسِنا، فالمرأةُ المؤمِنة حُرَّةٌ في تغطية شعرها أو لا: فإذا كانت المرأة تعتبر أنَّ مَجدها هو في شعرها، فَعليها أن تُغطِّي رأسها في أثناء الصَّلوات، كأنَّها بهذا الفعل تقول إنّ كلَّ مَجدها الأرضي ينحجب أمام مَجد الله؛ أمّا إذا كانت لا تعتبر مَجدَها في شَعرِها، فعندئذٍ لا ضرورة لِتَغطية رأسِها.

وبالتّالي، أراد يوحنّا الرَّسول، كاتب هذا السِّفر، أن يدعو المؤمنِين إلى عدم الافتخار بأمجادهم الأرضيّة لأنّها زائلة. عندما دَخل إلى الهيكل، وَجَد الربُّ يسوع بائعي الحمام والصَّيارفة في الدَّاخِل، فطَرَدهم قائلاً:”إنّه مكتوبٌ: بيتي بيتُ الصَّلاة يُدعى، وأنتم جَعلتموه مغارةَ لُصوص” (متى 21: 13). طَرَد الربُّ يسوع الصَّيارِفة لأنَّ المال قد أصبح إلههم، كما طَرد بائعي الحمام لأنّهم يتاجرون بالرُّوح القدس من أجل مآرِبهم الشَّخصيّة، فالحمامة في العهد الجديد ترمز إلى الرُّوح القدس. إذًا، كُلُّ العبادات الّتي تعود بالنَّفع على صاحِبها والـمَبْنِيّة على أمورٍ دُنيويّة، ستَزول وستنتهي في اليوم الأخير. إنَّ الوثنيِّين يُصلُّون إلى آلهتهم طالِبين منها أمورًا أرضيّة، فإذا استجابت الآلهة لهم استمرُّوا في عبادتها، وإنْ لَم تستَجِب لهم، تركوها لِيَبَحثوا عن سواها.

إنَّ أنبياء العهد القديم قد ثاروا على شعب إسرائيل الّذي، في أحيانٍ كثيرة، تَرك الله، النَّبع الحقيقيّ، ليتبَع آبارًا مُشقَّقة لا ماءَ فيها تُروي ظَمَأه، وهذه الآبار تَرمز إلى العبادات الوثنيِّة. للأسف، إنَّ بعض المسيحيِّين لم يتمكَّنوا من قراءة الكِتاب المقدَّس قراءةً صحيحة، لأنّهم لو فَعلوا، لتَمكَّنوا من فَهم ما يقوله لنا يوحنّا الرَّسول في هذا السِّفر، ولَتَمكَّنوا من تَخطِّي الصُّعوبات الحياتيّة من دون خوف، ولـَمَا تمكَّن أيّ إغراءٍ أو ترهيب في هذه الدُّنيا من زعزعة إيمانهم بالربّ. إنَّ إغراءات هذا العالم ومخاوفه، هي عبارةٌ عن حروب يقودها الشِّرير ضدَّ المؤمنِين لِحثِّهم على الابتعاد عن الله وتَركِه. إنَّ بطرس الرَّسول قد أنكر الربَّ بسبب خوفه من الموت، ويَهوذا سلَّم الربّ بسبب خضوعه للإغراء، وهي الرَّشوة أي المال. 

إنَّ لِباس البَّز والأرجوان والقرمز هو لباس الملوك، والحجارة الكريمة المذكورة في هذا السِّفر تُشير إلى عَظمة الإمبراطوريّة الّتي تُؤمِن بالآلهة الوثنيّة وتحاول إخضاع المؤمنِين بالله لعبادتها. إنّ البَحر والسُّفن يُشيران إلى العبادات الوثنيّة، أي الأُمَم. في هذا الإصحاح، يقوم الكاتب بِشَرحٍ تفصيليّ مُطَوَّلٍ لنِهاية المدينة العظيمة، بابل، في اليوم الأخير. بعد سقوط امبراطوريّة روما، الّتي ترمز إلى العبادات الوثنيّة، في اليوم الأخير، سيَبطل كُلُّ خوفٍ عند المؤمِنين؛ لذلك، يشجِّع الكاتب المؤمنِين على الثَّبات في إخلاصهم للربّ من الآن حتّى ذلك اليوم. إنّ كُلّ الجماعات الموجودة في السُّفن، مِن ملّاحين وسواهم، تُشير إلى الجماعات الوثنيّة.

إنّ كلَّ هذه الجماعات الوثنيّة ستبكي وتنوح على مصير المدينة العظيمة، بابل. إنّ رشَّ الرَّماد ولِبِس الـمُسوح، هي علامات تدلُّ على الحُزن. في الصّوم، يَطَلبُ الربُّ إلى تلاميذه عيشَ الصَّوم والصّلاة والصَّدقة في الخفاء، لا في العَلن، كي لا يَظهَر للآخرين أنَّهم صائمون، فينالوا مكافأتهم من الله لا مِن النَّاس. في القديم، كانَ الصَّوم يُعبِّر عن حُزن الصّائم. إخوتي، للأسف، لا زِلنا اليوم نقع في أفخاخ الشِّرير، عندما نُظهِر حُزنًا عند امتناعنا عن تناول طعامٍ معيَّن في هذه الفترة من السَّنة. إخوتي، إنّ الربَّ لا يطلب إلينا قَهرَ ذواتنا والامتناع عن الطَّعام، بل يَطلبُ إلينا إماتة شهواتنا الأرضيّة، الّتي مِن شأنها إيقاعنا في الخطيئة. في الكثير من الأحيان، نتكلَّم على الصَّوم كمؤمِنِين ولكنّنا نعيشه كاليهود أو كالوثَّنيِّين.

لذلك، إخوتي، علينا التيُّقظ والانتباه لسلوكنا وتصرَّفاتنا، وأقوالَنا الّتي تَصدُر عنّا. للأسف، في صلواتنا أيضًا، نتصرَّف كالوثنيِّين، إذ نعمد في الكثير من الأحيان، إلى رشوة الله وإغرائه بالنُّذورات، طالبِين إليه تحقيق طلباتنا. إنَّ مِثل هذا التصرُّف لا يعكس جوهر إيماننا المسيحيّ ولا علاقة له بتعاليم الإنجيل. إنّ النَّذر الوحيد الّذي يَقبَله الله مِن المؤمنِين هو أن يَنذُروا حياتهم له، فيَسعوا إلى تحقيق مشيئته في حياتهم. أن يَنذُر الإنسان حياته للربّ، لا يعني أن يترُك كُلّ شيء ويتبِّع نَمَطًا رهبانيًّا معيّنا، فالحياة الرُّهبانيّة أو الحياة الزَّوجيّة أو الحياة العَمليّة هي جميعها مواهب يمنحها الله للإنسان، ويتفرَّد بها هذا الأخير عن أخيه الإنسان. ومن خلال عيشه لهذه المواهب وِفقًا لمشيئة الله، يَنذُر الإنسان حياته للربّ.

إذًا، أن ينذُر الإنسان حياته للربّ لا يعني انقطاع الإنسان عن العالَم الخارجيّ من خلال انتمائه إلى حياة رهبانيّة، إنّما قيامه بكلِّ عملٍ على هذه الأرض بِصدقٍ، أي بما يتوافق مع مشيئة الربّ. إنّ الوَيلات قد تمَّ ذِكرها ثلاثَ مرَّاتٍ في هذا الإصحاح، وهي قد أُطلِقت على الوثَّنِيِّين. إذًا، يعلِن يوحنّا الرَّسول لنا في هذا الإصحاح من خلال هذه الوَيلات، ضربات الله لِمدينة بابل، قَبْل أن يُعلِن انتصار الربّ عليها بالقول للمؤمِنِين:”اِفرَحي لها أيّتها السّماء”. إنَّ الربَّ سيَدين بابل، المدينة العظيمة، بسبب اضطهادها للمؤمِنِين. وها قد أتت ساعة دينونتها، إذ لن يسمح لها الربّ بالاستمرار في اضطهادها للمؤمِنِين به.

“وَرَفَعَ مَلاكٌ واحِدٌ قَوِيٌّ حَجَرًا كَرَحىً عَظيمَةٍ، وَرَماهُ في البَحرِ قائِلًا: «هكذا بِدَفْعٍ سَتُرْمَى بابِلُ المَدِينَةُ العَظِيمَةُ، وَلَنْ تُوجَدَ في ما بَعْدُ. وَصَوْتُ الضَّارِبِينَ بِالقيثارَةِ والمُغَنِّينَ والمُزَمِّرِينَ والنَّافِخِينَ بِالبُوقِ، لَنْ يُسْمَعَ فِيكِ في ما بَعْدُ. وكُلُّ صانِعٍ صِناعَةً لَنْ يُوجَدَ فِيكِ في ما بَعْدُ. وَصَوْتُ رَحىً لَنْ يُسْمَعَ فِيكِ في ما بَعْدُ. وَنُورُ سِراجٍ لَنْ يُضِيءَ فِيكِ في ما بَعْدُ. وَصَوْتُ عَرِيسٍ وَعَرُوسٍ لَنْ يُسْمَعَ فِيكِ في ما بَعْدُ. لأنَّ تُجَّارَكِ كانوا عُظَماءَ الأرضِ. إِذْ بِسِحْرِكِ ضَلَّتْ جميعُ الأُمَمِ. وَفِيها وُجِدَ دَمُ أَنْبِيَاءَ وقِدِّيسِينَ، وَجميعِ مَنْ قُتِلَ على الأرضِ».

إنَّ حجر الرَّحى هو حَجرٌ صَخريّ كبيرٌ، يُستَخدَمُ في المطاحِن والـمعاصِر. وبما أنّه حجرٌ كبيرٌ جدًّا، فإنَّه مَتى رُمِي في البَحر، يغرق أي أنّه لا يستطيع أن يطفو على وَجه المياه. في هذا الإطار، نتذكَّر قول الربِّ يسوع: “ومَن أعثَر هؤلاء الصِغار المؤمنِين بي، فَخيرٌ له أن يُعلَّق في عُنقِه حجرُ الرَّحى ويُغرَقَ في لُجَّة البَحر” (متى 18: 6). إذًا، إنَّ حيثيَّات حُكم الربّ على بابل تكمن في الجريمة الّتي ارتَكَبَتْها ضدَّ المؤمِنِين بالربّ. إنّ الربَّ يسوع يقول للمؤمنِين به من خلال التَّلاميذ، إنّهم سيَدينون العالَم. إنّ التَّلاميذ سيدينون العالم، في اليوم الأخير، إذ سيجعل الربُّ حياتهم أمثلَةً يُحتذى بها، عندما يَدين الشُّعوب الّتي لَم تؤمن به. وبِتَعبيرٍ آخَر، سيدين التّلاميذُ العالَم في اليوم الأخير من خلال إخلاصِهم للربّ وثباتهم في إيمانهم به رَغم كلَّ الضِيقات الّتي تعرَّضوا لها في حياتهم الأرضيّة.

إنَّ الوَضع الّذي نعيشه في لبنان اليوم، يدعونا إلى رؤية الأمور بطريقة سوداويّة. ولكنْ، من خلال قراءتنا لِسِفر الرُّؤيا، يدعونا الربُّ إلى الصَّبر على هذه الضِّيقات، لأنَّها لن تستمرَّ إلى الأبد، بل هي فقط لِوَقتٍ قصير. عند سماعنا وَعْد الله هذا، يُطرَح علينا السُّؤال: هل نُصدِّق كلام الربّ هذا ونَقبلَ به في حياتنا، أم نستمرُّ بالتذمُّر من الوَضع الّذي نَعيشه؟ إنَّ كلام الربِّ لنا يبعث فينا التعزية ويشجِّعنا على الصَّبر على صعوباتنا. إنَّ كَثرَة التذمُّر من صعوباتنا، تفتَح نوافِذ وأبواب للشِّرير كي يدخل إلى نفوسِنا ويزعزع إيماننا بالربّ، فنضطَّر إلى البَحث عن مأوًى آمِنٍ لنا غير الله. إنّ الشَّعب اليهوديّ قد تذمَّر من الربّ في الصَّحراء، حين واجه الصُّعوبات في مسيرته، فَكانَ يُهدِّد الله، من خلال موسى، بالعودة إلى عبوديّة مَصر، إنْ لم يَحصل على كلّ ما يَطلبه إلى الله، أي المأكل والمشرب. في هذا الإطار، نتذكَّر قول الربِّ يسوع للشّيطان، حين جاء هذا الأخير ليُجرّبَه:”مكتوبٌ: ليس بالخُبزِ وَحده يحيا الإنسان، بل بكُلِّ كلمةٍ تَخرُج من فَمِ الله” (متى4: 4). 

إنّ أجوبة الربّ الثلاثة على تجارب الشِّرير له، مستقاة من سِفر تثنية الاشتراع، أي حين كان الشَّعب اليهوديّ يُهدِّد الله بالرُّجوع إلى مِصر، عند كُلِّ صعوبةٍ تعترضه. نحن أيضًا، نُشبِه الشَّعب اليهودي عندما نواجه الصُّعوبات في حياتنا، إذ نهدِّد الله بالابتعاد عنه واتِّباع آلهةٍ أُخرى، طالبِين إليه أن يُحقِّق لنا كُلَّ رَغباتنا كي نستمرَّ في السَّير معه. إنّ ابتعادنا عن الله، لا يُنهي وجود الله، بل سيُنهي وجودنا نحن، إذ سيكون الهلاك مَصيرُنا، وبالتّالي علينا الصَّبر على شدائدنا كي يكون مصيرنا في الملكوت حيث الله جالسٌ على العرش. إنّ كلمة “صَبر” تعني في اليونانيّة، “تحت الشِّدة”. إنَّ المؤمِنِين الذين يتحمَّلون الشَّدائد في سبيل إيمانهم بالربّ، سيسبِّحون الله في الملكوت. ومهما كان الزَّمن قاسيًا على المؤمِنِين، فإنّه يبقى قصيرًا أمام الزَّمن الأبديّ، الّذي سيعيشونه في مَعيّة الربّ، وفي ذلك الزَّمان سيمسح الربّ كُلَّ دمعةٍ من عيونِ المؤمِنِين به.

فإن كُنّا نؤمن بالربّ، فإنَّ هذا الكلام سيبعث فينا الرَّجاء والتّعزية، ولكن هذا لا يعني أنَّ مشاكلنا ستُلغى، بل هي ستبقى موجودة، ولكنّنا سنتمكَّن من تَخطِّيها من خلال تمسُّكنا بكلمة الربّ. إنّ المشاكل الّتي تواجهنا في حياتنا، هي اضطهاداتٌ نواجهها، والاضطهاد سيبقى في هذا العالَم على المؤمِنِين، طالما أنّ الشِّرير موجود، وبعض البشر قد رَهَنوا نفوسهم للشِّرير. وفي هذا الإطار، يُذكِّرنا بولس الرَّسول بأنّنا قد اشتُرينا بِثمنٍ، هو دَم الربِّ الذي سُفِك على الصَّليب من أجل خلاصِنا. إذا قَبِل المؤمن شراء الربِّ له بِدَم الخروف، أي بِدَم ابنه، فإنّه عندها سيتمكَّن من مواجهة كلّ الصُّعوبات وتخطِّيها.

 إنّ المؤمن أمام خيارَين لا ثالث لهما: إمّا أنْ يُصدِّق كلام الوحش، أي كلام نيرون، وإمّا أن يصدِّق كلام الخروف، أي كلام الله. فإذا اخترْتَ الربّ، فَستكون جعالَتُك العظيمة أن تكون في الملكوت، في اليوم الأخير، حيث المائدة ممدودة على الدَّوام، والعرس الـمَسِيانِّي أبديّ لا ينتهي. إنَّ ثباتَك في إيمانك بالربّ، سيؤدِّي بك إلى دفع ثمنٍ باهظٍ لِذلك وهو معاناتك من الآلام والاضطهادات. إنّ القرار يعود للإنسان نفسه إمّا بالبقاء مع الربّ أو الابتعاد عنه.

يستطيع الإنسان المؤمن أن يصرخ من الوجع، ولكن عليه بالثَّبات في إيمانه. وهنا أودُّ أن أُوضِح بأنّه ليس المطلوب إلى المؤمن أن يَجلِد نفسه، بل أن يقاوم الظُّلم والفساد، والدِّفاع عن الحقّ، بمعنى آخر عدم المساومة على الباطل. ولكن على المؤمن أن يثور على الظُّلم لا باستخدامه عِدَّة هذا العالَم، إنّما باستعماله “عِدَّة الله”، فلا نبادل الشَّر بالشَّر، كما يفعل الوثَّنيِون واليهود، بل نبادل الخير بالخير، كما طَلب إلينا الربُّ يسوع. في يوم الحُكم على الربّ، اختار اليهود إطلاق سراح “برأباس”، والّذي يعني اسمه “ابن الله”، وصَلب الربِّ يسوع الّذي هو ابن الله حقيقةً. كان برأباس ابنًا لله مزيفًا، إذ كان يستخدم عدَّة العالَم، أي السُّيوف والبَطش؛ أمّا الربّ فهو ابن الله حقيقةً، لذا لم يستخدم إلّا عِدَّة الله، فكان يُحبُّ البشر، وقد دَفع ثمنَ هذا الحبّ موتَه على الصَّليب.

في هذا الوضع الّذي نعيشه في لبنان وفي العالَم، نقرأ سِفر الرُّؤيا، فيتزَّخم فِكرنا بكلمة الله، ويُصبح الخروف المذبوح الّذي هو على العرش السّماويّ، موجودًا في كياننا. إنّ الربّ يسوع، بجسده، جالسٌ على العرش السَّماويّ، أي أنَّ عَيِّنةً بشريّة موجودة في السّماء، وما على المؤمن إلّا اتِّباعها ليَنال الملكوت، من خلال المحافظة على كلمة الله بعيدةً عن كلِّ فسادٍ، لتتمكَّن هي أيضًا بِدَورها من المحافظة علينا إلى اليوم الأخير على الرُّغم مِن كلّ الشَّدائد والاضطهادات الّتي سنُعاني منها على هذه الأرض.
في الإصحاحات القادمة، سنكتشف الفرح السّماويّ الّذي سيختبره كلّ المؤمِنِين الّذي ثبتوا في إيمانهم بالربّ حتّى اليوم الأخير.

ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ من قِبَلنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp